• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المشرف العام .
              • القسم الفرعي : مقالاته .
                    • الموضوع : وقفة مع حج بيت الله الحرام .

وقفة مع حج بيت الله الحرام

سماحة الشيخ عبد الجليل أحمد المكراني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿وَللهِ عَلَى الناس حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [ال عمران: 97].

وقال سبحانه: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ﴾ [البقرة: 196﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجِّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الاَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197].

دلت هذه الآيات الكريمة على وجوب الحجّ لمن كان مستطيعاً، فقوله تعالى ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ﴾

(لله): يدل على الوجوب والاخلاص وحصر العبادة إيّاه.

(حج البيت): الحجّ لغةً: ـ بفتح الحاء المهملة ـ من حجّ يحجّ حجّاً فهو مصدر يدلّ على مجرّد الحدث من دون أن يقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ـ الماضي والحاضر والمستقبل ـ وانّه بمعنى القصد المتكرّر.

وفي المصطلح: عبارة عن مناسك خاصّة في أيّام معلومات ومعدودات.

وأمّا الحجّ ـ بكسر الحاء المهملة ـ فهو إسم مصدر، ويدلّ على ما يحصل من الحجّ من الآثار المعنويّة والروحيّة، فالمصدر يدلّ على أصل الفعل، واسمه يدلّ على ما يحصل من الفعل من إسقاط التكليف الشرعي والقرب من الله سبحانه.

فالحجّ المطلوب عند الله سبحانه ليس مجرّد أصل الفعل، بل ما يحصل من فعل الحجّ من الصيانة المعنويّة والآثار الروحيّة والمقامات الرفيعة التي تجمعها كلمة (التقوى) كما يجري ذلك في الفرق بين الصوم والصيام، فالذي كتب على المؤمنين كما كتب على الذين من قبلهم هو الصيام، وليس مجرّد الصوم، لأنّه ربّ صائم وليس له من صومه إلّا الجوع والعطش، فالمقصود من الصيام ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ وكذلك الحجّ ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197].

وإلّا ورد في أحاديثنا الشريفة: «ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج » ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13]

ثمّ المراد من (البيت) هو البيت العتيق الذي وضعه الله للناس من اليوم الأوّل ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ أعم من الاستطاعة المالية والبدنيّة والسربيّة، أي الطريق، كما ذكرها الفقهاء في رسائلهم العمليّة.

﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ فمن يترك الحجّ من دون عذر، فقد كفر بنعمة الله، وهذا من الكفر العملي.

ثمّ لا يضر من كفر بالله في عقيدته أو سلوكه، إنّما يضرّ نفسه، فان الله غنيّ عن الحاج وحجّه، بل غني عن العالمين، انّه غنيّ بالذات، فانّه الكمال المطلق ومطلق الكمال في الذات والصفات والأفعال: ﴿أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهَ وَاللهُ هُوَ آلْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر:15 ]

فلا يضرّه من ضلّ عن سبيله، وإرتكب معاصيه، وكفر بنعمه وآلائه، إنّما هو الخاسر خسراناً مبيناً.

عن الامام الصادق (ع): «من مات ولم يحجّ حجّة الاسلام لمن يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحجّ، أو سلطان يمنعه، فليمت يهوديّاً أو نصرانيّاً». [الكافي: ج4، ص 268]

ابعاد واهداف الحج

الحجّ بما هو عبادة وفريضة على الناس يهدف إلى ترسيخ حقيقة الإيمان بالله تعالى في قلوب عباده وتجديد المشاعر في النفوس لمعايشة هذا الإيمان وتعميقه في القلوب وتركيزه في العقول.

ومن انعكاسات هذا التأكيد والتجسيد تعزيز روح الأُمّة في اجتماعها ووحدتها، وترسيخ معاني الرحمة والأخوّة بين أفرادها ومذاهبها وطوائفها، والسعي إلى إصلاح ذات ابين الأمة والتعاون على رفض الفتن.

والحجّ يعلِّم الناس أن يتلاقوا وينتفعوا من التنوّع الذي أودعه الله تعالى في المجتمع، وأن يتعالوا على كلّ الفروقات والحواجز بينهم، ولتي تعقّد حياتهم، فإذا ساروا في خطّ الإيمان فلن يكون لأي فروقات معنى واعتبار. وعندما يجتمع الناس في الحجّ يجب أن تسقط كلّ الحواجز المادّية والنفسية التي تضعها الفواصل العرقية واللونية والقومية بين الناس، ليلقوا على صعيد واحد هو الإيمان بالله والسير على نهجه والالتزام بدينه طلباً لرضاه، ممّا يوفّر لهم الخروج من اهواء النفس الضيِّقة التي يحبسون حياتهم فيها لينطلقوا إلى الأفق الكبير االذي يحتويهم جميعاً، واالذي يمنهج لقضاياهم الإسلامية وارتباطها بالهدف الكبير الذي يريده الإسلام في الحياة.

فالحجّ إلزام إلهيّ للمؤمنين المخلصين بما عاهدوا عليه الله من الانقياد لطاعته والانتفاع من اجتماعهم بما يقوّي وحدتهم ويكون المحور لعلاقات وروابط جديدة على مستوى التعاون في حل مشاكلهم، فتتحوّل النداءات الإبراهيمي في طقوس الحجّ إلى التزامات تنعكس بتجلياتها على الواقع، لتضخّ به الحياة في المجتمع لتبعده عن الرتابة.

يقول تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ [الحجّ: 27]، وأعلن ذلك في نداءاتك كتشريع تقرره، لا مجرّد صوت تطلقه ليشعروا من خلال ذلك بأنّ هناك إلزاماً إلهيّاً يدفعهم إلى الامتثال ويقودهم إلى الطاعة يأتوك سائرين على أقدامهم أو على بعير مهزول من شدّة التعب من أي طريق بعيد ليحصلوا على منافع الحجّ الدنيوية التي يحقّقها لهم اجتماعهم على مستوى التعارف والتبادل والتعاون والتشاور في حلّ المشاكل التي يعيشونها.

إنّ كلمة (لبيك) تعني إنّنا ـ يا رب ـ نلتزم في موقفنا هذا بكل نداءاتك بالإسلام كلّه، في عباداته وفي أخلاقه وفي معاملاته، وفي مواجهة كلّ التحدّيات التي يواجهها الإنسان من الشيطان الداخلي في عمق نفسه أو من الشيطان الخارجي واقعه وفيما يحيط بحياته.

إنّها الحركة املبية للنداء الذي تنطلق به كلّ حناجر الحجّاج لتؤكّد موقفهم الذي يريد أن يلتزم بالإسلام من جديد، في مسيرتهم إلى مركز  انبثاق الإسلام في مكّة، لتكون مسيرة الحجّاج من سائر أقطار العالم هي مسيرة الإسلام التي تقول ـ من خلال تلك الكلمات الخاضعة الهادرة ـ يا رب إذا كان الناس قد تركوا الإسلام فلم يؤمنوا به ولم يرتبطوا به، وإذا كان المسلمون قد انحرفوا عن خطّه وتركوا الكثير من تعاليمه وانتموا إلى الاتجاهات الأُخرى التي تختلف عن خطّه المستقيم.

إذا كان الواقع هو ذلك، فها نحن قادمون إلى بيتك المحرّم لنقول من كلّ قلوبنا ومن كلّ عقولنا ومن كلّ مواقعنا ومواقفنا وتطلّعاتنا «لبيك اللّهُمّ لبيك» فقد جعلنا الإسلام لنا بكلّ ابعاده رسالة الحياة، ونحن نريد أن نعيش الحياة من خلاله. ولا يمكن للإيمان أن يتأكد إلا أن يخرج إلى العلن فعلاً وممارسة في شؤون الحياة بما ينفع الفرد والجماعة، وهنا تأخذ العلاقة بالله أبعاداً أصيلة متحركة لاجمود فيها.

وفي جولة في آفاق الحجّ وما يتصل بذلك، فإنّ القيمة الكبرى للعبادات الإسلامية أنّها لا تمثّل مجرّد حالة وجدانية ذاتية غارقة في الخشوع ليبقى الإنسان بعيداً عن حركة الحياة عندما يقف بين يدي الله، بل هو تعبير عن الخطّ الإسلامي العملي في علاقة العبد بربّه، حيث يلتقي الجانب الروحي بالحياة في أوسع مجالاتها ليتصوّر معها حياته التي تضجّ فيها الحركة، فنجد في الصلاة.. التصوّر الإسلامي لله في صفاته المتصلة بحركة الحياة في مخلوقاته من التربية والرعاية والرحمة، وبطبيعة العلاقة التي تشدّ الإنسان إلى الله وبالتوجه إليه في مجال الصراع الذي تزدحم فيه التيارات الضالة والجاحدة في مقابل الخطّ المستقيم.

فإذا التقينا بالحجّ، فإنّنا نلتقي بالعبادة الزاخرة بأكثر من معنى، فهي تلتقي بالصلاة في أجواء الطواف والسعي، والوقوف بعرفات والمزدلفة والمبيت بمنى، حيث يعيش الإنسان أعمق حالات التأمّل وأصفى مشاعره وأرفع درجاته.

أمّا الإحرام، فإنّه يشابه بالصوم، حيث يفرض على الإنسان الالتزام الطوعي الاختياري بكثير من الأشياء التي تتّصل بشهواته وعاداته وأخلاقه، فتمثل مرحلة تدريبية صعبة يتعلّم فيها الصبر واحترام مشاعر الآخرين، واحترام كلّ شيء محترم حوله حتى الحيوان والنبات.. إلى جانب دقّة الملاحظة عندما يراقب كلّ حركة من حركاته حتى سقوط الشعر وحلّ البدن والنظر في المرآة، أمّا رمي الجمار فإنّه يمثّل الرمز العملي للصراع مع الشيطان في ما تمثّله الجمرات من رمز لضرب مصدر الشقاء والعزم على فراقه لأن الضرب والصراع له نتائج والمحصلة وهي قطع العلاقة به وهجره وإسقاطه من حياتنا.

وهكذا يتحرّك الإنسان من عمل إلى عمل ليحقّق لنفسه البناء الروحي والفكري والعملي في أجواء العبادة التي يعيش في داخلها اللقاء بالله، وبذلك لا تشارك العبادة في عزل الإنسان عن الحياة، بل هي على العكس من ذلك، تدفعه دفعاً إليها بكلّ قوّة من موقع الروحية التي تعطي المادّة معناها دون أن تفقدها صفاتها المادّية، وقد لا يكتفي الإسلام في تحقيق معنى العبادة بما افترضه وشرّعه من أشكالها، بل يمتد بها حتى يجعل كلّ عمل محبوب لله عبادة إذا قام به الإنسان لوجه الله.

وفي ضوء ذلك كلّه نجد في كلمة: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ﴾ إيحاءً بالإتمام من الناحية الروحية التي يعيش الإنسان فيها أجواء الحجّ، بالمستوى الذي يرتفع فيه إلى الآفاق العالية التي تمثّلها هذه الفريضة، ويتحرّك معها بأخلاقية إسلامية كاملة، فلا يكتفي بالشكل ويبتعد عن المضمون، لأنّه يمثّل ـ في هذه الحالة ـ الإتمام الشكلي إلى جانب النقص الواقعي المضموني، ممّا يجعل العمل غير مقرّب لله وغير مقبول عنده، لأنّ الله لا يقبل من الأعمال إلّا ما أقبل الإنسان فيها بكلّ كيانه وروحيته.

فالحجّ تجربة عبادة ترفع من إحساس المؤمن بمسؤولياته في الحياة، فعندما يعود إلى موطنه ومجتمعه عليه واجب العمل بهذا الإحساس، وعندما نريد أن نحدّق بالحجّ في إيحاءاته وفيما يرمز إليه لنخرج من الاستغراق في ذاتية الأعمال إلى الانفتاح على الآفاق الواسعة التي بلور فيها شخصية الإنسان المسلم ليعود من حجّه إنساناً منفتحاً على كلّ مسؤوليته إنساناً منفتحاً على كلّ مسؤوليته في الحياة منطلقاً من الساحات الواسعة التي كلّما عاش فيها مسؤوليته كلّما اتّسعت أكثر.

وأخيراً وليس آخراً، إنّ الإنسان في الحجّ يقف بين يدي ربّه عارياً من كلّ شكليات الواقع الفردي والاجتماعي ليؤكّد أنّه لن يستجيب له استجابة واحدة، ولكن إجابة ممّا يوحي أنّ الإجابة تظل تتحرّك في خطّ الحياة، فكلّ الإجابات تؤكّد أن يكون كلّه في حركة مع الله يتحوّل الإنسان إلى تجسيد لاستجابة الله من خلال دعوته سبحانه وتعالى للناس ﴿اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24].


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2526
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 08 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24