• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : مناهج وأساليب القصص القرآني .
                    • الموضوع : أسلوب القصة في القرآن الکريم - ق 3 .

أسلوب القصة في القرآن الکريم - ق 3

عيسى متقي زاده / أستاذ مساعد جامعة العلامة الطباطبائي

قيم الحياة في قصص القرآن

يتناول القصص القرآني كثيراً من قيم الحياة التي يهدف القرآن الكريم إلى التربية عليها وتعميق الإيمان بها في القلوب، وليس المقصود أنه يتناولها تناولاً موضوعياً مباشراً، إنما المقصود أنه يتناولها تناولاً فنياً زاخراً بالإيحاءات التربوية القوية المؤثرة.

قيمة الإيمان:

يهدف القرآن الكريم إلى أن يقيم المجتمع المسلم على أساس الإيمان، وأن يجعل من الإيمان القيمة الأولى في الحياة، وأن يكون هذا الإيمان هو الميزان الذي توزن به الأعمال والأشخاص وأن يكون هو الرابطة الأولى بين الأمة المسلمة، والتي تفوق ما سواها من روابط وصلات. وأن تكون قيمة الإيمان أعظم قيمة في الحياة.

جاءت قصة نوح(ع) توحي بهذه الحقيقة وتبرز حقيقة الصلة التي يجب أن تربط بين المؤمنين، صلة الإيمان، فإذا انتفت هذه الصلة فقد انتفي ما سواها من صلات، حتى ولو كانت الصلة بين الابن وأبيه.

نعلم من قصص نوح أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى اللّه، فما آمن معه إلا قليل، وشاءت حكمة اللّه تعالى أن يعم الأرض طوفان يغرق كل من فيها إلا المؤمنين، لتبدأ البشرية عهداً جديداً خالصاً للإيمان، وصنع نوح الفلك بأمر ربه ليكون أداة نجاته هو ومن معه من المؤمنين حين يعم الطوفان ثم تأتي هذه الحلقة من قصة نوح لتبرز حقيقة الصلة بين المؤمنين.

يقول سبحانه وتعالى:

﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تُكُن مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُني مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِي الاْءَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ* قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْني أَكُن مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(89).

إيحاءات القصة واضحة، فهي تؤكد حقيقة الصلة التي تربط بين المؤمنين، وهي صلة الإيمان.

«إنّ هدف هذه الحلقة من القصة هو تأكيد قيمة الإيمان، وتأكيد حقيقة الصلة والروابط التي تجمع بين المؤمنين، ولتعميق الإيمان بها في القلوب»(90).

وهناك نموذج آخر في قصة مريم:

﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَي وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمَحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّي لَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. هُنالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾(91).

مريم فتاة مؤمنة، نذرتها أمها قبل ولادتها للّه، وكفلها زكريا(ع). وكلّما دخل عليها زكريا وجد عندها رزقاً، فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ولا يعلم زكريا مصدر هذا الرزق فيعجب ويسألها: أنّي لك هذا؟ فتجيب في وثوق وبساطة إيمان: إنه من عند اللّه. فاللّه تعالى يرزق من يشاء بغير حساب وبغير أسباب.

إن زكريا نبي من أنبياء بني إسرائيل، يعلم هذه الحقيقة تمام العلم، فما تغيب مثل هذه الحقيقة عن نبي، إنّه يعلمها ويؤمن بها، ولكنه لم يمارس هذه الحقيقة عملياً، لم تمر به مثل هذه التجربة في واقع الحياة، ولقد مرّ جده إبراهيم(ع) بنفس التجربة، فإبراهيم يعلم ويؤمن بأن اللّه تعالى قادر علي إحياء الموتى، ولكنه يسأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتي، يريد أن يشهد عملية الإحياء، يريد أن يرقي من مقام الإيمان إلى مقام اليقين.

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِيَنَّكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(92).

إنّ زكريا يعلم ويؤمن بأن اللّه قادر علي أن يرزق من يشاء بغير الأسباب الظاهرة التي يألفها البشر، ولكنه يمر بالتجربة العملية ويشهدها عند مريم، فلما رأي هذه الحقيقة واقعاً ملموساً... هنالك، وهي هنا لفظة معبرة موحية، أي أن زكريا لما رأي فناء الأسباب الظاهرة عند مريم، ووجد عندها هذا اليقين، اليقين في قدرة اللّه علي خرق الأسباب الحياة الظاهرة، وأنّ يجري أموراً علي غير ما ألف البشر من وسائل وأسباب ورأي مريم تقرر ذلك في وثوق المؤمن الذي مرَّ بالتجربة عملياً في واقع الحياة، هنالك، وهنالك فقط توجه زكريا بالدعاء إلى ربه أن يرزقه ذرية طيبة»(93).

قيمة العدل:

كان القرآن الكريم يعد الجماعة المؤمنة لتكون نواة الأمة المسلمة التي سوف تتسلم قيادة البشرية لتقر في الأرض قيم السماء، فكان يربيها منذ العهد الملكي علي أساس تلك القيم ويعمق الإيمان بها في قلوبهم.

من تلك القيم قيمة العدل، والعدل في القرآن الكريم قيمة مطلقة، لا علاقة له بالظروف ولا بمصلحة الأمة، فهو يبذل للعدو كما يبذل للصديق.

قال سبحانه وتعالى:

﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا إِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾(94).

كأن العدل في ميزان القرآن الكريم غاية لا وسيلة، مهما ظنَّ أنه يضيع علي الأمة المسلمة من نفع عاجل، ومهما ظنَّ أنه يجر عليها ضرراً مؤكداً.

عالج القران لكريم هذا الموضوع علاجاً شاملاً في كل من عهدي التنزيل، وفي قصة داود وهي من قصص العهد الملكي علاج لميزان العدل:

﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَي دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إلى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَي وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾(95).

«سواءً كان الذين تسوروا المحراب علي داود ملائكة أم أناس. فإن ذلك لا يغير من دلالة القصة، فدلالتها واضحة المقصد، فهي تهدف إلى إقرار قيمة العدل في الحياة، دلالتها واضحة تماماً في الآية الأخيرة من القصة. لقد سمع داود حجة واحد من الخصمين فقط، وهي وإن كانت حجة قوية، وكان الحق فيها واضحاً، وكان الظلم فيها صارخاً، إلا أن داود قد أصدر حكمه دون أن يستمع إلى حجة الخصم الآخر ودفاعه، فلعل الحق في جانبه، ولعل عنده حجة أقوي من حجة خصمه، فكيف يمكن أن يحقق داود العدل بهذه الوسيلة وبهذا الميزان، فيصدر حكمه ويشفعه بالأسباب»(96).

ثم يدرك داود أنه امتحان من اللّه، وأنه أخطأ الحكم ولم يحقق العدل في هذه القضية، فخر راكعاً تائباً إلى ربّه.

القصة تعالج ميزان العدل، وتهدف إلى إقرار قيمة العدل وتعميق الإيمان بها، والإحساس بعظمتها في القلوب.

قيمة العلم:

تناول القرآن الكريم في قصصه قيمة العلم في مواضع كثيرة، تناولها في قصة آدم في سورة البقرة:

﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلاَئِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوْا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾(97).

فبالعلم فضل آدم الملائكة، وبالعلم كرمه ربه وأسجد له ملائكته.

ثم إنّ القصة توحي إيحاءً قوياً بأن العلم فطرة إنسانية، فآدم هو الإنسان الأول، خلقه ربه وجعل الاستعداد للعلم والمعرفة من صميم تكوينه، أن الإنسان لا يمكن أن تكمل إنسانيته إلاّ بالعلم.

ومن هنا يقول الإمام الغزالي في العلم:

«خير سليمان بن داود عليهما السلام بين العلم والمال والملك، فاختار العلم فأعطي المال والملك معه.

وسئل ابن المبارك من الناس؟ فقال: العلماء.

ولم يجعل غير العالم من الناس لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هي العلم. فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله، وليس ذلك بقوة شخصه فإن الجمل أقوي منه، ولا بِعظَمِه فإن الفيل أعظم منه، ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه، ولا بأكله فإن الثور أوسع بطناً منه، ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوي علي السناد منه، بل لم يخلق إلا للعلم، وقال بعض العلماء: ليت شعري أي شيءٍ أدرك من فاته العلم، وأي شيءٍ فاته من أدرك العلم»(98).

و هناك نموذج آخر يبين قيمة العلم وهو في قصة موسي(ع) مع العبد الصالح الذي ورد في سورة الكهف:

﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾(99).

فهذا رسول من أولي العزم يتبع عبداً صالحاً بكل هذا الأدب وبكل هذه الطاعة ليتعلم منه.

ومهما قيل في هذا العبد الصالح، أنه كان من الملائكة، أو كان نبياً، فكل صفته في القصة أنه عبد من عباد اللّه آتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما، صفته الأولي التي ميزته لهذا المقام هي العلم.

فمن إيحاءات القصة أنها تعلي من قيمة العلم إلى هذه الذروة الرفيعة، ومن إيحاءاتها رغبة موسى في التعلم والاستزادة من العلم، وأن العلم جدير بالطلب حتى ولو كان من رسول.

وتناول القرآن الكريم قيمة العلم في قصة سليمان مع ملكة سبأ.

تحدثنا القصة أن سليمان بعث إلى ملكة سبأ بكتاب، فبعثت إليه بهدية رفضها، وأيقن أنها سوف تحضر إليه، فأراد أن يعد لها مفاجأة تشهدها عند حضورها، وهي أن يحضر عرشها من اليمن إلى فلسطين لتراه في قصره كدليل علي قوته وقدرته علي الخوارق:

﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَم أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾(100).

فبالعلم صنع الإنسان ما عجز عنه الجن، وبالعلم فاقت قوة الإنسان هذه القوي الخفية.

من الذي أحضر العرش، وأي علم كان عنده، وأي كتاب ذلك الذي كان عنده علم منه؟

لا تحدثنا القصة بذلك، ولكنها تركز على قيمة العلم، فكل صفته الذي أحضر العرش أنه عالم، عنده علم، وعلم من الكتاب.

وقصة سليمان في سورة النمل ترتفع بقيمة العلم، فتبدأ بهذا التقرير:

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(101).

عنصر التشويق في قصص القرآن الكريم

ويشترط لنجاح التشويق في القصة عدة شروط نقتصر علي ذكر بعضها فمنها:

1 . ألا تكون عقدة القصة مفتعلة:

ومعنى ذلك أن الحوادث التي تؤدي إلى خلق هذه العقد لا بدّ وأن تكون بطبيعتها مؤدية إلى حدوثها بطريقة منطقية غير مصطنعة.

2 . اتساق المقدمات مع النتيجة:

أي أن الحوادث التي تمهد لحدوث العقدة لابد وأن تحتوي في طياتها على مفتاح أو مفاتيح حل العقدة حلاً يقبله التعليل والعقل السليم.

3 . تجنب الأجزاء الميتة:

وتعبير الأجزاء الميتة أو الأعضاء الميتة يطلق على المواقف المملة في القصة التي تتلو بعض المواقف القوية وتسبق البعض الآخر. وهي وسيلة قد يلجأ إليها مؤلف القصة رغبة في إطالتها.

والأجزاء الميتة إما أن تكون حواراً مملاً معقداً بين بعض شخصيات القصة، أو تكون وصفاً مسهباً لا علاقة له بموضوع القصة أو واقعة تعترض سير القصة لا علاقة لها بالهيكل السردي للموضوع.

4 . تجنب العقدة المضادة:

والعقدة المضادة هو ما يعمد إليه بعض المؤلفين لزيادة تعقيد القصة ظنّاً منهم أن ذلك يضاعف من تشويق القاري(102).

وقبل التعرض بشيءٍ من التفضيل عن عنصر التشويق في قصص القرآن الكريم أضرب مثلاً سريعاً بهذه السورة الصغيرة (سورة الفيل):

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾.

إنها قصة واقعة الفيل. تلك الواقعة التي كانت لها أهمية كبرى في تاريخ قريش حينما أراد أبرهة ملك الحبشة أن يهدم الكعبة الشريفة بجيشه وأفياله وكان العرب لا عهد لهم بهذه الأفيال الضخمة التي لا تؤثر فيها السيوف أو الرماح.

وقد شاءت حكمة الله تعالى أن تكون واقعة الفيل في نفس السنة التي ولد فيها نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام وكانت أم النبي السيدة آمنة بنت وهب حُبلي في رسول الإسلام وكانت تدعو الله ليل نهار أن تلد ابنها إلى جوار الكعبة... فلما جاءها المخاض واستبدء الخوف بالناس لاقتراب جيش أبرهة وأفياله خشيت أن تضطر إلى الهروب والابتعاد عن الكعبة وتضع مولودها بعيداً عنها وإذ ذاك حدثت المعجزة الإلهية... وأبيد جيش أبرهة... ووضعت رسول اللّه (ص) كما تمنت... على مقربة من بيت اللّه الحرام.

وقد سردت لمحة عن واقعة الفيل لنرى أنّ الإعجاز الإلهي ركز كل ما يتعلق بهذه الواقعة ذات الأهمية الكبرى عند قريش في قصة قصيرة عدد كلماتها ثلاث وعشرون كلمة فقط!

وهذه الكلمات الثلاث والعشرون ابتدأت بأعظم أنواع التشويق في الفن القصصي، وهو التشويق الذي يسمونه «إثارة الاهتمام من أول كلمة»(103).

هذا اللون من التشويق هو أيضاً من أصعب ألوان التشويق.

لقد ابتدأت السورة الكريمة بهذه العبارة:

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾؟

ابتدأت القصة بسؤال يثير الاهتمام لأن ما حدث لجيش الفيلة كان الناس يعرفون أنه لعنة من الله صبها على هؤلاء الذين أرادوا أن يهدموا بيته الحرام. ولكن ما هي تفاصيل هذه اللعنة؟.... ماذا حلّ بتلك الأفيال الضخمة فأصبحت أشبه بالحطام المتناثر المنبوذ؟

وتعبير «أصحاب» وحده فيه من البلاغة والايجاز ما يحل عن الوصف!

فكأن القصة ابتدأت بإثارة التشويق مع قرن هذا التشويق بجيش أبرهة المزود بالفيلة وذلك في بضع كلمات معدودة.

وبعد ذلك جاء لون آخر من ألوان التشويق... وهو ذكر نهاية القصة في مبدئها مع الإبقاء على مسببات هذه النهاية مما يجعل اللهفة مستمرة بل متزايدة... إذ أن الآية الثانية هي:

﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾؟ ...

أنها نهاية واقعة الفيل!....

لقد جعل اللّه تعالى كيد أبرهة هباء وارتد إليه... وبعد ذلك تسرد القصة القرآنية تفاصيل السر والمعجزة الإلهية في ثلاث آيات قصيرة مركزة:

﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾.

وهكذا وصفت واقعة الفيل أبلغ وصف وأختتمت بنهاية محكمة أشد الإحكام.

إنّ هذه القصة ذات الثلاث والعشرين كلمة تضمنت لوناً آخر من التشويق الساحر.... وهو روعة الأسلوب وما في كلماتها من توقيع موسيقي معجز.

لقد خلق اللّه الإنسان وزوده بحكمته الإلهية بعدد من الغرائز والطباع تعينه علي أداء رسالته في الحياة. ومن أهم هذه الغرائز غريزة حب الاستطلاع وهذه الغريزة إذا سارت في خطها الطبيعي المستقيم كانت خير عون للإنسان علي التزود بالثقافة والعلم وكلما ازداد الإنسان علماً كلما ازدادت خشيته من اللّه كما قال سبحانه وتعالى في سورة فاطر:

﴿إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء﴾(104).

فالواقع الرئيسي للتشويق هو إثارة غريزة حبّ الاستطلاع. وتفهم هذا الدافع بالذات يلقي ضوءاً علي بعض القصص القرآنية ذات الهدف العلمي.

ومن القصص القرآنية العظيمة الرائعة التي استهلت بهذا اللون من التشويق وهو «إثارة الاهتمام من أوّل كلمة» قصة «أصحاب الكهف».

والحديث عن قصة «أصحاب الكهف» كما وردت في القرآن الكريم حديث يطول ... إذ أنّ النواحي الفنية فيها كثيرة ورائعة.

المقدمة أو التمهيد الذي استُلهت سورة الكهف به، ينطوي علي مهمة فنية تُلْقي بأضوائها علي محتويات السورة...

لقد بدأت القصة من وسط الحَدَث وارتدّت إلى البداية، ثمّ واصلت تسلسلها الزمني إلى نهاية الحدث(105) لقد بدأت القصة هكذا:

﴿اِذ اَوَى الفِتيَةُ اِلَى الكَهفِ فَقالوا رَبَّنا ءاتِنا مِن لَدُنكَ رَحمَةً و هَيِّىء لَنا مِن اَمرِنا رَشَدا * فَضَرَبنا عَلىٰ ءاذانِهِم فِى الكَهفِ سِنينَ عَدَدا * ثُمَّ بَعَثنـٰهُم لِنَعلَمَ اَى الحِزبَينِ اَحصىٰ لِما لَبِثوا اَمَدا (106).

ففي هذه البداية القصصية يبدأ الحدث بدخول الفتية إلى الكهف، وطَلَبِهم من اللّه أن يهديَهم سبيل الرشاد. ثمّ يوضِّح النص القصصي في سرد مجمل إلى أنّ هؤلاء الفتية قد أنامَهُم اللّه عدداً من السنين: إجابة لدعائهم، كما يوضِّح بالمستوى نفسه من الإجمال، إلى أنّ اللّه بعثهم بعد ذلك ليُعْلم أيُّ الفريقين: المؤمن والكافر أحصى لما لبثوا فيه من السنين.

بعد هذه البداية القصصية الُمجْمَلة التي سُرِدَ الحدثُ فيها من الوسط، يعدو النص إلى بداية الحدث من حيث تسلسله الزمني فيحدِّثنا عن هؤلاء الفتية الذين طلبوا من اللّه أن يهديهم سبيل الرشاد. مبيناً سبب ذلك، موضحاً أنّ السبب في ذلك عائدٌ إلى أنهم كانوا من الشخوص المؤمنة التي ضاقت ذرعاً بمناخ الكفر. يقول النص القصصي في هذا الصدد علي لسان الأبطال المذكورين: ﴿هؤلاء قومُنا اتَّخَذوا من دونه آلهة ... ﴾(107).

وتبعاً لذلك، اقترح أحدهم الدخول إلى الكهف:

﴿فأْووا إلى الكهف يَنْشُرْ لَكُم ربُّكم من رحمته ... ﴾(108).

وبهذا النحو من تقطيع الحدث، يعود النص القصصي إلى وسط القصة التي بدأ بها، أي: الدخول إلى الكهف. ثمّ يتابع الأحداث والمواقف التي رافقت دخولهم إلى الكهف، حتى نهاية القصة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

89. هود: 24 74.

90. شديد، محمد: منهج القصة في القرآن، ص 69.

91. آل عمران: 63 38.

92. البقرة: 062.

93. شديد، محمد: منهج القصة في القرآن، ص 69.

94. المائدة: 8.

95. ص: 21 62.

96. شديد، محمد: منهج القصة في القرآن، ص 99.

97. البقرة: 31 43.

98. الغزالي: إحياء علوم الدين، الجزء الأوّل.

99. الكهف: 56 70.

100. النمل: 38 04.

101. النمل: 15.

102. كامل حسن، محمد: القرآن والقصة الحديثة، دار البحوث العلمية، ص 30.

103. راجع للتوسع محمد كامل حسن: القرآن والقصة الحديثة، ص 30 06.

104. فاطر: 28.

105. انظر: دراسات فنّية في قصص القرآن لمحمود البستاني، ص 042 272.

106. الكهف: 10 12.

107. الكهف: 15.

108. الكهف: 61.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مقالات مرتبطة:

أسلوب القصة في القرآن الکريم - ق 1

أسلوب القصة في القرآن الکريم - ق 2


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2244
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 05 / 31
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24