• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : القرآن والمجتمع .
                    • الموضوع : المجتمع الإنساني في القرآن الكريم - ق 2 .

المجتمع الإنساني في القرآن الكريم - ق 2

 (القسم الثاني)

 

السيد محمد باقر الحكيم

‌‌‌الإنـسان‌ والمجتمع الإنساني هدف أساسي في القرآن الكريم لما حظي به الكائن البشري مـن‌ كـرامة‌ عـند‌ الله، ومكانة في الكون، وقدرة على الخلافة. وسور القرآن الكريم تتناول جوانب شتى مما يـرتبط‌ بالإنسان والمجموعة البشرية في إطار عقائدي تارة واجتماعي وتاريخي وأخلاقي تارة أخرى.

والأسـتاذ الباحث بدأ الحلقة‌ الأولى بـمباحث تمهيدية ثم يتناول في هذه الحلقة موضوع استخلاف الإنسان في الأرض.

خلافة آدم والإنسان

تمهيد

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

* قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 30 ـ 39]

هـذه‌ الآيـات‌ العشر تتحدث عن قضية استخلاف الله سبحانه لآدم على الأرض، وهو استخلاف للنوع الإنساني في الأرض ـ كما سوف‌ نعرف‌ ذلك‌ ـ وقضية الاستخلاف هذه تـشتمل عـلى جـانبين وفصلين:

الفصل‌ الأول: يتناول معنى الاستخلاف، والحكمة، والعلة فـيه ومـبرراته، وهذا الجانب من قصة آدم يشير إليه القرآن الكريم في‌ عدة‌ مواضع،‌ ولكن أكثرها تفصيلاً ووضوحاً الآيات الأربع الأولى من هـذا المـقطع الشـريف،‌ وذلك‌ لأن جميع آيات الاستخلاف تتحدث عن هذا الموضوع ـ أيضاً ـ إلا أنـها تتحدث عن استخلاف‌ الإنسان‌ عموماً،‌ مثل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 165]

وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا﴾ [فاطر:‌ 39]

وقـوله تـعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 13‌ ـ 14].

وقوله تـعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]

وسـوف نـلاحظ أن هذه الآيات الكريمة‌ الأخرى‌ تكمل‌ الصورة في فهم هذه الخلافة ومبرراتها، التي لا تـختص بـشخص آدم.

والفـصل الثاني: يتناول مسيرة‌ الخلافة‌ من‌ الخلق إلى الأرض، والعملية التي تم بها إنجاز هذا الاسـتخلاف خـارجاً، وهذا‌ الجانب‌ تحدث عنه القرآن في مواضع متعددة منها ما ورد في هذا المـقطع الشـريف مـن سورة البقرة‌ من‌ الآية 30 إلى 39، ومنها ما ورد في سورة الأعراف من قوله‌ تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 10 ـ 27]

وكـذلك مـا ورد في سورة طه في الآية 115 ـ 123، وغـيرها مـن الآيـات، ولابـد مـن‌ دراستها‌ بشكل عـام.

الفـصل الأول

فى مبررات الخلافة والحكمة في استخلاف آدم (عليه السلام)

إن ما يعنينا من دراسته في هذا الفصل، هو‌ الآيـات‌ الأربـع الأولى مـن هذا المقطع‌ القرآني‌ الشريف، والآيات الأخرى المـشابهة السـابقة. والبـحث فـيها، ومـا تـضمنته من معلومات ومفاهيم، وله عدة جوانب:

الأول:‌ تحديد‌ الموقف العام تجاه دراسة‌ هذه‌ الآيات من هذا المقطع القرآني، وتصوير ما يعنيه القرآن الكريم منها.

الثاني: تحديد الموقف القـرآني والإسلامي تجاه بعض المفاهيم التي جاءت في هذا المقطع، بالشكل الذى ينسجم مع المسلمات‌ القرآنية،‌ والظهور اللفظي لهذا المقطع بالخصوص.

وقد اختص هذان الأمران بهذا المقطع، لما ذكرناه من وضوحه وتـفصيله.

الثـالث: بيان الصورة الكاملة حول الاستخلاف، التي يمكن استفادتها من مجموع الآيات‌ القرآنية‌ الشريفة المتشابهة.

وفيما يتعلق بالجانب الأول نجد الشيخ محمد عبده تبعاً لبعض الدارسين المتقدمين يذكر رأيين مختلفين بـحسب‌ الشـكل وأن كانا يتفقان في النهاية، حسب ما يقول

الرأي‌ الأول:‌ هو‌ الذى سار عليه السلف واختاره الشيخ محمد عبده نفسه أيضاً، حيث يقول: «وأما ذلك الحوار في الآيـات ‌‌فهو‌ شأن من شؤون الله مـع مـلائكته، صوره لنا في هذه الفصول بالقول والمراجعة‌ والسؤال‌ والجواب،‌ ونحن لا نعرف حقيقة ذلك القول، ولكننا نعلم أنّه ليس كما يكون منا، وأن هناك‌ معاني قصدت إفـادتها بـهذه العبارات، وهى عبارة عـن شـأن من شؤونه تعالى قبل‌ خلق آدم وأنه كان‌ يعد‌ له الكون، وشأن مع الملائكة يتعلق بخلق نوع الإنسان، وشأن آخر في بيان كرامة هذا النوع وفضله» [المنار: 1 ـ 254]

والرأي الثاني: الرأي الذي سار عليه الخلف من المـحققين وعـلماء الإسلام الذين بذلوا‌ جهدهم في دراسة القرآن والتعرف على مقاصده وتأويله على أساس العقل، فإذا جزم العقل بشيء وورد النقل خلافه، يكون حكم العقل القطعي قرينة على أن‌ النقل لا يـراد بـه ظاهره، حـيث يرون أن هذه القصة بمواقفها المختلفة إنّما جاءت على شكل التمثيل ومحاولة تقريب النشأة الآدمية الإنسانية وأهميتها وفـضيلتها، وأن جميع المواقف والمفاهيم التي جاءت‌ فيها‌ لا يمكن فهم حقيقة المعاني والأهـداف التي قـصدت منها، بل يأتينا الله في ذلك ما يقرب المعاني من عقولنا ومخيلتنا [المنار: 1 ـ 255]

فالرأي الأول والثاني وإن كانا يلتقيان في حقيقة‌ تـنزيه‌ ‌الله سـبحانه وتعالى وعالم الغيب عن مشابهة المخلوقات المادية المحسوسة في مثل هذه المشاهد والمـواقف المـختلفة، وكـادا يتفقان ـ أيضاً ـ في الأهداف والغايات العامة المقصودة من هذا المقطع‌ القرآني،‌ ولكنهما‌ مع ذلك يختلفان في إمكانية‌ تحديد‌ بعض‌ المفاهيم التي وردت في المقطع، كما سوف يتضح ذلك عند معالجتنا للمـقطع القرآني من جانبه الآخـر.

وفـيما يتعلق بالجانب الثاني‌ نجد‌ السلف‌ ـ انسجاماً مع موقفهم في الجانب الأول ـ يقفون‌ من دراسة المقطع موقفاً سلبياً، ويكتفون ـ في بعض حالات الانفتاح ـ بذكر الفوائد الدينية التي تترتب على ذكر‌ القرآن‌ لهذا‌ المـقطع القرآني «المتشابه« الذي لا يمكن فهم حقيقة المعاني فيه.

وقد أشار الشيخ محمد عبده إلى بعض هذه الفوائد، ونكتفي بذكر فائدتين منها:

الأولى: أن الله‌ سبحانه‌ وتعالى‌ في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حـكمته في صنعه‌ وما‌ يخفى عليهم من أسراره في خلقه [وهذا يعني‌ توجيه‌ الإنسان‌ للبحث والتدبر في خلق الإنسان والكون].

الثانية: أن الله لطيف بعباده‌ رحيم‌ بهم،‌ يعمل على معالجتهم بوجوه اللطـف والرحـمة، فهو يهدي الملائكة في حيرتهم ويجيبهم عن سؤالهم‌ عندما‌ يطلبون‌ الدليل والحجة بعد أن يرشدهم إلى واجبهم من الخضوع والتسليم: ﴿... إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ...﴾ [البقرة: 30 ـ 31،‌ المنار 1/254 ـ 255].

وأمـا الخـلف فقد حاولوا‌ إيضاح‌ المفاهيم‌ التي وردت في هذا المقطع القرآني ليتجلى بذلك معنى استخلاف الله سبحانه وتعالى لآدم.

وعلى أساس منهج الخلف نرى في المقطع القرآني عدة مواضيع للحديث ترتبط بـقضية‌ الاسـتخلاف،‌ يـحسن‌ بنا الإشارة إليها، والوقوف عـندها، ثـم الحـديث عن المعنى العام للمقطع القرآني:

1 ـ الخلافة‌

الخليفة بحسب اللغة: من خلف من كان قبله، وقام مقامه، وسد‌ مسده،‌ وتستعمل‌ ـ أيضاً ـ بـمعنى النـيابة [مفردات الراغب: مـادة (خلف)]، ومـن هذا المنطلق يطرح هذا السؤال: لماذا سمي آدم خـليفة‌؟ ومـا‌ هو المضمون القرآني لهذا اللفظ؟

توجد هنا عدة مذاهب:

الأول:‌ أن‌ آدم سمي خليفة لأنه خلف مخلوقات الله سبحانه في الأرض، وهـذه المـخلوقات إمـا أن تكون ملائكة‌ أو‌ يكونوا الجن الذين كانوا قد أفسدوا في الأرض وسـفكوا فيها الدماء، كما‌ روي‌ عن ابن عباس، أو يكونوا آدميين آخرين‌ قبل‌ آدم‌ هذا [التـبيان‌ للطـوسي‌ 1: 131]

الثاني: أنّه سمي‌ خليفة‌ لأنه وأبناءه‌ يخلف‌ بعضهم‌ بعضاً، فهم مـخلوقات تـتناسل ويخلف بعضها‌ البعض‌ الآخر، وقد نسب هذا المذهب إلى الحسن البصري [التـبيان‌ للطـوسي‌ 1: 131]

الثالث: أنّه سمي‌ خليفة‌ لأنه يـخلف الله سـبحانه في الأرض.

وفي تفسير هذه‌ الخلافة‌ لله سبحانه وارتباطها بالمعنى اللغوي‌ تعددت‌ الآراء واختلفت، ومـن أهـم هـذه الآراء:

أ ـ أنّه يخلف الله في‌ الحكم‌ والفصل بين الخلق، لأن الله‌ قد‌ أعطاه‌ حق القضاء وحل‌ الاخـتلافات،‌ وهـو المـروي عن ابن‌ مسعود‌ [التـبيان‌ للطـوسي‌ 1: 131]

ب ـ يخلف الله سبحانه في عمارة الأرض واستثمارها، من إنبات الزرع، وإخراج‌ الثمار،‌ وشـق الأنـهار، وغير ذلك [التـبيان‌ للطـوسي‌ 1: 131]

ج ـ يخلف الله‌ سبحانه‌ في‌ العلم بالأسماء، كما ذهب‌ إلى ذلك العلامة الطباطبائي [الميزان 1: 118]

د ـ يخلف الله سـبحانه في الأرض بـما نفخ الله‌ فيه‌ من روحه ووهبه من قوة غير‌ محدودة،‌ سواء‌ في‌ قابليتها‌ أو شـهواتها أو‌ عـلومها،‌ كما ذهب إلى ذلك الشيخ محمد عبده [المنار 1: 260]

ولعل المذهب الثالث من هذه المذاهب الثلاثة، هـو‌ الصـحيح،‌ لظـهور‌ النص القرآني فيه، ولما ذكرته بعض الروايات‌ الواردة‌ عن‌ أهل‌ البيت‌ (عليهم‌ السلام) بهذا الشأن [نور الثقلين 1: 51، «إني جاعل في الأرض خليفة لي عليهم فيكون حـجة لي عـليهم في أرضي على خلقي»]

ويكون ما ذكر في القول الأول والثاني، إنّما هو‌ من‌ آثار هذه الخلافة ومـترتباتها كـما يـمكن أن ما ذكره الشيخ محمد عبده في القول الرابع هو بيان السر في مـنح الإنسان هذه الخلافة، لأنه يتميز بهذه المواهب والقوى والقابليات،‌ ولا‌ يمثل رأياً قبال الآراء الأخرى في تفسير مـعنى الخـلافة، وإنّما هو بيان السر والعلة لهذه الخلافة.

وبذلك يمكن أن نجمع بين هـذه‌ الأقـوال.

2 ـ كيف عرف‌ الملائكة‌ أن الخليفة يفسد في الأرض

لقـد ذكـر المـقطع القرآني أن جواب الملائكة على إخبار الله تعالى لهـم بـجعل آدم خليفة في الأرض، أنهم تساءلوا‌ عن‌ سبب اصطفاء هذا المخلوق،‌ ووصفوه‌ بأنه يـفسد في الأرض ويسفك الدماء، فكيف عرف المـلائكة هـذه الصفة في هـذا الخـليفة؟

وهنا عدة آراء:

الأول: أن الله سبحانه وتعالى أعلمهم بـذلك، لأن المـلائكة لا يمكن‌ أن‌ يقولوا هذا القول رجماً بالغيب وعملاً بالظن [لتبيان 1: 132]، فلابد لهم مـن العـلم ؛ والعلم مصدره الله تعالى، غاية الأمر أن هـذا الإعلام لم يذكر في الآيـات الشـريفة، وإنما تم بطريقة‌ ما‌ فـكأنه تـعالى قال: إني جاعل في الأرض خليفة يكون من ولده إفساد في الأرض وسفك الدماء.

الثاني: أنـهم‌ قـاسوا ذلك على المخلوقات التي سبقت هـذا الخـليفة ـ مـن الآدميين‌ أو‌ الجن‌ ـ الذي سـوف يـقوم مقامها، كما يشير إلى ذلك بـعض الروايـات ‌‌والتفاسير،‌ فعن ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة: إنّما أخبروا بذلك عن ظنهم وتـوهمهم لأنـهم‌ رأوا‌ الجن‌ من قبلهم قد أفسدوا في الأرض وسـفكوا الدماء فـتصوروا أنـّه إن اسـتخلف غيرهم كانوا مثلهم [لتبيان 1: 132]

وإلى مثل هـذا تشير بعض الروايات، مثل ما رواه العياشي، عن الصادق (عليه‌ السلام) قال: «ما علم‌ الملائكة‌ بـقولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ لولا أنـهم قـد كـانوا رأوا مـن يفسد فيها ويـسفك الدمـاء» [لبحار 11 / 117، ح 47]

الثالث: أن طبيعة الخلافة تكشف عن ذلك بناء على الرأي الأول من‌ المذهب الثالث في معنى الخلافة، حيث أن الفصل والحـكم يـفترض وجـود الاختلاف والنزاع، ولازمه الفساد في الأرض وسفك الدمـاء.

الرابـع: أن طـبيعة الخـليفة نـفسه تـقتضي ذلك، وهنا رأيان:

أ ـ إن المزاج المادي والروحي لهذا المخلوق الذي يريد أن يجعله الله خليفة، والأساس الاجتماعي للعلاقات الأرضية التي سوف تحصل بين أبناء هذه المخلوقات، هي التي جعلت الملائكة يـعرفون ذلك، يقول‌ العلامة‌ الطباطبائي: «إن الموجود الأرضي بما أنّه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية والدار دار التزاحم محدودة الجهات وافرة المزاحمات، مركباتها في معرض الانحلال وانتظاماتها واصطلاحاتها مظنة الفساد ومصب البطلان،‌ لا‌ تـتم الحـياة فيها إلاّ بالحياة النوعية ولا يكمل بالبقاء فيها إلاّ بالاجتماع والتعاون فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء» [الميزان 1/ 115و119، والتفسير الكـبير 1: 121]

ب ـ إن الإرادة الإنسانية بما أعطيت من اختيار‌ يتحكم‌ في‌ توجيهه العقل بـمعلوماته الناقصة، هي‌ التي‌ تؤدي‌ بالإنسان إلى أن يفسد في الأرض ويسفك الدماء،‌ قال‌ محمد عبده: «أخبر الله الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة، نفهم من ذلك أن الله يودع في فـطرة هـذا‌ النوع‌ الذي‌ يجعله خليفة أن يـكون ذا إرادة مـطلقة واختيار في عمله‌ غير محدود، وإن الترجيح بين ما يتعارض من الأعمال التي تعن له تكون بحسب علمه، وإن العلم إذا‌ لم‌ يكن‌ محيطاً بوجوه المصالح والمنافع فـقد يـوجه الإرادة إلى خلاف المصلحة والحكمة،‌ وذلك‌ هـو الفساد، وهو معين لازم الوقوع، لأن العلم المحيط لا يكون إلا لله تعالى» [المنار 1: 256]

ويبدو‌ أن‌ الرأي‌ الأول هو الصحيح، حيث إنه تعالى لابد وأنه قد أعلم الملائكة بذلك،‌ ولو‌ عن‌ طريق إعلامهم بحال وطبيعة هذا المخلوق الذى يـنتهي بـه الحال إلى هذه النتائج.

وأما‌ ما بين‌ من هذه الطبيعة فلعل الصحيح هو بيان أمرين:

أحدهما: الخصوصية المادية الغضبية والشهوية،‌ التي‌ أشار إليها العلامة الطباطبائي وهي الهوى في طبيعة هذا الخليفة.

والآخـر: هـو‌ أن‌ هـذا‌ الإنسان مريد ومختار يعمل بإرادته، كما ذكر الشيخ محمد عبده، ويمكن أن نفهم ذلك‌ من‌ قرينة قول المـلائكة: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾، حيث أن هذا التسبيح والتقديس‌ أمر‌ لازم‌ في المـلائكة لا ينفك عنهم؛ لأنهم غير مختارين، بل يفعلون ما يؤمرون، بخلافه في‌ الإنسان‌ باعتبار إرادته، الأمر الذي استدعى التـوضيح ‌الإلهـي، الذي يشتمل على بيان الخصوصية‌ التي‌ تجعل‌ هذا الموجود مستحقاً لهذه الخلافة وهو العـلم.

وقـد تـحدث القرآن الكريم في وصف الإنسان‌ بكلتا‌ الخصوصيتين‌ والصفتين، فقد قال تعالى في وصف‌ الإنـسان‌ في خصوصيته المادية: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران: 14].

كما‌ تحدث‌ عن اختياره فقال: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان:‌ 2 ـ 3]

3 ـ الأسماء

والأسـماء من المفاهيم التي‌ وقع‌ الخلاف فيها بين علماء التفسير‌ حول‌ حقيقتها والمراد‌ منها،‌ والآراء‌ فيها تسير في الاتجاهين التاليين:

الأول:‌ أن المراد من الأسماء الألفاظ التي سمى الله سبحانه بها ما خلقه‌ من‌ أجناس وأنـواع المـحدثات وفي جميع اللغات،‌ وهذا الرأي هو المذهب‌ السائد‌ عند علماء التفسير، ونسب إلى‌ ابن‌ عباس، وبعض التابعين [المنار 1: 262]

وينطلق أصحاب هذا المذهب من فكرة أن الله سبحانه‌ كان‌ قد علم آدم جميع اللغات‌ الرئيسة‌ ؛ وقـد كـان ولده‌ على‌ هذه المعرفة، ثم تشعبت‌ بعد‌ ذلك واختص كل جماعة منهم بلغة غير لغة الجماعة الأخرى.

الثاني: أن المراد‌ من‌ الأسماء: المسميات، أو صفاتها وخصائصها، لا‌ الألفاظ،‌ وحينئذ فنحن‌ بحاجة‌ إلى‌ القـرينة القـرآنية أو العقلية‌ التي تصرف اللفظ إلى هذا المعنى الذى قد يبدو أنّه يخالف ظاهر الإطلاق القرآني لكلمة‌ «الأسماء» الدالة على الألفاظ.

والقرينة الدالة على استعمال لفظ «الأسماء» في «المسميات»، يمكن‌ أن‌ نـتصورها‌ في الأمـور التالية:

أ ـ كلمة «علم»‌ التي‌ تدل‌ عـلى‌ أن‌ الله‌ سبحانه منح آدم «العلم» وبما «أن العلم الحقيقي إنّما هو إدراك المعلومات أنفسها، لأن الألفاظ الدالة عليها تختلف باختلاف اللغات التي تجرى بالمواضعة والاصطلاح فهي تـتغير وتـختلف،‌ والعـلم الحقيقي بالشيء لا يتغير، وهذا بخلاف المعنى فإنه لا تـغيير فـيه ولا اختلاف» [المنار 1 / 262] ، فلابد أن يكون هو المسميات التي هي المعلومات الحقيقية.

ب ـ قضية التحدي المطروحة‌ في‌ الآيات الكريمة، ذلك أن الأسماء حين يقصد مـنها الألفـاظ واللغـات، فهي إذن من الأشياء التي لا يمكن تحصيلها إلا بالتعليم والاكتساب، فلا يـحسن تحدي الملائكة بها، إذ لا دلالة‌ في‌ تعليمها آدم على وجود موهبة خاصة فيه يتمكن بها من معرفة الأسماء، بل علمها بـالتعليم الذي كـان يـمكن للملائكة أن يعلموا من خلاله،‌ وهذا‌ على خلاف ما إذا قلنا:‌ إن‌ المـقصود مـنها المسميات، فإنها مما يمكن إدراكه ـ ولو جزئياً ـ عن طريق إعمال العقل الذي يعد موهبة خاصة، فيكون لمعرفة آدم بـها دلالة‌ عـلى‌ مـوهبة خاصة منحه الله‌ إياها.

قال الطوسي: «إنّ الأسماء بلا معان لا فائدة فيها ولا وجـه لإيـثاره الفـضيلة بها» [التبيان 1/138]

وقال الرازي: «وذلك لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات البتة، بل ذلك لا‌ يحصل‌ إلاّ بالتعليم، فإن حصل التـعليم حـصل العـلم به وإلا فلا، أما العلم بحقائق الأشياء، فالعقل متمكن من‌ تحصيله‌ فصح وقـوع‌ التـحدي فيه» [التـفسير‌ الكـبير 2 /176]

ج ـ عجز الملائكة عن مواجهة التحدي، لأن هذه الأسماء لو كانت ألفاظاً لتوصل‌ الملائكة إلى مـعرفتها بـإنباء آدم لهـم بها، وهم بذلك يتساوون مع‌ آدم‌ فلا‌ تبقى له مزية وفضيلة عليهم، فلابد لنا مـن أن نـلتزم بأنها أشياء تختلف مراتب العلم بها، الأمر ‌‌الذي‌ أدى إلى أن يعرفها آدم معرفة خاصة تختلف عـن مـعرفة المـلائكة لها حين‌ إخباره‌ لهم‌ بها، وهذا يدعونا لأن نقول إنها عبارة عن المسميات لا الألفاظ.

قال العـلامة الطـباطبائي‌ بصدد شرح هذه الفكرة: «إن قوله تعالى: ﴿...وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ...﴾،‌ يـشعر بـأن هـذه الأسماء‌ ـ أو إن مسمياتها ـ كانت موجودات أحياء عقلاء محجوبين تحت حجاب الغيب، وإن العلم بأسمائهم كان غير العـلم الذى عـندنا بـأسماء الأشياء، وإلا كانت بإنباء آدم إياهم بها عالمين بها وصائرين‌ مثل آدم مساوين معه» [الميزان 1 / 117]

ولكـن مـا هي العلاقة المعنوية التي صححت استعمال لفظ «الأسماء» مجازاً من «المسميات»؟

وحين يصل أصحاب هذا الاتـجاه إلى هـذه النقطة نجدهم يحاولون أن يتعرفوا‌ على‌ هذه العلاقة ويذكرون لذلك قرائن متعددة:

1 ـ فالرازي يـرى هـذه المناسبة والعلاقة في مصدر اشتقاق الاسم، فـإن هـذا الاشـتقاق إما أن يكون من السمه أو السمو «فإن كـان‌ مـن‌ السمة كان الاسم هو العلامة، وصفات الأشياء خصائصها دالة على ماهياتها، فصح أن يكون المراد مـن الأسـماء: «الصفات». وإن كان من السمو فـكذلك، لأن دليـل الشيء كـالمرتفع على ذلك الشيء، فان العلم بـالدليل حـاصل قبل العلم بالمدلول» [الميزان 1 / 117]، والصفات تدل على الموصوف، وهي كالظاهر المرتفع بالنسبة إلى الشـيء.

2 ـ والشيخ محمد عبده‌ يرى‌ هذه‌ العـلاقة في «شدة الصلة بـين المـعنى واللفظ الموضوع له وسرعة الانتقال مـن أحـدها إلى الآخر».

3 ـ كما أنّه يرى‌ في‌ ذلك‌ وجهاً آخر، يكاد يغنيه عن هذه العـلاقة حـيث:‌ إن‌ الاسم قد يطلق إطـلاقاً صـحيحاً عـلى صورة المعلوم الذهـنية (أي مـا به يعلم الشيء عـند العـالم) فاسم الله مثلاً‌ هو‌ ما‌ به عرفناه في أذهاننا لا نفس اللفظ، بحيث يقال: إننا‌ نـؤمن بـوجوده ونستند إليه صفاته، فالأسماء هي مـا يـعلم بها الأشـياء في الصـور الذهنية وهي العلوم المـطابقة للحقائق‌ الخارجية‌ الموضوعية،‌ والاسم بهذا المعنى، هو الذي جرى الخلاف بين الفلاسفة، في أنّه‌ عين‌ المـسمى أو غـيره، الأمر الذي يدعونا لأن نقول: إن للإسلام معنى آخـر غـير اللفـظ، إذ لا‌ شـك‌ بـأن‌ اللفظ غير المـعنى.

والاسـم بهذا الإطلاق ـ أيضاً ـ هو الذي‌ يتبارك‌ ويتقدس:‌ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: 1]، إذ لا معنى لأن يكون اللفظ هو الذي يـتبارك‌ ويـتقدس‌ [المنار 1: 262]

كـما أنّه هو الذي يوصف بالحسنى ﴿... لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [طه: 8]، بـما يـعبر هـذا‌ الاسـم‌ عـن الأوصـاف الحسنة.

وهذا هو ما نفهمه، مما في دعاء أمير المؤمنين‌ (عليه‌ السلام)‌ من قوله:  «وبأسمائك التي ملأت أركان كل شيء»، فإن هذه الأسماء إنما هي مظاهر‌ الأوصـاف‌ الإلهية الحقيقية التي تجلت في كل الوجود، من القدرة والحكمة والرحمة والجود والكرم.. الخ.

فتعليم آدم الأسماء كلها، هو تعليمه الصفات‌ والخصائص‌ التي‌ تـتصف بـها الأشياء.

ما هي حقيقة هذه الأسماء؟

وبعد هذا كله نجدهم‌ يختلفون‌ في‌ حقيقة هذه المسميات والمراد منها في الآية الكريمة.

وهناك اتجاهان رئيسيان‌ يطرحان‌ في هذا المجال:

الأول: إن هذه المـسميات مـوجودات أحياء عقلاء وهي إما:

أ ـ عبارة‌ عن أسماء العناصر والذوات الإنسانية الموجودة في سلسلة امتداد الجنس البشري من‌ الأنبياء‌ والربانيين والأحبار الذين جعلهم الله تعالى شـهوداً‌ عـلى‌ البشرية‌ والإنسانية، واستحفظهم الله تعالى عـلى كـتبه ورسالاته:‌ ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ...﴾ [المائدة: 44]‌،‌ ويـكون‌ وجود هذا الخط الإنساني الإلهـي الكامل،‌ هو‌ الضمان الذي أعده الله تعالى لهداية البشرية والسيطرة على الهوى، وتوجيه الإرادة‌ نحو‌ الخير والصلاح والكمال.

وقد ورد‌ هذا الاتجاه في روايات‌ أهل‌ البيت (عليهم السلام)، فعن الصادق‌ (عليه‌ السلام)، «إن الله تبارك وتـعالى عـلم آدم (عليه السلام) أسماء حجج الله كلها‌ ثم‌ عرضهم ـ وهم أرواح ـ على‌ الملائكة‌ ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، بأنكم‌ أحق‌ بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم (عليه السلام)‌ ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ قال الله تبارك‌ وتعالى: ﴿يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾، وقفوا على عظيم منزلتهم عـند الله تعالى‌ ذكره‌ فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء‌ الله‌ في‌ أرضـه‌ وحـججه‌ عـلى بريته» [كمال الدين للصدوق 1: 25، رواه بطريقين ضعيفين، ط الاعلمي]

فكأنه‌ أريد‌ بهذا التعليم بيان الخلفاء الحقيقيين والذوات الطاهرة النقية من عباد الله الصالحين، الذين استحق بهم الجنس‌ البـشري‌ ‌صـلاحية‌ الخلافة على الأرض، باعتبارهم المسبحين المقدسين لله‌ مع‌ الإرادة‌ والعلم،‌ وبذلك‌ يفضلون‌ على المـلائكة.

ويـكون العـلم بهذه الأسماء معناه تحقق وجودها في الخارج باعتبار مطابقة العلم للمعلوم، وتعليم آدم الأسماء إنّما هـو إخباره بوجودها، أو إيداعها في صلبه.

أو يكون العلم بالأسماء معناه إيداع هذه الكمالات التي يتصف بها هؤلاء المـخلوقون في خلقته وتأهيله للوصول إليها بإرادته، وهي صفات وكمالات تمثل نفحة من الصفات والكمالات الإلهية، ولا‌ سيما‌ إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن كلمة الأسماء في القرآن الكريم تطلق على الصفات الإلهية بنحو من الإطلاق.

وقـد مال أستاذنا الشهيد الصدر (قدس سره) إلى هذا الرأي، حيث‌ افترض‌ بأن الملائكة حين أخبرهم الله تعالى بإرادته في أن يجعل آدم خليفة في الأرض، ثارت في نفوسهم مخاوف أن يفسد هذا الخليفة الذي‌ يتمتع‌ بـالإرادة والاخـتيار، وعندما أخبرهم الله‌ تعالى‌ بوجود الأنبياء والأولياء والأوصياء، أي بوجود هذا الخط الذي يعبر عنه بخط الشهادة الذي يكون مقتضاه شهادة أصحاب هذا الخط على الناس والنظارة على‌ حركتهم‌ وتعليمهم وهدايتهم، حينئذ اسـتقرت‌ نـفوس‌ الملائكة، وذهبت عنهم الحيرة والخوف بعد معرفتهم لهذه الحقيقة [خـلافة الإنـسان وشـهادة الأنبياء]

ب ـ أو هي أسماء ذرية‌ آدم‌ وأسماء الملائكة، كما ورد ذلك عن الربيع بن زيد [التبيان للطوسي‌ 1:‌ 138]

ج ـ ويرى العلامة الطـباطبائي أنـها موجودات عاقلة لها مراتب من الوجود، ويمكن من خلال العلم بها أن يسير الإنسان‌ في‌ طريق التكامل.

وكأن أصحاب هذا الاتجاه استفادوا ثبوت الحياة والعقل لهذه الموجودات من قوله تـعالى: ﴿.. ثُمَّ عَرَضَهُمْ..﴾،‌ حيث استخدم ضمير الجماعة المـختص بـمن يـعقل [الميزان 1: 117]

ولكن الشيخ الطوسي‌ يناقش‌ فكرة‌ الاعتماد على الضمير بقوله: (وهذا غلط لما بيناه من التغليب للعاقل على غيره وحسنه، كما قـال تـعالى: ‌‌﴿وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ...﴾‌ [النور: 45، التبيان للطوسي 1: 138]، فحينما يكون المورد شاملاً للعقلاء وغيرهم يغلب ضمير العقلاء.

الثاني: أن هذه المسميات تـعني‌ الحـقائق والأشـياء في هذا الكون وما يتعلق بعمارة الدين والدنيا من غـير تحديد‌ ولا تعيين.

وقد‌ تبني‌ هذا الاتجاه عدد كبير من المفسرين، وهو الظاهر من كلام الشيخ الطوسي [النور: 45، التبيان للطوسي 1: 138]، والرازي [التفسير الكبير 3: 176]، في تـفسيرهما، والشـيخ مـحمد عبده [المـنار 1:‌ 262]، وحكاه الطبرسي، عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير،‌ وعـن أكـثر المتأخرين.

وهذا الاتجاه مروي عن أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً، فقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم القمي، عن الصادق (عليه السلام)، في تفسير قوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا...﴾، قال: «أسـماء الجـبال والبـحار والأودية والنبات والحيوان» [تفسير القمي 1 / 56]

وفي‌ مجمع البيان عن الصادق (عليه السلام) أيضاً ـ أنّه سئل عـن هـذه الآية فقال: «الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البـساط مـما عـلّمه» [مجمع البيان 1 / 152]

وفي‌ تفسير‌ العياشي، عن أبي عبد الله‌ (عليه‌ السلام)‌ سألته عن قول الله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا...﴾ ماذا علمه؟ قال: «الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته‌ فـقال:‌ وهـذا‌ البـساط مما علّمه» [العياشي 1: 51].

وهذا الرأي هو الصحيح لما‌ عرفت‌ من عدم اختصاص المسميات بالوجودات العاقلة بدعوى قرينة (ضـمير الجـمع للعاقل) المدفوعة، كما أنّه الرأي الذي ينسجم مع واقع‌ الإنسان‌ من‌ ناحية، لأن الله تعالى أعـطى الإنـسان قـدرة الإدراك وموهبة العلم‌ بالحقائق، ولم يجعل ذلك مختصاً بالعقلاء من الموجودات، بل هي شاملة وغير محدودة وقابلة للنـمو والتـطور، وبـذلك أمتاز‌ الإنسان‌ على‌ الملائكة.

وللكلام تتمة ... 

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2168
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 08 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24