• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : القرآن والمجتمع .
                    • الموضوع : المجتمع الإنساني في القرآن الكريم - ق 3 .

المجتمع الإنساني في القرآن الكريم - ق 3

 (القسم الثالث)

 

السيد محمد باقر الحكيم

‌‌‌الإنـسان‌ والمجتمع الإنساني هدف أساسي في القرآن الكريم لما حظي به الكائن البشري مـن‌ كـرامة‌ عـند‌ الله، ومكانة في الكون، وقدرة على الخلافة. وسور القرآن الكريم تتناول جوانب شتى مما يـرتبط‌ بالإنسان والمجموعة البشرية في إطار عقائدي تارة، واجتماعي وتاريخي وأخلاقي تارة أخرى.

والأسـتاذ الباحث تناول في‌ الحـلقتين‌ السـابقتين مباحث تمهيدية ودخل في موضوع الاستخلاف وفصّل القول في هذه الحلقة في نظرية خلافة الإنسان على ظهر الأرض.

نظرية الاستخلاف

بعد أن تعرفنا على آراء العلماء المختلفة تجاه‌ الأمور المهمة التي جاءت في هذا المقطع القرآني، لابد لنا من معرفة الجانب الثالث، وهو الصورة الكاملة للآيات الكريمة التي وردت في هذا المقطع القرآني، لنستخلص نظرية استخلاف آدم منها.

صورتان‌ لهذه النظرية:

وهنا توجد عندنا صورتان بينهما كـثير مـن وجوه الشبه:

تصور الشيخ محمد عبده

الصورة الأولى: ذكرها السيد رشيد رضا في تفسيره عن أستاذه الشيخ محمد‌ عبده،‌ حيث يرى أن القصة وردت مورد التمثيل، لغرض تقريبها من تناول أفهام الخـلق لهـا، لتحصل لهم الفائدة من معرفة حال النشأة الأولى.

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفهم‌ كثيراً‌ من جوانب هذه المحاورة والألفاظ التي استعملت فيها، دون أن نتقيد بالمعنى اللغوي العرفي لها.

ولنظرية الشـيخ عـبده أركان أساسية ثلاثة هي:

1 ـ إن الله‌ سبحانه‌ وتعالى‌ أخبر الملائكة بالقرار الإلهي، في‌ أن‌ يجعل‌ في الأرض خليفة عنه يودع في فطرته (الإرادة المطلقة) التي تجعله قادراً على التصرف، حسب قدرته ومـعلوماته التي لا يـمكن أن‌ تصل‌ إلى‌ مرتبة الكـمال.

وعـلى أسـاس هذه الإرادة المطلقة،‌ وهذا‌ العلم الناقص، عرف الملائكة أن هذا الخليفة سوف يسفك الدماء ويفسد في الأرض، لأن ذلك نتيجة طبيعية لما يتمتع‌ به‌ مـن‌ إرادة مـطلقة يـسير بها حسب علمه الذي لا يحيط بجميع‌ جوانب المصالح والمـنافع، الأمـر الذي قد يوجه الإرادة إلى خلاف الحكمة والمصلحة، فيقع في الفساد.

وحين عرف‌ الملائكة‌ ذلك،‌ تعجبوا من خلافة هذا النوع من الخـلق الذي يسفك الدمـاء ويـفسد‌ في‌ الأرض لله تعالى، فسألوا الله سبحانه (عن طريق النطق، أو الحال، أو غير ذلك) أن يتفضل‌ عليهم‌ بإعلامهم‌ عن ذلك وبيان الحكمة لهم.

2 ـ وكان الجواب لهم على‌ ذلك،‌ هو‌ بيان وجوب الخضوع والتسليم، لمـن هـو بـكل شيء عليم، لأن هذا هو موقف جميع‌ المخلوقات‌ تجاهه،‌ لأنه العالم المـحيط بـكل المصالح والحكم.

على أن هذا النوع من الخضوع والتسليم‌ الذي‌ ينشأ من معرفة الملائكة بإحاطة الله بكل شـيء، قـد لا يـذهب الحيرة ولا‌ يزيل‌ الاضطراب،‌ وإنّما تسكن النفس بإظهار الحكمة والسر الذي يختفي وراء الفعل الذي حـصل مـنه تـعجب‌ الملائكة.

ولذلك تفضل الله سبحانه على الملائكة، بأن أوضح لهم السر، وأكمل علمهم‌ ببيان‌ الحكمة‌ في هـذا الخـلق، فأودع في نفس آدم وفطرته (علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا‌ تعيين)‌ الأمر الذي جعل لآدم امـتيازاً خـاصاً استحق به الخلافة عن الله في‌ الأرض.

3 ـ ويظهر هذا الامتياز حين نقارن بين الإنـسان وبـنى المـخلوقات لله سبحانه، فقد نطق‌ الوحي،‌ ودل‌ العيان والاختبار على أن الله تعالى خلق العالم أنواعاً مختلفة، وخص كـل‌ نـوع‌ منها بقدرات ومواهب، ولكن الإنسان مع ذلك يختلف عنها، في أنّه لما منحه الله مـن قـدرات‌ ومـواهب‌ ليست لها حدود معينة لا يتعداها على خلاف بقية المخلوقات.

فالملائكة‌ ـ الذين لا نتمكن من معرفة حـقيقتهم إلاّ‌ عـن‌ طريق‌ الوحي ـ لهم وظائف محدودة ـ كما‌ دلت‌ الآيات والأحاديث ـ فهم يسبحون الله ليـلاً ونـهاراً، وهـم صافون، ويفعلون ما يؤمرون،‌ إلى‌ غير ذلك من الأعمال المحدودة.

وما نعرفه‌ بالنظر‌ والاختبار‌ عن حـال الحـيوان والنـبات والجماد، فإنها‌ بين‌ ما يكون لا علم له ولا عمل كالجماد، أو يكون له عمل‌ معين‌ يختص بـه نـفس دون أن يكون‌ له علم وإرادة، ولو‌ فرض‌ أن له علماً أو إرادة‌ فهما‌ لا أثر لهما في جعل عملهما مبيناً لحكم الله وسنته في الخلق، ولا‌ وسـيلة‌ لبـيان أحكامه وتنفيذها.

فكل‌ حي‌ من‌ الأحياء المحسوسة والغيبية‌ ـ عدا الإنسان ـ له‌ اسـتعداد‌ مـحدود وعلم إلهامي محدود، وما كان كذلك لا يـصلح أن يـكون خـليفة عن الذي‌ لا‌ حد لعلمه وإرادته.

وأما الإنـسان‌ فـقد‌ خلقه الله‌ ضعيفاً‌ وجاهلاً،‌ ولكنه على ضعفه وجهله،‌ فهو يتصرف في الموجودات القـوية، ويـعلم جميع الأسماء بما وهبه الله مـن قـدرة على النـمو‌ والتـطور‌ التـدريجي في إحساسه ومشاعره وإدراكه، فتكون‌ له‌ السـلطة‌ على‌ هذا‌ الكائنات، يخسرها ثم‌ يذللها‌ بعد ذلك كما تشاء قوته الغريبة التي يـسمونها (العقل) ولا يعرفون حقيقتها ولا يدركون كنهها؛ فـهذه‌ القوة‌ نجدها تغني الإنـسان عـن كل ما وهب‌ الله‌ للحـيوان‌ فـي‌ أصل‌ الفطرة‌ والإلهام من الكساء والغذاء والأعضاء والقوة.

فالإنسان بهذه القوة غير مـحدود الاسـتعداد ولا محدود الرغائب ولا محدود العلم ولا مـحدود العـمل.

وكـما أعطاه الله تعالى‌ هـذه المـواهب، أعطاه أحكاماً وشرائع حـدد فـيها أعماله وأخلاقه، وهي في الوقت نفسه تساعده على بلوغ كماله لأنها مرشد للعقل الذي كـان له كـل تلك المزايا.

وبهذا العلم كله‌ اسـتحق‌ الإنـسان خلافة الله في الأرض، هـو التصرف وخلق المخلوقات بـها، ونحن نشاهد في عصرنا آثار هذه الخلافة بما فعله الإنسان من تطوير وسيطرة وتصرف في الكـون.

وحين أودع‌ الله‌ في فطرة آدم عـلى الأشـياء مـن غـير تـحديد، عرض الأشياء عـلى المـلائكة وأطلعهم عليها إطلاعاً إجمالياً، ثم طالبهم بمعرفتها والإنباء بها، وإذا‌ بهم‌ يظهرون التسليم والخضوع والعجز والاعتراف.

وعـند ذلك أمـر الله آدم أن يـنبئهم بالأشياء ففعل، وذلك لتتكشف لهم الحقيقة بأوضح صـورها وأشـكالها.

تـصور العـلامة الطـباطبائي

وأمـا الصورة الثانية‌: فهي التي عرضها العلامة‌ الطباطبائي،‌ وهي تختلف عن الصورة السابقة في بعض الجوانب، وتتفق معها في بعض الجوانب الأخرى، وسوف نقتصر على ذكر جوانب الخـلاف التي سبق أن أشرنا إلى بعضها:

1 ـ إن‌ خليفة‌ الله موجود مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية، والدار دار تزاحم محدودة الجهات وافرة المزاحمات، لا يمكن أن تتم فيها الحياة إلاّ بإيجاد العلاقات الاجتماعية وما يستتبعها من تصادم وتـضاد‌ فـي‌ المصالح والرغبات،‌ الأمر الذي يؤدي إلى الفساد وسفك الدماء.

2 ـ إن آدم استحق الخلافة لقدرته على تحمل‌ السر الذي هو عبارة عن تعلم الأسماء التي هي أشياء حية‌ عاقلة‌ محجوبة‌ تحت حجاب الغيب محفوظة عـند الله، وقد أنزل الله كل اسم في هذا العالم بخيرها وبركتها، واشتق ‌‌كل‌ ما في السماوات والأرض من نورها وبهائها، وإنهم على كثرتهم وتعددهم لا يتعددون‌ تـعدد‌ الأفـراد،‌ وإنّما يتكاثرون بالمراتب والدرجات.

المـوازنة بـين الصورتين

ويحسن بنا أن نوازن بين هاتين‌ الصورتين لنخرج بالصورة الكاملة التي نراها صحيحة، لتصوير هذا الجانب من المقطع‌ القرآني، ولنأخذ النقاط الثلاث‌ التي‌ خـالف فـيها العلامة الطباطبائي الشيخ مـحمد عـبده.

ففي النقطة الأولى: نجد العلامة الطباطبائي على جانب من الحق، كما نجد الشيخ محمد عبده على جانب آخر منه، ذلك لأن العلامة‌ الطباطبائي أكد ما فطر عليه الإنسان من غرائز وشهوات وعواطف مـختلفة ـ وهـذا شيء صحيح أكده القرآن أيضاً ـ لما لهذه الغرائز من تأثير كبير في حركة الإنسان وحصول التزاحم والتنافس‌ في‌ المجتمع الإنساني، الأمر الذي يؤدي إلى الفساد وسفك الدماء، وأساس هذه الغرائز غريزة حـب الذات التي جاءت بـها الأديان السماوية ومنها الإسلام من أجل توجيهها توجيهاً صالحاً، يدفعها إلى تجنب‌ الفساد‌ والسفك للدماء، ولذلك نجد القرآن الكـريم يؤكد دور الهوى ـ الذي يعبر عن طغيان هذه الغرائز ـ في الفساد وسفك الدمـاء.

والشـيخ مـحمد عبده حين يغفل هذا الجانب‌ في‌ حقيقة الإنسان ـ وفي مسألة معرفة الملائكة للفساد، وسفك الدماء في الإنـسان ‌ـ يـؤكد جانباً آخر له دور كبير ـ أيضاً ـ في الفساد وسفك الدماء، وهو الإرادة المطلقة‌ المقرونة‌ بالمعرفة‌ النـاقصة، فـلولا هـذه الإرادة، ولولا‌ هذا‌ النقص‌ في العلم، لما كان هذا السفك والفساد، ولذا لا نرى الفساد وسفك الدماء في عـباد الله المخلصين الصالحين، لأن علمهم بالمصلحة‌ علم‌ كامل‌ مع وجود الغرائز والشهوات فيهم، وكذلك لا نـراه‌ حتّى‌ في عامة المـلائكة، وقـد يكون ذلك إما لعدم وجود الإرادة، أو وجودها ـ والله أعلم ـ مع عدم وجود‌ الشهوات‌ فيها‌ والتضاد بينهم والله العالم.

وعلى هذا الأساس يمكن أن‌ نعتبر كلا الجانبين مؤثراً في معرفة الملائكة لنتيجة هذا الخليفة.

وفي النـقطة الثانية: نجد الشيخ محمد‌ عبده‌ يحاول‌ أن يذكر أن الشيء الذي أثار السؤال لدى الملائكة، هو‌ قضية‌ أن هذا المخلوق المريد ذا العلم الناقص لابد أن يكون مفسداً في الأرض وسافكاً للدماء، ومن‌ ثم‌ فلا‌ مبرر لجعله خليفة مـع تـرتب هذه الآثار والنتائج على وجوده.

وأما‌ العلامة‌ الطباطبائي‌ فهو يحاول أن يذكر في أن الشيء الذي أثار السؤال، هو أن الخليفة لابد‌ أن‌ يكون‌ حاكياً للمستخلفِ (الله) وبدا لهم كأن هذا المخلوق لا يحكي هـذا المـستخلف، لأنه يفسد‌ في‌ الأرض ويسفك الدماء، بخلاف الملائكة أنفسهم، حيث يمكن أن يحكوا المستخلف من خلال‌ تسبيحهم‌ وحمدهم.

وفى هذه النقطة قد يكون الحق إلى جانب العلامة الطباطبائي، وذلك بقرينة أن‌ التفسير‌ والمـبرر الإلهـي، لهذه الخلافة كان من خلال بيان امتياز هذا الخليفة بالعلم، كما‌ قد‌ يفهم‌ من الآية، وأشار إليه الشيخ محمد عبده، مع أن هذا المبرر لا ينسجم مع النقطة‌ التي‌ ذكرها الشـيخ عـبده، لأنـه افترض في أصل إثارة سـؤال المـلائكة وجـود العلم‌ الناقص‌ إلى‌ جانب الإرادة؛ فكيف يكون هذا العلم ـ بالشكل الذي ذكره الشيخ محمد عبده أي‌ علمه‌ بالأشياء‌ وهو علم ناقص على أي حـال ـ جـواباً لهـذا السؤال؟

نعم‌ لو افترضنا أن العلم الذي علمه الله تعالى لآدم، هـو الرسـالات الإلهية الهادية للصلاح والرشاد والحق‌ والكمال‌ ـ كما أشار الشيخ محمد عبده إلى ذلك في نهاية النقطة الثالثة‌ ـ فقد يكون جواباً لسـؤال المـلائكة، لان مـثل‌ هذا‌ العلم‌ يمكن أن يصلح شأن الإرادة والاختيار، الذي‌ أثار‌ المخاوف ويـحد من الفساد وسفك الدماء، ولكن قد يقال: إن هذا خلاف‌ الظاهر،‌ لأن يفهم من ذيل هذا‌ المقطع‌ الشريف: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 38]، إن هذا الهدى الذي هو الرسـالات الإلهـية الهادية،‌ جاء‌ بعد هذا التعليم لآدم.

وأما‌ لو افترضنا أن الذي‌ أثار‌ السؤال لدى الملائكة، هو الإرادة‌ والاختيار‌ فقط ـ كـما اخـتاره أسـتاذنا الشهيد الصدر قدس سره ـ أصبح بيان الامتياز‌ بالعلم‌ والمعرفة جواباً للسؤال وتـهدئة للمـخاوف‌ التـي‌ ثارت‌ لدى الملائكة، لان‌ هذا‌ العلم الذاتي في الإنسان‌ يهدي‌ إلى الله تعالى، ويتمكن هذا الإنسان بـفطرته مـن أن يـسير في طريق التكامل الإرادي،‌ الذي‌ هو أفضل ألوان التكامل.

وأما‌ العلامة‌ الطباطبائي فقد‌ اعتبر‌ الانـتماء‌ إلى الأرض والتـزاحم بين‌ المصالح فيها، هو الذي يؤدي إلى الفساد، ويكون العلم بالأسماء ـ حينئذ ـ طريقاً وعلاجاً‌ لتـجنب‌ هـذه الأخـطار، لأن الأسماء بنظره موجودات‌ عاقلة‌ حية.

وفي‌ النقطة الثالثة: يفترض‌ الشيخ محمد عبده أن العلم هـو الذي جـعل الإنسان مستحقاً للخلافة، وهذا العلم ذو بعدين:

أحدهما‌: العلوم الطبيعية التي يمكن للإنسان أن‌ يـحصل‌ عـليها‌ من‌ خلال‌ التجارب‌ والبحث، والتي يتمكن الإنسان بواسطتها من الهيمنة على العالم المادي الذي يعيش فـيه، كـما نشاهد ذلك في التاريخ وفي عصرنا الحاضر بشكل خاص.

والآخر: العلم‌ الإلهي المـنزل مـن خـلال الشريعة، والذي يمكن للإنسان من خلاله أن يعرف طريقه إلى الكمالات الإلهية، ويشخص المصالح والمفاسد والخير والشر.

وهـذا التـصور يـنسجم مع إطلاق كلمة العلم في‌ الآية‌ الكريمة، ومع فرضية أن الجواب الإلهـي للمـلائكة، إنّما هو تفسير لجعل الإنسان خليفة، لأن الجواب ذكر خصوصية (العلم) كامتياز لآدم على الملائكة.

ما ينسجم هـذا التـصور مع ما أكده القرآن الكريم في مواضع متعددة من دور العقل ومدركاته في حـياة الإنسان، ومسيرته وتسخير الطبيعة له،‌ وكذلك‌ دور الشـريعة في تـكامل الإنسان‌ ووصوله‌ إلى أهدافه.

ولكن هذا التصور نـلاحظ عـليه:

أولاً: ما ذكرناه من أن الشريعة قد افترض نزولها في هذا المقطع الشريف‌ بعد‌ هـذا الحـوار: ﴿...‌ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، إذن فهي ليست من العـلم الأول.

ثـانياً: الظاهر أن الإرادة والاختيار يمثلان ميزة أخرى لآدم والإنسان‌ على‌ الملائكة، على ما يظهر مـن الشـيخ محمد عبده، حيث ذكر: أن هذه الخـصوصية هي التي أثارت مـخاوف المـلائكة وسؤالهم، كما نبهنا عليه وأشـار إليـه الشيخ محمد عبده.

وأما‌ العلامة‌ الطباطبائي فقد‌ افترض أن هذا الاستحقاق للخلافة، إنما كـان بـاعتبار العلم بالأسماء وحده، ولكنه فـسر الأسـماء بـأنها موجودات عاقلة‌ لهـا مـراتب من الوجود، حيث يـمكن مـن خلال العلم بها أن‌ يسير‌ الإنسان‌ في طريق التكامل.

ولكن هذا التفسير فيه شـيء مـن الغموض ولعله يعتمد على بعض المـذاهب الفـلسفية.

‌‌نعم‌؛ هـناك فـرضية تـشير إليها بعض الروايات المـأثورة عن أهل البيت ـ عليهم‌ السلام‌ ـ وسبقت الإشارة إلى ذلك ـ وهي أن هذه الأسماء عبارة عن أسماء الأنبياء والربـانيين‌ والأحـبار، الذين جعلهم الله تعالى شهوداً على البـشرية والإنـسانية واسـتحفظهم عـلى كـتبه ورسالاته.

والظاهر أن هـذه‌ الفـرضية‌ هي التي ذهب إليها أستاذنا الشهيد الصدر قدس سره، في بحثه عن خلافة الإنسان وشهادة الأنـبياء [خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء: الشهيد السيد محمد‌ باقر‌ الصدر]

ولكـن هـاتين الصورتين كانتا على مستوى مدلول هذا المـقطع القرآني الشـريف.

وأمـا لو‌ أردنـا أن نـنظر إلى مبررات الاستخلاف على مستوى آيات الاستخلاف كلها، فقد نرى أمامنا صورة ثالثة أكثر وضوحاً وتفصيلاً، وعناصر تبين مبررات هذه الخلافة.

وهذه الصورة هي: أن الله‌ سبحانه‌ وتعالى خـلق الإنسان وميزه بميزات على بقية المخلوقات في أصل خلقته وهذه الميزات هي: العلم، والعقل، والإرادة، حيث أودع فيه من المواهب والقابليات ما يمكنه من التكامل في المصير‌ إلى‌ الله تعالى بواسطة هذا العـلم والعـقل والإرادة، وبالتوفيق والهدى الإلهي، ما يصل به إلى قاب قوسين أو أدنى في القرب من الله تعالى.

فالعلم: الذي يهدي الإنسان‌ إلى‌ الحق والإيمان بالله تعالى، ومعرفة هذا الوجود في مبدئه ومنتهاه، ومعرفة رسـل الله ورسـالاته وحقوق الله على عباده، من شكر النعم والتزام الطاعة والوفاء بالعهد والميثاق، وهو: ما‌ يسمي‌ بالعقل‌ النظري.

وقد ركز هذا‌ المقطع‌ الشريف‌ من القـرآن الكـريم على خصوصية (العلم) ودوره في هـذا الامـتياز، وفي معالجة السؤال الذي أثاره الملائكة، حول جعل الله تعالى للإنسان خليفة في الأرض، مع أنّه يـتصف بـالخصائص الأخرى التي اتصف بـها الإنـسان.

والعقل: الذي‌ يمكن‌ الإنسان من تمييز المصالح والمفاسد، ويعطيه القدرة على إدراك الأشياء‌ وتمييزها، فبالعقل يدرك الخير، والشر، والصلاح، والفساد، والحسن، والقبيح.

كما أنّه هو الذي يعطى الإنسان القدرة على‌ تسخير‌ المـوجودات‌ التي خلقها الله تعالى، حول هذا الإنسان ومكنه منها بالعقل.

كما‌ أنّه بالعقل يثاب الإنسان ويعاقب، وبه يعبد الإنسان الله تعالى، وهو الذي يوصله إلى تقوى الله‌ تعالى،‌ والاعتصام‌ بحبله، وإدراك سبل النجاة، واجتناب طرق الهـلاك.

فـهو الهداية الذاتـية التي‌ أودعها‌ الله‌ تعالى في الإنسان، واستحق بها هذه الخلافة في الأرض.

وهذا هو ما يسمى (بالعقل‌ العـملي)‌ والفطرة‌ الإنسانية السليمة.

وهذا (العقل) هو جانب من (النفخة الإلهية) التي أودعـها الله تـعالى‌ في‌ الإنسان، عندما خلقه وأمر الملائكة بالسجود له، كما أن (العلم) الذي تحدث عنه‌ هذا‌ المقطع‌ الشريف، وغيره مـن ‌الآيـات [﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾‌ [العلق‌ / 1 ـ5]. وقال تـعالى: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن / 1 ـ 4]، يمثل الجانب الآخر لهذه النفخة.

قال تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر / 29]، وبدون العقل يصبح الإنسان كالأنعام،‌ إن‌ لم‌ يكن أشر منها وأضل سبيلاً.

قال تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الأنفال / 22]

وبذلك يتميز الإنسان عن الحيوانات التي تشترك معه في‌ الشهوات‌ واللذات وفي وجود الحواس لديـه.

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف‌ / 179]

كما أن حواس‌ الإنسان‌ تصبح مـعطلة وغـير قادرة على‌ أداء‌ وظيفتها الإنسانية‌ التكاملية‌ في‌ فهم الحياة وآثارها ونتائجها، عندما يفقد‌ الإنسان‌ خصوصية العقل، فيصاب بالعمى الحقيقي.

قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج / 46]

ويبدو من القرآن الكريم أن هناك علاقة بين العلم والعقل‌ تتمثل‌ في أن العقل والفهم والفقه‌ من‌ صفات‌ العلم، ومن آثار‌ ونـتائجه.

قـال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت‌ / 43]

وقد ورد في الحديث عن علي‌ ـ عليه السلام ـ أنّه قال: (العقل‌ أصل العلم‌ وواعية‌ الفهم)‌ [غرر الحكم 1/ 102، بـرقم 1980، ط الاعـلمي]، وقال ـ عليه‌ السلام ـ: (العقل مركب العلم) [غرر الحكم 1/ 42، بـرقم 866، ط الاعـلمي]

ويـظهر مـن الأحـاديث الواردة عن أهل البيت ـ عليهم‌ السـلام ـ، أن أفـضل شـيء وهبه‌ الله‌ تعالى‌ للإنسان‌ في‌ أصل خلقته هو‌ العقل،‌ فقد روى الكليني بطريق صحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جـعفر البـاقر عليه السلام، قال (لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: وعزتي وجـلالي مـا خـلقت‌ خلقاً‌ هو أحب إلى منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إيـاك آمر وإياك أنهى وإياك أعاقب وإياك أثيب) [الكافي 1 / 10 ـ ح 1].

ولعل هذا العقل أو بعض درجاته العالية، هو الذي‌ وصل‌ إليه آدم في جـنة الأولى التي أسكنه الله تعالى فيها، وابتلاه واختبره بالتكاليف الإلهية عندما نهاه وزوجه عـن أكـل الشجرة فأكلا منها فبدت‌ لهما‌ سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من‌ ورق‌ الجنة، حيث وجدت عنده قـدرة التـمييز بـين الحسن والقبيح على ما يظهر من القرآن الكريم، والله سبحانه أعلم.

3 ـ والإرادة: هي‌ الحـرية‌ التي تـمثل الميزة والخصوصية‌ الثالثة‌ التي يختص بها الإنسان من بين المخلوقات، وهي تعني الإرادة والاختيار في أن يـسلك طـريق الهدى والصلاح والشكر لله تعالى، فتتطابق إرادته السلوكية مع الإرادة التشريعية لله تعالى فيصل إلى‌ الجنة‌ ورضـوان الله تـعالى، أو يختار طريق الضلال والفساد والكفر بالله تعالى، فتختلف إرادته السلوكية مع إرادة الله التشريعية، فـيسقط في مـهاوى النار.

وهذه الحرية تؤهل الإنسان إلى الامتحان والفتنة‌ والاختبار‌ فيتكامل بذلك،‌ كما تجعله أمام المـسؤولية الإلهـية والعقاب والثواب، عندما يكون كامل العقل والعلم بلطف الله تعالى.

وبهذه‌ الحرية يواجه الإنـسان جـهاد النـفس، وجهاد العدو، ويتحمل المصاعب والآلام من‌ أجل‌ الأهداف‌ الكبرى. كما أن الإنسان بهذه الحرية، يكون ‌‌فـي‌ مـوضع خطر السقوط والفساد، وسفك الدماء والوقوع تحت تأثير الهوى والشهوات.

وهذه‌ الإرادة‌ هـي‌ نـفخة مـن الصفات الإلهية، التي اتصف بها الله تعالى، ويمكن أن تعبر عنها الآية الكريمة‌ التي تحدثت عن النـفخ فـيه مـن روح الله.

ولكن مع ذلك نجد‌ أن آيات الاستخلاف تحدثت‌ عن‌ هذه الصفة ـ أيضاً ـ مـثل مـا سبق من آية سورة يونس، وفاطر، وغيرهما.

كما أن القرآن الكريم تحدث عن هذه الحرية في خـلق الإنـسان، وقانون الابتلاء الذي يتعرض لها‌ في أصل هذا الخلق.

قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2]

وقوله تـعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنـسان 2 ـ 3]

وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ﴾ [البـلد‌ 4 ـ 12]

وقوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ..﴾ [الكهف: 29]

وقد أشير إلى هـذا الاختيار في هذا المـقطع الشـريف في قضية النهي عن أكـل الشـجرة، وفي آخره؛ بقوله تعالى: ﴿... فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 38 ـ 39]

وهـذه العناصر والميزات الثلاثة، هي التي استحق بها الإنسان الخلافة من الله تعالى، كما تحمل بـها المـسؤولية‌ العظيمة‌ في‌ العهد والميثاق، وأصبح الإنـسان فـيها مؤتمناً عـلى هـذا العـهد والميثاق؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف 172 ـ 173]

وقال تعالى‌: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]

ثم منح الله تـعالى هـذا الإنـسان المـواهب والقـابليات والصـفات التي هي‌ من‌ الصفات‌ ذات الطبيعة التكاملية والتي تتصف بالزيادة والنقصان، والشدة والضعف، من دون أن تكون محدودة‌ بحد.

وابتلاه بالهوى والشهوات والميول والغرائز، وجعل طريقه إلى الله تعالى في التكامل‌ والقـرب‌ منه،‌ مقروناً بالكدح والبأساء والضراء والفتنة والاختبار؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق‌: 6 ـ 13]

وقد وضع الله‌ سبحانه‌ ذلك‌ وفق نظام محكم تتأثر فيه الإرادة الإنسانية بالأوضاع الكـونية المـحيطة بها، ولكن دون أن تفقد فيها دورها في الاختيار،‌ كما‌ تتأثر الأوضاع الكونية المحيطة بالإنسان، بالإرادة الإنسانية.

وتتداخل فيه المسيرة السلوكية‌ الفردية‌ للإنسان بالمسيرة الاجـتماعية له، بحيث تنعكس آثار‌ كل‌ مـنهما‌ عـلى المسيرة الأخرى، دون حيف أو ظلم،‌ فيتكامل‌ المجتمع أو يتسافل بسبب الأوضاع النفسية للأفراد، وتنسحب الأوضاع الاجتماعية للجماعة على الأفراد،‌ حتّى لو كانوا خارج دائرة المسؤولية‌ المباشرة‌ لهذه الأوضـاع،‌ قـال‌ تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ و﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال‌: 25 ، 53]

وعلى أساس‌ هذه‌ الحقائق في هذه الصورة، نـجد القـرآن الكريم يثبت الآثار والنتائج لهذه الحقائق، على‌ أنها‌ حقائق ثابتة وباقية في حياة‌ الإنسان،‌ وموجبة‌ للتفاضل والتمييز، دون‌ غيرها‌ مما يزول ويرتبط بمرحلة‌ معينة‌ من وجوده.

فأثر العلم هو الإيـمان بـالله تعالى، وهـو حقيقة باقية في حياة‌ الإنسان،‌ كما أن أثر الظن والوهم والأماني،‌ هو‌ الكفر والضلال‌ وهو‌ حقيقة‌ باقية في حياة الإنسان.

وأثر العقل هو التقوى لله تعالى، وهي حقيقة باقية في حـياة الإنـسان، توجب التفاضل‌ والتكريم،‌ وأثر الجهل هو الفسوق والتمرد... [ورد‌ عن‌ الإمام‌ الصادق‌ ـ عـليه‌ السـلام ـ حـديثاً يعدد فيه جنود العقل وجنود الجهل، فراجع الكافي 1/20 ـ 23، ح 14]

وأثر‌ الحرية‌ والإرادة‌ والإحساس‌ بالمسؤولية، الجهاد في‌ سبيل‌ الله والكدح في ‌مـجاهدة النفس وأعداء الله، وفي مقابل ذلك العبودية للهوى والشهوات والوقوع في أسرها، والأثقال في أغلالها، والخـتم على السمع والقلب، والغشاوة‌ على البصر، وفقدان الرؤية، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجـاثية: 23]

معنى الخلافة

وأما الخلافة التي استحقها هذا الإنسان بهذه المواصفات، فالظاهر منها ـ كما ذكرنا ـ هو الخلافة لله تعالى في الأرض، ولكن بمعناها الواسع، بحيث تشمل جميع‌ الأبعاد‌ والصور والاحتمالات التي ذكرت في بيان المذهب الثالث.

1 ـ فهي خلافة لله تعالى في الحكم والفصل بين العباد، عند الاختلاف والنـزاع،‌ وهو‌ ما اختص بـه الله تـعالى الأنبياء‌ والربانيين والأحبار من بين الناس، كما ورد ذلك في قوله تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ..﴾ [ص: 26]

وكذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ...﴾ [المـائدة: 44]

فهي‌ خلافة شهادة على الناس، وفصل للنـزاع والخلاف، وقطع لمـادة الفـساد، ولعل هذا النوع من الخلافة، هو الذي أشار إليه القرآن الكريم في المقطع الشريف في جواب سؤال الملائكة وإثارتهم لقضية‌ الفساد‌ وسفك الدماء،‌ على ما تشير إلى ذلك بعض روايات أهل البـيت ـ عـليهم السـلام [نور الثقلين 1 / 50 ـ 51، ح 80‌ و ‌‌54،‌ ح 87]، وبوجود هذا النوع من‌ النـاس يفسر استحقاق الإنسان لهذه الخلافة من ناحية، ويعالج المخاوف التي أثارها‌ الملائكة‌ من‌ ناحية أخرى.

2 ـ وهي خلافة ـ أيضاً ـ في عـمارة الأرض واسـتثمارها من‌ إنبات الزرع وإخراج الثمار والمعادن وتفجير المياه وشـق الأنـهار، وغير ذلك.

ولعل‌ أكثر موارد استعمال (خلائف،‌ وخلفاء،‌ واستخلاف) أريد منه هذا النوع من الاستخلاف، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: 74]

3 ـ وهي خلافة لله تعالى في الأرض في السلوك والعمل: في علاقته مع الله تعالى، ومع أخـيه الإنـسان، ومـع الطبيعة والكون المحيط به، حيث‌ ـ مع حريته والاختيار في إرادته ـ يـكون مـسؤولاً أن يعمل في ذلك بما يوافق المصلحة والحق والعدل، وينسجم مع ما جاء من الله تعالى من هدى ونـور وأوامـر ونـواه، تتطابق‌ مع‌ المصالح والمفاسد الواقعية، قال تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الحديد: 7]

وقال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 14]

فالإنسان ـ وإن كان حراً في التصرف والانتخاب ـ يكون مسؤولاً عن سلوكه أمـام الله تـعالى، لأنه مستخلف فيه من قبل الله، وعليه أن‌ يمثل‌ المستخلف،‌ كما أنّه هـو المـسؤول عـن‌ أداء‌ هذه‌ الشؤون وتنظيمها، لأن ذلك هو طبيعة الاستخلاف فيها.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2169
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 08 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24