• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الفقه وآيات الأحكام .
                    • الموضوع : الآفاق التشريعية في القرآن الكريم - القسم الرابع .

الآفاق التشريعية في القرآن الكريم - القسم الرابع

 القسم الرابع

الشيخ خالد الغفوري

مرجعية السنّة الشريفة:

من المسلّم أنّ السنّة الشريفة تعدّ المصدر الثاني‌ من‌ مـصادر‌ التـشريع، وقـد تعرّضت إلى ذلك آيات كثيرة، اخترنا منها ما يلي:

1 ـ قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾(1).

حاصل مفاد الآية الكـريمة: انّ ممّا يقتضيه الايـمان بـالرسالة التأسّي والاقتداء بالرسول (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم) فانّه خير مقتدى وأحسن مؤتسى. وهذا الأمر‌ من القواعد الثابتة والاُصول المقرّرة في الشريعة، ولذا عبّرت الآية بصيغة الماضي ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي...﴾ وهذا الاتِّباع لا يتحقق من كـل أحد بل ممّن‌ اشتدّ‌ إيمانه ولم يفتر لسانه عن ذكر اللّه تعالى .

إذا فالاقتداء بالنبي (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم) أمر مقرّر ومستحسن وكاشف عن مرتبة عالية من الايمان. وهذا يدلّ على حجّية ومرجعية ما يصدر‌ من‌ النـبي (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم) .

2 ـ قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(2).

إنّ‌ ارتباط‌ الانسان بخالقه جلّ وعلا يتقوّم بعنصرين أحدهما موجَب وهو الحبّ، والآخر سالب وهو الخوف. والحبّ له عـلامات أجـلاها اتّباع المحبوب والانصياع له والانشداد لكلّ ما يرتبط به‌ .

وقد‌ أشارت الآية إلى هذه الشرطية‌ التي‌ تقرّر‌ بأنّ اتّباع الممثّل عن اللّه والمبعوث من قِبله والذى يحمل إلى الناس ما يريده منهم علامة دالّة عـلى المـحبّة للّه. وهناك‌ شرطية‌ اُخرى بأن تحقق هذه العلامة يترتّب عليه محبّة‌ متقابلة‌ من قِبل اللّه لكم، فتبلغ المحبّة أوجها لكون المحبّة متبادلة من الطرفين .

والشرطية الاُولى كافية لاثبات مرجعية‌ النبي‌ (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم)‌، والشـرطية الثـانية أعـطت هذه المرجعية زخماً آخر وقـيمة إضـافية‌ وأكـسبتها حجّية مؤكدة .

3 ـ قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(3).

لقد‌ قـُرِن‌ الايـمان‌ باللّه تعالى مع الايمان بالرسول (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم)، واُمر باتّباعه الذى علِّل بأنّه‌ يؤول‌ إلى الهداية.

فإن قلتَ: إنّ المراد هو اتـّباع خـصوص القـرآن الذى يحمله النبي‌ إلى‌ الناس‌، ولا يشمل ما سوى ذلك .

قلتُ: إنّ الاتـّباع هنا مطلق ولم‌ يقيد‌، فعلى مدّع التقييد الدليل .

هذا، مضافاً إلى وجود قرينة تؤيد‌ إرادة‌ الاطلاق‌؛ فانّه قد وردت في الآيـة السـابقة عـليها الاشارة إلى اتباع القرآن بقوله تعالى‌: ﴿وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ .

4 ـ قـوله‌ تعالى‌: ﴿مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(4).

لقد‌ خصّ‌ اللّه‌ سبحانه الفيء برسوله وأرجع التصرّف فيه وصرفه إليه. والعلّة في هـذا‌ الحـكم‌ وعـدم إرجاع ذلك إلى الناس هو الحيلولة دون استئثار بعض الناس بالفيء. ثمّ قرّرت الآية‌ قاعدة‌ دستورية بـصورة حـاسمة وقاطعة وبينت القيمة القانونية والشرعية لما يصدر عن النبي‌ (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم)‌ أمراً كان أو نـهياً بـأن كـل أوامره‌ يلزم‌ الأخذ‌ بها وكذا جميع ما ينهى عنه. وألحق‌ ذلك بتحذير شديد اللهجة بـضرورة تـقوى اللّه فانّه شديد العقاب .

ثمّ انّ‌ الأوامر‌ والنواهي النبوية لا فرق فيها‌ بين‌ ما اُبـرز‌ في قـالب‌ القول أو الفعل، فكل واحد‌ منهما‌ يكون مُبرزاً لما يريده (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم)، ويتسم بالمشروعية والإلزام .

وأمّا التقرير‌ لفـعل‌ يـصدر من شخص أو جماعة فأيضاً‌ يكون له قيمة تشريعية‌ بلحاظ‌ ما ذكرناه .

5 ـ قوله‌ تـعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ... فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(5).

إنّ اتّباع الرسول وطاعته ليس أمرا‌ً مختصّا‌ً بـنبيناً (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم) بل هو سنّة إلهية‌ ثابتة بالنسبة لكل‌ رسول‌ وهذه‌ الطاعة مترشّحة عن طاعة‌ اللّه، فإنّ الطاعة الحقّة هـي للّه وحـده ولمن يأمر بطاعته، فطاعة الرسول من‌ طاعة‌ اللّه. واسترسالاً مع هذه القاعدة‌ الالهـية‌ الثـابتة‌ يأتي‌ تطبيقها‌ على نبينا (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم)‌ الذي‌ يـجب طـاعته فـيما يصدر من حكم ويجب أن تبلغ الطاعة أقـصى مـداها، وهو التسليم عملياً‌ والاقتناع‌ قلباً‌ .

والآية مطلقة فلا يتوهّم أنّها مخصوصة‌ بمورد‌ القـضاء‌ حـسب‌ ولا‌ تشمل‌ غيره، سيما مع الالتـفات إلى صـدر الآية .

6 ـ قـوله تـعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾(6).

لقد بينت الآية انّ اتباع وطاعة النبي (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم) إنـّما هـي في حقيقتها طاعة للّه، ولا يصحّ التفكيك بـين الطاعتين، فمن تولّى وخـالف النـبي‌ (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم)‌ فقد خالف اللّه .

إذاً فشأن مـا يـصدر عن النبي لا يقلّ عن ما يصدر عن اللّه، فالسنّة الشريفة إذا لها هذا الشأن العـظيم وهـذه المرتبة العالية من‌ حيث‌ الاعـتبار الشـرعي .

وهـذا الاعتبار لم يمنَح جـزافاً، وإنـّما مُنح لكونه رسولاً مـبلِّغاً عـن اللّه في كل ما يقول ويفعل فهو إن‌ ينطق‌ فلا ينطق عن هوى وبدافع‌ مـن‌ مـيل نفسي، وإن حكمَ في أمر إنّما يـحكم بـما يريه اللّه لا بـاجتهاد رأيـه الخـاص، كما اُشير إلى ذلك في آيـات اُخر‌ .

7 ـ قوله تعالى‌: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ... فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (7).

بعد بـيان مـوقف المؤمن النموذجي تجاه النبي (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم) في التسليم أمامه وعدم الانصراف إلاّ بإذنه تطرّقت الآية إلى تهديد كل من يـخالف أمـر الرسـول‌ (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم)‌. وهذا‌ ما يؤكد لزوم الاتباع لرسول اللّه وحـرمة مـخالفته. وليـست السـنّة الشـريفة إلاّ مـجموعة أوامر ونواهٍ، نعم ما لم يكن فيه إلزام كالترخيصيات فمخالفتها ليست مخالفة للأمر‌؛ إذ‌ انّ الطلب الندبي لا يقتضي الإلزام، والمخالفة والعصيان لا يصدقان حقيقة إلاّ حينما يكون إلزام في ‌‌البين.

8 ـ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...﴾(8).

لقد ورد في الآية‌ ثلاثة مراكز للطاعة المأمور بها المؤمنون:

المركز الأوّل: اللّه سبحانه وتعالى‌، وطاعته تتحقق بإطاعة‌ ما‌ يوحيه إلى الناس عن طريق رسوله .

المـركز الثـاني: الرسول، وطاعته لها حيثيتان:

الاُولى: كونه رسولاً فيشرح للناس ويبين لهم ما يريده اللّه منهم .

الثانية: كونه ولياً وحاكماً على المجتمع، فيأمر وينهى في الوقائع وفي الفصل في الخصومات وغيرها .

وهـذا هـو الذى يبرّر تكرار لفظ الطاعة في الآية؛ فإنّ طاعة الرسول وإن كانت‌ تستمدّ‌ مشروعيتها من طاعة اللّه إلاّ إنّها تختلف عنها، وذلك بسبب كونها بلحاظ التطبيق والممارسة والتـجسيد العـملي المتحرّك والمتغير عبر الظروف والأزمـنة، وأيـضاً بلحاظ البيان والتفريع والتشريعات التفصيلية لا‌ بنحو‌ الاجتهاد والرأي الذى يصيب ويخطئ، بل بمستوى الواقع الشرعي الذي يريده اللّه سبحانه وتعالى؛ ولذا اُفردت طاعة الرسول عن طاعة اللّه وعطفت عليها، فـهنا طـاعتان يشتركان‌ في درجة الاعـتبار والحـجّية والالزام والأثر، ويفترقان في المجال .

المركز الثالث: اُولوا الأمر، وطاعتهم مستمدّة من طاعة الرسول. وحيثية هذه الطاعة ممنوحة بلحاظ العنوان الذي‌ انيطت‌ به‌، وهو ولاية الأمر التي‌ تدور‌ رحاها‌ على ما يـحدّده الرسـول (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم)، فلا تفاوت بين طاعتهم وطاعته؛ لذا لم تُفرَد بالذكر .

ولا ريب في أنّ‌ الاطاعة‌ المأمور‌ بها في قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ اطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط ولا مقيدة بقيد، ولا تعليل مـنطقي لهـذا الاطلاق إلاّ إذا كـان‌ النبي‌ لا‌ يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء فيه مخالفة لحكم اللّه‌، وإلاّ كان فرض طاعته تناقضاً منه تعالى عـن ذلك علوّاً كبيراً، ولا يتم ذلك إلاّ بعصمته‌ (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم)‌ .

وهذا الأمر بعينه جارٍ في اُولي الأمـر، أي الثـابت لهـم‌ إطاعة‌ مطلقة، وهذا لا يتم إلاّ في فرض العصمة لهم.

وإلاّ لقيدت طاعتهم في فرض‌ موافقة‌ حكمهم‌ لحكم اللّه ولا طاعة لهـم في فرض المخالفة، نظير تقييد طاعة‌ الوالدين‌ كما‌ في قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾(9). في حين أنّنا لا نجد‌ مثل‌ هـذا التقييد بالنسبة لطاعة اُولي الأمر، فيكشف ذلك عن كون الطاعة الثابتة‌ لهم‌ مطلقة‌ .

وقوله تـعالى: ﴿وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ هنا وزان قـوله: ﴿رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾(10)، ولا دلالة فيه على‌ أنّ‌ الواحد‌ منهم إنسان عادي من غير خصوصية العصمة .

والحاصل: انّ طاعة اللّه تثبت مرجعية‌ الكتاب‌، وطاعة الرسول تثبت مرجعية سنّته من خلال ما يصدر عـنه (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم)‌ والتي‌ يجسّدها‌ اُولوا الأمر من بعده، فليس لدينا إلى جنب كتاب اللّه مرجعاً سوى سنة واحدة‌ وهي‌ سنّته‌، وبالرغم من كون طاعة اُولي الأمر مطلقة إلاّ انهم ليس لديهم‌ سوى‌ الكتاب والسنّة .

وممّا تقدّم يعرف أنّ الأمـر بطاعة اُولي الأمر قضية مساقة على نحو القضايا‌ الخارجية‌ الناظرة إلى مصاديق خارجية معينة ومشخّصة، وقد تصدّى الرسول الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ و‌آله‌ وسلم)‌ لبيان‌ ذلك، فطبّق هذا العنوان اُولي‌ الأمر‌ خارجاً وحدّد مصاديقه .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 1الأحزاب‌: 21 .

 2آل عمران: 31 .

 3الأعـراف‌: 158 .

 4الحـشر‌: 7 .

 5النساء: 64 ـ 65 .

 6النساء: 80 .

 7النور: 62 ـ 63‌ .

 8النساء: 59 .

 9العنكبوت: 8 .

 10الأعراف: 35‌ .

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2164
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29