• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : مؤلفات الدار ونتاجاتها .
              • القسم الفرعي : مقالات المنتسبين والأعضاء .
                    • الموضوع : دراسة في أساليب التفسير التربوي .

دراسة في أساليب التفسير التربوي

 السيد حكمت أسد الموسوي

المقدّمة

حازت الأبحاث التربوية أهمية قصوى في عالمنا المعاصر، كون هذه الأبحاث لها مساس بقضايا المجتمع الإنساني بصورة مباشرة من خلال الحفاظ عليه من الوقوع في الانحراف؛ سواءً على مستوى الفردي أو الجمعي، ومن شأن هذا أن يحلّ كثيراً من القضايا ذات الصلة، خصوصاً إذا كان من مستوحًى من التعاليم الراقية في القرآن الكريم الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت، 42].

الأساليب التربوية في القرآن

يمكننا القول إن أهم رسالة للقرآن الكريم هي هداية الإنسان إلى الكمال وتحصيل السعادة اللائقة به، بأن تتفتّق في المرحلة الاولى جميع استعداداته في الابعاد الفردية والاجتماعية والفطرية والروحية والعقلية والمعنوية، بعد ذلك الأخذ بيده نحو تحصيل السعادة من اللذائذ الخالصة والأبدية، قال تعالى: ﴿كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى‏ صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [سورة ابراهيم: 1]، فإخراج الناس من الظلمات إلى النور التي هي عين هدايتهم وسوقهم من ظلمات الجهل والنقص نحو الكمال والنور والطهارة، هو في حد ذاته عمل تربوي. [راجع: نقش ترتيب نزول در تفسير تربيتى قرآن‏، دكتر عبدالكريم بهجت‏پور، قرآن و علم 3، ص: 68-69، بتصرّف]

وهذا العمل، المليء بالفعاليات والمتعدّد الجوانب، هو الذي يوجب تخليص الإنسان من كل أنواع الانحرافات والمساحات المظلمة سواءً كان في الجانب الفكري والعقلي أم في الجانب المعنوي والروحي، وسواءً كان في المستوى الفردي أم الجمعي، وفي نهاية الأمر يغدق عليه هالة من النورانية ولباس الطهارة.

فعبارة ﴿صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ هي بدل من ﴿إِلَى النُّورِ﴾ [انظر: الجدول في إعراب القرآن، 13: 153]؛ أي: إنّ الإنسان يخرج الظلمات بالاستعانة بتربية النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وفي ظل القرآن الكريم، ويدخل في صراط ربّه، وهو  الصراط المرجوّ الذي تكفّل صاحبه بإيصال الإنسان إلى الكمال والسعادة، وهو أيضاً الربّ الحميد الذي بيده كل أنواع الكمالات المحمودة، ولهذا السبب إنّه حميد، لذلك اعتبر أنّ صراطه عزّ وجلّ هو الدور الرئيس في التربية والإيصال إلى الكمال والسعادة، وأمّا النبي (صلّى الله عليه وآله) والكتاب فهما مقدّمتان تمهّدان للإنسان الدخول إلى هذا الصراط.

لذلك فإن الإنسان حينما يترك الظلمة والانحراف ويدخل في رحاب صراط ربّه العزيز الحميد الذي سوف يوصله إلى ما يطلب، ومن خلال جاذبيته سوف ينجي كل مَن آمن بالنبي (صلّى الله عليه وآله) والقرآن من الشقاء الأبدي وأنواع النقم. وفي المقابل، فإن الكافرين بربّهم والنبي والقرآن، ستصيبهم الشقاوة الأبدية. [راجع: نقش ترتيب نزول در تفسير تربيتى قرآن‏، دكتر عبدالكريم بهجت‏پور، قرآن و علم 3، ص: 70 -71]

قال تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سورة ابراهيم: 2]، وقال سبحانه: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [سورة البقرة: 275].

وأكد القرآن في المجال التربوي على نظرية الاختيار ودورها في التربية، وهذا ما يمكن استفادته من قوله تعالى: ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف : 29]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان : 3]. ومن الجلي أن أمر اختيار الإنسان بنفسه، هو أمر يرشده إلى اختيار الأفضل بحسب العقل والمنطق، فيقوم باتباع ما يكون فيه الهداية والخلاص، والرقيّ والتكامل، ونبذ كلّ ما فيه هويّ وسقوط، وهذا لا يمنع من وجود وسائل أخرى تنفع في الهداية إلى اختيار الطريق الصحيح والمطلوب كمحفّز له ودافع لعدم البقاء متأخّراً لعدم احساسه بالمسؤولية وقيمة النفس الإنسانية التي لا يناسبها سوى الرقي والعلو، ومن هنا تنبع أهمية بعض الوسائل التي يمكن استفادتها من القرآن الكريم كأسلوب الترغيب والترهيب في مجال التربية؛ فلا يغيب دورهما الفاعل والمؤثّر، وهذا يتّضح جليّاً في تعامل القرآن في الحثّ على نبذ الكفر نظراً لما يترتب على هذا الطريق من آثار تهوي بالإنسان إلى السحيق ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾ [الإنسان : 4]، والمنطق يحتّم على الإنسان أن ينجو بنفسه من هذا المنحدر حتى يصل برّ الأمان المتمثّل بالإيمان بالله تبارك وتعالى والتمسّك بصراطه المستقيم والتحلّي بالأخلاق والقيم العالية التي يحملها هذا المنهج المبارك وما رسمه الله تعالى لهداية الإنسان ليرتقي إلى الأعلى، ومن الواضح أن تكون آثار هذا الاختيار طيّبة ومحمودة؛ سواء في الدنيا ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل : 97]، أو في الآخرة: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ﴾ [الإنسان : 5] .

كما أنّ هناك أساليب أخرى يمكن معرفتها بتتبّع الآيات الشريفة، وهي أكثر من أن تحصى، منها:  الأسلوب العقلي والإقناعي في الخطاب القرآني، ومنه قوله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران : 118].

ومن السمات البارزة هو اعتماد التدرّج التربوي في الخطاب القرآني؛ حيث إنّ القرآن الكريم باعتباره كتاب هداية وكتاب تربية، ونظراً لما مرّ به النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) من عقبات وأزمات اعترضت مسيرته العظيمة في المجال تبليغ الرسالة، اقتضت الحكمة الإلهية نزول القرآن الكريم تدريجياً على قلب الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله)، وفي كل مرّة من هذا المرّات، يتلقّى النبي الآيات الكريمة من قبل الله تعالى بمقدار الحاجة والضرورة. قال تعالى: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ﴾ [سورة الفرقان، 32]، كما قال سبحانه: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى‏ مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا﴾ [سورة الإسراء، 106].

فبالالتفات إلى الآيتين الكريمتين أعلاه، نتوصل إلى أن الآيات القرآنية التي نزلت بالتدرّج والتي كانت قراءتها على مكث، إنما هو لأمر اقتضه الحكمة والتي من ثمراتها العظيمة الاصلاح والتربية، ويترتّب على ذلك أيضاً أمران: الأول: تثبيت فؤاد النبي (صلّى الله عليه وآله)، والثاني: تهيئة الأرضية اللازمة لتقبّل الناس هذا المنهج الإلهي التربوي والاصلاحي كما ينبغي، وعلى مكث أيضاً كما أفادته الآية الشريفة.

ومثال أسلوب التدرّج التربوي؛ التدرج في تحريم الخمر، حيث يقول الباري تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ [البقرة : 219]، ثم قال سبحانه في مكان آخر: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى﴾[سورة النساء: 43]، ثم قال عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [سورة المائدة: 90]

نموذج تربوي:

علوّ الهمة في القرآن الكريم

إنّ الإسلام يحثّ على علو الهمّة ويحرص على تربية المسلمين على هذا الخلق وعلى كل الظواهر الخلقية التي ترجع إليه، فمن الملاحظ في الإسلام أن الإيمان والعمل قرينان، والعمل هو الظاهرة المادية لعلو الهمة في النفس.

وقد تظافرت نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف في حث المسلمين على ارتياد معالي الأمور والتسابق في الخيرات وتحذيرهم من سقوط الهمة وتنوّعت؛ فمن أساليب القرآن الكريم في ذلك:

1- ثناء الله تعالى على أصحاب الهمم العالية

أ- وفي طليعتهم الرسول(صلّى الله عليه وآله) والمعصومون من أهل بيته(ع). قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [سورة الأحقاف: 35].

وقال تعالى في مدح الرسول(صلّى الله عليه وآله) ومن معه من أصحاب الهمم العالية وذوي الدوافع العالية في الثبات أمام الأعداء وفي نفس الوقت يمتلكون صفة الرحمة واللين مع المؤمنين: ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [سورة الفتح: 29].

وقال تعالى في مدح أهل بيت الرسول(صلّى الله عليه وآله) لما يمتلكونه من همم عالية وفائقة لا يمتلكها غيرهم من الناس: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾[ سورة الأحزاب: 33].

ب- كما أنه أمر المؤمنين بالهمّة العالية والتنافس في الخيرات، فقال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ﴾ [سورة البقرة: 148]. وقال سبحانه أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[ سورة العنكبوت: 69]

2- ذم ساقطي الهمة وتصويرهم بأبشع صورة

أ- قال الله تعالى في قصة موسى (عليه السلام) مع قومه:

﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ﴾ [سورة البقرة: 60].

وقال تعالى واصفاً حال اليهود والذين علموا فلم يعملوا: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ [سورة الأنعام: 91]، في حين أنه امتدح يعقوب (عليه السلام) بقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [سورة يوسف: 68].

ب- وفي ذمّ المنافقين المتخلفين عن الجهاد لسقوط همّتهم؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [سورة التوبة: 93].

ج- وشنّع ـ عز وجل ـ على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ويجعلونها أكبر همهم وغاية علمهم باعتبار هذا الإيثار من أسوأ مظاهر خسة الهمة، فقال تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [سورة البقرة: 200-201]

العبرة والهدفية

قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم : 1]، فإن هدفه الهداية كما هو ظاهر الآية، وعلى سبيل المثال: فإن كل فهمٍ أو تفسيرٍ أو إشارةٍ علمية يمكن أن تظهر من المتن القرآني تتعارض مع القرآن وأهدافه تكون باطلة وغير معتبرة.

وفي امتداد هذا الطريق ولبلوغ هدف القرآن الكريم من هداية البشرية وبشتى الطرق والأساليب التي اعتمدها، تطرّق القرآن الكريم في قسم كبير منه إلى بيان قصص الأولين وامكان الاعتبار بها والاستفادة منها بحكم الاستفادة من المجريات التي مرّ بها مَن كانوا قبلاً، ممّا من شأنه توضيح الطريق أكثر وبأسلوب قصصي رائع يحكي تجارب الآخرين يمكن أن يعيّن لنا الاتجاه المطلوب لرسم طريق الحياة واستثمار ذلك للفوز بالجنان.

فالقرآن ـ إذاً ـ ليس كتاب قصصي بل إنه كتاب عبرة واعتبار، وآياته المباركة تجري ما جرت العصور والدهور، فعن الإمام الباقر (ع) أنه قال: «ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجرى أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض ، ولكل قوم آية يتلونها [و] هم منها من خير أو شر...» [تفسير العياشي، ج 1، ص 10].

وعن الفضيل بن يسار قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية "ما في القرآن آية الا ولها ظهر وبطن ، وما فيه حرف الا وله حد ولكل حد مطلع " ما يعنى بقوله لها ظهر وبطن؟ قال: ظهره وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد، يجرى كما يجرى الشمس والقمر ، كلما جاء منه شيء وقع قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ﴾ [نحن نعلمه]» [المصدر نفسه، ص11].

قاعدة الجري والانطباق

ويترتّب على ذلك قاعدة (الجري) واستخدامها في بعض الآيات، كونها مستنبطة من أحاديث أهل البيت (ع) مثل الرواية الشريفة أعلاه. [انظر: الميزان، ج 1، ص 41- 42].

لذا، من الأفضل توضيح المقصود من هذه القاعدة واستعمالاتها بشكل مختصر.

المقصود من قاعدة الجري والانطباق‏

المقصود من القاعدة هو: العناية بإمكان الوصول إلى ما خفي من المعاني، أو ما خفي من المصاديق، بل التوجه إلى المعاني الظاهرة الحاصلة من الألفاظ المفردة‏ وتراكيبها. ومن ثم بيان شرعيه بعض التأويلات ورفض بعضها. [قواعد التفسير لدى الشيعة والسنة، محمد فاكر الميبدي، ص 300]

استعمالات قاعده الجرى والانطباق [انظر: أصول وقواعد التفسير، عنه: مباني التفسير التربوي: ص 71، محمد فاكر الميبدي، مجلة قرآن و علم 3، ص135-183، بتصرّف]

1- بيان المصاديق للألفاظ العامة‏

قد يستخدم في الآيات القرآنية لفظ عام ثم تبين مصاديقه عبر الأحاديث ومثال على ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [سوره الانفطار: 13- 14]. ففي حديث عن الإمام الباقر (ع) قال: «الأبرار نحن هم، والفجار هم عدونا» [البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، ج 4 ص 436]

فان الأبرار والفجار جمع محلّى بالألف واللام، ويمكن أن يكون شاملاً لجميع أبرار وفجار الأمم السابقة، وأمه الإسلام، ولكن الحديث خص أهل البيت بالأبرار فهم المصداق الوحيد.

ومن الواضح أن أهل البيت هم المصداق الأوضح لهذه الآية كما أن أعداءهم المصداق الأوضح لمفردة (الفجار) في هذه الآية، ولكن مصاديق الآية وتفسيرها غير منحصر بهؤلاء الأفراد.

ومن المؤكد أن هكذا تشخيص للمصاديق قد جاء في روايات أهل ‏البيت التفسيرية بشكل مستفيض، والقصة هنا تشبه الحال في قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ [سوره الرعد: 7]، فهي عينت الإمام في كل عصر، [الكافي، الكليني، ج 3، ص 191] وهى القصة في مصداق قوله تعالى: ﴿كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [سورة التوبة: 119]؛ أي: مع محمد وعلى وأهل البيت [شواهد التنزيل، الحسكاني، ج 1، ص 259- 262].

2- بيان مصاديق الألفاظ المطلقة (تعريف الألفاظ عن طريق دخول أدوات العموم مثل: كل، وجميع، وكافة، والجمع المحلى بالألف واللام، وغيرها)، وأما الألفاظ المطلقة فتعرف من خلال عدم وجود الضد، بالإضافة إلى إجراء مقدمات الحكمة [انظر: كتب أصول الفقه كحلقات الشهيد الصدر وأصول المظفر، وغيرها]

وتقسم مصاديق الألفاظ المطلقة إلى قسمين:

أ- تعيين المصاديق الفردية‏

فان بعض المفردات والجمل القرآنية مطلقة، ولا يوجد فيها أي قيد لتعيين أي مصداق خاص، ولكن وبواسطه الأحاديث الشريفة يمكن تشخيص المورد أو تعيين المصداق قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ [سوره المطففين: 29]

فقد ورد عن ابن عباس أنه قال: «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا، منافقو قريش، والَّذِينَ آمَنُوا على بن أبى طالب وأصحابه». [شواهد التنزيل، الحسكاني، ج 2 ص 327- 329]

مثال آخر: قوله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة الزمر: 9] فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «فنحن الذين يعلمون، وعدونا الذين لا يعلمون» [الكافي، الكليني، ج 8، ص 204- 205]

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) حينما سأله رجل من أهل (هيت) فقال: جعلت فداك، قول الله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر، 9]  فقال: «نحن الذين نعلم وعدونا الذين لا يعلمون وأولو الألباب شيعتنا» [محمد بن الحسن الصفار، بصائر الدرجات، ص 75].

ففي هذه الأمثلة كانت عبارة الآيات مطلقة، ويمكن في الآية الأولى أن تكون العبارة شاملة لكل المؤمنين والمجرمين، وفي الآية الثانية يمكن أن تكون شامله لكل العالمين وغير العالمين، ولكن الروايات المذكورة بينت بعض المصاديق، وليس يعني ذلك قصر التفسير والمصاديق على ما ذكرته الرواية، ومن هنا بُيّن في روايات الآية الثانية مصاديق مختلفة.

ومن المؤكد أن هكذا نماذج وموارد عادةً ما تكون عديدة أو كثيرة في الروايات التفسيرية لأهل البيت، كما هو الحال في الروايات المبينة لمصاديق قوله تعالى: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ (سورة الفاتحة: 7)، فبعضها نص على اليهود والنصارى [البرهان، المحدث البحراني، ج 1 ص 47] وبعضها صرح أنهم النواب والذين لا يعرفون إمام زمانهم. [نور الثقلين، الحويزي، ج 1 ص 24- 25]

ب- تعيين المصاديق بلحاظ الأفعال والحالات‏

إن بعض الآيات القرآنية بينت بصورة مطلقة في عصر نزول خاص ولها مصاديق خاصة على أساس العرف والعادات التي كانت موجودة، ولكن وبمضي الزمان وبتغير الظروف والعادات والأساليب في المجتمع اقتضت تلك الآيات ـ بمقتضيات الزمان ـ مصاديق جديدة، ومن ثم تجري الآيات في تلك المصاديق.

وبلغ ببعض العلماء الإصرار على هذا الموضوع حتى اعتبره قاعدة مستقلة تحت عنوان (القرآن يجري في إرشاداته مع الزمان والأحوال، في أحكامه الراجعة إلى العرف والعوائد) فعدها قاعدة جليلة القدر ذات فائدة كبيرة. [القواعد الحسان لتفسير القرآن، عبد الرحمن بن ناصر السعدى (ت 1326 هـ . ق)، ص 79] ولكن من الواضح أنها جزء من قاعدة الجري.

وللمثال نذكر قوله تعالى: ﴿وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً﴾ [سورة البقرة: 83  وسورة النساء: 39، وسورة الأنعام: 151، ويشابهها في سورة الاحقاف: 15]، فإن الإحسان إلى الوالدين مفهوم لم تبين خصوصياته لا في القول ولا في الفعل، وفي كل عصر له مصاديق وحالات وأفعال جديدة، ففي صدر الإسلام يعتبر توفير المؤونة من غذاء ولباس، والكلام الطيب من مصاديق الإحسان، ولكن في عصرنا هذا يمكن أن توجد مصاديق جديدة من خلال تأمين الطعام والمسكن وإرضائهم عن طريق الارتباطات الالكترونية كـ (الاتصال الهاتفي أو البريد الالكتروني، والفاكس وغيرها) وكلها مقولة لمصاديق الإحسان.

وهكذا الحال في مفاهيم أخرى كمفهوم (المعروف) [انظر: سورة النساء: 19، وسورة البقرة: 178 و 180 و 228 و 229 و 231 و 232 و 233 و 234 وسورة آل عمران: 104 و 110 و 114 وغيرها] المأمور به في باب (الأمر بالمعروف)، وفي التعامل مع الآخرين، وفي إجراء الأحكام الشرعية، ومفهوم صلة الرحم [انظر سورة البقرة: 27 وسورة الرعد: 25 وغيرها] والذي له في كل عصر أفعال وأقوال وحالات متجدّدة تكون مصاديق لصلة الرحم، وكذلك الحال في مصاديق أخرى كمفهوم (الإسراف) [سورة الأعراف: 31], (واللباس) [سورة الأعراف: 26] ، و (القوة والاستعداد العسكري) ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ...﴾ [سوره الأنفال: 60]،  و (القسط والعدل) [سوره المائدة: 8]،  و(التجارة) [سورة النساء: 29]. هذه المفاهيم التي تكون مصاديقها العرفية والشرعية والعقلية في كل زمان مقصودة ومرادة، ومصداقاً للآية.

القرآن له ساحات فهم وبطون

ويأتي أيضاً في هذا المجال ـ كون القرآن كتاب عبرة ـ أن للقرآن ساحات فهم، ودليله الروايات الكثيرة عند الفريقين [انظر: الكافي، 1 : 374]، فالقرآن له مستويات ودرجات في الظهور والعلم وكلٌ يستقي بقدر إنائه، وفهم البطون وإن كان في طول وتحت فهم وتفسير الظاهر القرآني، لكنه لا يعتمد عليه، فهو سيّال وذو نكات جديدة متطورة متعددة كما هو الحال في انتزاع العبر والمواعظ والحكم والأوامر أو النواهي عند سرد القصص القرآني الكريم. [انظر: مقالة مبانى التفسير التربوي، الدكتور السيد رضا مؤدَّب‏، هاشم ابوخمسين‏، مجلة:  قرآن و علم 3، ص: 109، بتصرّف.]

الانسجام مع الفطرة

قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [لروم: 30]

فلابد أن يكون التفسير منسجماً مع الفطرة وغير خارج عنها، لأن الفطرة هي من خلق الله تعالى وموهبة وهبها الإنسان لتكون له نوراً في طريقه. ولا شك أن من جملة الأمور المهمة والمصيرية في حياة الإنسان هي الفطرة والهداية الإلهية التي منحها الخالق تبارك وتعالى لهذا الموجود الذي تحمّل عبء أمانة السموات والأرض، والفطرة ـ هذه ـ هي التي تتكفّل بإرشاد الإنسان والأخذ بيده إلى جادة الصواب وتكون له بمنزلة ناقوس الخطر إذا ما حاد وانحرف عن الطريق المستقيم؛ وذلك من خلال قوة تأنيب الضمير في النفس البشرية (النفس اللّوامة)، وبالتالي فإن الإنسان له كامل الحرية في اختيار أيَّ الطريقين شاء؛ طريق الخير أو طريق الشر وعليه أن يتحمّل تبعات الطريق الذي اختار، قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: 3].

إذاً، فدور الفطرة هنا هو تأكيد وبيان لما ينبغي أن يسلكه أبناء البشر لبلوغ السير التكاملي الذي أراده الله عز وجل أن يكون عليه الإنسان، ولا يمكن أن يكون دورها دور اجبار وارغام للإنسان على فعلٍ معيّن، وإلاّ لانتفى الثواب والعقاب في حقه ـ حينئذٍ ـ .

فمن غير الممكن أن تتعارض تعاليم القرآن الكريم الذي هو كتاب الله تعالى وهو كذلك من هبات الله سبحانه للإنسان وما أعظمها من هبة، يهدي الإنسان إلى صراط الله المستقيم ويرسم له طريق الرقي والنجاح.

الفطرة

الفطرة هي هداية الهية توجد في كل فرد من أفراد الانسان، ومثلها مثل البوصلة؛ لتميّز للإنسان الطريق الصحيح من غيره وتدله عليه، حتى الاشخاص المنحرفون، فإنهم لا بد وأن يشعروا  في لحظة معينة من حياتهم بأنهم قد سقطوا الى الحظيظ، وهذا بفعل هذا الانذار الصادر عن الفطرة لتذكير الانسان بأنه انحرف عن جادة الصواب.

قال الشيخ السبحاني عند عرضه لتعريف الفطرة: «وأوضح تعريف للفطريات ما ذكره ديكارت نفسه في بعض رسائله (المؤرخة بتاريخ 21 أيار 1643 م. عن مؤلف كتاب نظرية المعرفة)، قال: (الأُمور الفطرية عبارة عن المعلومات البدائية الأصيلة التي نتوصل بها إلى سائر المعارف، وهي قليلة جداً). ثم ذكر أنّ الوجود، والعدد، والزمان، وامتداد الجسم، وتفكير النفس، والوحدة، هي من الأمور الفطرية (الفلسفة العامّة، پول قولكييه، ص203). وربما يسمّيها بالصفات الأولية» [نظرية المعرفة: ص96].

ويمكن أن نستنتج من ذلك في تعريف الفطرة ونقول: «الفطرة والأمور الفطرية وهي الوجوديات التي خلق الله الانسان على أساسها، ويجب على الانسان أن يطوي طريق الكمال لكي تصبح الفطرة فعلية». [محاضرات السيد حسيني قلعه بهمن حول الفطرة، جامعة العلوم الاسلامية، بتصرف.]

خصائص الفطرة: [محاضرات السيد حسيني قلعه بهمن حول الفطرة، جامعة العلوم الاسلامية، بتصرف]

ويمكن أن نذكر أن من خصائص الأمور الفطرية:

1 ـ أنها عامة: أي إن هذه الخصائص توجد لدى تمام أفراد الإنسان.

2 ـ في البدء تكون بالقوة، وعند التوجه إليها تصبح فعلية، وعند عدم التوجه إليها تضعف وتصبح ضئيلة.

3 ـ بعض الامور الفطرية من سنخ العلم والمعرفة وبعضها من سنخ الميول؛ والميول: مثل حس الاطلاع.

4 ـ عدم امكان زوالها (في بعض الأحيان يمكن لها أن تضعف وتضمحل ولكن لا تنعدم).

الفطرة في أقوال المفسرين

تحت هذا العنوان نورد بعض أقوال المفسرين في تفسير الآيات الكريمة التي تناولت موضوع الفطرة؛ لنرى كيف يتعامل كل منهم مع هذا الموضوع وما هو مستنده على ذلك، وما هي نقاط الالتقاء والافتراق بين كل منهم مع الآخر في تعاطيه لموضوع الفطرة:

أ - قال الشيخ الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان) في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ (14) قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ الأنعام: 14-15:

«﴿وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أي: خالقهما ومنشئهما من غير احتذاء على مثال» [مجمع البيان في تفسير القرآن: ج 4، ص 17].

ب – أما في (تفسير الميزان) فقال السيد الطباطبائي في صدد تفسيره الآية الكريمة: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ:

«... وبالجملة المتقون واقعون بين هدايتين، كما ان الكفار والمنافقين واقعون بين ضلالين. ثم ان الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الاولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة، فان الفطرة إذا سلمت لم تنفك من ان تتنبه شاهدة لفقرها وحاجتها إلى أمر خارج عنها، وكذا احتياج كل ما سواها مما يقع عليه حس أو وهم أو عقل إلى امر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحس منه يبدأ الجميع واليه ينتهي ويعود، وانه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الاعمال والاخلاق، وهذا هو الاذعان بالتوحيد والنبوة والمعاد وهي اصول الدين

ج – وفي تفسير غريب القرآن قال:

«﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا (الروم:30): أي خلقة الله التي خلق الناس عليها أي الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله، والمعنى إنه خلقهم قابلين للتوحيد ودين الاسلام غير نائين عنه، ولا منكرين له حتى لو تركوا لما اختاروا عليه ديناً آخر، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الجن والانس، ومنه الحديث خلقت عبادي حنفاً فاختالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيري، وقال (عليه السلام): كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه اللذان يهودانه وينصرانه» [تفسير غريب القرآن:  ص269].

لذا؛ فإن الفطرة هي دليل الإنسان الذي يأخذ بيده إلى الطريق الصحيح ويرافقه في مختلف مجالات حياته وسير تكامله؛ لذا فإن موضوع الفطرة لم يقتصر على جانب من حياة الإنسان دون جانب، ولا يمكن حصره في موضوع دون آخر، ومن الحق ان نستفيد من هذه الموهبة الإلهية العظيمة في أغلب المجالات الإنسانية ـ ان لم نقل جميعها ـ ؛ لذلك فإننا نرى أنّ أغلب علماء العلوم المختلفة قد نهلوا من منبع الفطرة الإنسانية في الوصول الى غايتهم ومن أبرز هذه العلوم: العقيدة، الأخلاق، الاجتماع، الفلسفة، علم النفس، العلوم التربوية.. وغيرها الكثير من العلوم والمجالات المختلفة.

ومن المواضيع والعلوم المهمة هو علم العقيدة الإسلامية التي كانت الفطرة الإنسانية هي الحجر الأساس والأصل في بناء صرحه وإليها يعود الفضل في نمو وتطور العلوم العقائدية، بحيث لا يستطيع انكارها المنكرون؛ لثبات الدليل، لكونه ينبع من منبع لا يتطرق إليه الشك، وهي الفطرة الانسانية.

البناء التربوي على أساس الكرامة الإنسانية

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء : 70]

وقوله تعالى: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [يس : 26-27].

وقال تعالى: ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ﴾ [سورة الصافات: 40-42]

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2165
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 07 / 31
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18