• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : الإستدلال في القرآن ( القسم الثاني ) .

الإستدلال في القرآن ( القسم الثاني )

محمد هادي معرفة

ميزة أخرى في احتجاجات القرآن هو حينما يحاول إخضاع العقل ببراهينه المتينة تراه لا يتغافل عن إمتاع النفس بلطائف كلامه الظريفة ورقائق بيانه العذبة السائغة جامعاً بين أناقة التعبير وفخامة المحتوى سهلاً سلسا ًيستلذه الذوق ويستطيبه الطبع عذباً فراتاً لذة للشاربين.

إن للنفس الإنسانية جهتين : جهة تفكير يكون مركزه العقل,وجهة إحساس يكون مركزه وجدان الضمير وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها,فأما إحداهما فإنها تنقب عن الحق لمعرفته أولاً , وللعمل به ثانياً وأما الأخرى فإنها تحاول تسجيل إحاسيسها بما في الأشياء من لذة وألم ومتعة وغذاء للنفس.

والبيان التام هو الذي يوفي لك للحاجتين جميعاً ويطير بنفسك بكلا الجناحين فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية إلى جنب إيفائها متعة الوجدان وإشباع غريزتها في عواطف الإحساس.

أما الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاءاً لعقلك ولا يهمهم جانب استهواء نفسك ونهم عاطفتك يقدّمون حقايق المعارف والعلوم,لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبوّ عن الطباع.

وأما الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك وتهييج عواطفك وأحاسيسك وإمتاع سمعك وضميرك فلا يبالون بما صوّروه لك أن يكون غياً أو رشداً وأن يكون حقيقة أو تخيلاً فتراهم جادين وهم هازلون, يستبكون وإن كانوا لا يبكون ,ويطربون وإن كانوا لا يطربون( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون وانهم يقولون ما لا يفعلون)(1).

____________________

 (1) سورة الشعراء / 224 .

 

ولا تتكافأ القوتان : قوة التفكير وقوة الوجدان .. وكذا سائر القوى النفسية على سواء..

ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التعادل عند قليل من الناس فإنها لا تعمل في النفس دفعة وبنسبة واحدة ..بل متناوبة في حال بعد حال ,وكلما تسلطت قوة اضمحلت أخرى وكاد ينمحي أثرها .. فالذي ينهمك في التفكير تتناقص قوة وجدانه , والذي يسعى وراء لذائذه عند ذاك تضعف قوة تفكيره .. وهكذا لا تقصد النفس إلى هاتين الغايتين قصداً واحداً أبداً. (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)(1).

وكيف تطمح أن يهب لك إنسان مثلك هاتين الطلبتين على سواء وهو لم يجمعهما في نفسه على سواء , وما كلام المتكلم إلا إنعكاس الحالة الغالبة عليه (وكل إناء بالذي فيه ينضح) . (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)(2), وفاقد الشيء لا يستطيع أن يمنحك به.

هذا مقياس يمكنك أن تتبين فيه ما لكل لسان وما لكل قلم من قوة غالبة عليه,حينما ينطق وحينما يكتب فإذا رأيته يتجه إلى حقيقة فرغ له بعدما قضى وطره مما مضى عرفت بذلك أنه يضرب بوترين , ويتعاقب على نفسه الشعور والتفكير تعاقب الليل والنهار لا يجتمعان.

وأما أن اسلوباً واحداً يتجه  اتجاهاً واحداً ويستهدف هدفاً واحداً ويرمي إلى غرض واحد ولكنه مع ذلك قد جمع لك بين الطريقتين قناع عقلك وإمتاع نفسك معاً وفي آن واحد وفي كلام واحد..كما يحمل العنصر الواحد من الشجرة الواحدة أوراقاً وأثمارا ً, أنواراً وأزهاراً أو كما يجري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر,فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر على الإطلاق ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)(1)

فمن أين لك بكلام واحد وبيان واحد وأسلوب واحد يفيض عليك من الحقيقة البرهانية والدلائل العقلانية بما يرضي أولئك الفلاسفة الحكماء والمتعمقين النبلاء ويرضخ بعقولهم الجبارة.

_______________________

(1) سورة الأحزاب / 4.

(2) سورة الإسراء / 84 .

 

وإلى جانب ذلك وفي نفس الوقت يضفي عليه من المتعة الوجدانية والعذوبة والحلاوة

والطلاوة ما يسد نهم هؤلاء الشعراء المرحين وأصحاب الأذواق الرقيقة الفكهين.

وكل إنسان حينما يفكر فإنما هو فيلسوف وكل إنسان حينما يحس فإنما هو شاعر

ذلك هو الله رب العالمين الذي لا يشغله شأن عن شأن , القادر على أن يخاطب العقل والقلب معاً بلسان واحد وأن يمزج الحق والجمال جميعاً يلتقيان ولا يبغيان فيستخرج منهما اللؤلؤ والمرجان.. ويسقيك من هذا وذاك شراباً طهوراً عذباً فراتاً سائغاً لذة للشاربين.

هذا هو الذي تجده في كتاب الله الكريم حيثما توجهت وأينما توليت بوجهك إنه في فسحة قصصه وأخباره عن الماضين لا ينسى حق العقل من حكم وعبر وأنه في مزدحم براهينه ودلائله لا يغفل حظ القلب من رغبة ورهبة وشوق ورجاء,يبث ذلك بوفرة شاملة في جميع آياته وبيناته في مطالعها ومقاطعها وتضاعيفها الأمر الذي (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)(1) (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ)(2).

_________________________

(1) سورة الزمر/23 .

(2) سورة الطارق/14 .


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=318
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2008 / 11 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24