• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : سورة الحمد: أهدافها، معطياتها ـ المقطع الثالث .

سورة الحمد: أهدافها، معطياتها ـ المقطع الثالث

السيد محمد باقر الحكيم

المقطع الثالث

ويتضمّن قوله تعالى (اهدِنا الصِراطَ المُستقيم صِراطَ الذينَ أنعمتَ عليهِم غيرِ المغضوبِ عليهِم ولا الضّالِّين)(1).

ويقع الحديث فيه ضمن نقطتين رئيستين :

الاُولى: المضمون الإجمالي

ولهذا المقطع الشريف ترابط سياقي مع سابقيه، لانّه تضمّن دعاءً وطلباً من العبد تجاه الله تبارك وتعالى، وهذا الدعاء بمضمونه يمثّل هدف وطموح مسيرة الإنسان التكاملية التي حدّدت من خلال المقطع الاول والثاني السابقين، لانّه لا بدّ من وجود هدف وطموح لكل مسيرة تكاملية، وهذا المقطع يمثّل هذا الهدف وهذا الطموح، كما انّه استجابة للشعور بالحاجة إلى الله تعالى، حيث يعبّر الدعاء عن مصداقية هذه الحاجة، وبذلك يتّضح الارتباط السياقي بين هذا المقطع وما قبله من المقطعين الشريفين.

وقد أشار هذا المقطع إلى جملة من المعاني والمضامين العالية، منها :

أولاً: التكامل نزعة فطرية في الإنسان

انّ التكامل يمثّل بالنسبة إلى الإنسان حالة ونزعة فطرية وثابتة فيه تنعكس على إرادته واختياره، ولولاها لما كان له طلب ودعاء من الله، لانّ الله تعالى خلقه بأحسن خلق وفرض عليه العبادة وأعانه على هذه العبادة لحاجته وفقره وعوزه وهداه إلى كل هذه الحقائق. فلولا وجود هذه النزعة الفطرية نحو الكمال لما كان هناك حاجة إلى طلب المزيد من الله المتمثل بالمقطع الثالث من السورة المباركة.

وبهذه النزعة افترق الإنسان عن بقية الموجودات التي وإن فرض وجود التكامل في مسيرتها أيضاً، إلاّ انّها حالة قهرية تكوينية تتحقّق من خلال النظام الكوني المتطوّر والمتكامل، والإنسان بهذا البعد خاضع لهذا النظام ويتكامل من خلاله : نطفة، فعلقة، فمضغة،..

(يا أيُّها النّاسُ إن كُنتُم في رَيبٍ مِنَ البَعثِ فإنَّا خلقناكُم مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطفةٍ ثُمَّ مِن علقةٍ ثُمَّ مِن مُضغةٍ مُخلَّقةٍ وغيرِ مُخلَّقةٍ لنُبيِّنَ لكُم ونُقِرُّ في الأرحامِ ما نشاءُ إلى أجلٍ مُسمّىً ثُمّ نُخرِجُكُم طِفلاً ثُمّ لِتبلُغوا أشدَّكُم ومِنكُم من يُتوفَّى ومِنكُم من يُردُّ إلى أرذلِ العُمُرِ لِكيلا يعلَمَ مِن بعدِ عِلمٍ شيئاً)(2).

فخصوصية التكامل والتطوّر وإن كانت شاملة لانّها تعبير عن الكمال الإلهي، لانّ كل ما يصدر من الله متّصف بالكمال والحسن الاّ انها في الجانب التكويني وأما التكامل الذي يتحقق بشكل إرادي فهو من خصائص الإنسان، وهو يمثّل نزعة فطرية فيه تدفعه في طلب مزيد منه.

ثانياً: التوفيق الإلهي سبب للوصول إلى الهدف

إنّ تفسير حاجة الإنسان إلى مزيد من الهداية حتى بعد أن يهتدي ويقف موقف العبودية والاستعانة بالله تعالى، راجع إلى انّ الإنسان وإن تيسّرت له أسباب الهداية الذاتية مثل العقل الذي يهديه إلى الله بما تفضّل الله به عليه، وكذلك الفطرة التي تجعله يتّجه إلى الله تعالى، لأنّ الإنسان ينزع إلى الكمال كما ذكرنا، والله هو الكمال المطلق، فلا بدّ أن يتّجه إليه بفطرته.

ولكن بالرغم من كل ذلك هو بحاجة إلى الهداية الخارجية لعدم كفاية العقل والفطرة وحدهما في تحقيق هدايته وتكامله وإيصاله إلى الدرجات العالية في مواقع القرب من الله تبارك وتعالى.

وهذه الهداية الخارجية تارة تكون هي الوحي الإلهي والكتب السماوية والرسالات الإلهية التي جاءت على يد الانبياء والمرسلين، واُخرى تكون بالتدخل الإلهي المباشر في الهداية.

ولا شك انّ الإنسان يشعر دائماً بالحاجة إلى الهداية الخارجية الثانية والتي يعبّر عنها بعض المفسّرين بالتوفيق الإلهي. ذلك لانّ الإنسان يرى انّ مجرّد دلالة العقل والفطرة الإنسانية وكذلك خط النبوّة والرسالات الإلهية على الطريق إلى الله غير كافٍ في تحقّق الهداية الخارجية - وإن كانت كافية في إقامة الحجة عليه من الله تعالى - حيث قد يتحقّق الجحود والتمرّد من هذا الإنسان.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في مواضع عديدة مثل الآيات التي تؤكّد أنّ الهداية بالمشيئة الإلهية، كقوله تعالى :

(إنَّكَ لا تهدي من أحببتَ ولكِنّ الله يهدي من يشاء)(3).

(ليسَ عليكَ هُداهُم ولكِن الله يهدي من يشاء)(4).

(ذلِكَ هُدى الله يهدي بِهِ من يشاءُ مِن عِبادِه)(5).

وهي آيات عديدة، وكذلك الآيات التي جاءت في مقام نفي الهداية عن القوم (الفاسقين) و(الظالمين) و(الكافرين) وهي كثيرة.

وأيضاً الآيات التي جاءت تؤكّد انّ الهداية هي سبب لمزيد من الهداية الإلهية، مثل قوله تعالى :

(ويزيدُ الله الذين اهتدوا هُدىً)(6).

(والذينَ اهتدوا زادهُم هُدىً وآتاهُم تقواهُم)(7).

ولا شك أنّ هذه الهداية غير الهداية الإلهية المتمثلة بإرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية، فالإنسان يكون بحاجة - وبعد كل تلك الهدايات - إلى رعاية ورحمة من الله وتوفيق خاص للوصول إلى هدفه الاسمى، وهو ما يطلبه من الله سبحانه وتعالى من خلال دعائه إيّاه في المقطع الثالث من السورة الشريفة، وهذا الطلب في الوقت الذي يعبّر عن نزعة الإنسان نحو الكمال، يعبّر أيضاً عن شعوره بالحاجة إلى الهداية الإلهية، فيكون ذلك مصداقاً من مصاديق الاستعانة في قوله تعالى : (وإيّاكَ نستَعين).

ثالثاً: الطابع الفطري للسراط المستقيم انّ القرآن الكريم وصف هذا الهدف الذي يطلبه الإنسان بالسراط المستقيم، وسوف نتحدّث في أحد الموضوعات الآتية عن المقصود بالسراط المستقيم مصداقاً ومعنىً. كما انّ القرآن يحدّد في هذا المقطع الشريف أبعاداً ومواصفات لهذا الصراط المستقيم. ولكن الملاحظة التي نريد أن نشير إليها هنا نقطة ترتبط بالاُسلوب القرآني الذي يحتاج إلى بحث مستقل، وهذه النقطة هي انّ القرآن الكريم يستخدم بشكل عام ألفاظاً وصفات ومصطلحات تتجاوب مع فطرة الإنسان وتكون محببّة لديه وذلك من أجل تعميق المعاني القرآنية في النفس البشرية، من قبيل لفظ (الوسط) (وكذلِكَ جعلناكُم اُمَّةً وسطاً لِتكونوا شُهداءَ على الناس)(8)، و(العدل) (إنَّ الله يأمُرُ بِالعَدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القُربى...)(9)، و(القسط) (وإن حكمتَ فاحكُم بينَهُم بِالقِسطِ إنَّ الله يُحِبُّ المُقسِطين)(10)، إلى غير ذلك من الالفاظ المحبّبة لدى الإنسان التي تتجاوب مع الفطرة الإنسانية السليمة.

وقد وصف القرآن الكريم في هذا المقطع الطريق الذي يراد هداية الإنسان إليه ب(المستقيم). والاستقامة لفظ محبّب لدى الإنسان السليم السوي، وتميل إليه نفسه وتتجاوب معه فطرته، فالقرآن حين يطرح هذا الوصف للسراط يريد أن يشير إلى انّ هذا السراط الذي يطلب الإنسان الهداية إليه هو سراط منسجم مع الفطرة الإنسانية ويوصل الإنسان إلى الهدف التكاملي له.

وذلك باعتباره مما يدركه الإنسان بالوجدان من انّ الاستقامة تتضمّن تعبيراً عن أقصر مسافة بين نقطتين والسراط المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة إلى الهدف، فيكون طريق الهداية - إذن - اضافة إلى تجاوبه مع الفطرة السليمة هو أقصر وأقرب الطرق الموصلة إلى الله تعالى.

ونجد هذا الامر - وهو التعامل مع الفطرة موجوداً - فيما حدّده القرآن الكريم من حدود لهذا السراط المستقيم، إذ جعل حدّ الاول (صِراطَ الذينَ أنعَمتَ عليهِم)، ومن الواضح انّ سير الإنسان في طريق من يكون في موضع النعمة والفضل الإلهي أمر يتّفق مع ميوله وفطرته ومحبّب إلى نفسه بحدّ ذاته حتى مع غضّ النظر عمّا يتضمّنه هذا الحد من المعاني والمضامين التي بحثت في تفسير هذه الحدود والمفردات.

كما نجد هذا الامر أيضاً في حدّه الثاني والثالث (غيرِ المغضوبِ عليهِم ولا الضالّين)، إذ انّ الإنسان يرفض وبفطرته فكرة أن يكون طريقه هو طريق من يكون في موضع الغضب والانتقام الإلهي. أو أن يسلك طريق الضلال والضياع والحيرة والخروج عن الجادة.

وبهذا الاسلوب يطرح القرآن الكريم المعاني العقائدية والتربوية بالصيغة التي يخاطب بها الفطرة الإلهية.

كما انّ اتّصاف الطريق المطلوب أن يهتدي الإنسان إليه بصفات وحدود فطرية أمر يتّفق مع الفكرة الاصلية للدعاء (إهدِنا...) الذي يعبّر عن شعور الإنسان الفطري بالحاجة إلى التكامل والرقي.

رابعاً: الحدود الموضوعية للسراط المستقيم

ولم يكتف القرآن الكريم في تحديد السراط المستقيم بمخاطبة الفطرة الإنسانية، بل ذكر من خلال هذا المقطع حدود السراط المستقيم الموضوعية بحيث يتمكّن الإنسان أن يشخّصه بمصاديقه الخارجية فذكر له حداً إيجابياً، وحدّين سلبيين :

الاول : وهو الحد الموضوعي الإيجابي والمتمثل بأمرين، هما :

1 ـ القدوة الحسنة

وقد تضمّنها قوله تعالى (أنعَمتَ عليهِم) الذي فُسّر بالانبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين، فيكون القرآن الكريم قد حدّد السراط من خلال امثلة قائمة في حياة هذا الإنسان وهم السائرون في هذا الطريق من الانبياء والشهداء والصّديقين والصالحين وجعلهم قدوة له.

وبالإمكان الإشارة هنا إلى أهمية ودور القدوة الحسنة في تربية وهداية الإنسان، إذا انّ من المناهج الاساسية في الإسلام هي القدوة الحسنة حيث من الملاحظ بأن الهداية في كثير من الأحيان لا تتحقّق بمجرّد إعطاء المفاهيم والافكار والنظريات، وإنّما تشكّل (القدوة الحسنة) عنصراً أساسياً في هذه المناهج. فعندما يريد أن يحدّد القرآن الكريم السراط المستقيم يحدّده من خلال هؤلاء القدوة الذين أنعم الله عليهم.

2 ـ الشريعة الإلهية

فإنّ القرآن الكريم عندما يطرح هذا السراط على أساس انّه سراط الانبياء، فهو بذلك يشير إلى الشريعة التي جاء بها هؤلاء الانبياء من الله تعالى في الوقت نفسه الذي يطرحهم بصفتهم قدوة حسنة لهذا الإنسان في مقام الهداية والشريعة - بطبيعة الحال - تقترن بفكرة عقائدية مهمة، وهي فكرة (النبوة)، حيث إنّ الشريعة إنّما كانت باعتبار اتّصاف هؤلاء (الانبياء) بها.

وهداية العقل والفطرة غير كافية للإنسان لإيصاله إلى الاهداف القصوى في مسيرته التكاملية وإن كانت قادرة على أن تضعه على الطريق إليها، ولذا فلا بدّ له من هداية ربّانية تأخذ بيده في الطريق المستقيم الموصل إلى الله تبارك وتعالى وإلى أهدافه التكاملية العليا.

وقد تضمّنت فكرة القدوة الحسنة في قوله تعالى : (أنعَمتَ عليهِم)، حيث اُريد بهم الانبياء ومن سار بسيرتهم، طرح فكرة الوحي الإلهي التي هي من خصوصيات الانبياء والرسالات، أي (خط النبوّة) الذي تتحقّق من خلاله تلك الهداية الربّانية المنشودة في الوصول إلى الاهداف الكاملة.

الثاني : وهو الحد الموضوعي السلبي المتمثّل ب :

أولاً: بـ (غيرِ المغضوبِ عليهِم)، حيث إنّها تعبّر عن الجحود والتمرّد والعتو والطغيان، لانّ القرآن الكريم يستخدم الغضب الإلهي في مثل هذه الحالات، و هذه الحالات وإن كانت صفات قائمة في النفس الإنسانية ولكنّ لها وجوداً موضوعياً يمكن للإنسان أن يميّزه ويعرفه، فيعرف بذلك حد السراط المستقيم، لانّ من كان على إحدى هذه الحالات لا يكون على السراط المستقيم، ولا يمكن أن تجتمع هذه الحالات مع السير على السراط المستقيم، ومن ثمَّ سوف تشكّل أحد جانبي الحد السلبي له ، وهو حد الطغيان والعتو والجحود.

ثانياً – بـ(وإلا الضالّين)، حيث تعبّر - ولو بقرينة المقابلة مع المغضوب عليهم - عن حالة الخروج عن الطريق والضياع والحيرة والترددّ وهي حالة بإمكان الإنسان أن يدركها في نفسه عندما يشعر بالحيرة والتردّد والشك، ومن ثمَّ الضياع وعدم الوضوح في المسيرة، فيدرك عندئذٍ انّه ليس على الصراط المستقيم، إذ لا يمكن أن تجتمع هذه الحالة مع السير على السراط المستقيم، وبذلك يدرك جانباً آخر من جوانب الحد السلبي الموضوعي لهذا السراط.

وبهذا يتحدّد السراط ببعده الإيجابي المتمثّل بالشريعة والكتاب والتجسيد العملي لها في القدرة الحسنة، ويبعده السلبي المتمثّل بالتمرّد والطغيان والعتو والحيرة والضياع.

الثانية: المضمون العقائدي والتربوي

وقد تعرّض هذا المقطع الشريف لمجموعة من المضامين العقائدية والتربوية، ونجملها بما يلي:

أولاً: المضامين العقائدية

1 - إن الله تعالى أودع في الإنسان نزعة فطرية تدفعه نحو الكمال، وهذا الامر يرتبط بالنظرية القرانية في فهم الإنسان وتقييمه، وبذلك يتميّز الإنسان عن كثير من المخلوقات في هذا الكون.

وهذا الفهم يمثّل خلفية لإرسال الانبياء والرسل للإنسان دون كثير من الحيوانات، فإن كثيراً من الحيوان لما لم تكن لديه هذه النزعة، تركة الله تعالى في مسيرته لغزائره التي أصبحت موجهة له وهادية، فلم يكن بحاجة إلى إرسال الرسل والهداية السماوية بخلاف الإنسان الذي ينزع إلى الكمال والرقي في فطرته ويملك القدرة على ذلك بما وهبه الله من عقل ومعرفة، فكان ينزع إلى التكامل ويطمح الى الرقي والحركة بهذا الإتجاه، فكانت الرسالات السماوية هادية له وضماناً لعدم انحرافه في هذه المسيرة.

ولولا ذلك لدفعته هذه النزعة نحو حركة غير واضحة الاهداف والحدود ولانتهت به إلى طريق الانحراف.

2 - تعرّض المقطع الشريف إلى خط النبوة (الوحي، الانبياء، الكتب) ودوره في هداية الإنسان.

3 - الإيمان بالتوفيق الإلهي والرعاية الإلهية في الوصول إلى الاهداف والكمالات، إذ لا تكفي القابليات البشرية (الفطرة والعقل) مع الهدايات الرسالية في إيصاله إلى أهدافه، كما تشير إلى ذلك فكرة التفويض الإسرائيلية التي ترى بأنّ الله تعالى خلق الإنسان وفوّض له الامر بحسب قابلياته وطاقاته، بل لا بدّ أن يقترن ذلك بتوفيق الله الذي لا بدّ أن يسعى الإنسان إليه ويطلبه من الله تبارك وتعالى.

4 - ان مسيرة التكامل الإنسان هي تلك المسيرة التي تكون منسجمة مع تلك المثل والقيم الفطرية المودعة فيه من قبل الله تبارك وتعالى. فبذرة التكامل موجودة في نفس الإنسان أوجدها الله فيه من خلال تعليمه الاسماء فإذا كانت خطوته ومسيرته منسجمة مع طبيعته هذه البذرة الخيّرة كانت    تكاملية. ودور الدين والشريعة هو رسم الخطوات ومعالم هذا الطريق التكاملي المنسجم مع الفطرة الإنسانية.

ولذلك كان الدين الإسلامي الذي هو دين الحق، (دين الفطرة)، قال تعالى: (فَأقِمْ وَجهْكَ للِدْينِ حَنيفاً فطرة الله التي فَطَرَ الناسَ عَليهاَ لا تبَديلَ لِخلقِ الله ذلكَ الدينُ القَيم...)(11).

وتنبثق من قضية (الفطرة) فكرة (العقل العملي) إذ أودع الله سبحانه وتعالى في الإنسان قدرة إدراك الحسن والقبح بدرجة من الدرجات، وهذا الإدراك يمثّل في الواقع منهجاً خاصاً في المسيرة العملية، حيث يكون العقل عاملاً من عوامل الهداية ودليلاً على الحكم الشرعي، وهذا بحث (كلامي) يرتبط بما يسّمى (بالحسن والقبح العقليين).

ثانياً: المضامين التربوية

ومن أهم المضامين التربوية التي يمكن استخلاصها من هذه الآيات المباركات، ما يلي:

1 - القدوة الحسنة ودورها المكمّل لدور المفاهيم والافكار في عملية تربية وتكامل الإنسان، وعلى هذا الاساس نجد ان تأثير الانبياء في الناس لم يقتصر على طرح الآيات والمفاهيم والافكار، بل كان كذلك في سلوكهم ـ عليهم السلام ـ ودورهم في تطبيق تلك الافكار عملياً، ولذا اهتمّ القران الكريم بالامر بالاقتداء بهم وبطرح قصصهم، وأمر بالتدبُّر بمواقفهم وصبرهم وثباتهم وكيفية تعاملهم مع الناس، لاتخاذ العبرة والموعظة منها. وهذا يمثّل منهجاً عملياً في الدعوة إلى الله، فإن أي إنسان إذا أراد أن يؤثر في الناس فلا يكفي في ذلك طرح المفاهيم والافكار، بل لا بد من تجسيد القدوة في السلوك العملي، وبذلك يكون التأثير أكبر.

2 ـ دور التطبيق في وضوح المسيرة

إن للتطبيق دوراً في وضوح المفاهيم وادراك الحقائق، إذ لا يكون هذا الوضوح والإدراك كاملاً إلاّ من خلاله، وفي قصّة إبراهيم ـ عليهم السلام ـ إشعار بذلك.

قال تعالى: (وَإذْ قالَ إبراهيم رَبّي أرِني كَيفَ تُحيي المَوتى قال أوَ لَم تُؤمِم قالَ بَلى ولكِن لِيطمئنَ قَلبي)(‍12).

فقد تحصل للإنسان درجة من الإيمان بأمر ما لو طرح عليه بصورة نظرية وعلى شكل مفاهيم وأفكار، ولكن الدرجة الكاملة من الوضوح لا تحصل عنده إلاّ من خلال التطبيق العملي لذلك الامر.

ولا بد من أخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار في قضية الهداية، فالوضوح الكامل للهداية لا يتم إلاّ من خلال التطبيق لها، وعندما ذكر (إهدنا الصراط المستقيم) ذكر مفهوم السراط المستقيم، ثم ذكر بعد ذلك الحالة التطبيقية له، في قوله (صراط الذين أنعمت عليهم...) من خلال ذكر صور حقيقية واقعية في حياة الإنسان (القدوة الحسنة). وبذلك أصبحت صورة السراط المستقيم صورة واضحة بصورة كافية.

3 - ان حالة التمرّد والجحود والضياع والحيرة حالة نفسية وروحية يعيشها الإنسان وتجعله في موضع الغضب الإلهي، وهذا الغضب الإلهي قد يكون في صورة مزيد من التمرّد والجحود (وَلا يَحسبَنَ الذينَ كَفَروا انمَّا نُملي لَهُم خَيرُ لأنفسِهِم إنمَّا نُملي لَهُم لِيزدادوا إثماً وَلَهُم عَذابُ مُهينُ)(13)، ومن ثمَّ يكون الجحود والتمرّد له آثار نفسية وتربوية في حياة الإنسان، حيث سيزيده جحوداً وبعداً عن الله تبارك وتعالى.

الخلاصة

من خلال دراسة هذه المقاطع الشريفة الثلاثة، يمكن أن نحدّد اُموراً ثلاثة عامة هي:

1 - ان هذه المقاطع تترابط بعضها مع بعضها الآخر سياقياً.

2 - وانّها بمجموعها تشكّل صورة كاملة لقضية واحدة هي مسيرة الإنسان منذ بدايتها وأهدافها وحتى نهايتها.

3 - وانّها تحتوي على مجمل المفاهيم والمعاني الاساسية التي يتضمّنها الدين الإسلامي والقران الكريم.  

___________________

(1) الحمد : 6 - 7.

(2) الحج : 5.

(3) القصص : 56.     

(4) البقرة : 272.

(5) الانعام : 88.

(6) مريم : 76.

(7) محمد : 17.

(8) البقرة : 143.    

(9) النحل : 90.

(10) المائدة : 42.

(11) الروم: 30 .

(12) البقرة: 260 .

(13) آل عمران: 178 .


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=325
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2008 / 12 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24