• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : طرق التميّز في درجات القرب الإلهي* .

طرق التميّز في درجات القرب الإلهي*

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

إن الإنسان قد حوّل الدعاء الشريف - مع الأسف- من دعاءٍ إلى تلاوةٍ! إذ إن هناك فرقًا بين أن يدعو الإنسان ربه، وبين أن يتلو الدعاء! فالدعاء عمل من أعمالِ القلب، فعندما يدعو الإنسان ربه، فإنه يُوجد حُزمة نورية، متصلة بين قلبه وبين العرش، بكل ما لهذه الكلمة من معنى؛ لأنه عندما يدعو يعيش وجود المخاطب، ويقترب من المدعو، فتتولد عنده مشاعر ممزوجة بين: الحب، والرغبة، والخوف، والمسكنة. فينظر إلى افتقاره ومسكنته، فيتفاعل ويتفاعل، وأعصاب سلسلته العصبية تُوجد ارتباطاً بين القلب والعين، وإذا بالدموع تجري! هذه الحركة الدعائية نابعة من تلك اللطيفة الربانية، التي هي من الله - عزّ وجلّ- وإليه.

- إن كلمة ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ كلمة إنما تدل على روح العبد، وإلا فإن هذا البدن لا قيمة له، ليكون من الله وإليه، فهو لا يرجع إلى الله عز وجل، إنما هو عبارة عن دابة نركبها إلى المقصد، ثم ندفنها في التراب، ونكمل المسيرة. فهذا البدن زميلنا إلى مرحلة من مراحل هذه الحركة التكاملية، ثم يُرمى جانباً. ويوم القيامة يُركِبنا ربّ العالمين دابة أخرى، وإن كانت هذه الدابة الأخرى موادها مأخوذة من تلك الدابة القديمة المتلفة، فالإنسان في بعض سفراته ينتقل بالسيارة إلى المطار، وثم بعد ذلك يركب الطائرة، وعندما يصل إلى إحدى الموانئ يركب الباخرة! فهذه أدوات تنقّل، ومحور الحركة، هو ذلك الإنسان الذي يستقل وسيلةً من الوسائل، وينتقل من وسيلةٍ إلى وسيلة.

فإذاً، إن الدعاء حركة نابعة من القلب، فبعض الأولياء يتفاعل بقلبه مع المولى، إلى درجةٍ أنه يُفضل أن لا ينشغل بالألفاظ! فهو يدعو بقلبه في حالِ الطواف، وعند الحطيم، وتحت الميزاب، وفي المسعى، ولا يقرأ دعاءً مكتوباً؛ لأنه يفقد حالة الحديث والمناجاة مع ربه! فالمحبون يتكلمون بالنظرات والإشارات، ولا يحتاج الأمر إلى كلامٍ كثير! ولكنّنا، لعدم وجود هذه الألفة والأنس مع عالم الغيب، نكتفي بقراءة الدعاء! وعلامة ذلك حالة الملل، وعدم الرغبة! إذ إن أحدنا يقرأ الدعاء، وهمّه آخر الدعاء، وخاصة في ليالي القدر، عندما يقرأ هذا الدعاء المظلوم «دعاء الجوشن» يقول: (خلصنا من النار يا رب)، ولسان حاله: (خلصنا من هذا الدعاء يا رب)!

إن هنالك بحثًا بين العلماء: هل الدعاء اللفظي فيه أجرٌ أم لا؟ فالتكامل القربي مفروغ من عدمه؛ لأن القرب متوقف على الدعاء الصادر من القلب، ولعل الرأي الذي هو أقرب إلى رحمة الله – عز وجل –: أن هنالك أجرًا ما، ولو كان أجراً بسيطاً؛ لأن اللسان الذي يذكر الله - عز وجل - في ليلة الجمعة ولو ساهياً، ليس كمن لا يدعو أصلاً! ولا ينبغي أن نخلط الأوراق، إذ إن هناك فرقًا بين إنسان يفتح كتاب مفاتيح الجنان في منزله، ويقرأ دعاء كميل بلا توجه، وبين إنسان- وخاصة في ليلة الجمعة - يمضي ساعة في الطريق ليأتي إلى المسجد، ثم يرجع إلى منزله، فيكون قد قضى ليلة الجمعة ذهاباً وإياباً إلى المسجد. هب أنه لم يتفاعل أثناء الدعاء؟! ولكن هذه الحركة محسوبة عند الله ـ عز وجل - . ومن هنا الدعوة لإقامة الصلاة في الجماعة والجمعة؛ لأن الصلوات الساهية التي لا خشوع فيها في الجُمع والجماعات لها وزنها عند الله؛ وذلك لأن الإنسان قد تكلف هذه الحركة ذهاباً وإياباً. فعن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه متعلق بالمسجد‏...» [ج5، ص199].

آداب الدعاء:

أولاً: اختيار الفقرات المناسبة. إن الإنسان ليس ملزماً بقراءة الدعاء من أوله إلى آخره! فهذا طعام معنوي، بإمكانه أن يقرأ قسماً من الدعاء، وإذا وصل إلى فقرة، ورأى أن هذه الفقرة أشجى للمشاعر، كأن يصل في دعاء كميل إلى فقرة: «إلهي وربي!.. من لي غيرك»؟.. وإذا به يرى نفسه: يتيمًا، فقيرًا، لا وظيفة له، ولا زوجة، ولا مأوى له. فيعيش حالة الغربة والوحشة. وإذا تجاوز هذه الفقرة، من الممكن أن يفقد حالة التوجه! لذا فإن العلماء ينصحون بالبقاء في هذه الفقرة، إلى أن يأخذ الرحيق أو الشهد الكافِ من هذه العبارة! ثم ينتقل إلى الفقرات الأخرى. حتى إن المتخصصين في فن القرب إلى الله -عز وجل- يقولون: إن المصلي إذا رأى إقبالاً في فقرة من فقرات الصلاة، ويخشى أن تفوت منه هذه الحالة إذا انتقل للفقرة الأخرى، فلْيدُم على هذه الحالة، فإذا أدركته الرقة في القنوت، فإن في الرسالة العملية يذكرون بأنه يجوز للإنسان أن يتكلم بغير العربية! وهناك خلاف فقهي، أن هذا لا يعد قنوتاً شرعياً، ولكن لا يُبطل الصلاة. فإذاً، إن على الإنسان أن يختار من فقرات الدعاء، ما يتناسب مع مزاجه.

ثانياً: اختيار المكان المناسب. إن بعض الناس بعد طعام العشاء في ليلة الجمعة، يخشى أن تفوته فضيلة هذا الدعاء؛ فيقرأ هذا الدعاء بحالة ساهية. والبعض في حال الطواف، يقرأ فقرات بليغة كمن يتكلم بمضامين من دعاء أبي حمزة: «فما لي لا أبكي؟ أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي... ارحمني صريعاً على الفراش، تقلبني أيدي أحبتي.. وتفضل عليَّ ممدوداً على المغتسل، يقلبني صالح جيرتي.. وتحنن عليَّ محمولاً، قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي.. وجد عليَّ منقولاً، قد نزلت بك وحيداً في حفرة.. وارحم في ذلك البيت الجديد غربتي»! بينما حالته الظاهرية لا تتناسب مع هذه المضامين. فهذا الإنسان يُبتلى بقسوة القلب بعد ذلك عندما يريد أن يتفاعل مع هذا الدعاء في ليلة القدر، وذلك بسبب التكرار الكثير الذي لا تفاعل فيه.

ثالثًا: اختيار الوقت المناسب. كما ينبغي اختيار الزمان المناسب، فللزمان تأثيره المادي والمعنوي في تقبل الدعاء وتحققه، وأفضل أوقات الدعاء: عند السحر، وعند زوال الشمس، وبعد المغرب، وأفضلها يوم الجمعة، وكذلك الدعاء إثر الصلاة الواجبة، وعند قراءة القرآن، وعند الآذان، وعند نزول الغيث. فلينظر الإنسان إلى ساعة النشاط! وهنيئاً لمن كان له مصلى في المنزل!

عليٌّ (عليه السلام) اتخذ بيتاً لا بالصغير ولا بالكبير، خاليًا من كل ما يُشغل، وكان عليٌّ (عليه السلام) يتخذ من هذه الغرفة مكاناً للمناجاة مع ربه في كل وقت. فالمؤمن في حال الاحتضار، يستحب أن يُنقل إلى مصلاّه، حيث كان يناجي ربه. حتى من باب علم النفس التجريبي هنالك حالة من التلازم؛ فهذه السجادة التي طالما بكى عليها، وهذه التربة التي ينظر إليها. عندما يراها يتذكر الأيام التي كان يعيش فيها حالة الأنس مع المولى.

إن الشهيد المطهري وضع في محل عبادته صورة، كان قد كتب فيها لفظ الجلالة بأنوارٍ مضيئةٍ؛ كي تقع عينه على لفظ الجلالة وهي مضيئة له أثناء الصلاة. فإن كان ولابد من النظر إلى شيء مادّي أثناء الصلاة، فليكن إلى ما يرمز إلى المولى ولو لفظاً! فنحن محرومون من الأنس بعالم الغيب بمعناه الواقعي، فلنحاول أن نسلي أنفسنا بلفظ الجلالة.

إن من العبارات التي تفتح باب الأمل كثيراً، تلك العبارات المنقولة في آخر دعاء كميل: «واجعلني من أحسن عبيدك نصيباً عندك، وأقربهم منزلةً منك، وأخصهم زلفةً لديك، فإنه لا ينال ذلك إلا بفضلك». وكل إنسان مشروعٌ لأن يحقق هذه العبارات، التي هي عبارات مثالية جداً، وأشبه بالأسطورة، وذلك للأسباب التالية:

أوّلاً: إن دعاء كميل هو عبارة عن إملاء عليّ بكتابة كميل، وهذا يعطي قوّة لمضامين هذا الدعاء الشريف. روى السيد في الإقبال أن كميل بن زياد قال: كنت جالسًا مع مولاي أمير المؤمنين (عليه السلام) في مسجد البصرة، ومعه جماعة من أصحابه فقال بعضهم: ما معنى قول الله عز وجل: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾؟ قال (عليه السلام): «ليلة النصف من شعبان، والذي نفس علي بيده! أنه ما من عبد إلا وجميع ما يجري عليه من خير وشر، مقسوم له في ليلة النصف من شعبان، إلى آخر السنة في مثل تلك الليلة المقبلة، وما من عبد يحييها ويدعو بدعاء الخضر (عليه السلام) إلا أجيب له». فلمّا انصرف طرقته ليلاً، فقال (عليه السلام): ما جاء بك يا كميل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، دعاء الخضر! فقال: «اجلس يا كميل، إذا حفظت هذا الدعاء، فادع به كل ليلة جمعة، أو في الشهر مرة، أو في السنة مرة، أو في عمرك مرة، تكف وتنصر وترزق، ولن تعدم المغفرة. يا كميل! أوجب لك طول الصحبة لنا، أن نجود لك بما سألت، ثم قال: اكتب...» [الإقبال بالأعمال الحسنة، ج3، ص331].

ثانياً: لو كانت هذه المنازل خاصة بالأئمة (عليهم السلام) وكميل ومن ورائه من أصحاب علي (عليه السلام) لا قابلية لهم للوصول إلى هذه الدرجات، كان بإمكان علي (عليه السلام) أن يجعل هذا الدعاء وقفاً على كميل وأمثاله، وقد شاء الله – عز وجل – أن يكتب الخلود لشخصيتين من أصحاب الأئمة: كميل وأبو حمزة الثمالي. فالدعاء للمعصوم، ولكنه معروف باسم أصحاب الأئمة! ومن ذلك يُعلم أن الله – عز وجل- قد يكتب للإنسان شيئاً من الخلود، فلو لم يذهب كميل في تلك الليلة المعهودة إلى دار عليّ، لما وصلنا هذا التراث، ولما اجتمع المؤمنون ليلة الجمعة، وليالي القدر بعد قرون، لأجلِ قراءة هذا الدعاء الشريف.

إذا كان كل إنسان مشروعًا لأن يكون مصداقاً لهذه العبارات: «واجعلني من أحسن عبيدك نصيباً عندك، وأقربهم منزلةً منك، وأخصهم زلفةً لديك»، فما المانع من أن يتمنّى الإنسان القمم العالية؟ رغم أنه يرى نفسه أنه لا يمكنه الوصول إلى هذه القمم: إذ لا جناح له يطير بهما، ولا براق يحمله إلى هذه القمم، وليس هنالك من يحمله على نقالة ٍ أو حمالةٍ ويأخذ به إلى القمة. ما المانع أن يتمنّى هذه الدرجات العالية؟ فرب العالمين إذا رأى صدقاً في عبده وإصراراً، من الممكن في ليلة واحدة، كما أنه يُصلح أمر وليّه في ليلة، يُصلح أمر ذلك الإنسان أيضاً في ليلة. وذلك مثل قضية اتصال التيار الكهربائي، الذي جاء من المصنع إلى المنازل، إذ إن هناك قطعة حديدية صغيرة قد فصلت الكهرباء عن المنزل! فالإنسان الذي لا يفقه في هذا الأمر، لا يعلم كيف يُوصل التيار؟!  فيأتي المهندس الخبير، ويكبس ذلك الزر، وإذا بهذا البيت المظلم يصبح كالشمس الساطعة. فالكهرباء موجودة، ومصنع الطاقة بين أيدينا، ولا تحتاج القضية إلا إلى وصل. وقلوبنا كذلك أيضاً مستعدة،  فـ"بشر الحافي" كان من كبار العصاة في قومه، كان‌ أوّل‌ أمـره‌ يتعاطى‌ الخمـر، ومشـغولاً بصـحبة‌ الغواني،‌ واستماع‌ الأغاني‌ والطرب‌ والمجون‌، حتى‌ اتّفق‌ يوماً أن‌ كان‌ الإمام‌ الكاظم‌: موسى‌ بن‌ جعفر (عليه السلام)‌ يجتاز على‌ داره‌ ببغداد، فسمع‌ الملاهي‌ وأصوات‌ الغناء والرقص‌ والناي‌ تعلو من‌ داره‌، وخرجت‌ أثناء ذلك‌ جارية‌ بالقُمامة‌ تريد إلقاءها خارج‌ الدار، فسألها الإمام‌: «يَا جَارِيَة!.. صَاحِبُ هَذَا الدَّارِ حُرٌّ أَمْ عَبْدٌ»؟!.. فَقَالَتْ: بَلْ حُرٌّ. فَقَالَ (عليه‌ السلام‌): «صَدَقْتِ لَوْ كَانَ عَبْداً، خَافَ مِنْ مَوْلاَهُ».. فدخلت‌ الجارية‌ الدار، وكان‌ مولاها على‌ مائدة‌ السُّكْر، فقال‌ لها: ما أبطأك‌؟ فقالت‌: حدّثني‌ رجل‌ بكذا وكذا. فخرج‌ بشر مُسـرعاً حافياً حتى‌ لحـق‌ بمولانا الإمـام‌ الكاظـم‌ (عليه‌ السلام)‌، فاعتذر منه‌ وبكي‌ وتاب‌ على‌ يده‌. وإذا ببشر يصبح إلى يومنا هذا من أقطاب المعرفة والتقوى في حياة الأمة. وغيره الكثيرون ممن تكهربوا بكهرباء التوحيد، والولاية، بنظرة في ليلة من الليالي. ما المانع أن نتمنّى هذه المقامات العالية؟

إن علياً (عليه السلام) بعد ذلك يقول: «فإنه لا ينال ذلك إلا بفضلك». فالقضية قضية فضل وتفضل! فمن الممكن أن تثير غيرة المرأة المؤمنة من مريم (عليها السلام) إذ إن أمها عندما كانت حاملاً بها نذرت ما في بطنها محرراً ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾. في عالم القرب إلى الله – عز وجل – يشترط العلماء عدم الاختلاف بين الجنسين، فنحن لم نعهد أستاذاً في العرفان اتخذ تلميذة أجنبية عنه! نعم، يمكن ذلك بالتواصل من بعيد بالكتابة أو ما شابه، ولكن الله – عز وجل – هيأ نبياً من أنبيائه وهو زكريا (عليه السلام)، ولم يكن محرمًا على مريم فهو زوج خالتها ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾، ومريم (عليها السلام) لم تشهر سيفًا في سبيل الله، ولم تؤلّف كتاباً، ولم تقم بدعوة، ولم تكن لا نبية ولا وصية. فما الذي جعل مريم تعيش هذا الدلال الإلهي؟ فبعد أن رفع من درجاتها، وأنزل عليها المائدة السماوية، أثيرت غيرة زكريا، لما رأى من بركات الذرية الصالحة، والدرجة التي وصلت إليها هذه الفتاة ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾، فرزق يحيى (عليه السلام).

إن مريم (عليها السلام) بعد ذلك ابتليت بالحمل وشماتة القوم، وتهمة الزنا، وغير ذلك. ولكن المهم هو أن ندخل، وأن نفكّ هذه المعادلة السحرية! ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾، من هو فاعل أنبتها؟ إنه رب العالمين. لذا على الإنسان أن لا يقلق، ولا يحزن، وما عليه إلا أن يقوم بحركة فيجتبيه ربه: مجاهدة لشهوة، أو مجاهدة لغضب.

هنالك تديّن عام: إنسان يصلي، ويصوم، ويخمّس، ويحج، هذه الطبقة الغالبة من المجتمع. فنرى إنسانًا وقد اشتعل منه الرأس شيبًا، ووهن منه العظم! وقد ذهب إلى الحج عشرات المرات، وأقام عزاء الحسين (عليه السلام) خمسين، أو ستين، أو سبعين سنة. ولكن لا نرى له تميّزاً: لا في قول، ولا في فعل! فإذا صار كلام في الغيبة، دخل مع الداخلين، وأكل مع الآكلين، وضحك مع الضاحكين، فأين التميّز في مقام العمل، وأين سنوات العبادة؟ وأين ثمرة الجهود؟ سبعين أو ثمانين سنة، إنسان يعبد ربه، وإذا لا مراقبة له في قول ولا فعل! حتى إنه نرى بعض المعاصي التي لا تناسب هذه الفترة العمرية! رجل عجوز في الستين أو السبعين من عمره، وينظر إلى بعض المسلسلات الماجنة!  وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «أربعة يبغضهم الله: ... والشيخ الزاني، والإمام الجائر» [مستدرك الوسائل، ج13، ص273]. هذا في مقام السقوط من عين الله عز وجل.

إن الطريق إلى التميز في عالم القرب إلى الله – عز وجل- لا يكون إلا بأحدِ أمرين:

الأوّل: إما بمجاهدة متصلة خفيفة: إن الإنسان الذي يأكل، ويقوم قبل الشبع، هذا لا يعد جهاداً يعتد به في سبيل الله! وكذلك فإن قيام الليل، ليس جهاداً متميزاً قال تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾؟! وقد قال الشاعر: (ومن يخطب الحسناء لا يغلها المهر)! فالمؤمن لا يرى صلاة الليل أمراً متميّزاً في حياته، فهذه أدنى الواجبات. إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يرى نفسه ملزماً بصلاة الليل، وكان يراعي مأكله، وقوله، ومشربه. هذه المجاهدات اليومية الخفيفة تتراكم، وكفى رب العالمين أن يعطيه جائزة من الجوائز العظمى في ليلة قدرٍ أو في غير ليلة قدر.

الطريق الثاني: المجاهدة الكبرى: وهنا إما صعود إلى القمة! أو سقوط في أسفل الوادي! أحد الشباب سافر إلى الخارج للدراسة، فطلبت منه إحدى الفتيات أن يعلمها القرآن الكريم، وحدّدا موعدًا.. فذهب في الموعد المحدّد، وكان الأهل في المنزل. في اليوم التالي أعطته موعدًا في وقت معيّن، فعندما أتى لم يكن هناك أحد في المنزل، وإذا بهذه الفتاة تقترب منه وتقوم ببعض الحركات المشبوهة، ففرّ هاربًا منها. فهذا الشاب قطّع الشباك والسلاسل، واجتاز التجربة اليوسفية بنجاح. يقول: خرجتُ من المنزل وأنا في حالة أخرى، رأيتُ أبواب الغيب فُتحت لي! وأصبح همّي الشاغل، أن أنقل هذا الهدى إلى قلوب الآخرين. أنا تذوّقت حلاوة القرب إلى الله –عزّ وجل- بهذه المجاهدة. ولو أنه انزلق معها في تلك الأمسية القرآنية، وعمل ما يعمله الآخرون؟! يكون قد أقدم على إشباع شهوة ساعة أو سويعات، تذهب لذّتها وتبقى تبعتها: ندم أبد الآبدين.

إن سياسة رب العالمين، أن يأتي بأصعب الامتحانات في أسوأ الأوقات من حيث الغفلة، في ساعة يكون فيها الإنسان بين النوم واليقظة، تأتي ورقة الامتحان بأسئلة رياضية دقيقة! نعم، إذا أراد الله -تعالى- أن يعطي الإنسان قربًا متميّزًا، وهو في ليلة الزفاف يأتي الاختبار! فهل يقدّم رضا الله على رضا المخلوقين؟ وهل يطيع المخلوقين من حيث يعصى رب العالمين؟ المهم أن الاختبار يأتي في ساعة الضعف، فإياك أن تعتمد على نفسك؟! فنبي الرحمة (صلّى الله عليه وآله) كان يناجي ربه بهذه المضامين: «اللهم! لا تسلب مني صالح ما أعطيتني أبداً. اللهم! لا تردّني إلى سوء استنقذتني منه أبدًا. اللهم! لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً».

إن على المؤمن أن يسأل ربه هذه الدرجات؟ والإنسان الذي يموت على التوحيد، وعلى النبوة، وعلى ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، وله هذه الدموع الغزيرة في مناجاة ربه تارة، وفي إقامة عزاء أهل البيت (عليهم السلام) تارة، فإن الجنة مضمونة له، فإذا لم تكن الجنة له، فلمَن خلقت إذًا؟! الإمام الباقر (عليه السلام) يقول عن هذه الآية: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «أشفع لأَمتي حتى ينادي ربي: رضيت يا محمد؟ فأقول: رب رضيت». ثم قال الباقر (عليه السلام): إنكم معشر أهل العراق تقولون: إن أرجى آية في القرآن: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾. ولكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾، وهي الشفاعة. وقال الصادق (عليه السلام): «رضا جدي أن لا يبقى في النار موحد». النبي (صلّى الله عليه وآله) لا يرضى أن يبقى هذا الإنسان بنار جهنم، فكيف بالموالين؟ وكيف بالذين يبكون على الإمام الحسين (عليه السلام)، فالإمام الرضا (عليه السلام) قال: «فعلى الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام». وعليه، فإن على المؤمن أن لا يفكر في الجنة، فهي محجوزة له! وإنما عليه أن يفكر في الدرجات العالية، وفي مقعد الصدق عند المليك! فآسيا امرأة فرعون كانت في أسخف البيوت، ومع أسخف الأزواج الذي كان يدّعي الربوبية ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾، وإذا بها تطلب جنةً لا كجنان الآخرين، ﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾، مقام العندية، مقام عظيم لا يعقله الناس. فآسيا لا تطلب مقام العندية، بل تطلب جنة العندية.

إن الناس عادة عندما يكون لهم مريض يكرّرون هذه العبارة: «يا من اسمه دواء، وذكره شفاء»، والذي لا مريض له، يجتاز العبارة بسرعة. بينما على المؤمن أن يكرّرها أثناء الدعاء لشفاء الأمراض القلبية! فالقلب الذي يستذوق الحرام، قلب منكوس! إذ إن هناك فرقًا بين إنسان يرتكب المنكر وبعد لحظات، تجري دموعه على خديه! وبين إنسان يستذوق ذلك العمل!

إن المؤمن عندما يدخل بيت الله، عليه أن يعيش حقيقة الضيافة الإلهية. فالإمام الحسن (عليه السلام) كان إذا بلغ باب المسجد يرفع رأسه ويقول: «إلهي! ضيفك ببابك. يا محسن قد أتاك المسيء! فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك، يا كريم»!

إن البعض إذا وصل إلى درجة تناسبت شهيته مع الحرام، فإنه يرتكب المنكر ويكرّره في شهر رمضان وفي غيره، ولا يرى بأساً في ذلك! فهذا الإنسان على مشارف الكفر! ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾. أوله إساءة، وفحشاء، ومنكر، وفي الأخير إنكار لمبادئ الشريعة! هذه العبارات كرّروها بهذه النية، لنتوجّه إلى الله – عز وجل– يا رب نحن في بيتٍ من بيوتك. تدخل المسجد قل: «يا ربي!.. أنا دخلتُ بيتك، لا أخرج إلا أن تُذيقني حلاوة ذكرك. لكل ضيف قرى، ولكل قادم كرامة، أين كرامتك يا رب العالمين»؟

إن هناك دعاءً يُكتب في ورقة، ويوضع في يد الميت. روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من كتب هذا الدعاء وألقي في كفن الميت، أو وضع في يده؛ لا يعذب في قبره والله والله والله!

«بســـم الله الرحمن الرحيم.. اللهم إن هذا أول قدومي إليك، فأكرمني! فإن الضيف إذا نزل بقوم يكرم، وأنت أولى بالكرامة. إلهي! ما دمت حيًّا عصيتك، وأنت أحسنت إليّ، والآن انقطع عصياني، فلا تقطع إحسانك عني يا رب! أعتقني من النار بمحمد وأله الأطهار الأخيار الأبرار، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين». هذه الرواية من الروايات النادرة!. ربما من الأفضل أن يكتب هذا الدعاء وهو حي، ويوصي أن يوضع في كفنه!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* المصدر: شبكة السراج على الانترنت ـ http://www.alseraj.net


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2360
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 05 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16