• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الفقه وآيات الأحكام .
                    • الموضوع : في إمكانية إثبات وجوب التقليد من الكتاب العزيز .

في إمكانية إثبات وجوب التقليد من الكتاب العزيز

بقلم: السيّد صالح جودت القزويني

هناك عِدّةُ أدلّةٍ توجِبُ الرجوعَ إلى العلماء وأهل الاختصاص بعلوم الدِين، للأخذ بأقوالهم المستندة إلى فقه الشريعة الغرّاء. وبعبارةٍ أخرى: هذه الأدلّةُ مِمّا تُثبِتُ وجوبَ التقليد. وقد جرى البحثُ كثيراً عن الأدلّة الروائية لمسألة التقليد، فلا داعٍ للتعرُّضِ لها وتكرار مباحثها ههنا، فلتُطلَبْ من المطوَّلات. وأمّا البحثُ الذي لا يكادُ أنْ بُحِثَ مستقلاًّ فهو المدرَكُ القرآنيّ لمسألة وجوب التقليد.

وهذا البحثُ وإنْ كان ثابتاً عقلاً وبالسيرةِ العقلائية بلزوم رجوع غير المختصِّ إلى المختصّ، كما بُيِّنَ في محلِّه، فحقيقةُ الأدلّة المُساقة هنا هي تنبيهاتٌ على بداهة ذلك الحكم العقلائيّ، فإطلاق «الأدلّة» على «التنبيهات» من باب التسامح.

والتقليدُ تارةً يتعلَّقُ بأصول الدين، وتارةً بفروع الدين، والتقليدُ في فروع الدين هو المتبادر من انصراف التقليد إليه عُرفاً.

أمّا التقليدُ في أصول الدين، فهو محرَّمٌ؛ إذ يلزمُ في باب الاعتقادات تحصيلُ اليقين بالدليل المعتبر. ومِنْ مصاديق التقليد في هذا المضمار وجودُ «العقل الجَمعيّ» في التعامل مع المسائل الاعتقادية. إلاّ أنّه ورد في (قلائد الخرائد) أنّه: «لو طابقَ الواقعُ الاعتقادَ ولو كان من طريق الآباء والأجداد، كفى في حصول المراد؛ للاكتفاء مع مصادفة الاعتقاد للواقع في التشبُّث بأدنى دليلٍ».

وقد ذكرَ جدّي الإمام السيّد مهدي القزويني (ت: 1300هـ) في كتابه «آيات الأصول» جملةً من تلك الأدلّة القُرآنية، اخترتُ خمسة منها، أُولاها لبيان حرمة التقليد في أصول الدِين.

وقد أضفتُ دليلاً آخَر لوجوب التقليد، أدرجتُهُ في نهاية البحث.

وعملي هنا في سرد تلك الأدلّة مع بيان وجه الشاهد فيها، فأقول والله المستعان:

الدليل الأوّل: قوله تعالى ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ [سورة الزخرف/ الآية 23].

ففي هذه الآية، ذمَّ اللهُ تعالى الكُفّارَ حيث اتّبعوا آثارَ آبائهم واعتبروها هدايةً بلا دليلٍ معتبرٍ. والذمُّ توجَّهَ إليهم باعتبار أنّهم عملوا على اتّباع عقائد مُعيَّنةٍ بحجّة أنّ آباءهم اعتقدوا بها. والذمُّ على الشيء كاشفٌ عن حرمته، ففي الآية حثٌّ على وجوب معرفة أصول الدين والعقائد بحجّةٍ معتبرةٍ، كما فيها دلالةٌ على حرمة التقليد في أصول الدين.

* * *

الدليل الثاني: قوله تعالى ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ [سورة الأحقاف/الآية 29].

فهذه الآية مِمّا تدلُّ على وجوب طلب العلم، إمّا باجتهادٍ أو تقليدٍ.

فهي دالّةٌ على وجوب طلب العلم باجتهادٍ؛ لأنّ «الإنصاتَ» يقتضي بذلَ الجُهدِ في طلب العلم واستفراغَ الوُسعِ في تحصيلِ الظنّ بالحكم الشرعيّ المراد من الأدلّة المعتبرة أحدها الكتاب العزيز، وهذا هو المرادُ من «الاجتهاد». كما أنّ صيغةَ «افعل» بقوله تعالى ﴿أنصتوا﴾ تفيدُ الوجوبَ، فثبتَ المرادُ المحصَّلُ من قوله ﴿أنصتوا﴾ بوجوب طلب العلم باجتهادٍ.

وهي دالّةٌ على وجوب طلب العلم بتقليدٍ؛ لأنّ الإنذارَ كاشفٌ عن ملاك الإلزام في العمل، فالإنذار لا يكونُ إلاّ لفعلِ واجبٍ أو لترك محرَّمٍ.

وبعبارةٍ أخرى: الإنذارُ يتعلَّقُ بالأوامر والنواهي، وهما وجها الشريعة المعبَّرِ عنهما بـ«الحلال والحرام»، وهما كنايةٌ عن أحكام الشريعة وفروع الدين. فالإنذارُ لقومهم بعد أنْ ولّوا مُسرعِين إليهم كاشفٌ عن ملاك وجوبِ اتّباع قومهم للإنذار ولزومِ الأخذ به (وهو معنى وجوب التقليد)، وإلاّ لَما وُصِفَوا بأنّهم كانوا ﴿مُّنذِرِينَ﴾. وبذلك، يثبتُ وجوب طلب العلم بتقليدٍ.

* * *

الدليل الثالث: قوله تعالى ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة النحل/الآية 43].

هذه الآيةُ من أشهر الاستدلالات على وجوب التقليد. وتقريرُ الدليل:

إنّ الناسَ إمّا مِمّنْ يعلمون (وهم المجتهدون أي المُقلَّدون)، وإمّا مِمَّنْ لا يعلمون (وهم غيرُ المجتهدِين أي المُقلِّدِون).

فيُستفادُ حكمُ الذين لا يعلمون (أي: حكمُ غير المجتهدِين) بمنطوق الآية؛ لأنّ ﴿أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ هم الذين يعلمون وإلاّ لزمَ تنافي المراد (لِما سيأتي)، كما أنّ قولَه تعالى ﴿فَاسْأَلُوا﴾ أمرٌ، فيفيدُ الوجوبَ، والأمرُ بالسؤال قرينةٌ لوجوب العمل بجواب السؤال منهم، ووجوبُ العمل بجوابهم معناه وجوبُ اتّباع الذين يعلمون، وهو معنى وجوب تقليد المجتهد، فثبتَ وجوبُ التقليد لغير المجتهد.

كما يُستفادُ حكمُ الذين يعلمون (أي: حكمُ المجتهدِين) بمفهوم الآية، وهو: «فلا يجبُ أنْ تسألوا أهلَ الذِكر إنْ كنتُم تعلمون»؛ مِمّا يكشفُ عن اعتبارية علم المجتهد، وهو المُعنوَنُ بكلماتهم بـ«الظنّ المعتبر شرعاً»، فهو بمنزلة العلم، بل المستفادُ من الأدلّة علمٌ، فهو «علمٌ» بلحاظٍ و«ظنٌّ» بلحاظٍ آخَر.

وعدمُ وجوب السؤال للعمل في هذا المقام ملازِمٌ لعدم جواز السؤال منهم، الكاشف عن وجوب العمل وفقَ علم المجتهد؛ لأنّ المجتهدَ بمنزلة مَنْ يجبُ السؤال منهم، بل هو منهم. وإلاّ لو كان «أهل الذكر» مِمّن لا يعلمون، للزمَ الأمرُ بالسؤال على مَنْ لا يعلمون مِمّنْ لا يعلمون، فيلزمُ وجوبُ تحصيل العلمِ مِمّن لا علمَ له، وهذا تكليفٌ بالممتنع وتكليفٌ ممتنعٌ، وهما باطلان، فثبتَ أنّ المجتهدَ من «أهل الذكر».

* * *

الدليل الرابع: قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [سورة التوبة/الآية 119].

وجه الاستدلال يتلخَّصُ في أنّ قولَه تعالى ﴿كُونُوا﴾ أمرٌ يفيدُ الوجوبَ، وينطبقُ عنوانُ ﴿الصادقين﴾ بزماننا على العلماء المجتهدين العُدول المُخلِصِين لله تعالى، و(الكون مع الصادقين) يُرادُ به اتّباعُهم، واتّباعُهم تقليدٌ لهم، فثبتَ وجوبُ تقليد المجتهد.

* * *

الدليل الخامس: قوله تعالى ﴿اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [سورة يس/ الآية 21].

هذه الآية أيضاً ممّا تدلُّ على وجوب التقليد، وتقريرُ الدليل: قوله تعالى ﴿اتَّبِعُوا﴾ أمرٌ، فيُفيدُ الوجوبَ، والاتّباعُ تقليدٌ.

وأمّا قولُه تعالى ﴿مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾، فمن الذين لا يسألون الأجرَ هم الذين لا يستحلّون الرشوةَ، وهم علماءُ الإمامية المجتهدون، فلا يجوزُ اتّباعُ المخالفِ ولا الرجوعُ إليه في أمور الدين، وكذلك يُستفادُ من تكملة الآية وأنّهم هم المتّقون العدولُ.

فتحصَّلَ وجوبُ اتّباعِ العلماء العدول، وهو معنى وجوب تقليد المجتهد.

* * *

الدليل السادس: قوله تعالى ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [سورة البقرة/الآية 189].

هذه الآيةُ تستلزمُ بيانَ بعض المقدِّمات، وقد تمَّ تقريرُ استفادة وجوب التقليد منها بنحوَين:

التقرير الأوّل: وردَ في تفسير العياشي: عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ﴾... الآية، قال: «يعني أنْ يأتيَ الأمرَ مِنْ وجهِها، مِنْ أيِّ الأمورِ كان». وكلامُ الإمامِ عليه السلام يُفيدُ أنّه يجبُ إتيانُ كُلِّ أمرٍ (بيت) بحسب شأنِه من الجهة الصحيحة له، والجهة المطلوبة هي (الباب) الذي بها يتمُّ الوصولُ إلى ذلك المقصَد (البيت)، وبها تكونُ إصابةُ الواقعِ بسلوك الطريق المراد. كما وردَ أنّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) «مدينةُ العلمِ وعليٌّ (عليه السلام) بابُها»، والمدينةُ تُؤتى من أبوابها.

فلو سلكَ الطريقَ الخاطئَ (الظهور)، فإنّه لا تزيدُهُ سرعةُ السيرِ إلاّ بُعداً عن ذلك المقصَد.

فإنْ لم تُقصَد البيوتُ من أبوابها، ولكنْ قُصِدَتْ من ظهورِها (و«الظهورُ» كنايةٌ عن الطريقة الخاطئة)، فذلك الطريقُ المنهيُّ عنه (من غير الأبواب المعروفة) غيرُ مرضيٍّ شرعاً (لورود النهي عنه بالنصِّ القُرآنيّ)، وما لا رضا فيه فهو مرفوضٌ ولا فيه الرُجحان، والمرفوضُ غيرُ مقبولٍ بل مِمّا يجبُ تركُه، وما لا يُقبَلُ فهذا كاشفٌ عن بطلانِه شرعاً.

ولزومُ (وجوب) إتيانِ البيوتِ (الأمور) من أبوابِها (طرقها الصحيحة المطلوبة) أمرٌ شرعيٌّ، فيه تنبيهٌ على أمرٍ عقلائيٍّ. وهذه النكتةُ تدخلُ في مختلف مجالات الحياة، فكلُّ أمرٍ له بابٌ.

ومن تلك الأمور الحكمُ الشرعيّ، فإنّه يجبُ أنْ يُؤتى من بابه، وبابُه الطريقُ الموصِلُ إلى الحكم الشرعيّ، والأخذُ للحكم الشرعيّ إمّا أنْ يكونَ من الدليل بطريقٍ مباشرٍ وهذا فعلُ المجتهد الجامع للصفات والمستكمل للشرائط المعتبرة، وإمّا أنْ يكونَ من الدليل بطريقٍ معتبرٍ لكنّه غير مباشرٍ، وهو أخذُ الحكم الشرعيِّ عن طريق المجتهد، وإمّا أنْ يكونَ بإجراءِ أحكام الاحتياط بحيث تُحرَزُ إصابةُ الواقعِ.

فهذه طرقٌ ثلاثٌ، انحصرتْ بالاستقراء وبالعقل.

- فالطريقُ الأوّلُ مختصٌّ بالمجتهدِ، وهو متعذِّرٌ غالباً.

- والطريقُ الأخيرُ اختصَّ بالمحتاط، وهو متعسِّرٌ غالباً.

فهذان الطريقان الخاصّان بِمَنْ له إلمامٌ كبيرٌ بعلوم الشرع، بحيث تكونُ الوظيفةُ العمليةُ شرعاً واضحةً لهما من المداليل الشرعية. فلا يصلحُ اعتمادُ هذين الطريقين باباً لكلِّ أحدٍ.

- وأمّا الطريقُ الوسطُ، وهو سلوك طريقٍ معتبرٍ غير مباشرٍ نحوَ الحكم الشرعيّ الحاصل من دليله، فهذا رجوعٌ إلى الواسطة المتخصِّصة (المجتهد) لأخذ الحكم الشرعيّ، فهو رجوعُ غير المجتهد إلى المجتهد، وهذا هو معنى التقليد.

والواجبُ اتّباعُ إحدى تلك الطرق، ولَمّا كان المتيسِّرُ من الطرق الثلاث عموماً هو التقليدُ لا غير، فقد تعيَّنَ التقليدُ على عموم المُكلَّفِين.

التقريرٌ الثاني: هذه الآية قد يُستفادُ من ظاهرها وجوبُ التقليد لغير المجتهد؛ لأنّ الوصولَ إلى الحكم الشرعيّ لَمّا وجبَ طلبُهُ عن طريقٍ مرضيٍّ شرعاً، فلا بدّ من سلوكِ طريقٍ شرعيٍّ إليه، ولا طريقَ للوصول للحكم الشرعي إلاّ بطلب العلم كما قُرِّرَ في محلّه، وهو منحصرٌ في باب الاجتهاد أو باب الاحتياط أو باب التقليد.

ولَمّا كان الأوّلُ والثاني غيرَ متيسّرٍ عموماً إلاّ لِمَنْ مَنَّ الله عليه وأحاط بمعرفة المباني وألَمَّ بالوقوف على مدارك الأحكام، لم يبقَ بابٌ للوصول للحكم الشرعيّ إلاّ عن طريق التقليد، فانحصرَ الامتثالُ به، فهو واجبٌ عينيٌّ تعيينيّ، لأنّه حينئذٍ ينقلب الواجبُ التخييريّ إلى الواجب المعيَّن بوجوب التقليد؛ لأنّ المكلّف مخيّرٌ بين الاجتهاد والاحتياط والتقليد، فإنْ تعذَّر الاجتهاد له ولم يُحسن الاحتياطَ التامَّ، فيتعيَّنُ عليه التقليد.

فتركُ التقليد مع انتفاء القدرة على الاجتهاد والاحتياط مطلقاً وإنْ أوصلَ إلى الحكم الشرعيّ بغير طريق مرضيٍّ شرعاً، إلاَّ أنَّ عملَه غيرُ معتبرٍ شرعاً لِمَا عرفتَ، وما كان غيرَ معتبرٍ شرعاً فهو غيرُ مجزئٍ، وما لا إجزاءَ فيه فهو باطلٌ، والباطلُ غيرُ مقبولٍ ولا يحصلُ معه الامتثال، ومن تركَ الامتثال مع توجّه التكليف إليه فهو مأثوم؛ لعدم التعبُّد بطريق شرعيّ، والله العالم.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2491
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 05 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24