• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : النبي (ص) وأهل البيت (ع) .
                    • الموضوع : أسلاف النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أسلافٌ ساجدون *‏ .

أسلاف النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أسلافٌ ساجدون *‏

السيّد رضا الصدر

﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ[الشعراء: 217- 219]

قد جعل الربّ العزيز الرحيم محمّداً تحت رعايته الخاصّة في أفعاله وأقواله وقيامه وقعوده، وقد كان تحت رعايته متنقّلاً من صلب إلى صلب، وكانت أصلاباً شامخة، تلك التي تتوسّطها أرحام مطهّرة.

وكان أسلاف محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) ساجدين للّه، لم يكفروا به طرفة عين، ولم يشركوا أحداً في عبادته.

إنّ القرآن يؤكّد على أنّ أسلاف محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) كانوا موحّدين، لم يعبدوا وثناً ولم يسجدوا لصنم.

فلم يعبد محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) الوثن قبل ولادته، كما لم يسجد لصنم بعد ولادته، ولم يرث الوثنيّة من أحد بالرغم من وثنيّة قومه عبدة الأصنام. «البحار، ج 15، ص 3، ح 1 و ص 7، ح 6 و7 و ص 117، ح 63؛ تفسير القمّي، ص 474؛ تفسير فرات، ص 190؛ علل الشرائع، ص 80». وإنّ الضدّ قد نشأ في موطن ضدّه.

ونصغي إلى النبي محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) نفسه كي يحدّثنا بذلك:

 «لم يزل ينقلني اللّه من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات، حتّى أخرجني في عالمكم هذا دون أن يدنّسني بدنس الجاهليّة» «مجمع البيان، ج 4، ص 322؛ البحار، ج 15، ص 117».

إنّ الإيمان الوثيق لم ينفصل عن الحقّ في الدعوة، وإنّ الحقّ في الدّعوة تحقّقه سلامة ما يدعو إليه، وما يكتنف سبيله من واقعية توفّر الإيمان وتوفّقه. وإنّه قوّة تجانب التعصّب وتجفوه كمبدأ، فالأولى تنجم عن الخضوع والانصياع لكلمة الحقّ، والثانية فإنّها تنجم عن التهافت إزاء الذاتية وهيمنتها.

من يناقش في الحقّ فهو كمن يدّعي وجود ثغرة في صخرة صلبة، يكفي في ظهور كذبه أن يرى الإنسان الصخرة مرّة واحدة.

ومن آمن بالحقّ يتمكّن أن يدافع عنه بمقدار مستواه العلمي، ومن اعتنق الباطل لا يقدر على ذلك إلّا أن يتشبّث بأذيال التعصّب الذميم، ليذهب به إلى الجحيم، وهو غافل عن ذلك.

إنّ المذهب الباطل كبناية متضعضعة صبغت بالأصباغ، ويعرف الخلل فيها من أمعن النظر إليها. ولذلك ترى أرباب المذاهب الفاسدة ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ «المائدة (5) الآية 13»، ليخدعوا أنفسهم ويخدعوا الناس، ويستغلّوهم، ثمّ يمنعوهم عن البحث والتنقيب.

إنّ الإيمان الصحيح هو الإيمان البريء عن العاطفة، وما انبثق عن البحث والنظر، واتّباع ما يحدو إليه المنطق والحجّة.

وإنّ الواجب على الداعية أن يكون مؤمناً بما يدعو إليه؛ لتكون دعوته أنفذ، وإذا كانت دعوته إلى الحقّ فالداعية هو أوّل المؤمنين بها، وأفضلهم اعتقاداً، واقدمهم‏ تضحية في سبيلها.

وإذا تطلّبت دعوة اناس محدودين مقداراً من الإيمان في قلب الداعية فإنّ دعوة الشعوب والامم تتطلّب إيماناً أكثر وأفضل؛ لأنّ ما يجابهه الداعية عندئذ يكون أصعب وأشدّ.

وإنّ سعة الدعوة وسموّ الهدف يكشفان عن عمق إيمان الداعية ورسوخه في قلبه، ومن اهتمّ بدعوة العالم كلّه فله أقوى مراتب الإيمان وأعلى درجاته.

وممّا يؤثّر في صلابة الإيمان ورسوخه: الوراثة، فإنّها من أعظم النوازع النفسية، فكثيراً ما يرث الولد الإيمان من أبويه وهو غير شاعر بذلك. وإنّ الإيمان الموروث من الوالدين معاً أقوى من الإيمان الموروث من أحدهما. كما أنّ الإيمان الموروث من جميع الأسلاف أكمل من الإيمان الموروث من سلف واحد. وإنّ اختلاف الإيمان الميراثيّ قوّة وضعفاً يتبع كميّة المورّثين المؤمنين كثرة وقلّة.

وممّا يؤثّر في الإيمان بشكل عميق: الوسط الذي يعيش فيه الإنسان، فإنّه إذا كان موافقاً في العقيدة والإيمان يزيد، وإذا كان مخالفاً له فقد يوجب النقص فيه.

نعم، إنّ الوسط قد يعطي العقيدة للرجل من حيث لا يشعر، وهو مدرسة تربوية له. وكلّما كانت المدرسة راقية فإنّ الطالب يتخرّج مهذّباً عالي الشأن وعالماً، وإن غفل عن علمه أحياناً، وهكذا...

فإذا تجمّعت هذه الامور كلّها في واحد- وقلّما تجتمع- فالإيمان الحاصل منها يكون أفضل الإيمان. وقد اجتمعت كلّها في محمّد (صلّى اللّه عليه وآله)، فهو أشرف البريّة إيماناً وأكملهم عقيدة.

لقد كان أسلافه جميعاً مؤمنين موحّدين بتصريح من ربّه، وكان الوسط الذي نشأ وعاش فيه أقدس الأوساط وأفضلها وأشرفها. إنّه منذ ولادته بل وقبل ولادته كان تحت رعاية خاصّة من ربّه قد حفّت به ملائكة اللّه، ولم يكن بينه وبين قومه إلّا صلة صورية لا تزيده إلّا نضرة من تقاليدهم وأفعالهم، وهرباً من عاداتهم وأخلاقهم، فهو (صلّى اللّه عليه وآله) كما قال: «أنا أديب اللّه وعليٌّ أديبي...» «مكارم الأخلاق، ج 1، ص 51، ح 19؛ مجمع البيان، ج 10، ص 333؛ البحار، ج 16، ص 210 و231»

ويحدّثنا عنه عليّ (عليه السّلام) فيقول: «لقد قرن اللّه بمحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره،...» «نهج البلاغة، ص 416، الخطبة 192، في وصف الرسول (صلّى اللّه عليه وآله)؛ البحار، ج 15، ص 361- 362، ح 18».

وقد اتّفق المؤرّخون على أنّه كان شعلة ذكاء، وأفضل الناس عقلاً ودراية، وأشرفهم فهماً وكفاية وأعمقهم فكراً ونظراً. ويكفي لمثل هذا الرجل تفكير ساعة كي تنكشف له الحقائق، وترتفع له الحجب عن وجوهها، فضلاً عن تفكير سنة أو تفكير سنين تزيد على الثلاثين.

ذلك هو الرجل الذي اصطفاه اللّه لنفسه، وبعثه لإنقاذ البشريّة من الحيوانية، ولتوجيهها إلى الإنسانية، فشمّر عن ساعده، وقام ودعا وسعى في سبيل الوصول إلى هذه الغاية المقدّسة.

قال اللّه تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ «الفتح (48) الآية 28».

إيواء ربوبي‏: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ «الضحى (93) الآية 6- 11».

ولد محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) يتيماً، توفيّ أبوه وهو لم يدخل بعد في هذا العالم، وماتت أمّه بعد مدّة قصيرة. وحرم الطفل من حبّ الأب وحنان الأمّ، وأصبح يتيماً من جانبين، كان عبد اللّه أبو محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) وابن عبد المطلّب فتى قريش، وكان عبد المطلّب جدّ محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) سيّد قريش وكبيرها وزعيمها، امتاز عن قومه بكثير من الوقار والسكينة والجمال والبهاء، وبالميل إلى الدين والنسك، وأتيحت له أمور زادته فضلاً وكرامة على قومه.

فهو الذي حفر بئر زمزم ولم يحفرها من عند نفسه، إنّما أتاه آت في نومه، وأشار إليه بمكانها، وأمره بحفرها؛ ونتيجة لذلك قام عبد المطّلب بتنفيذ ما رآه في منامه.

وكان عبد المطّلب تاجراً كما كان أشراف قريش يتّجرون. وكان يحضر مجالسهم في المسجد الحرام وفي دار الندوة.

ولمّا بلغ أبو محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) مبلغ الرجال زوّجه أبوه، ثمّ أرسله إلى الشام مع قومه للتجارة، فذهب الفتى ولم يعد، فقد أدركه الموت بيثرب عند عودته من الشام وبعد وفاة الفتى، ولد له صبيّ اختاره اللّه لرسالته، وجعله خاتم أنبيائه وهو يتيم فسمّي محمّداً (صلّى اللّه عليه وآله).

وكفّل اليتيم جدّه عبد المطلّب، واسترضعه في بني سعد من هذيل، ولمّا أتمّ الرضاعة احتفظت به المرضعة بعد إرضاعه وقتاً، ثمّ ردّته إلى جدّه لينشأ بمكّة في ظلّ جدّه الشيخ.

ولم ينل الصبيّ بعد عودته إلى أمّه من حنانها كثيراً، فقد سافرت أمّه إلى يثرب قاصدة زيارة ضريح زوجها الفتى، ولكنّها لم تعد إلى مكّة كما خرج زوجها من قبل دون أن يعود، أدركها الموت في بعض الطريق عند انصرافها من يثرب عائدة إلى مكّة، فلبّت دعوة زوجها الفتى، أو طلبت من زوجها البقاء عنده فلبّى الزوج طلب زوجته.

أصبح محمّد لطيماً [من مات عنه أبواه] محروماً من عطف الأب وحنو الأمّ، فقام جدّه الشيخ مقام أبيه وأمّه.

ثم فقد الصبيّ جدّه، وأخذه اليتم من كلّ جانب، فقد أباه وامّه وجدّه، فكفّل‏ الصبيّ عمّه أبو طالب بعد وفاة جدّه، وكان له نعم الكافل، ونعم الوليّ، ونعم النصير.

فقد أحسن الكفالة وأكملها، وبذل جميع طاقاته في سبيل الحفاظ على ابن أخيه.

وإنّ العناية الإلهية تشمل كلّ أحد فكيف لا تشمل من اختاره لنفسه واصطفاه مرشداً لخلقه وهادياً لبريّته؟

لقد حرمت يد الحكمة محمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) من رحمة محدودة، ولكنّه تعالى أسبل عليه رحمة غير محدودة، فأقفلت عليه يد الحكمة باباً، وفتحت عليه يد الرحمة أبواباً وأبواباً.

وآواه اللّه بجدّه، ثمّ بعمّه، فكانا يؤثرانه على أنفسهما وعلى جميع أبنائهما، وبذلا في سبيله من الرحمة والعطف ما لا يستطيع الآباء بذله للأبناء «انظر: البحار، ج 15، ص 2- 104 و ص 105- 173 و ص 174- 330 و ص 331- 415 عن: مجمع البيان، مناقب آل أبي طالب، وأمالي ومعاني وخصال وعلل وكمال واعتقادات الصدوق»، وذلك من فضل اللّه عليه.

وفوق ذلك أنّ ربّه تعالى آواه بعناية خاصّة، وكفّله برعايته، وحرسه بقدرته، وحماه برحمته، وما أعظم هذا الإيواء!

هداية إلهيّة بشكل مباشر

كان محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) بشراً، وهو بحسب الطبيعة البشريّة يغافل عمّا أعدّه اللّه له من النبوّة، كما قال اللّه تعالى مخاطباً إيّاه: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ «الشورى (42) الآية 52».

فهداه ربّه وأرشده، وهو نعم الهادي ونعم المرشد، ومحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) نعم المهتدي ونعم المسترشد، آواه اللّه وهو رضيع، وهداه اللّه وهو طفل.

جاءت الهداية الإلهية لمحمّد في صباه بشكل مباشر، وإليك قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ «الضحى (93) الآية 7»

فأصبح محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) نبيّاً لنفسه قبل أن يتحوّل نبيّاً لغيره، وهذه هي الخطوة الاولى في رسالته العالمية، فكان منذ طفولته سراجاً منيراً، وقبل بعثته متديّناً بدين نفسه، لا بدين غيره من الأنبياء، وكذلك تكون الهداية الإلهية إذا شملت أحداً من البشر بشكل مباشر.

وصار محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) نبيّاً قبل أن يصير داعياً ومنذراً، وانزل عليه القرآن مرّة واحدة، وإليك قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ «الدخان (44) الآية 3»

وقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ﴾ «البقرة (2) الآية 185»

ولكنّه لم يكن مأذوناً من قبل ربّه ليقرأه على الناس، وعند ما صار مبعوثاً أذن له بالقراءة.

وإليك قوله تعالى مخاطباً إيّاه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ «العلق (96) الآية 1»

فإنّه يفيد أنّه كان عارفاً بالقرآن الذي انزل إليه، ولكنّه لم يكن مسموحاً له بالقراءة للناس، والأمر بالقراءة سماح له بالقراءة (إجازة بالإعلان للملأ)، فنزل عليه القرآن منجّماً بشكل فرقاني، يقرأ كلّ آية منه عند نزولها.

فلم يكن مأذوناً بقراءة آية قبل نزولها.

وإليك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُه﴾ «طه (20) الآية 114».

وقوله تعالى: ﴿وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ «الإسراء (17) الآية 106».

فقد انزل عليه القرآن قبل البعثة مجموعاً، ثم أنزل إليه منجّماً بعد البعثة زهاء ثلاث وعشرين سنة.

إغناء إلهيّ‏

نشأ محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) فقيراً لا مال له، لم يكن له رأس مال يتّجر به، ولم يكن بين جبال تهامة حقل زراعيّ يزرع فيه.

فقد شبّ وهو لا يملك قوت سنته، وكان يكتسب قوته بمقدار ما يحفظ حياته من رعي غنم، وهو فتى قريش وشريفها.

لم يترك له أبوه إلّا خمسة أوارك «أي: خمسة جمال أوارك، انظر: البحار، ج 15، ص 125 عن الواقدي في «المنتقى في مولود المصطفى» وفيه: جمال أوراك، يعني قد أكلت الأراك، وفي بعض المصادر (أوداك)» ويسيراً من المال، ولم يكفِ ذلك لقوت سنته، وكان هاشم جدّه الأعلى قد أسّس قواعد التجارة لمكّة، وأنقذها وأهلها من الجوع والفقر.

وكان جدّه عبد المطّلب صاحب تجارة، وقد مات أبوه تاجراً، وكان عمّه أبو طالب (رضي الله عنه) صاحب تجارة ووجهاً من وجوه قريش المشرقة وإن لم تنقذه تجارته من الفقر، حتّى قيل: لم يتزعّم العرب فقير سوى أبي طالب (رضي الله عنه)، حتّى اضطرّ أبو طالب إلى بيع منصبه سقاية البيت لأخيه العباس.

وسلك محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) الطريق الذي فتح بابه جدّه لقريش، فكان يذهب مع عمّه أبي طالب إلى الشام في بعض أسفاره التجارية، وذلك ممّا قدّره اللّه له من سير الآفاق والأنفس.

وقال له عمّه أبو طالب ذات يوم:

إنّ خديجة بنت خويلد من أكثر قريش مالاً، وأوسطهم نسباً، قد جهّزت تجارة ضخمة إلى الشام وهي تطلب أن تكون رسولها في تجارتها تلك،... فقبل الفتى.

ورأته مكّة ذات يوم يغادرها في قافلة إلى الشام يصحبه غلام لخديجة اسمه ميسرة، ولمّا بلغ الشام باع واشترى، وعاد مع القافلة، فأدّى إلى خديجة تجارتها، وأدّى إليها مع هذه التجارة ربحاً لم يتح لها في تجارة قطّ. وتعلّق قلب خديجة بالفتى، أو كان متعلّقاً به قبل ذلك، فاختار محمداً ليكون رسولاً لها في تجارتها، وقد يكون ذلك رسالة إلى قلب الفتى.

وذات يوم أرسلت خديجة إلى أبي طالب بأن يخطبها لابن أخيه، وفازت بهذه الامنية. لقد خطبها محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) وأصبح لها زوجاً.

فصارت خديجة وما تملكه للفتى، وأصبح محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) غنيّاً وإن لم يصبح ثريّاً. لم يطلب محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) أن يكون رسولاً في تجارة خديجة، بل هي التي طلبت منه.

كما أنّ الخطبة كانت من قبل خديجة على خلاف سنن العادات، وليس ذلك إلّا إغناء إلهيّاً. آواه ربّه وهو رضيع، وهداه وهو طفل، وأغناه وهو فتى قريش.

ومنذ ذلك اليوم عاش محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) في مكّة، عيشاً سعيداً لا يشكو حاجة، ولا يجد ضيقاً، وقد ادّخر اللّه ثراء خديجة لمحمّد (صلّى اللّه عليه وآله)، كما ادّخر ذات خديجة له، ليسكن إليها، فلم يشهد التأريخ زواجاً أسعد من ذلك الزواج.

ومن المعلوم أنّ طبيعة الفقر تقضي على الفقير أن يقرع باب الغنيّ ليستعين به ويستغني بما له، فإنّ الفاقد يتبع الواجد. كما تفرض سنّة العادة على الرجل أن يبدأ بطلب الزواج من المرأة. إنّ الرجل هو الطالب والمطلوب هو المرأة.

ولكنّ الأمر انعكس في محمّد (صلّى اللّه عليه وآله)، طلبت منه خديجة الثريّة أن تستعين بكونه رسولاً في تجارتها، وطلبت منه طاهرة قريش- إذ كانت تلقّب بذلك- ليكون محمّد زوجاً لها، وإليك الآية الكريمة: ﴿ووَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى.

أقبل أبو طالب ومعه نفر من قريش- وهو شيخهم- ودخل على عمرو بن خويلد عمّ خديجة، فابتدأ أبو طالب بالكلام وقال: الحمد لربّ هذا البيت الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرّيّة إسماعيل، وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكّام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه. ثمّ إنّ ابن أخي هذا ممّن لا يوزن برجل من قريش إلّا رجح به، ولا يقاس به رجل إلّا عظم عنه، ولا عدل له في الخلق، وإن كان مقلّاً في المال فإنّ المال رفد جار، وظلّ زائل، وله في خديجة رغبة، ولقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر عليّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله، وله- وربّ هذا البيت- حظّ عظيم، ودين شائع، ورأي كامل،... ثمّ سكت أبو طالب، وتكلّم عمّ خديجة، وتلجلج وقصر عن جواب أبي طالب، وأدركه القطع والبهر!! فقالت خديجة مبتدئة:

يا عمّاه، إنّك وإن كنت أولى لي بنفسي منّي في الشهود فلست أولى بي من نفسي، قد زوّجتك يا محمّد نفسي، والمهر عليّ في مالي، فأمر عمّك فلينحر ناقة، فليولم بها، وادخل على أهلك،... ونحر أبو طالب ناقة ودخل محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) بأهله «السيرة النبويّة لابن هشام، ج 1، ص 203؛ البحار، ج 15، ص 3- 9 و ج 16، ص 55- 76».

شكر النعمة

﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ «الضحى (93) الآية 9- 11»

إنّ الإنسان- بحسب طبيعته- حيوان قبل أن يصير إنساناً، والحكم النافذ في المجتمع الحيوانيّ هو قانون الناب، وإنّ الحقّ لمن غلب.

إذن يكون الضيم من شيم النفوس البشريّة، وإنّ قهر الضعيف ميزة من ميزات الأقوياء في المجتمع الحيواني.

وقد بعث اللّه محمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) ليخلق من البشر إنساناً بريئاً من الظلم، منزّهاً عن الجور، لا يظلم ولا يظلم.

وإنّ اليتيم ضعيف لا يستطيع الدفاع عن نفسه، إنّه ناقص في عمره، ناقص في جسمه، مطمع لكلّ قوي، وكذا يكون من لا يجد ملجأً يأوي إليه.

وإنّ السائل ضعيف. إنّه معدوم من كلّ شيء، والعدم طريق إلى الفناء، فالسائل إنسان لا يقدر على حفظ نفسه، فهو أضعف من الحيوان.

وإنّ الضالّ لا ترجى له الحياة، ويهيم في الفلوات، وإنّه على شفا حفرة من الهلاك، ويعجز عن إنقاذ نفسه، فهو ضعيف غاية الضعف.

أمر اللّه محمّداً أنّ لا يقهر اليتيم، ولم يكن قاهراً لليتامى. وأن لا ينهر السائل، ولم يكن ممّن ينهر السائلين. وأن يحدّث بنعمة ربّه، ولم يكن كافراً بنعمة ربّه منذ أن خطا على الأرض برجليه.

يقولون: إنّ القرآن نزل على لغة «إيّاك أعني واسمعي يا جارة». إنّ المجتمع البشريّ ليس قليلاً فيه قهر اليتيم، ولا يحصى فيه انتهار السائل، ولا يندر فيه الكافر بالنعم، ولا تليق هذه الرذائل بإنسان فضلاً عن مجتمع إنساني، لأنّه مجتمع المكارم والمثل، وإنّ الجدير بمثله هو العطف على اليتيم، والرأفة بالسائل، وشكر المنعم، فإنّ ذلك من أفضل الفضائل.

فالخطاب موجّه إلى البشر كافّة، وقد وجّه إلى محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) بصفته للبشر رائداً وقائداً ونبيّاً.

إنّ العطف على اليتيم شكر، والرأفة بالسائل أيضاً شكر. والأوّل شكر للقوّة، والثاني شكر للغنى.

والشكر من مكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات، يجلب الرحمة ويزيد في النعمة، قال اللّه تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «إبراهيم (14) الآية 7»

إنّه تعالى يزيد نعم الشاكرين، وهو غنيّ عن شكرهم، ولا يزيده شكر النعمة، ولا ينقصه كفرانها، ولكنّ الشاكر للنعمة قليل، والمقدّر للمعروف نادر، وذلك من بؤس‏ البشريّة وشقائها.

إنّ المنعم البشريّ يزيده الشكر، وينقصه الكفران، كما أنّ توفّر نعمة المنعم على الشاكر يزيده فضلاً ومعروفاً، فازدياد النعمة من اللوازم الطبيعية لصفة الشكر.

إنّ شكر الإحسان يزيد في عدد المحسنين، وكلّما ازداد التقدير للمعروف والشكر للإحسان ازداد المحسنون، وكثر عدد من يقومون بالمعروف، وما أسعد مجتمعاً كثر فيه عدد المحسنين، وتوفّر فيه أصحاب الفضائل!

إنّ الشكر هو إحدى القواعد الرئيسية لتحقيق حياة سعيدة وبناء مدينة فاضلة، وما أسعد العيش في تلك المدينة، وما أحلى الحياة في ذلك المجتمع!

ومن الجدير بالذكر أنّ الآية الكريمة تشمل على لطيفة تجب الإشارة إليها، وهي: أنّ الطبيب الذي يقوم بعلاج داء لو كان هو بنفسه مصاباً بذلك الداء ثم عولج فإنّه يكون أعرف بالعلاج وأحذق به من غيره، فهو أعرف بالمرض وبسيره وبميزاته، وبمفاعيل الأدوية فيه، وبحال المريض، وبنوع تفكيره في حال المرض.

ومن لم يكن ذائقاً للمرارة لا يفهمها حقّ الفهم مهما بيّن له وشرح. ومن لم يتجرّع كأس الألم لا يصل إلى مغزاه مهما وصف له وذكر له عنه.

ولقد ذاق محمّد (صلّى اللّه عليه وآله) مرارة اليتم، وتجرّع كأس الفقر جرعة بعد جرعة، ثمّ أمره ربّه بإيواء اليتامى وإغناء المعدمين، فقام بهذا الواجب ونهض به، وهو أطيب البشرية نفساً، وأشرفهم طينة، وأعرفهم بالعلاج، فقد جاء لإنقاذ البشر من العيش الضنك، وقدّم له العيش الرغد، وهو سعادة الدنيا والآخرة.

جاء ليجعل من البشر إنساناً، والإنسانية منقذة للبشر من الضعف إلى القوّة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الظلم إلى العدل، ومن الضلال إلى الرشاد.

قام ليعالج أسقام المجتمع البشري، وهو خبير بها وبأدويتها وبمفاعيلها، وهو رحمة للعالمين في حياته وبعد مماته، وهل يموت من جعله اللّه رحمة للعالمين؟ ويقيناً يأتي يوم تتحقّق فيه هذه الامنية، حيث لا يوجد مظلوم ولا يرى عائل، ولا يهيم ضالّ، وذلك اليوم قريب.

﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيب﴾ «هود (11) الآية 81».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) من كتاب: محمد (صلّى الله عليه وآله) في القرآن، السيّد رضا الصدر،‏ ص 51 - 62، بتصرّف يسير.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2387
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 07 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29