• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : تَفْسيْرُ القُرآنِ الْكريمْ سُورَة آل عِمْران (القسم الثاني ) .

تَفْسيْرُ القُرآنِ الْكريمْ سُورَة آل عِمْران (القسم الثاني )

الاْستْاذ الشيخ محمود شَلتُوت

أجملنا فى العدد السابق مقاصد سورة (آل عمران)، وبينا وجه تسميتها بهذا الاسم، وقلنا: إن السورة برزت فيها العناية بأمرين عظيمين، لمراعاتهما فى حياة الأمم والأفراد أثر عظيم فى السعادة الدنيوية والأخروية، وللإعراض عنهما ـ على العكس من ذلك ـ عواقب وخيمة، تودى بالأمم، وتوقعها فى الفساد والاضمحلال والدمار، هذان الأمران هما: تقرير الحق فى مسألة الألوهية، وإنزال الكتب وما يتعلق بهما من أمر الدين والوحى والرسالة، وتقرير العلة التى من شأنها ـ إذا انحرفت إليها النفوس، وتعلقت بها القلوب، وصارت الهدف الذى لا يعرف غيره فى الحياة ـ أنْ تصْرف الناس عن معرفة الحق، والخضوع لسلطانه، والعمل بمقتضاه، وأن تملك عليهم حواسهم ومشاعرهم، وتصرف قلوبهم عن التدبر والتفكر فى كنه هذا العالم وما يقوم عليه من أعمال وصلات، وما يصير إليه من حساب وجزاء، هذه العلة هى الحرص على زخارف هذه الحياة، والوقوف عند ظاهرها الذى لا يمتُّ إلى فضيلة، ولا يوحى بخير أو صلاح:

تناولت السورة هذين الأمرين، وركزت أولهما على آيات جائت فى أولها، فبدأت ببيان أن الكتب السماوية، والعقل الذى منحه الله الانسان ليفرق به بين الحق والباطل، ويستعين به على معرفة الهدى من الضلال، أنزلهما الله لغاية واحدة هى هداية الناس للحق (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) ثم قررت خاصة الألوهية الحقة من العلم المحيط، والقدرة التامة، والحكمة فى التدبير والتقدير (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وأردفت هذا وذاك بالإشارة إلى منشأ الشبهة التى تعلق بها النصارى فى ألوهية عيسى فأضلتهم عن الحق، مع تزييف هذه الشبهة بما لا يدع لها أثرا فى النفوس التى خلاص استعدادها لمعرفة الحق والإيمان به، وكان ذلك فى قوله تعالي: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ).

ويجدر بنا أن نبادر قراء (رسالة الإسلام) فى هذا المقام بأن ما تضمنته هذه الآية ليس خاصاً بقضية الألوهية وما يتصل بها من أمر عيسى والنصاري، وإنما هو قاعدة كلية فى تعريف منشأ الشبهات التى تميل بالناس عن الحق في أصول الدين وفروعه، وتجعلهم شيعاً وأحزابا، يكفر بعضهم بعضا، ويضرب بعضهم رقاب بعض، فإذا قال الله: (أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) ما لا توحى به حقيقته التى يبينهما ويوضحها محكم الكتاب فى كثير من الآيات الصريحة التى تجعل الأمر كله لله: يتوسعون بذكر أشياء لا محل لذكرها، ويغفلون أويعرضون عن مثل قوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر). (الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ). (أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ) (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ) (قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً). وغير ذلك من الآيات المحكمات.

وإذا قال الله (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً) ونحوها من الآيات التى يفهِم ظاهرها أن أمر الهداية والضلال ليس مبنياً على اختيار العبد، وإنما هو منح وفيض من الله يعطى منهما ما شاء لمن شاء؛ وجدنا الفرق شهرات أسلحتها، واشتبكت فى حرب مظلمة من الجدل العقيم، الذى إن تصورنا له غاية فليست سوى إخفاء الحق، وتشويه معالمه، ومحاولة كل أن يظهر على خصمة، ويعرضون عن بداهة القضيه التى يبنى عليها التكليف من الحكيم العادل، والآياتِ التى لا تعد ولا تحصى فى تقرير أن الجزاء بالعمل والكسب وأن الله (لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

وحسبنا فى التطبيق على هذا المبدأ ـ الذى استطردنا بذكره، وبادرنا بلفت نظر القراء اليه ـ ما ذكرنا من هاتين المسألتين التين تتصلان بخلاف كثيرا ما شغل الناس، وأوقع بينهم العداوة والبغضاء دون مبرر، ومن السهل أن يتتبع القاريء مواضع المحكم والمتشابه، ويعرف ما كان ينبغى أن يسلك فيها بحمل المتشابه على المحكم، والإيمان بهما على أنهما جميعا حق جاءنا بهما الوحى ونزل بهما الكتاب (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا).

ونرجوأن تتاح لنا ـ إن شاء الله ـ فرصة إشباع هذا الموضوع بحثا وتطبيقا فى الأصول والفروع، وبيان أن الوقوف على الحقيقة فيه، هو أساس التصفية بين المسلمين، وردهم إلى الحق الواضح، الذى يلتقون عنده على كلمة سواء كما التقى عنده أسلافهم من قبل.

نعود بعد هذا الاستطراد ونقول: إن ثانى الأمرين الذين برزت بهما عناية هذه السورة، وهو السبب الحقيقى فى الانصراف عن الحق، والإعراض عن دعوة­­ محمد (صلى الله عليه وسلم) قد ركزته السورة على بيان حقيقة ما أنعم الله به على الناس من النعم المادية، وإنه ليس إلا متاعا من متاع هذه الحياة، وأن الاعتماد عليه وحده، وتسخير الحياة فى سبيله، لا يغنى من الحق شيئا، وأن ماعند الله خير وأبقي، وذلك هو قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) وقوله: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ).

بدأت السورة بهذا وذاك، وركزتهما على ما ذكرناه من الآيات، وأخذت تؤيدهما بالإرشادات والمثل الواقعية فيما يروْن وفيما يروى لهم من عبر الأولين، وكان من ذلك أن ضربت مثلين من حوادث المؤمنين فى عهد الرسالة، لمسوا فيهما أن النصر والسعادة ليسا منوطين فقط بكثرة الأموال، ولا بقوة العدد، ولان بوفرة العَدد، وإنما هما منوطان بعد ذلك أو قبل ذلك، بالصدق فى الإيمان، والقيام بالحق، والاخلاص فى العمل، والاحتفاظ بالوحدة، والصبر على المكاره.

هذان المثلان هما ما كان من نصر المؤمنين ببدر مع قلة المال والرجال والعدد، وما أصابهم فى غزوة أحد بالتنازع والفشل والطمع فى مظاهر الحياة الدنيا: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

وكان من ذلك أنها أجملت عبر الأولين فى قوله تعالى: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وفى قوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).

وفى هذا الجو الذى هيأته السورة، وبعثت به استعداد المؤمنين للسمع والطاعة، وسلوك

سبيل الحياة الطيبة، والتلقى عن الله ورسوله، بثت عدة (نداءات إلاهية) قوية للمؤمنين بعنوا الإيمان الذى اتصفوا به، كان من أبرزها خمسة تدور حول أساس واحد هو تركيز وحدتهم. وصيانة كتلتهم، والاحتفاظ بشخصيتهم كأمة متماسكة لا تختلف ولا تتفرق، ولا تسمح لعوامل الضعف والانحلال أن تتسرب إليها من داخلها أوخارجها.

هذه النداءات الإلهية الخمسة هى قوله تعالى:

(1) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

(2) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

(3) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).

(4) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).

(5) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

هذه النداءات الخمسة التى ذكرنا أنها ترمى إلى هدف واحد فى تركيز الأمة الإسلامية، وصيانتها من عوامل الضعف الداخلية والخارجية، وتمكنت فيه عوامل الافساد داخلية وخارجية من قلوب المسلمين، فقطعت أواصرهم، وجعلتهم طعمة لأعدائهم، ووقفت بهم عن بلوغ الغايه السامية التى رشحتهم لها العناية الإلية بما أمدتهم به من دين صالح، وهداية قويمة، وأخلاق متينة، وهى قيادة العالم إلى سواء السبيل، والوصول به إلى الحياة الطيبة السعيدة ـ جدير بنا أن نقف عندها وقفة يتجلى لنا فيها ما انطوت عليه من أسرار، وما أرشدت اليه من سنن، وما هدت إليه من سبيل.

ولكننا بين يدى هذه الوقفة، نقدم كلمة عن النداءات الإلهية الواردة فى القرآن الكريم، نراها مفيدة فى استجلاء ناحية هامة من أسلوب ذلك الكتاب الحكيم فى التكاليف والارشادات.

لله سبحانه وتعالى نداءات كثيرة فى القرآن الكريم، وللنداء عامة دلالته على كمال العناية. وعظيم الاهتمام بالمطلوب وبالمنادي، وأمرُ ذلك فى جميع اللغات معروف مشهور.

نداء من إله قوى قاهر حكيم مدبر، يعلم سر العالم وباطنه، إلى عباد مؤمنين بربوبيته وألوهيته يتلاشى حولُهم وقوتهم،امام حوله وقوته، ويتلاشى علمهم وتدبيرهم، أمام علمه وتدبيره، جدير بأن يهز القلوب، ويصفى النفوس، ويخلع الناس من التفكير فيما بين أيديهم وما خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائتلهم، وأن يجذب قلوبهم ووعيهم وانتباههم إلى الاستماع اليه، وتدبر ما يلقيه، وحق لابن مسعود أن يقول تلك الكلمة التى تعبر عن شعور المؤمن حينما يسمع نداء الله بأحب الأوصاف التى يصف بها عباده، وهو وصف الإيمان: (إذا سمعت الله يقول: ((يأيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك).

وقد نادى الله الأشخاص والطوائف والشعوب، ونادى الناس جميعاً. ونادى أشياء مما خلق.

ونداؤه للعقلاء أفراداً أوجماعات نداء تكليفى يتضمن أمراً يطلب فعلا، أونهياً يطلب تركاً. أما نداؤه لغير العقلاء مَّما خلق، فهو نداء تكوينى تُصور به مطاوعة الكائنات لخلقها، وخضوُعها لسنته، كما يخضع المنادَى حين ينادى ممن فوقه، ومن هذا النوع الأخير (يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي) (يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (يا جبالُ أوِّبى معه).

وقد جاء نداؤه للعقلاء على أنواع:

(1) نداء لأشخاص بأسمائهم. وهذا النوع قد قصّه الله علينا فى كتابه بالنسبة لبعض الأنبياء السابقين، ناداهم بأسماءهم استناهاضاً لهمتهم أوتنبيهاً إلى خطر ما كلفوا به واصطفوا لأجله، أوتهدئة لروعهم، وتسكيناً لأفئدتهم: (يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ). (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ).

(2) نداء بالوصف الذى يحدد المهمة ويبعث على القيام بها وعدم التأثر بشيء فى سبيل أدائها (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ).

وهما خطابان لمحمد (صلى الله عليه وسلم)، ولم يوجد فى القرآن خطابً له بوصف الرسالة سوى هذين.

وقد ناداه بوصف النبوة فى مواضع متعددة.

ناداه بهذا الوصف فى تنفيذ بعض ما كلف به من جزئيات الأحكام المشروعة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ). (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ).

وناداه به فى بعض شئون خاصة به (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً)، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ).

وناداه به فى بعض تشريعات عامة للمؤمنين (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ).

وناداه به فى أمره بتقواه وتحذيره إطاعة الأعداء أو التأثر بمقترحاتهم (أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً).

وكما نادى الله رسوله بوصفي الرسالة والنبوة ـ كما رأينا ـ ناداه بحالة صار اليها لمناسبة خاصة (يأيها المزمِّل). (يأيها المدثَّر). وفى الخطاب بهذين الوصفين تأنيسٌ له وملاطفة على عادة العرب فى اشتقاق اسم للمخاطب من صفته التى هو عليها كقوله عليه الصلاة والسلام لعلى كرم الله وجهه حين رآه وهو نائم قد لصق بجنبه التراب: قمْ يا أبا تراب.

ويجدر بنا أن نلاحظ هنا أمرين:

أولهما: أنه لم يقع نداء لمحمد (صلى الله عليه وسلم) باسمه الصريح كما وقع لغيره من الأنبياء السابقين. وفى هذا من التكريم ورفع الشأن ما لا يعرف لأحد من الأنبياء.

وقد قال العلماء إن فيه تعليما وتأديباً للمؤمنين فى التحدث عنه أوندائه (صلى الله عليه وسلم)، وقد كان الأصحاب رضوان الله عليهم يتحدثون عنه وينادونه بوصف الرسالة أوالنبوة، وقد جهل جماعة من الأعراب هذا الأدب لما نشئوا عليه من خشونة البادية، فنادوه باسمه، فأنزل الله عليمهم (لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ) (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ)

ولعل من محاكاة هذا الادب ما درج عليه الناس من عدم نداء الملوك والعظماء ورجال الشرف بأسمائهم، وإنما ينادوْن بألقابهم وأسماء مراكزهم، وهو أدب معقول مقبول.

وثانى الأمرين: أن النداء بوصف النبوة كان موجها إلى جزئيات من تكاليف الرسالة، وبخاصة ما كان يتصل بجهة التنفيذ، وأن النداء بوصف الرسالة لم يكن إلا فى تحديد مهمة الرسالة العظمى وما يتصل بها من تقوية القلب على أدائهما، (بلِّغ ما أنزل اليك من ربك) (لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر).

ولعل ذلك يرجع إلى طبيعة لفظى (نبي) و(رسول) فى اللغة العربية واقتضاء أولهما معنى العرفان والعلم واقتضاء الثانى مجرد التبليغ.

(3) وكما نادى الأشخاص على النحو الذى ذكرنا، نادى الناس جميعا مرةً بوصف الإنسانية العام، ومرةً بوصف النبوة للأب الأول، والذى نلاحظه هنا أن النداء بوصف الإنسانية كان أكثره فيما يختص بالأصول العامة للدين، من الإيمان بالله، والوحي، والرسالة، والإيمان باليوم الآخر، وما يرجع إلى شيء من هذين: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ). (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

وأما نداؤهم بوصف البُنوَّة لآدم، فقد وُجِّه إليهم تحذيراً من مكايد الشيطان التى وقع فيها أبوهم من قبل، (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا).

ووُجِّه إليهم امتناناً على نوعهم بما ميزهم الله به عن سائر الحيوان من لباس يستر العورة، وريش يتزَّينون به (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً).

ويلا حظ هنا أن الإ نزال كما يكون للأجسام تسقط من علو، يكون فى معنى تهيئة الأسباب للحصول على الشيء بعد خلق مادته (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ). (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ).

ومن هذا المعنى قوله تعالي: (أنزلنا عليكم لباسا) أى خلقنا مادته من القطن والصوف والحرير، وهديناكم بالغرائز والقوي، إلى صنع الباس عن طريق الوسائل التى يتوقف عليها وألهمناكم بها، كالزراعة والغزل والنسج والخياطة.

(4) وكما نادى الله الناس على هذا النحو، نادى الطوائف والشعوب.

نادى شعب بنى إسرائيل، ولا نعرف شعباً آخرُ وِّجه إليه الخطاب فى القرآن كما وِّجه إلى هذا الشعب، ولعل ذلك كان لكثرة ما عُولج به هذا الشعب من نوعى النعماء والضراء، ثم لم تنفع معهم تلك المعالجة لا فى القديم ولا فى الحديث، مع ما كان لله عليهم فى شخص أبيهم (إسرائيل) من فضل عظيم يجب أن يذكروه وأن يقدروه، فيخلعوا أنفسهم عن موقف العناد والمكابرة إلى موقف الطاعة والاستجابة، وفى التذكير بمكانة الآباء إحياء للإحساس بالشرف والشعور بالكرامة عند الأبناء، وفى هذا الإحياء إحياء للعزيمة الصادقة، وتقوية لها على عوامل الهوى والشهوة.

(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).

(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى).

(5) ونادى طوائف أهل الكتاب، ناداهم بهذا العنوان تبكيتاً لهم على ماكانوا يرتكبون من أفانين التضليل، وأنواع التشكيك التى كانوا يحاربون بها الدعوة المحمدية.

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ) وكأنه يقول لهم: إن صنيعكم هذا لا يتفق مع ما نزلت به الكتب عليكم، إنَّ صدقكم فى نسبتكم إلى الكتب يحتم عليكم تلبية الدعوة التى تصدِّق رسلكم، والتى تضمنتها كتبكم وكنتم بها من قبل مؤمنين، فلستم كالمشركين الذين لم تنزل عليهم كتب، ولم يشرق فى آفاقهم شيء من نور الحق.

وقد يناديهم بهذا الوصف إغراءً لهم، لتلبية الحق الذى يُدعوْن إليه، والذى لم يكن شيئاً جديداً عليهم.

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ).

(6) وكما نادى سبحانه وتعالى طائفتى اليهود والنصارى بوصف أهل الكتاب نادى طائفة الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بوصف المؤمنين، وإن المتتبع للنداءات الإلهية فى القرآن يجد أكثرها موجها إلى المؤمنين، فقد بلغت نداءاتهم تسعة وثمانين نداءا، وأنه لم يقع نداء واحد منها فى آية مكية، وإنما وقعت كلها فى الآيات التى نزلت بعد أن تكوَّن المسلمون بالهجرة جماعة لها كيان خاص، وقوة خاصة، وسبيل خاص.

ناداهم بهذا الوصف الذى تركز فى نفوسهم تنبيها إلى أن الإيمان من شأنه أن يحملهم على الاستجابة لما طُلِبَ منهم وكلفوا به، وتنبيها الى أنهم بحكم اشتراكهم فى ذلك الإيمان مسئولون عن هذه التكاليف التى هى من أحكام الإيمان؛ يُسأل الشخص المؤمن عن نفسه، ويسأل عن أخيه، وهذا هو الأصل فيما يقرره الإسلام من تضامن أهله، ومسئولية بعضهم عن بعض فى تنفيذ الأحكام والعمل بمقتضاها.

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

نادى الله المؤمنين بهذا الوصف فى الأخلاق، وفى الأحكام؛ ففي الأخلاق: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ).

وهكذا استنهض القرآن المؤمنين بالنداء بهذا الوصف المحبب للنفوس. المكرَّم للعقول، إلى مكارم الأخلاق فى الافراد والجماعات، سمواً بهم إلى أعلى مراتب الإنسانية.

وكما ناداهم فى الأخلاق حثاً على التحلى بها؛ ناداهم فى الأحكام حثاً على امتثالها والعمل بمقتضاها.

ناداهم فى الأحكام التى يطالب بها كل فرد فرد:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وناداهم فى الأحكام التى طلب وجودها فيما بين الجماعة، وطلبها من الجماعة من جهة أنها جماعة، والشأن فى هذا النوع أن يناط تنفيذه بمن يمثل الجماعة وينوب عنها مع مسئولية الجماعة عنه، وهذا هوأساس مسئولية الحاكم أمام الجماعة فى نظر الإسلام.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ).

ويلا حظ هنا أنه كما أن الأمة مسئولة عن هذا النوع الذى نيط تنفيذه بالحاكم النائب عنها، وكان الحاكم مسئولا أمامها عنه، فإن الحاكم مسئول أيضاً عن النوع الآخر الذى طلب من الأفراد ونيط بهم تنفيذه، ومن هنا وجدت فى الإسلام للحاكم سلطة إقامة الحدود وتوقيع العقوبات على من قصر فى واحب من الواجبات فعلا أو تركاً؛ فملك عقوبة من ترك الصلاة، أو أفطر فى رمضان أو منع الزكاة، أو اقتحم البيوت بغير إذن، أو عرف بكثرة الأراجيف، أو بالتجسس على الناس فى خواص شئونهم، وما إلى ذلك من المخالفات الأخلاقية والأحكامية التى طلبها الله من عباده المؤمنين.

وقد يأتى النداء للمؤمنين بتكليف يكون مطلوباً من الأفراد من حيث هم أفراد ومن الجماعة من حيث هم جماعة ينوب الحاكم عنهم، ومن ذلك:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ).

فإن الحكم الذى تضمنته هذه الآيات مطالب به الأفراد كل على سبيل الاستقلال، ومطالب به الجماعة التى يمثلها الحاكم، فكما لا يصح أن يتخذ فرد ما من الأمة بطانة من أعدائها يمكَّنها من أسرار دولته، لا يصح للحاكم الذى يمثل الجماعة أن يتخذ من الأعداء بطانة يفضى اليها بهذه الأسرار، أو يمكنتها من الاطلاع عليها.

وهكذا نجد القرآن قد عالج بالنداءات الإلهية الناس جميعاً على وجه عام، وعالج الطوائف على وجه خاص، وكانت الأوصاف التى تقع بها هذه النداءات من شأنها أن تدفع بالمخاطبين إلى امتثال ما يخاطبون به وهو أسلوب قوى من أساليب الإرشاد واستنهاض الهمم. أسلوب طبيعى تأنس إليه النفوس وتملك به القلوب.

وقد قرَّ فى نفوس الناس أن يحث به بعضهم بعضا على فعل ما يريدون من خير وترك ما يخضون من شر؛ فهوا أسلوب له أثره فى توجيه القلوب وحفز الهمم وبخاصة ل وصدر من أب لابن، أومن رئيس لمرءوس، أومن حاكم لرعيته. فما بالنا إذا صدر من الخالق العليم ذى السلطان والقهر وصاحب القوة والنعمة، فى الأولى والآخرة؟


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=284
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2008 / 11 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29