• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : مناهج وأساليب القصص القرآني .
                    • الموضوع : أسلوب القصة في القرآن الکريم - ق 2 .

أسلوب القصة في القرآن الکريم - ق 2

عيسى متقي زاده / أستاذ مساعد جامعة العلامة الطباطبائي

ميزات القصة القرآنية

1 . كونها قصصاً قرآنياً :

إنّ أوّل سمة أو خصيصة اختصت بها أنها قرآنية في مضمونها وشكلها، فآياتها منسابة انسياباً طبيعياً في ثنايا القرآن الكريم، وموضوعاتها لا تخرج عن موضوعات القرآن الكريم، وأسلوب عرضها انطبع بطابع الإعجاز القرآني، سواء في معناه بما حوته هذه القصص من موضوعات، أو في مبناه الذي اتسم بدقة في التصوير وبلاغة في اللفظ وغيرها من صنوف اللغة، ومن شواهد ذلك قوله تعالى في قصة موسى (ع).

﴿فَسَقَى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إلى الظِّلِّ فقَالَ رَبِّ إنّي لِما أَنْزَلتَ من خَيْرٍ فقير﴾(35) فهذه الآية تعرض مشهداً يصوِّر موسى (ع) وهو يأوي إلى الظلّ، مناجياً ربَّه خالياً لايراه أحد إلا اللّه، الذي وصف توليه ومناجاته التي كانت سراً بينه وبين نفسه قال موسى مناجياً رَبّه ﴿ربّ إني لِما أنزلت إلى من خير فقير﴾.

يثني على ربه ابتداء على أدب نبوي رفيع «بأنه معطي الخير، والخير: ما فيه نفع وملاءمة لمن يتعلق به فمنه خير الدنيا ومنه خير الآخرة الذي قد يري في صورة مشقة فإن العبرة بالعواقب، وقد أراد موسى النوعين كما يرمز إلى ذلك التعبير عن إيتائه الخير بفعل (أنزلت) المُشْعِر برفعة المُعْطي، ومن الخير الذي أنعم اللّه به موسى الحكمة والعلم، وإنجاؤه من القتل، وتربيته فيبيت فرعون دون أن يمسه ضرر في نفسه أو دينه»(36) وغيرها من النعم التي لاتحصى ولاتُعَدّ، ولكن موسى عندما تولى إلى الظلّ لمس من نفسه الوحدة والغربة والضعف فدعا ربه مناجيا هاماً، إني فقير ياربّ رغم ما أنعمت به على من خير، ولم يزد على ذلك في مناجاته، لأنه يعلم أن اللّه مطَّلع على ما تتمناه نفسه من الأمن والمأوى والسكن والأنس... فكان منه هذا الدعاء الذي عجّل السياق القرآني مشهد الفرج فيه، معقباً في التعبير بالفاء، إذ قد جاءته إحدى ابنتي شعيب تدعوه للقاء أبيها.

قال اللّه تعالى:

﴿فَجاءَتهُ اِحد‌ٰهُما تَمشى عَلَى استِحياءٍ قالَت اِنَّ اَبى يَدعوكَ لِيَجزِيَكَ اَجرَ ما سَقَيتَ لَنا فَلَمّا جاءَهُ و قَصَّ عَلَيهِ القَصَصَ قالَ لا تَخَف نَجَوتَ مِنَ القَومِ الظّـٰلِمين (37).

«فتؤذن الفاء بأن اللّه استجاب لموسى، فقيّض شعيباً وهو والد المرأتين أن يرسل وراءه ليضيفه ويزوجه بنته، فذلك يضمن له أنساً في دار غربة ومأوىً ومسيراً صالحاً، كما تؤذن الفاء أيضاً بأن شعيباً لم يتريّث في الإرسال وراءه، فقد جاءته إحدى بنات شعيب وهو لم يزل عن مكانه في الظلّ»(38).

فكان من مظاهر الإبداع تصوير مشهد المناجاة والدعاء، ومشهد الاستجابة الفورية للدعاء، ووجود عبارات بليغة بديعة، ومعاني إيمانية رفيعة، أضفت جواً تصويراً دقيقاً جعلنا نتفاعل مع المشهد وكأنه أمام عيوننا ومسامعنا وكأنْ موسى عندما ناجى ربه لم يكن وحده، بل كُنّا معه بحواسّنا ووجداننا، إنه أسلوب القرآن الكريم، المبدع في بيانه، مبنىً ومعنىً.

إنَّ في ذكر أحداث القصص القرآنية التفاتاً إلى بعض الجزئيات كالزمان والمكان وذكر أسماء الأشخاص ووصف هيئاتهم وغيرها من المواصفات الشكلية التي ترد عادة في القصص فإنه يكون ضمن حيّز الغرض المطلوب منه.

قد ورد في تعيين الزمان، مشهد تحدي فرعون بسحرته لموسى (ع) وطلبه تحديد موعد للقاء والمواجهة بين موسى والسحرة، قال تعالى:

﴿أجئتَنَا لِتُخْرِجَنَا من أرضنا بسحرك يا موسى . فَلَناتِينَّك بِسحر مثلِه. فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نُخْلِفهُ نحن ولا أنت مكاناً سوي. قال موعدكُمْ يوم الزِّينَة وأن يُحْشَر الناسُ ضحي﴾(39).

فالموقف في السياق اقتضي تحديد وتعيين الزمان، فكان أن أختير يوم الزينة تعييناً للوقت، وهو كان يوم عيد عظيم عند القبط. وقيّد مطلق الوقت، بقوله: (ضحي)، وورد في تعليل اختيار هذا الوقت بالذات. أن موسى(ع) كان على يقين أن النصر والغلبة ستكون للحق، كما وعده ربّه فأحبّ أن يكون ذلك في وقت أكثر مشاهداً وأوضح رؤية، بغية هداية أكبر جمع من الناس(40).

وفي قوله تعالى لموسي(ع): ﴿إنِّي أنا رَبُّك فَاخْلَعْ نعليك إنّك بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوىً﴾(41) تعيين لاسم الوادي (طوى) كما ورد في بعض أقوال المفسرين(42).

وقد ورد في تعيين أسماء الأشخاص، مشهد ذهاب موسى إلى فرعون ﴿و لَقَد اَرسَلنا موسىٰ بِـآيـٰتِنا و سُلطـٰنٍ مُبين * اِلىٰ فِرعَونَ و هـٰمـٰنَ و قـٰرونَ فَقالوا سـٰحِرٌ كَذّاب﴾ (43) إذ عين القرآن أسماء الأشخاص وهم فرعون وهامان وقارون، وجاء في تعليل اختصاصهم بالذكر أنهم كانوا رؤساء المكذبين بموسى (ع) (44).

ولا يخفي دورهم الكبير في فتنة الناس عن دين اللّه، سواء بطغيانهم أو تجبرّهم، واغترارهم بما أنعم اللّه عليهم من سلطان وأموال، فكان ذلك مدعاة لتعيين أسمائهم، فهم يمثلون تكرار نموذج صناديد الكفر في كل زمان ومكان، فقد ضُرِبوا مثلاً لمن يتعاظم بسلطانه كفرعون الطاغية، ومن يتعاظم بأمواله كقارون(45).

وهناك شواهد على عدم الالتفات لمثل هذه الجزئيات من الأزمنة والأماكن وأسماء الأشخاص. فمنها ما ورد في قصة موسى (ع) والعبد الصالح في سورة الكهف، إذ لم يذكر اسم الرجل الذي قصده موسى ليتعلم من علمه الذي آتاه اللّه إياه، وعُرّف في القصة بوصفه (عبداً من عباد اللّه) قال تعالى:

﴿فَوَجَدا عَبدًا مِن عِبادِنا ءاتَينـٰهُ رَحمَةً مِن عِندِنا و عَلَّمنـٰهُ مِن لَدُنّا عِلما﴾ (46) وإنما ذُكِر بأن اسمه «الخضر» في الحديث النبوي(47)، كما لم يذكر اسم الفتي الذي وافق موسى (ع) في رحلته هذه.

قال تعالى:

﴿وإذ قال موسى لِفتاه لا أَبْرَحُ حتّى أَبلُغَ مَجْمَعَ البحرين أو أَمْضيَ حُقُباً﴾ والفتي: المقصود به الذَكَر الشاب، وفتى موسى أي خادمه وتابعه(48).

إذ يتحقق المقصود من إيراد القصة دون تحديد أسماء الأشخاص، أو الأماكن، إذ لم يذكر كذلك اسم المكان في القصة ذاتها، بل اكتفي النص القرآني بوصف المكان أنه عند مجمع البحرين أي موضع التقائهما(49)، إذ ليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين(50).

وفي قوله تعالى: ﴿فلمَّا قَضَى موسى الأَجَلَ وسار بأهله...﴾(51).

«لم يذكر القرآن أي الأجلين قضي موسى ثماني سنوات أو عشر، إذْ لا يتعلق بتعيينه غرض في سياق القصة»(52).

وهكذا سائر آيات القصص القرآني، لا تلتفت إلى تعيين مثل هذه العناصر إلا بما يفي بتحقيق المقاصد والأهداف.

ولعلّ أبرز الشواهد في ذلك قصة أصحاب الكهف(53)، والتي لم يذكر اللّه فيها أسماء الفتية الذين أووا إلى الكهف، أو اسم المكان الذي أووا إليه، أو الزمان الذي كانوا فيه، وأغفل كذلك ذكر هيئاتهم سوي وصفهم بأنهم فتية وهم الشباب، فهذه تقريباً أبرز الأمور التي لم يُرَكّز عليها القرآن في قصتهم، والتي تعدّ غالباً من أبرز العناصر التي يركّز عليها في غير القصة القرآنية، ومن ثم، لاينبغي للباحث أن يتكلف في التنقيب منها، فيفصّل في أسمائهم وأشكالهم وزمانهم والمبالغة في التنقيب حتى عن اسم كلبهم، وهذه جميعها لم يخبرنا اللّه عنها لأن فهم القصة وتدبرها لايعتمد عليها بتاتاً، وكما قال ابن كثير «ولم يخبرنا اللّه بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي، وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالاً... واللّه أعلم بأي البلاد هو، ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا اللّه تعالى ورسوله إليه»(54).

2 الشمولية في القصص :

إنّ القصة تخاطب جانبي الإنسان، العقلي والوجداني، فتورد من الأساليب ما تخاطب به العقل والوجدان منفردين أو مجتمعين، كحوار الأنبياء مع أقوامهم سواء حوار المجادلة أو حوار توجيه وإرشاد(55).

قال سبحانه وتعالى في قصة إبراهيم:

﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ. إِذْ قَالَ لاِءَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ. قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ. قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ. قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آباءَنَا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ. قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الاْءَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ. الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾(56).

ففي قول ابراهيم (ع): ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾ استفهام لتقرير الحجة العقلية عليهم، أي إذا لم ينفعوكم ولم يضروا فما معني عبادتكم لها؟!

«فأقل ما يتوفر لإله يعبد أن يكون له سمع كعابده الذي يتوجه إليه بالعبادة والابتهال! وهذه الأصنام لا تسمع عبادها وهم يتوجهون إليها بالعبادة، ويدعونها للنفع والضر. فإن كانت صماء لا تسمع فهل تملك النفع والضر. لا هذا ولا ذاك يمكن أن يدّعوه»(57).

فكان جوابهم خالياً من الحجة والدليل: إذ ﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آباءَنَا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ فأرجعوا عبادتهم لهذه الأصنام إلى التقليد والتبعيّة العمياء(58). ولكنّها العقيدة متي زاغت لم يفطن أصحابها إلى ما تنحط إليه عبادتهم ومعتقداتهم ومقولاتهم.

ونموذج آخر يشمل حواراً يمزج بين العقل والعاطفة، فيخاطب الفكر تارة، ويخاطب الوجدان، وتارة أخري يجمع بينهما، أنه مؤمن آل فرعون الذي صدع بالحق في قصة موسى (ع) وسأعرض لمقطع من حواره مع قومه وفيهم فرعون، قال تعالى:

﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ. يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾(59).

يفتح الرجل المؤمن باب المجادلة لتشكيك فرعون في تكذيبه بموسى، بغية حفظ موسى من القتل، فبدأ حواره مخاطباً عقولهم باستفهام إنكاري في قوله:

﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾ ثم ارتقي في الحجاج إلى التصريح بتصديق موسى، بعلة أنه جاء بالبينات، أي الحجج الواضحة بصدقة، مصرحاً بكونها ﴿مِن رَبِّكُمْ﴾ ربطاً بينها وبين قوله ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾ ليسوقهم بلطف إلى الإيمان برب موسى ، ثم أوهمهم بقوله: ﴿وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾ بتقديمه احتمال كذب موسى على احتمال صدقه، ليُبعدهم عن الظن بإيمانه بموسى، أو الانتصار له، وحتى لا يثير نفورهم، فيصدون عن سماع الأدلة على صدق موسى التي ربما أثّرت فيهم، فكأنه يوجههم للنظر العقلي في أدلة موسى وآياته التي تحدّاهم بها، ليتبيّنوا صدقها من كذبها، فإن ظهر كذبه فيها، فلن يضرهم ذلك شيئاً، بل إن كذبه سيكون عليه بأن يوسم بالكاذب، أما إن كان صادقاً فهنا المعضلة والمصيبة، إذ الوعيد سينزل بهم سواء مما توعدهم بوقوعه في الدنيا، أو في الآخرة.

ثم هو يقول عبارة ذات دلالتين في نفس الوقت فهي تنطبق على رغبته في إظهار حجية صدق موسى ، بأنه لو كان كاذباً لما وفِّق للبيّنات ولا ظهرت على يديه المعجزات، فاللّه لا يوفق للحق من هو عاص متجاوز للحد مفترٍ، كما تنطبق في الوقت ذاته،  على  كل من يتجاوز الحد في معصية الله بالكفر به وتكذيب دعوته فكأنه يعرّض بأن من أسباب الإعراض عن هداية الله، الإسراف والتكذيب، كي تلين قلوبهم للحق وتقبل النصح، ثم يستميل قلوبهم لترق وتصغى إليه بندائهم ب: يا قوم، ليعظهم بعد توسّم انكسار قلوبهم لحججه، خاصة أنه قد كتم إيمانه عنهم فظنّوه كافراً مثلهم، مما يسّر أمر تقبلهم الحوار معه، فذكّرهم بنعمة الله عليهم بما حباهم به من ملك وسلطان، وبما أظهرهم الله به على الناس من غلبة واستعلاء بقوله:

﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرض﴾

ثم بعد ذلك خوّفهم زوال الملك في حالة غضب الله عليهم بقوله:

﴿فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا﴾ مستنكراً أن ينصرهم شيء من بأس الله، «مُدْمجاً نفسه مع قومه في قوله ﴿يَنصُرُنَا﴾ و ﴿جَاءَنَا﴾ ليريهم أنه يأبي لقومه ما يأباه لنفسه، وأنّ المصيبة إذا حلّت لا تصيب بعضهم دون بعض»(60).

وقد جعل الملك في العبارة لقومه تجنّبا لمواجهة فرعون بزوال الملك، بغية استمرارية الحوار دون معكّرات أو معوّقات تحول دون ذلك(61).

حينئذٍ تصدى فرعون للحوار مع الرجل المؤمن، فقد «تفطّن إلى أنه هو المعرَّض به في خطاب الرجل المؤمن قومه فقاطعه كلامه، وبين سبب عزمه على قتل موسى (ع) بأنه الصواب الذي يشير به عليهم ويرتئيه لهم:

﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ كأن فرعون يُعرِّض بأن كلام الرجل المؤمن سفاهة رأى وأنّ الرشاد والصواب هو ما رآه فرعون، أشار به، وهو قتل موسى(ع)(62).

هنا استرسل الرجل المؤمن في الحوار، ولم يراجع مقالة فرعون، فهو يريد ضمان استمرارية الحوار، فعاد لندائهم بـ: يا قوم، تلطفاً معهم واستمالة لقلوبهم، فأخذ يسوق لهم أمثلة عملية واقعية على ما حلّ في الأمم قبلهم من هلاك وتدمير، جرّاء تكذيبهم لأنبياء الله وتخربهم فيصدهم، وذكر مسمياتهم كقوم نوح وعاد وثمود، على سبيل تدعيم تخويفه لهم بالشواهد الواقعية التي سمعوا عنها وربّما بعضهم أطلالها:

﴿وقالَ الّذي آمَنَ يا قومِ إنّي أخافُ عليكم مِثْلَ يَوْمِ الأحزاب. مِثْلَ دأبِ قومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ والّذين من بعدهم وما اللّه يريد ظلماً للعباد﴾(63).

فهؤلاء قد جاواهم اللّه لقاء أعمالهم ودأبهم في الاشتراك باللّه «فاللّه تعالى لا يحب صدور ظلم من عباده ولا يشاء أن يظلم عباده»(64) كما أنّ اللّه بعدله لا يترك عقاب أهل الشرك وفي هذا التصريح من الله بالوعيد لمن يشرك بالله ويصد عن دعوة الحق على لسان الرجل المؤمن، سبب في حثّ الناس على الإقلاع عن الشرك والظلم، فتستقيم الحياة ويعم العدل بين العباد بعضهم بعضاً(65).

3 القصة وسيلة تربوية :

فالقصص القرآني وسيلة دعوية تربوية، فهي تُسهم في بناء الإنسان تصوراً وسلوكاً، فأما من ناحية الفكر فهي تمدّه بزخم من التصورات العقدية، وأما من ناحية السلوك، فهي تمدّه بنموذج بشري واقعي لتطبيق هذه التصورات في الحياة الدنيا، وتريه الإيمان باللّه والاستقامة على نهجه في أسمى صُوَرِه البشرية الممثِّلة في النبي ومن اتّبعه من المؤمنين، حتى أصبحوا بفضل تطبيقهم لهذا الدين في حياتهم قدوة ومثلاً يُحتذي، قال تعالى فيهم:

﴿أولئك الَّذينَ هَدَي اللّه فَبِهُداهُم اقْتَدِه ...﴾(66).

وقال تعالى في إبراهيم(ع):

﴿إنَّ إبراهيمَ كانَ أمةً قانتاً لِلّه حنيفاً ولم يكُ من المُشركين﴾(67).

ومعنى أمة: أي «مُعلِّماً للخير، إماماً قدوة جامعاً لخصال الخير، أو قائم مقام جماعة في عبادة الله»(68) وعندما يدعو الله الباري للاقتداء لفئة معينة ففي ذلك دلالة على رفعة هذه الفئة وعظم شأنها عند الله، ووصلت هذه الفئة إلى درجة يدعو الله الناس إلى اتخاذهم قدوة ومثلا، فهم من شملتهم المعية الربانية بالعناية والرعاية، وساروا على منهج الله فكراً وممارسة، فكانوا أمثلة حية فاعلة ترجمت هذا المنهج إلى واقع عملي، فكانت سِيَرهم الممثلة في القصص القرآني نموذجاً تربوياً رفيعاً، وهذه القصص ثرية بما يفيد هذه الوجهة في البحث من الشواهد والأمثلة، خاصة في جانب الأدب، مع الله، الذي نال خيراً كبيراً في حياة أنبياء الله.

المسألة المهمة في هذا الموضوع هو أدب إبراهيم(ع) في بيانه لصفات الله عزوجل أثناء حواره مع قومه بشأن دعوتهم إلى التوحيد، وإقناعهم بأن آلهتهم المدعاة لا تملك لهم شيئاً ممّا نسبوه إليها، فهي لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر، فقد جاء قول إبراهيم(ع) في سورة الشعراء:

﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾(69).

فهنا يصف ابراهيم(ع) ربّه بما يستحق توحيد العبادة لأجله، فالله هو الخالق الهادي إلى سواء السبيل، الرازق، رافع ضرّ المرض، وجالب نفع الشفاء، الذي بيده الإماتة والإحياء، فعدّد ابراهيم (ع) هذه الصفات جميعها مسنداً إياها إلى الله عزوجل، وعدا فعل المرض الذي أسنده إلى نفسه فقال: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ تأدباً مع الله عزوجل، فهو يعلم أنه بمشيئة ربه يمرض ويصح، ولكنه يذكر ربه في مقام الإنعام والإفضال إذ هو الخالق الهادي، الذي يطعمه ويسقيه ويشفيه، ولا يذكره في مقام الابتلاء حين يبتليه، «مراعياً في لفظه الإسناد إلى الأسباب الظاهرة في مقام الأدب، فأسند إحداث المرض إلى ذاته والمتسبب فيه، كما أنه أطلق على رجاء المغفرة لفظ الطمع، تواضعاً للّه تعالي، ومباعدة لنفسه عن هاجس استحقاقه المغفرة وإنما طمع في ذلك لوعد اللّه بذلك»(70) إنّه شعور التقوي من إبراهيم(ع) وشعور الأدب وشعور الخشية والإنابة(71).

4 الواقعية في القصص :

من ميزات القصص القرآني الواقعية، وتبرز هذه السمة في جانبين: واقعية الحدث وواقعية الشخصية.

1 واقعية الحدث: فالقصص القرآني تمثل واقعاً معيناً بكل ما يحمله هذا الواقع من مجريات الحياة الدنيا الاعتيادية(72).

فمثلاً في قصة موسى (ع) جاء ذكر ابنتي شعيب، وقضية الماء والمرعى وسقيه لهما ثم مقابلته لأبيهما ثم زواجه من احدهما، وهذه كلها أحداث واقعة.

قال اللّه تعالى في سورة القصص:

﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَي رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ. وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إلى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلى مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. فَجاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ. قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ اتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ على وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾(73).

فهنا صور القصص القرآني هذه الأحداث في واقعية طبيعية دون تكلف أو تزييف، ولكنه جاء بها في قالب قصصي موجه ليحقق أهدافاً دينية دعوية من عرضها بهذه الصورة، فهي تحمل معاني كثيرة من الأمانة والقوة ودوام الصلة باللّه والتضرع إليه، والحياء، والعفة والطهر، والشرف وغيرها من المعاني التي ضمتها أحداث واقعية معيشة لا تكلَّف فيها ولا تَصَنُّعَ وإنما تمثل مجريات عادية من أحداث الحياة الدنيا»(74).

2 . واقعية الشخصية، وهي واضحة في شخصية النبي، الذي يمثّل أداة التأثير البارزة في القصة فعلي الرغم من أن الأنبياء نماذج مثالية في عصمتها، رفيعة في بشريتها، إلاّ أنَّ وسيلة القصص القرآني كانت واقعية في عرضها لهذه النماذج، بمعنى دقة تصويرها لجانبي شخصية النبي(75).

وهما:

1 . الجانب النبوي المتمثل في عصمة اللّه له، وتأييده بالمعجزات.

2 . والجانب البشري المتمثل في مجال التميز والرفعة في تطبيق هذا الدين في واقع حياة النبي، والمجال الاعتيادي فيما يعتري الإنسان من عواطف وانفعالات.

فمن النماذج القرآنية الجامعة لكلا الجانبين قوله تعالى في موقف تكليف موسى(ع) بدعوة فرعون إلى الهدى وتخليص بني إسرائيل:

﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ موسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ* وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ * وَلَهُمْ على ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلاّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾(76).

ففي هذه الآيات بيان ما اعترى موسى (ع) من نوازع البشر المتمثل في الخوف من ظلم فرعون وجبروته وعتّوه وتكذيبه، وقد يقتله لقاء القبطي الذي قتله قبل أن فرّ منهم إلى مدين، ومن ثم، فهو يُظهِر ما به من ضعف وقصور لا ليتنصّل أو يعتذر من التكليف، ولكن ليطلب العون والمساعدة في هذا التكليف العسير، إذ قد يتبع هذا الخوف ضيق في الصدر وحبسة في اللسان قد تعجزه من حسن تبليغ الدعوة وبيانها، فسارع إلى طلب العون بأخيه هارون، حتى إذا أدركت موسى حبسة أو ضيق نهض هارون بالجدل والمحاجة والبيان، فطمأنه ربّ العزة إلى أنهما في معية اللّه، فهو يسمعهم ويراهم، وأرشده إلى القول الذي يتوجه به إلى فرعون»(77).

وقد بين في آيات اُخَر المعجزة التي أيّد اللّه عزّ وجلّ بها موسى(ع) ، وهي العصا في مقابل سحرهم وتخييلهم للناس بالحبال والعصي على أنها حيّات وثعابين تسعى، إذْ قد ورد في بعض التفاسير(78) أن هذه العصا قد صارت تنيناً عظيماً، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منه شيئاً إلاّ تلقفته، قال سبحانه وتعالى:

﴿قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعْلَى* وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾(79).

وأما من شواهد ما اعترى الأنبياء من أمور بشرية اعتيادية تخص عواطفهم وطبيعتهم البشرية، فهو موقف نوح(ع) من ابنه الكافر، وعاطفته نحوه، فنوح(ع) كان رحيماً، مشفقاً على قومه، يرجو هدايتهم حريصاً على إجابتهم دعوته، ومن باب أولى أن يحرص على هداية أقرب الناس إليه، خاصة ابنه، الذي حمله عطف الأبوة أن يدعوه من السفينة أثناء الطوفان أن يركب معه، ولكنه أبي، وحال بينهما الطوفان قال سبحانه وتعالى:

﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تُكُن مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُني مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾(80).

وبعد أن انتهي الطوفان وأنجى اللّه نوحاً ومن معه، يعود نوح (ع) مرة أخرى حانيا على ابنه، راجياً له النجاة فيمن وعده اللّه بنجاتهم، قال اللّه تعالى:

﴿وَنَادَي نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾(81).

فجاء الوعظ من اللّه عزوجل أن يكون من الجاهلين في طلبه هذا، وجاء في تفسير الجهل في الآية بأنه الجهل بحقيقة الروابط بين الناس، وأن القرابة الحقيقية هي قرابة الدين، لا قرابة النَسَب وأن الأهل في الدين هم أهل الإيمان والتوحيد، فالابن الكافر لنوح ليس من أهله في الحقيقة التي يدعو إليها أنبياء اللّه، ويعلنونها للناس، فالولاء والبراء في الدين قائم على الإيمان باللّه وتوحيده، وذلك هو الفاصل بين قرابة الدين وقرابة النسب، وسواء كانت هذه الموعظة عتاباً لنوح من أن يقع في مثل هذا الذنب، أو أنها توجيه وإرشاد له بألا يقع في الذنب في الاستقبال، فإن نوحاً(ع) امتثل أمر ربّه، وتوجه إليه مباشرة بطلب الإعادة من الجهل، راجياً مغفرة اللّه ورحمته(82).

﴿قال رَبِّ إنّي أعوذ بِكَ أن أسئلك ما لَيْسَ لي بِه عِلمٌ وإلاَّ تَغْفِرْ لي وتَرْحَمْني أكُنْ من الخاسرين﴾(83).

فتقبل اللّه منه دعاءه، وأنعم عليه بالسلامة والأمن والبركة(84).

﴿قيلَ يا نوحُ اهبِطْ بِسلامٍ منَّا وبركاتٍ عليكَ وعَلى أُمَمٍ مِمَّن مَعَك﴾(85).

فالأنبياء بشر، ويعتريهم ما يعتري الإنسان في الجانب الاعتيادي من حالات القوة والضعف، خاصة فيما يتعلق بالانفعالات والعواطف، ومن ثم، كان عرض القرآن لمثل هذه الأمور واقعياً كما رأينا من خلال المثالين السابقين، فأسلوب القصة في القرآن «لا يجعل لحظة الضعف بطولة تستحق الإعجاب، ولكنه يعرضها عرضاً واقعياً خالصاً فلا يقف عندها طويلاً وإنما يسرع ليسلط الأنوار على لحظة الإناقة لحظة التغلب على الضعف البشري، لأنها هي الجديرة فعلاً بتسليط الأنوار عليها وهي في حقيقتها الإنسان الذي كرمه اللّه وفضله»(86) ومع ذلك فمثل هذه المواقف التي تُنْبي عن طبيعة الأنبياء البشرية وما يعتريهم من مشاعر «ذات فاعلية في بنية الحدث القصصي وحركته، من حيث اتصالها بالمفاجأة وتغير مجري الحدث، بما يمنحه من نماء وابتعاد عن السرد الرتيب، فضلاً عن أن ذلك يهب الشخصية كياناً أقوم وأوقع في تصوير قوتها وضعفها، ويمنحها ذاتية متفردة واضحة بمجاوزة النمطية والتماثل والتشابه»(87).

كما أنّ الحالات الاعتيادية من عواطف وانفعالات بشرية والتي تمثّل أحياناً حالات ضعف ونقص، واقع في القصص القرآني، فكذلك حالات الرفعة والسمو تعدّ واقعاً في القصص القرآني، بل أنها تمثل جانباً كبيراً في هذه القصص، فلا تكاد تخلو قصة من قصص الأنبياء من مواقف رفعة وسموّ سواء في الجوانب الخاصة بالنبي في ذاته أو في علاقاته بالآخرين»(88).

وجدير بالذكر أن تفاوت شخصيّات الأنبياء في المواقف، كان له أثره البارز في تقرير الواقعية، التي ظهرت خاصة في أساليب الدعوة وطريقة التكيف مع الموقف، بحيث برز كل نبي من الأنبياء الوارد ذكرهم في القصص القرآني بجانب عقدي تربوي كان له ثقله في منهج دعوته إلى اللّه، كصفات الحلم والأنات، واللين والرفق، والقوة والبأس، والعلم والحكمة، فقد كانت متفاوتة بين الأنبياء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

35. القصص: 42.

36. ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، مج10، ج20، ص 102 (بتصرف يسير).

37. القصص: 25.

38. ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، مج10، ج20، ص 103.

39. طه: 57 59.

40. انظر: ابن كثير: تفسير ابن كثير، ج3، ص 613 و 137. محمد سليمان الأشقر: زبدة التفسير، ص 114.

41. طه: 12.

42. انظر: القرطبي: تفسير القرطبي، ج 11، ص 175. الشوكاني: فتح القدير، ج 3، ص 385.

43. غافر: 23 42.

44. انظر: الشوكاني: فتح القدير، ج4، ص 884.

45. للتوسع انظر في قصة قارون سورة القصص الآيات، 67 48.

46. الكهف: 56.

47. البخاري: صحيح البخاري، ج4، ص 1752 1753.

48. انظر ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، مج7، ص 359.

49. محمد سليمان الأشقر: زبدة التفسير، ص 389.

50. الرازي: التفسير الكبير، مج11، ج21، ص 412.

51. القصص: 29.

52. ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، مج10، ج20، ص 111.

53. انظر سورة الكهف: الآيات من 9 22.

54. ابن كثير: تفسير ابن كثير، ج3، ص 76 86.

55. للتوسع راجع: مأمون فريز جرار: خصائص القصة الإسلامية، ص 225. محمد قطب: منهج التربية الإسلامية، ج 1، ص 18 19. عبدالرب آل نواب: الدعوة إلى اللّه، ص 041 261.

56. الشعراء: 96 82.

57. قطب، سيد: في ظلال القرآن، ج 5، ص 0262.

58. انظر القرطبي: تفسير القرطبي، ج 13، ص 109.

59. غافر: 28 29.

60. ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، مج 11، ص 132.

61. راجع، وهبة الزحيلي: التفسير الوجيز، ص 714. ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، مج 11، ص 128 131. محمد سليمان الأشقر: زبدة التفسير، ص 216.

62. ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، مج 11، ص 133.

63. غافر: 30 31.

64. ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، مج 11، ص 135.

65. انظر ابن كثير: تفسير ابن كثير، ج 4، ص 72، وابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، مج 11، ص 135.

66. الأنعام: 90.

67. النحل: 120.

68. الحمصي، محمدحسن: قرآن كريم تفسير وبيان، ص 281. انظر: ابن كثير: تفسير ابن كثير: ج 2، ص 510.

69. الشعراء: 78 82.

70. ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، مج 9، ص 341.

71. راجع: سيد قطب: في ظلال القرآن، ج 5، ص 0362. محمد سليمان الأشقر: زبدة التفسير، ص 484 854.

72. انظر للتوسع: صلاح الخالدي: مع قصص السابقين في القرآن، ج 1، ص 15.

73. القصص: 22 28.

74. مني بنت عبداللّه حسن بن داود: منهج الدعوة إلى العقيدة في ضوء القصص القرآني، ص 202.

75. انظر للتوسع: مصطفي عليان: بناء شخصية في القصة القرآنية، ص 32، 35، 37، 04، 14، 88.

76. الشعراء: 10 17.

77. سيد قطب: في ظلال القرآن، ج5، ص 2589 2590.

78. انظر: ابن كثير: تفسير ابن كثير، ج 3، ص 138. ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، مج 8، ج 61، ص 258.

79. طه: 66 96.

80. هود: 24 34.

81. هود: 54 46.

82. راجع: مصطفي عليان: بناء الشخصية في القصة القرآنية، ص 51.

83. هود: 74.

84. الأشقر محمد سليمان: زبدة التفسير، ص 291.

85. هود: 84.

86. قطب، محمد: منهج التربية الإسلامية، ج1، ص19.

87. عليان، مصطفي: بناء الشخصية في القصة القرآنية، ص 53 45.

88. انظر محمد قطب: منهج الفن الإسلامي، ص 65.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مقالة مرتبطة:

أسلوب القصة في القرآن الکريم - ق 1


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2243
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 05 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24