• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : علم التفسير .
                    • الموضوع : الاستِدلال القُرآني منهجُه وممَيّزاتُه (القسم الثاني) .

الاستِدلال القُرآني منهجُه وممَيّزاتُه (القسم الثاني)

أصول المنهج الاستدلالي في القرآن الكريم

الدكتور سامي عفيف ابراهيم حجازي

المتأمل في كتاب الله تبارك وتعالى (القرآن الكريم) يقف على أنه نزل حاملاً المنهج الذي يخلص البشرية من عناء البحث والفكر حول إيقاظ الحق لكثرة ما دار حوله من خلاف، بين أقوام ينكرون وأقوام يشركون، وأقوام يدينون بانحراف، وأقوام يلحدون، وأفراد نادرين يوحدون، ولذا يتضح أثر اختلاف العقائد في حياة الأمم بل وفي الأمة الواحدة، في اختلاف القلوب وتعارض الأفكار، وتنازع الأفراد والجماعات، فكثرت الحروب وسفكت الدماء واستعبد الإنسان أخاه الإنسان.

وحول هذا المقام يقول الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ فكانت المجوس يدينون غير دين أهل الأوثان ويخالفون أهل الكتاب من اليهود والنصارى في بعض دينهم، وكان أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ يختلفون في بعض دينهم(70).

وفي بيان هذا المعنى يقول الله تعالى: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(71). ومن هنا تحدث القرآن الكريم عن أخبار السابقين وتاريخهم حديثاً تعجز الإنسانية عن الوصول إليه من ناحية أخرى تؤخذ منه العبر والضوابط علاجاً لكل انحراف. وتوحيداً لكل اختلاف(72). وعلى كل ما تقدم فمن يزعم أن القرآن الكريم يخلو من بذور المنهج يكون على ضلال مبين(73). هذا من جانب ومن جانب آخر ليس التاريخ الحق إلا من الله الحق كما جاء في قوله تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ)(74). لأنه سبحانه وتعالى هو العليم الخبير الذي (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)(75). وعلى ضوء هذا البيان فلقد وضع القرآن الكريم للمنهج الاستدلالي جانبين: الأول: يتمثل في الهدم. والثاني: يتمثل في البناء.

الجانب الأول

يتلخص في أن جانباً من النصوص القرآنية قام على تفريغ العقول وتحريرها من كل المقررات السابقة التي لم تـقم على اليقين أو التي قامت على مجرد التقليد أو الظن، أو الهوى أو عادات البيئة... وذلك لأن الفطرة التي فطر الله الناس عليها قد تنحرف لأمر من الأمور التالية:

ـ اتباع الظن والهوى الشيطان.

ـ التقليد الأعمى للأجداد والآباء.

ـ الطاعة العمياء للسادة والكبراء.

ـ اتباع الشهوات والسير وراء الملذات والأغراض.

ـ الغرور والعناد والجدل القائم على السفسطة.

ـ حب الدنيا بالدعوة إلى الإنكار والجحود.

والناظر في كل هذه القضايا يجد أنها جميعاً وردت في ثوب الاستدلال الظني ولذا لم يكتف القرآن الكريم بمطالبتهم بالدليل والبرهان على مزاعمهم بل أكثر ـ في مقام المحاجة ـ من نقد الأساس الذي تقوم عليه عقائدهم ليس هذا فحسب بل ومن نقض الطرق التي يحصلون بها أدلتهم باعتبارها جميعا ًـ ظنوناً وأوهاما ًـ تفتقر إلى المراجعة الشاملة ولا تثبت أمام الاستدلال اليقيني (76) وعلى ضوء ما تقدم نزل المنهج القرآني في جانبيه بالدعوة إلى علاج هذه الأمراض الصارفة عن الحق نتيجة للأخطاء التي وقع فيها جمهرة الناس والأكثرية بدون تحقيق أو تمحيص لأنها قد تكون من سبب واحد وقد تكون من أسباب متعددة تعاونت على إيجادها أو سرعة انتشارها أو طول مقامها...

ولذا نجد المنهج القرآني قد ركز على إيقاظه للعقل الذي ينظر في الوجود كله، ولقد بدأ القرآن الكريم بتلك الإشراقة الأولى للوحي في قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)(77). هذه الإشراقة الأولى أرشدت إلى بداية الطريق المنهجي الصحيح، وهو الأمر بالقراءة والكتابة في قوله (أقرأ) فإن القراءة تستلزم مقروءاً أي مكتوباً. ثم بينت القانون العام الذي يحكم الطريق، وهو أن يبدأ باسم الله خالق الملك والملكوت، وألمحت إلى حقيقة العلم. وتتمثل في البحث عن حقيقة المخلوقات. وأشارت لذلك بالعلق الذي هو أحد أطوار الجنين. وأشارت بقوله (مَا لَمْ يَعْلَمْ) إلى مكنونات نواميس الأرض والسماء(78) (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ)(79) وعلى هذا فلا ينبغي للإنسان أن يقع تحت سيطرة أي من الأمراض التي حصرها المنهج القرآني في الاتجاهات والقضايا السالفة. ويتفرع عن هذا ألا يقبل في عقله أموراً لم يتحقق له صدقها حتى لا يؤسس اعتقاده على وهم أو خيال: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ثم تذكر الآية بعد ذلك أسباب تحصيل العلم بقوله: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً)(80) وهي تحمل معنى التحذير والإنذار كي لا يقبل العاقل من المعارف ـ أيا كان نوعها ـ  ما لم يكن عنده دليل صحيح على صدقها(81) حيث أنه قد رسخ في أذهان البعض أن الأكثرية لا تخطيء.

وقد سيطرت هذه المقولة على العقول قبل الإسلام. فلما نزل القرآن الكريم نبه أصحاب العقول إلى خطأ هذا الوهم فالكثرة أو القلة ليست مقياساً لليقين، وليست معياراً للخطأ أو الصواب، وقد أشار القرآن الكريم إشارة لطيفة إلى هذه الفكرة بقوله: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)(82).

وهكذا يحذر القرآن الكريم بني البشر من أن يتخذوا أوهامهم الخاصة وأهواءهم مصدراً للحقيقة، بل يسفه عقول هؤلاء الذين جعلوها مقياساً للحق. كما يصور هذه القضية على ألسنة المقلدين بغير تمحيص فيقول: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً)(83). وقوله تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً)(84) . وهكذا يحذر القرآن الكريم العقول من التبعية لأي سلطان إلا سلطانها، وكأن الله سبحانه وتعالى يهيب في بني البشر ان فكروا بعقولكم أنتم. لا بعقول الآباء والأجداد. ولا بعقول المجتمع الذي تعيشون فيه.

وعلى كل ما تقدم نرى عدم الإطالة في ترديد أمراض هؤلاء وأولئك. وأن من الأفضل أن نعرض لجانب البناء لكي نبرز عطاء الإسلام للعلم والمنهجية من خلال كتابه القرآن الكريم. لأن في إبراز هذا الجانب فائدتين جليلتين:

الأولى: دحض الافتراءات والشبهات التي تمثلت في جانب الهدم من جانب ولعدم تكرار الحديث من جانب آخر.

والثانية: تجلية البراهين المنهجية للمنهج القرآني في الحياة العلمية بخاصة والحياة الإنسانية بعامة.

الجانب الثاني

جانب البناء فيوضح فيه القرآن الكريم الأسس والقواعد التي تضمن للعقل الوصول إلى نتائج سليمة. وتمكنه من تمحيص كل ما يرد عليه من فروض أو قضايا، وفي سبيل ذلك أرشد إلى العناية بوسائل الإدراك والحفاظ على سلامة استخدامها كما أتجه التحذير القرآني للإنسان في كل زمان ومكان من اتباع ما لا يعلم الإنسان حقيقة مصدره وعقباه سواء كان ذلك فكرة أو رأياً أو مذهباً معقولاً أو محسوساً إذ يقول سبحانه: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً)(85). وإيراد لفظ الفؤاد بعد لفظي ((السمع حسية ـ تسمع أو ترى ـ أو كانت عقلية أو وجدانية، كما يدل على ذلك لفظ الفؤاد، هذا اللفظ الذي يتسع مدلوله في القرآن الكريم بحيث لا يقتصر على المشاعر أو الوجدانيات بل يشمل كل ما يدرك فوق الإدراك الحسي المباشر. وفي ضوء هذا البيان يلمح القارىء أن الآية اشتملت على البراهين التالية:

عدم الاتباع بغير علم، وهذه جاءت في صيغة النهي كما تبين فيما تـقدم في جانب الهدم.

كما نادت بمسؤولية الإنسان عن سمعه وبصره. وهذا يعني تلق المسؤولية بما يقع للإنسان عن طريق وسائل تحصيله هو (( سواء كانت سمعية أو بصرية))(86). كما نلمح الإشارة الأخلاقية. والإيماء إلى المسؤولية التي ترتبط بعملية العلم والتعلم كما هي جانب البناء. كما حض المنهج القرآني على البحث في ظواهر الطبيعة ونواميس الكون فقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(87).

ليس هذا فحسب بل وزاد الأمر توضيحاً وتأكيداً فلفت الأنظار إلى قوانين الاجتماع وسنة الله فيما سلف من الأمم. وأكد استمرارها فقال: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)(88). هذا من جانب. ومن جانب آخر فبعد أن مهد القرآن الكريم في هذا المقام الطريق لمحبة العلم والتعلم والعلماء ورفع منزلة بناء المعرفة ومن يتبع سبيلها على هدى من الله وبصيرة اتجه إلى إزالة المعوقات والعقبات التي تعترض سبيل الباحث عن الحقيقة. وعمد إلى إماطة الفكر والمذاهب. وضرب الأمثال الشارحة لحال هؤلاء الضحايا للأوهام والظنون والعادات والتقاليد الضالة التي سدت على بني البشر وسائل الفكر. وحجبت عنهم نور الحق ونصاعة الحجة، وصرفتهم عن هذه المحجة البيضاء، التي رسم معالمهما خاتم الأنبياء(89) بالشمول الذي رسم معالم الهداية.ولذا لم يكتف القرآن الكريم بالإشارة والتوجيه والتحذير كما تبين في جانب الهدم بل أقام البراهين الواضحة وضوح الشمس في وسط النهار في أنه لا يمكن أن تتأسس عقيدة ـلها ما ليس لغيرها من التقدير والاهتمامـ على الإكراه أو الضغط أو الإجبار بالسلطة المادية. والنصوص القرآنية كثيرة في هذا المقام ومتنوعة قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ)(90). وقال تعالى مخاطباً رسوله(صلى الله عليه وآله): (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(91). وهذا القانون الإلهي يتواءم مع فطرة الإنسان كما تبين فيما تقدم في صدر البحث وأنه يأتلف مع طبيعته وحقيقته المكونة من  عنصرين(92) أساسيين هما المادة والروح. وللمادة مطالبها المحسوسة والإنسان من هذه الجهة كائن مادي محسوس. يجري عليه ما يجري على ماديات الطبيعة من سلطان القانون المادي. ومن الجانب الثاني أي من الجانب الروحي يملك من الطاقة الروحية والمعنوية جزءاً هاماً يميزه عن المواد الجامعة، ليس هذا فحسب بل ويتميز عن سائر الكائنات الحية. ولما كان الإنسان في خلقته وطبيعته مؤتلفاً من هذا المزيج الغريب على طبيعة الكائنات جميعاً كان بالطبع خاضعاً لنوعين من السلطان يختلف أحدهما عن الآخر والجانب المادي: يخضع لخاصيات المادة ومتطلباتها. فهو لذلك يحمل إمكانية البعد عن الصواب وارتكاب المعاصي وهو المستفاد من مخاطبة الملائكة لربهم في شأن الإنسان إذ: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) سورة البقرة، الآية30.

والجانب الروحي: نزاع إلى الأعلى، وهو يحمل إمكانية الوصول إلى مراتب الخير والصفاء، وبهذا الجانب الروحي حمل الإنسان الأمانة التي عرضها الله تعالى على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان.

ومع هذا فليس الجانب الأول أفضل من الجانب الثاني. بل إن الجانبين معاً يكونان هذا الإنسان الذي أعد على أساس تكوينه منهما معاً للخلافة في الأرض، فمناط رفعته هو تركيبه من العنصرين معاً، ويحفظ التوازن بينهما بإعطاء المادة مقوماتها والروح أشواقها، يكون الإنسان المخاطب يقول الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) سورة التين، الآية4 ـ ومن هنا نستطيع القول بان القرآن الكريم لم يركز على جانب معين في الإنسان ليجعله وحده دون سواه وسيلة للخلافة. بل دعانا إلى اعتبار جميع الملكات الإنسانية وعدم إهمال دور أي منها للوصول إلى هذه الدرجة. راجع دكتور الجليند المرجع السابق ص20 وراجع دكتور يحيى هاشم المرجع السابق31.

اختلافاً واضحاً ومتميزا. وكل من هذين النوعين من السلطان يتوجه إلى جانب بعينه من مكونات طبيعة الإنسان. وعلى هذا فليس من الجائز أن يتوجه النداء إلى جانب الروح بقانون المادة. كما أنه ليس من الجائز أن يتوجه النداء إلى الجانب المادي في الإنسان بالسلطان الذي لا يصلح إلا أن يتوجه إلى جانب الروح فيه(93). وفي المقام يدرك القارىء أن العقيدة لما كانت نشاطاً من نشاطات الجانب المعنوي في الإنسان. وكان التصديق بمحتوى العقيدة عملاً من أعمال القلوب والحماس لها نشاط من نشاطات العقل والوجدان لم يصلح بحال من الأحوال أن يحمل بني البشر على شيء من العقائد بسلطان المادة الذي لا يصلح إلا للسيطرة على الأجسام المادية. والمتأمل في نصوص القرآن الكريم التي تستخدم كلمة سلطان، يجد هذا التمييز بين نوعي السلطان واضحاً غاية الوضوح، وأن أكثر استعمال هذه المادة يكون في السلطان بمعنى الحجة والبرهان قال تعالى: (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)(94). وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ)(95). هذا في شأن الجانب الأول. أما في شأن الجانب الثاني: أي في السلطان بمعنى القوة المادية المحسوسة قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ)(96). كما ترد مادة السلطان في القرآن الكريم في معرض التعبير عن لون من ألوان الحجة في مجال العقيدة بين من أتيح لهم قسط من البطش والجبروت والسطوة والسلطان فحملهم هذا على التسلط على غيرهم من المستضعفين فصدوهم عن طريق الهداية ومنعوهم من الإيمان بما لهم من قوة النفوذ وسطوة الحكم والسلطان. وآخرين مستضعفين في الأرض رأوا أن ضعفهم يصلح أن يكون حجة يتجنبون بها سطوة العذاب. وتمشياً مع الفطرة السليمة فإن الله لم يعذر هؤلاء وأولئك بحجة أنهم قد خضعوا لسلطان السطوة المادية والقوة المحسوسة، وذلك لأنه لا سلطان على القلوب إلا سلطان الحجة والاقناع(97). وفي هذا المقام يخبرنا القرآن الكريم بما يجري بينهم مصوراً حالهم، ليكون ذلك عبرة للدرس والتعلم قال تعالى: (وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا يَتَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ)(98).

ومن هنا يتضح أن مصدر المعرفة في المنهج القرآني يقوم على مخاطبة الإنسان من حيث هو إنسان. فلا يخاطب طبقة معينة من البشر يرتفع بها إلى المستوى أو ينخفض فيقع في التناقض مع المستويات الأخرى، ولا يخاطب في الإنسان قوة من قواه دون الأخرى، فيقع في التناقض مع القوة التي يهملها: وإنما يتجه إلى الإنسان ككل كما تبين فيما سبق في حقيقة الفطرة في قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(99). ومعنى هذا أن الدين فطرة الله. وهو يتطابق مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا أنه نفس الفطرة الموجودة في بني البشر. فالدين شيء والبشر شيء آخر، والمقصود أن الدين فطرة الله وأن الإنسان فطرة الله فكان لا بد من التلاقي، أو التلقي بين الدين، وبين الإنسان (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) وفي هذا المقام يقول الشهرستاني: ((وقد قيل إن الله عز وجل أسس دينه على مثال خلقه))(100). وهذا يعني أن الإسلام يلتقي مع الإنسان في قواه المتعددة ويتعامل معها جميعاً: العقل والوجدان والإرادة جميعاً، ذلك أن الصفات النفسية للإنسان مرتبط بعضها ببعض ويؤثر بعضها في بعض، والاعتقاد وهو حالة نفسية مرتبط بالصفات النفسية... كلها يتأثر بها ويؤثر فيها.(101) وفي هذا المقام يقول أيضاً الدكتور محمود حب الله: ((فالعقائد الدينية لا تعتمد على جانب واحد من جوانب الحياة النفسية للإنسان ـ الوجدانية والإرادية والعقليةـ ولكنها تتصل بها كلها اتصالاً وثيقاً: ولا ترضى  نفس المرء. ولا تكمل شخصيته إلا إذا تضامنت شخصيته. ونواحيه النفسية كلها، وعملت معها على تقبل كل عقيدة من عقائده فلا يوجد شيء من التضارب بين قواه المتعددة. حول عقيدة من عقائده، بل انسجام ووئام، فيوجد قبول عقلي واطمئنان قلبي، والتقاء مع الإرادة. وذلك هو كمال الشخصية، وهو كمال الاعتقاد، وهو كمال العقيدة كذلك))(102). ثم يتابع الحديث فيقول: ((وما دامت العقائد الدينية متصلة بكل من العقل والوجدان والإرادة، احتاجت، في وسائل نشرها، إلى الاعتماد على كل هذه القوى)(103). التي هي مداخل المعرفة البشرية في النفس الإنسانية، وحرصاً على هذه الضوابط قرر القرآن الكريم عقائد الإيمان كلها مدعمة بالحجة والبرهان، وليس به قضية بلا دليل أو دعوى بل بينة، حتى في باب الأدب الخلقي فقال: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(104). ومجمل القول أن القرآن الكريم اتخذ في تقرير العقائد منهجاً واحداً ذا شقين أحدهما لهدم العقائد المتوارثة، التي أضحت في عالم المعتـقد لا غذاء فيها للقلب والروح، وثانيهما لبناء العقيدة الصحيحة التي تملأ جوانب النفس البشرية بالإيمان الصحيح. وقد وضحت لنا سورة الإخلاص معالم هذا المنهج في قول الله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(105). فلو تأملنا هذه الآيات التي اشتملت عليها هذه السورة القصيرة في مبناها الغزيرة في معناها. نجد أنها اشتملت على أصول المنهج القرآني في جانبيه. جانب البناء وقد ورد في صيغة الإثبات (الله أحد. الله الصمد) بينما جاءت الآيات الأخيرة في صيغة النفي لتصور جانب الهدم (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد)(106). وبعد هذا البيان نعود للحديث عما وعدنا به فيما تقدم.

________________________

(70) الإمام الشافعي كتاب الأمر ج4 ص96 نقلاً عن التمهيد لتاريخ الفسلفة الإسلامية للشيخ/ مصطفى عبد الرزاق.

(71) سورة البقرة، الآية113.

(72) راجع العلامة الشهرستاني الملل والنحل ج1 ص 17 ط الحلبي.

(73) راجع العلامة محمد اقبال تجديد الفكر الديني في الإسلام ص160.

(74) سورة الإسراء، الآية 105.

(75) سورة غافر، الآية 19.

(76) راجع: الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد المرجع السابق ص33.

(77) سورة العلق، الآية 26.

(78) راجع الدكتور محمد سيد أحمد المرجع السابق ص396.

(79) سورة المطففين، الآية 26.

(80) سورة الإسراء، الآية36.

(81) الدكتور محمد السيد المرجع السابق.

(82) سورة الأنعام، الآية116.

(83) سورة الأحزاب، الآية 68.

(84) سورة الفرقان، الآية 29.

(85) سورة الإسراء، الآية 36.

(86) راجع الدكتور محمد السيد الجليند المرجع السابق ص22.

(87) سورة البقرة، الآية 164.

(88) سورة آل عمران، الآية138.

(89) راجع الدكتور محمد كمال جعفر المرجع السابق.

(90) سورة البقرة، الآية256.

(91) سورة يونس، الآية99.

(92) وهذه الحقيقة أن الإنسان مركب من عنصرين متابنين في المشارب والاهتمامات عنصر مادي هو الجسد وعنصر روحي هو الروح قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) سورة الحجر، الآية 29.

(93) راجع الدكتور طه الدسوقي حبيشي عقيدتنا ص106ط1985م.

(94) سورة الأعراف، الآية71.

(95) سورة هود، الآية96.

(96) سورة الرحمن، الآية33.

(97) راجع الدكتور طه الدسوقي حبيشي المرجع السابق.

(98) سورة الصافات، الآية من 21ـ33.

(99) سورة الروم، الآية30.

(100) الشهرستاني الملل والنحل ط ص45 تحقيق الدكتور فتح الله بدران ط الأنجلو 1956م.

(101) الدكتور يحيى هاشم حسن مداخل إلى العقيدة الإسلامية ص24 ط1985م.

(102) الدكتور محمود حب الله حياة الوجدانية ص 269ط الحلبي 1948م.

(103) الدكتور محمود حب الله المرجع السابق ص274م.

(104) سورة فصلت، الآية34.

(105) سورة الإخلاص.

(106) راجع تفسير الخازن لعلاء البغدادي ج4 ص426ط نعماني كتب خانة باكستان.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=301
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2008 / 11 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24