• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : تزكیة النفس من منظور الثقلین التوبة والإنابة (1) .

تزكیة النفس من منظور الثقلین التوبة والإنابة (1)

 آية الله العظمى السید كاظم الحائري"دام ظله"

بـسم‌ اللّه الرحمن الرحیم

﴿والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا‌ جلاّها‌ * واللیل إذا یغشاها * والسماء وما بـناها * والارض ومـا طـحاها * ونفس وما سوّاها‌ * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من‌ دسّاها﴾.

مـتی‌ نبدأ‌؟ ومن أین نبدأ؟

هذان سؤالان نواجههما بادئ بدیء ونحاول الاجابة علیهما:

مـتی نبدأ؟

هل نبدأ بـتزكیة النـفس من بعد انتهاء الشباب لان فترة الشباب‌ هي فترة طغیان النفس وفوران الشهوات، وأننا بعد هذه الفترة نكون اقدر علی تهذیب النفس وتزكیتها؟

إن الواقع علی العكس من ذلك تماماً، فلو ضمن لنا أحد‌ الوصـول‌ إلی فترة ما بعد الشباب وعدم مباغتة الموت قبل ذلك، فإنه أولاً یكون التمادي في المعاصي والشهوات في حالة الشباب مانعاً عن التزكیة لدی الشیب؛ لان ذلك یوجب‌ ظلمة‌ القلب وانكسار قوة الضمیر والوجدان ولهذا ستكون التـوبة لدی الشـیب أصعب بكثیر من ترك الذنوب لدی الشباب.

وثانیاً یكون الضعف الذي یستولي علی الانسان لدی الشیب‌ موجباً‌ صعوبة الصبر علی مشقّة التزكیة ومخالفة النفس.

وثالثاً تزداد أكثر الشهوات لهیباً واشتعالا لدی الشیب ؛ فإذا كـانت شـهوة الجنس تخفّ أو تخمد لدی الشیب، وهی‌ امر‌ فطريّ‌ یمكن اشباعه لدی الشباب بالطرق‌ المحلّلة‌ عادة‌، فهناك شهوات إخری تشتعل، وتلتهب اكثر فأكثر بتقدم العمر ؛ فإن ابن ادم یشیب وتشبّ فیه خصلتان: الحـرص‌ وطـول‌ الامل‌ ؛ فعن رسول اللّه(صلی الله علیه وآله): «یهرم‌ إبن آدم ویشبّ منه اثنان: الحرص علی المال والحرص علی العمر».

وعنه(صلی الله علیه وآله): «یهلك‌ (أو‌ قال یهرم ) ابن آدم ویبقی منه اثنتان الحرص والامـل‌«.

وعـن طـرق العامة عن رسول اللّه(صلی الله عـلیه وآله): «حـبّ الشیخ شابّ فی طلب‌ الدنیا‌ وإن‌ التفّت ترقوتاه من الكبرَ، إلاّ الذین اتقوا وقلیل ما هم‌« .

وإفساد طول الامل وكذلك اتباع الهـوی عـلی الاطـلاق للنفس أكثر بكثیر من مجرّد فوران‌ شهوة‌ الجـنس‌ فـی الشباب ّ. وقد ورد عن أمیرالمؤمنین(علیه السلام) أنه قال: «ألا‌ إن‌ أخوف ما أخاف علیكم خصلتان: اتباع الهوی وطول الامل. أما اتباع الهـوی فـیصدّ‌ عـن‌ الحق‌ وأما طول الامل فیُنسی الاخرة» ولیس اتباع شهوة الجـنس إلاّ جزءاً یسیراً من‌ اتباع الهوی

إذن فتجب المبادرة إلی تهذیب الروح وتزكیة النفس من أوّل سنی‌ البلوغ‌ وأوّل‌ حالة الشباب. وقد ورد عن الصادق(علیه السـلام) فـی تـفسیر قوله تعالی: ﴿أولم نعمّركم‌ ما‌ یتذكر فیه من تذكر﴾ أنه توبیخ لابـن ثـماني عشرة سنة لئن استطاع‌ احد‌ أن‌ یربّی نفسه قبل سنی البلوغ كي لا تزّل قدمه بعد البلوغ، ویـكون مـلتزماً بـتكالیفه‌ من‌ أوّل البلوغ، كان ذلك خیراً.

وعلی أیة حال فمن‌ لم‌ یتوفّق‌ للتزكیة مـبكراً فـالمفروض له أن یـبادر إلی ذلك فی أقرب وقت من أوقات عمره، مهما‌ كان‌ قدر الفائت منه لانه بقدر مـا یـؤخّر العـمل ستزداد الصعوبات أمام نفسه‌ أكثر‌ فأكثر، وتضیق الفرصة أكثر من قبل. وقد ورد فی الحـدیث عـن الصادق(علیه السلام): انه‌ مكتوب في التوراة: «نُحنا لكم فلم تبكوا وشوّقناكم فلم تـشتاقوا...‌ أبـناء‌ الاربـعین أُوفوا للحساب، أبناء الخمسین زرع‌ قد‌ دنا‌ حصاده. أبناء الستین، ماذا قدّمتم‌ وماذا‌ أخـّرتم. أبـناء السبعین عدّوا انفسكم في الموتی...» .

ولنعم ما قیل‌:

أعینيَّ لمْ لا تبكیان‌ علی‌ عـمری تـناثر‌ عـمری‌ من‌ یديّ ولا أدري

اذا كنت‌ قد‌ جاوزت خمسین حجةً ولم أتأهبْ للمعاد فما عذري

وقیل أیضاً:

ألا‌ یا أیها القـمر المـضیءُ إلی كم‌ تذهبنّ وكم تجیءُ

ذهبت‌ وفي ذهابك قصر عمري رجعت‌ وفي‌ رجـوعك لا یـجیء

مـن أین نبدأ؟

كنت أتمنّی أن یكون‌ بدء‌ عملنا من ما فوق الصفر‌، لانه‌ قد مضی مـن‌ عـمرنا‌ عـدد من السنین إن‌ كان‌ قلیلاً أو كثیراً فالمفروض أننا قد طوینا مساحة مـن الطـریق، فلیست بدایة عملنا‌ الان‌ من الصفر ولئن تنازلنا عن‌ ذلك‌ فإننی كنت‌ أتمنی‌ أن‌ یكون بدء عـملنا مـن‌ الصفر، ومن صفحة بیضاء خالیة من الذنوب ومن الكمالات العرفانیة.

ولكن الذي یـحرق‌ القلب ویدمی الفؤاد ویُبكی العین أن‌ بـدء‌ عـملنا‌ فـي‌ الاعمّ‌ الاغلب لا یخرج‌ أن‌ یكون من تـحت الصـفر، أي یجب علینا أن نبدأ بغَسل الصفحة السوداء في قلوبنا بماء‌ التوبة‌ ؛ لاننا تنزّلنا وتـدهورنا عـن حدّ الاعتدال الفطري‌ بسبب‌ المـعاصي‌ والذنـوب‌، فالان‌ یـجب عـلینا أن نـبدأ بإزالة ما هو ضدّ الكمال لا بـصعود مـدارج الكمال من أرض معتدلة وقلب صاف. ولكنّ الذي یسلّینا عن هذه المصیبة أننا لسـنا‌ وحـدنا هكذا نمشي فی الطریق، بل یـمشی أمامنا فی طریق التـوبة المـعصومون. وأنا أفهم أن هذا الكلام الذی قـلته لیـس منطقیاً ؛ لان توبتهم(علیهم السلام) تختلف سنخاً عن‌ توبتنا‌ لان ذنوبهم تختلف سنخاً عن ذنوبنا؛ وذلك بـدلیل العـصمة، ولكن نبرّد أنفسنا بمجرد التـشارك فـي الاسـم، ونقول: یاربنا، كـیف لا تـقبل توبتنا ونحن قافلة‌ عـظیمة‌ أتـیناك تائبین، وأمامنا فی الطریق انبیاؤك المرسلون والائمة المعصومون، وأنت أكرم من أن تقبل توبة صـدر القـافلة وتوردهم مناهلك الرویة، ثم‌ تسدّ بـاب القـبول علی الذیـول‌ الوافـدة‌ التـابعة لاُولئك المقربین في سلوك الطـریق ؛ فهذا نبيّ اللّه داود وهو معصوم عن الذنب بالمعنی الذي نفهمه من الذنب المألوف لدي غیر المعصومین‌، ولكن لهـجته فـی التوبة‌ عین‌ لهجتنا حیث قلت تـبارك اسـمك: ﴿وظـنّ داود أنـما فـتنّاه فاستغفر ربّه وخـرّ راكـعا وأناب﴾، وهذا زین العابدین وسید الساجدین یقول ـ علی ما ورد فی مناجاة التائبین: «الهي، إن كان الندم عـن الذنـب تـوبة فإنّي وعزّتك من النادمین، وإن كان الاستغفار مـن الخـطیئة حـِطّة فـإنّی لك مـن المـستغفرین. لك العتبی حتی ترضی »، ویقول‌ ایضاً فیما‌ رواه طاووس الفقیه وعزّتك وجلالك ما أردت بمعصیتك مخالفتك، وما عصیت إذ عصیتك وأنا بك‌ شاك ولا بنكالك جاهل ولا لعقوبتك متعّرض، ولكن سوّلت لي‌ نفسي‌ وأعـانني‌ علی ذلك سترك المرخی به علیّ، فالان من عذابك من یستنقذنی؟ وبحبل من أعتصم إن ‌‌قطعت‌ حبلك عنّی؟ فوا سوأتاه غداً من الوقوف بین یدیك اذا قیل للمخفّین‌ جوزوا‌ وللمثقلین‌ حطّوا ! أمع المـخفّین أجـوز؟ أم مع المثقلین أحُطّ؟».

وهنا أُكرر‌ أن توبتهم علیهم ألاف التحیة والثناء تختلف سنخاً وهوّیة عن توبتنا ؛ لان‌ ذنوبهم تختلف سنخاً وهوّیة‌ عن‌ ذنوبنا.

وهنا أتبرّك بذكر كلام سیّد العارفین فی زمـاننا الامـام الخمینی(رحمه الله)، حیث یعتذر عن شرح أنحاء التوبة المختلفة فی السّنخ فی كتابه الاربعون حدیثاً بقوله: «إعلم أن‌ للتوبة حقائق ولطائف وأسراراً ولكـل واحـد من أهل السلوك إلی اللّه توبة خـاصّة تـناسب مقامه ؛ وحیث أن لاحظّ ولا نصیب لنا فی تلك المقامات فلا یناسب شرحها والاسهاب فیها فی‌ هذا‌ الكتاب».

اقول: ومما یؤید ما أفاده رضوان اللّه علیه مـن تـعدّد أنحاء التوبة بتعدد المـقامات التـی وصل إلیها العبد، ما ورد فی مصباح الشریعة عن الصادق(علیه‌ السلام)‌: «التوبة حبل اللّه ومدد عنایته، ولا بدّ للعبد من مداومة التوبة علی كل حال، وكل فرقة من العباد لهم توبة، فتوبة الانـبیاء مـن اضطراب السرّ‌، وتوبة الاصفیاء من التنفّس، وتوبة الاولیاء من تلوین الخطرات، وتوبة الخاصّ من الاشتغال بغیر اللّه، وتوبة العامّ من الذنوب، ولكل واحد منهم معرفة وعلم فی‌ أصل‌ توبته‌ ومنتهی أمـره»

التوبة

والان حـان لنا وقت الدخول فی بحث التوبة.

قال اللّه تعالی: ﴿إنما التوبة علی اللّه للذین‌ یعملون‌ السوء‌ بجهالة ثم یـتوبون من قریب فأولئك یتوب اللّه‌ علیهم‌ وكان اللّه علیماً حكیماً * ولیست التـوبة للذیـن یـعملون السیئات حتی إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الان‌ ولا‌ الذین‌ یموتون وهم كفّار اولئك أعتدنا لهم عذاباً ألیـما﴾

وقـال عزّ من قائل: ﴿والذین إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم ومن یـغفر‌ الذنـوب‌ إلاّ‌ اللّه ولم یـصرّوا علی ما فعلوا وهم یعلمون * أولئك جزاءهم‌ مغفرة‌ من ربهم وجنات تجری من تحتها الانهار خـالدین فیها ونعم أجر العاملین﴾

وقال عزّوجلّ‌: ﴿إلاّ‌ من تاب وأمن وعمل صالحاً فأولئك یـبدّل اللّه سیئاتهم حسنات وكان اللّهـ‌ غـفوراً‌ رحیماً﴾.

وقال عزّ اسمه: ﴿قل یا عبادی الذین أسرفوا علی أنفسهم لا‌ تقنطوا‌ من‌ رحمة اللّه إن اللّه یغفر الذنوب جمیعاً إنه هو الغفور الرحیم * وأنیبوا إلی‌ ربّكم‌ واسلموا له من قبل أن یأتیكم العذاب ثم لا تـنصرون * واتّبعوا أحسن‌ ما‌ أُنزل‌ إلیكم من ربّكم من قبل أن یأتیكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون * أن‌ تقول‌ نفس یا حسرتا علی ما فرّطت فی جنب اللّه وإن كنت لمن الساخرین‌ * أو‌ تقول لو أن اللّه هدانی لكنت مـن المـتقین * أو تقول حین تری العذاب لو‌ أنّ‌ لی كرّة فأكون من المحسنین﴾.

إنّ آیات التوبة فی القرآن‌ كثیرة‌، وكان اختیاري لهذه الایات الاربع بالذات لبدء الحدیث فی التوبة لنكات خاصّة بها:

أما‌ الایـة‌ الاُولی فـالنكتة الخاصّة بها هي ما ورد فیها من أن اللّه تعالی‌ فرض‌ علی نفسه التوبة علی العبد التائب حیث قال: (إنما التوبة علی اللّه للذین یعملون السوء‌ بجهالة‌ ثم یتوبون من قریب)، وكلمة (عـلی) تـعطي معنی الوجوب ؛ فلاحظ‌ رحمة‌ الربّ تعالی الذي لا یجب علیه عقلاً‌ قبول‌ التوبة‌ ؛ لان العبد العاصي بعد أن خالف‌ نظام‌ العبودیة لامحالة یستحق جزاء عمله، ولیست التوبة ماحیة لا ستحقاقه، ولكنك‌ تقف‌ إعظاماً واكـباراً لهـذه الرحـمة البارزة‌ فی‌ هذه الایة‌ الشـریفة؛‌ حـیث‌ فـرض اللّه تعالی قبول التوبة امراً‌ واجباً‌ علی نفسه، وكأن عبده المذنب له حقّ دلال علی الربّ تبارك‌ وتعالی‌ یطالبه بما أوجبه علی نفسه مـن‌ المـغفرة والرحـمة والتوبة علیه‌.

ولعل السبب في هذا‌ ـ بعد وضـوح سـعة رحمته التي ستظهر فی یوم القیامة حتی إن ابلیس یطمع‌ فیها واضح، وهو أن‌ فرض‌ العقاب‌ علی ذنوب العباد‌ لم یـكن بـهدف التشفّي من‌ العبد‌ ؛ تعالی اللّه عن ذلك علوّاً كبیراً، بل كان بـهدف جعله رادعاً للعبد‌ عن‌ الهلاك وسقوطه فی وادی الضلال وفی‌ رذائل‌ النفس وقبائح‌ الاعمال‌، ومحفزّاً له إلی تزكیة‌ نفسه وتنمیة الفضائل فـی ذاتـه وتـكمیله فی سلّم المعنویات بقدر قابلیته. هذا بالنسبة لغیر‌ الخبیث‌ الذي وصل اسـتحقاقه للعـقاب﴿لولا أن‌ یتوب﴾ إلی‌ حدّ‌ لا یكون معه‌ قابلاً‌ للعفو عنه ؛ أما بالنسبة لهذا فهناك ملاك آخر للعـقاب زائداً عـلی مـا مضی لسنا الان‌ بصدد‌ شرحه‌، فإذا تاب العبد وأناب إلی ربّه‌ فقد‌ طـهّر‌ نـفسه‌ واسـتعاد‌ حسن‌ سریرته وبدأ یرقی مرقی الكمال، فقد تحقق الهدف الذی كان كامناً من وراء فرض العـقاب، فـالرّب تـعالی یكون عندئذ أعلی وأجل من أن یعاقبه، وهو تبارك وتعالی قد فرح ـ إن صحّ التعبیر ـ بـحصول الهـدف المنشود وهو هدایة العبد، فقد ورد فی الحدیث عن ابي عبیدة الحذّاء قال: «سـمعت أبـاً جـعفر(علیه‌ السلام)‌: ألا إن اللّه أفرح بتوبة عبده حین یتوب من رجل ضلّت راحلته فی أرض قفر وعلیها طـعامه وشـرابه، فبینما هو كذلك لا یدری ما یصنع ولا أین‌ یتوجه‌ حتی وضع رأسه لینام، فـأتاه آت فـقال له هـل لك فی راحلتك؟ قال نعم. قال: هو ذه فاقبضها. فقام‌ إلیها فقبضها. فقال ابوجعفر(علیه‌ السلام):‌ واللّه أفـرح بـتوبة عبده حین یتوب من ذلك الرجل حین وجد راحلته»

وأمّا الایة الثانیة وهـي قـوله: (والذیـن إذا فعلوا فاحشة‌ أو‌ ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه‌ فاستغفروا‌ لذنوبهم)، فالنكتة في اختیاري لذكرها هنا هي الحـدیث الوارد فـی ذیـل تفسیر هذه الایة عن الصادق(علیه السلام)

قال: «لما نزلت هذه الایة صـعد إبـلیس جبلاً بمكة‌ یقال‌ له ثور، فصرخ بأعلی صوته بعفاریته فاجتمعوا إلیه فقالوا: یا سیّدنا لِمَ دعوتنا؟ قال: نـزلت هـذه الایة فمن لها؟ فقام عفریت من الشیاطین فقال: أنا‌ لها بكذا‌ أو كـذا فـقال: لست لها فقام آخر فقال مثل ذلك فـقال: لسـت لهـا فقال الوسواس‌ الخناس: أنا لها، فقال: بـماذا؟ قـال أعدهم وأُمنیهم‌ حتی‌ یواقعوا‌ الخطیئة، فإذا واقعوا الخطیئة أُنسیهم الاستغفار فقال: أنت لهـا. فـوكله بها إلی یوم القیامة».

‌‌وأما‌ الایـة الثـالثة وهی قـوله تـعالی: ﴿إلاّ مـن تاب وأمن وعمل صالحاً...﴾، فكانت‌ النـكتة‌ فـي اختیاري لها لبدء الحدیث بالتوبة ما في هذه الایة مما یقف العـقل امـامه إعظاماً‌ واكباراً لرحمة الربّ، حیث لم یـذكر فیها مجرّد عفو اللّه تـعالی عـن‌ ذنوب التائبین، بل‌ ذكر‌ تـبدیل سـیئاتهم حسنات. فأیّ رحمة هذه التی لا تقتصر علی ترك العقاب بل تبدّل السیئة حـسنة وتـبدّل العقاب ثواباً؟ ! ولعل تفسیر الایـة یـكون أنـسب بالقول بتجسّم الاعـمال ؛ فـبدلاً من أن یروا أَعمالهم السـیئة سـیئات یرونها حسنات. وقد ورد في الحدیث عن الباقر(علیه السلام) قوله:ویستر علیه من ذنوبه مـا یـكره أن یوقفه علیها. قال: ویقول‌ لسّیئاته: كـونی حـسنات. قال: وذلك قـول اللّه تـبارك وتـعالی: ﴿أُولئك یبدّل اللّه سیئاتهم حسنات وكـان اللّه غفوراً رحیماً﴾

ویقول القائل: إذن فلنرتكب السیئات‌ حتی‌ نتوب بعد ذلك وبهذا تزداد حسناتنا.

ولكن صاحب هـذا الكـلام غفل أوّلاً عن عدم ضمان لنفی مـباغتة المـوت قـبل التـوبة، وثـانیاً عن أن ترك الذنـب أهـون‌ من‌ التوبة ولا یعلم أنه سیتوفق إلی التوبة لو أذنب ؛ فإن الندم الذی هو أوّل شرائط التوبة لا یتحقق بسهولة فضلاً عـن بـاقی شـرائطها التی تتلو النَدَم. وقد‌ ورد‌ عن‌ الصادق(علیه السـلام) عـن امـیر المـؤمنین(علیه‌ السـلام)‌ أنـه‌ قال: «ترك الخطیئة أیسر من طلب التوبة. وكم من شهوة ساعة أورثت حزناً طویلاً. والموت فضح الدنیا فلم‌ یترك‌ لذی‌ لبّ فرحاً»، وثالثاً عن أن تبدل السیئات‌ حـسنات‌ لایعنی أن المذنب إذن صار أكثر ثواباً من غیر المذنب لانضمام سیئاته إلی حسناته ؛ وذلك لان الحسنات التی‌ تعطی‌ لتارك‌ الذنوب بسبب تركه للذنوب أو بسبب رحمة الرب لا تقاس‌ بالتی تعطی للتائب؛ ومن الباطل عقلاً أن یكون التائب مـن الذنـب أفضل من المتحرّز عن الذنب.

وأما‌ الایة‌ الرابعة وهي قوله تعالی: ﴿إنّ اللّه یغفر الذنوب جمیعاً﴾، فالسبب‌ لاختیاري بدء الحدیث بذكرها ما فیها من العموم الواضح الدال علی غفران جمیع الذنـوب بـلا استثناء‌ بما‌ فیها‌ من أشد الذنوب وهوالشرك. أمّا ما تراه من استثناء الشرك فی‌ قوله‌ تعالی‌: ﴿إن اللّه لا یغفر أن یشرك به ویغفر ما دون ذلك لمن یـشاء﴾، فـذلك‌ ناظر إلی المغفرة من دون توبة، فـی حـین أن قوله تعالی:﴿إن‌ اللّه‌ یغفر الذنوب جمیعاً﴾ ناظر إلی المغفرة علی أثر التوبة. والشاهد الداخلي علی‌ ذلك‌ من‌ نفس الایة قوله تعالی بعدها مباشرة: ﴿وأنـیبوا إلی ربـّكم وأسلموا من قبل أن یـأتیكم‌ العذاب ثم لا تنصرون﴾.

أما النقاط التي نرید أن نبحثها في‌ مسألة‌ التوبة‌ فهي مایلي:

أ ـ ضرورة التوبة.

ب ـ مقدمة التوبة.

حـ ـ أركان التوبة وشرائطها.

د ـ التوبة النصوح.

إن ضرورة التوبة تنبع من ضـرورة الایـمان، وفلسفتها نفس‌ فلسفة‌ الایمان‌ والطاعة.

فمن یری أن فلسفة الایمان والطاعة عبارة عن الهروب‌ من‌ النار والطمع فی الجنة، فنفس الفلسفة هي التي تملي علیه التوبة ؛ وذلك لان الطریق‌ الوحید‌ الذی اوجب اللّه تعالی بـه عـلی نفسه المـغفرة فلا یوجد فیه تخلّف‌ إنما‌ هو التوبة حیث قال اللّه تعالی: ﴿إنما‌ التوبة‌ علی اللّه للذین یعملون السوء بـجهالة‌ ثم‌ یتوبون من قریب فأولئك یتوب اللّه علیهم وكان اللّه علیماً حكیماً﴾. أمـا‌ المـغفرة‌ بـلا توبة فهی تتحقق من‌ اللّه‌ سبحانه وتعالی‌ بلا‌ شك‌، ولكنه لم یوجبها علی نفسه‌ بل‌ علّقها علی مـشیئته ‌فـی قوله تعالی: ﴿ویغفر ما دون ذلك لمن‌ یشاء﴾‌، كما أن قبول شفاعة الشافعین‌ علّقه علی ارتـضائه فـقال‌: ﴿ولا یـشفعون إلاّ لمن ارتضی﴾‌، وقال أیضاً: ﴿یؤمئذ لا تنفع الشفاعة إلاّ من أذن له الرحمن ورضی‌ له‌ قولاً﴾ وقال أیضاً: ﴿مـا‌ من‌ شفیع‌ إلاّ من بعد‌ إذنه﴾‌، وقال ایضاً: ﴿ولا‌ تنفع الشفاعة عنده إلاّ لمن أذن له﴾، وقـال ایضاً: ﴿وكم من مـلك‌ فـی‌ السماوات لا تُغنی شفاعتهم شیئاً إلاّ‌ من‌ بعد أن‌ یأذن‌ اللّه‌ لمن یشاء ویرضی﴾، وقال ایضاً: ﴿من ذا الذی یشفع عنده إلاّ بإذنه﴾. اذن فالطریق الوحید الذی وعد‌ اللّه‌ وعداً قطعیاً بالمغفرة علی أساسه إنما‌ هو‌ التوبة‌.

وقـد ورد عن‌ أمیر‌ المؤمنین(علیه السلام) أنه قال: «لا شفیع أنجح من التوبة»

ومن یری أن فلسفة الایمان‌ والطاعة‌ عبارة‌ عن إكمال النفس وتهذیبها وتصفیتها، فالامر‌ هنا‌ أوضح‌ مما‌ سبق‌. ونفس الفلسفة تدعوه إلی التوبة لان التـوبة مـاء یغسل به درن القلب وغباره ورَینه. وقد ورد فی الحدیث عن الباقر(علیه السلام): «ما من عبد إلاّ‌ وفی قلبه نكتة بیضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج فی النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السـواد، وإن تـمادی فی الذنوب زاد ذلك السواد حتی یغطّی البیاض‌، فإذا غطّی البیاض لم یرجع صاحبه إلی خیر أبداً ؛ وهو قول اللّه عز وجل: (بل ران علی قلوبهم ماكانوا یكسبون)»

ومن یری أن فلسفة الایمان‌ والطاعة‌ هی أن اللّه اهـل للطـاعة، بغض النظر عن جنّة أو نار، فهو یطلب رضوان اللّه ویتحرك بحبّه للّه، فالامر هنا‌ أوضح‌ مما سبق. ونفس الفلسفة‌ تدعوه‌ إلی التوبة لان اللّه تعالی یرضی بالتوبة ویفرح بتوبة عبده، كما ورد بسند صحیح عـن أبـی عـبیدة قال: «سمعت أبا جعفر(علیه‌ السـلام)‌ یـقول: إن اللّه تعالی‌ أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده فی لیلة ظلماء فوجدها، فاللّه أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل بـراحلته حـین وجـدها»

وقد ورد في‌ الحدیث‌ أنه لما أكل آدم من الشـجرة تـطایرت الحلل عن جسده وبدت عورته، فاستحیا التاج والاكلیل من وجهه أن یرتفعا عنه، فجاءه جبریل فأخذ التاج من رأسه وحـلَّ الاكـلیل‌ عـن‌ جبینه ونودي‌ من فوق العرش: اهبطا من جواري فإنه لا یـجاورني من عصاني. قال: فالتفت آدم‌ إلی حوّاء باكیاً وقال: هذا أول شؤم المعصیة. أُخرجنا‌ من‌ جوار‌ الحبیب»

إنّ هذا لهـو مـقام عـظیم أن یكون بكاؤه علی الخروج من جوار الحبیب قبل ‌‌أن‌ یكون عـلی فـراقه الجنة، وهذه هي الفلسفة الثالثة التی أشرنا إلیها للتوبة‌ والندم‌.

وإن شئت مقاماً أعظم من هذا المـقام فـی التـوبة فلعله هو المستفاد من قوله‌ تعالی:﴿إن الذین اتقوا إذا مسّهم طائف من الشـیطان تـذكروا فـإذا هم مبصرون﴾‌، فكأنّ الایة المباركة‌ تشیر‌ إلی أن توبة المتقین لیست من صدور الذنب منهم، بـل مـن الهـمّ بالذنب ؛ فإن الشیطان الذی یطوف حول قلب المؤمن یمسّ قلبه كی ینفذ فیه ویورّطه فـی المـعصیة فیهمّ‌ العبد بالمعصیة، ولكن قبل تمام النفوذ والتورط فی المعصیة یتذكر المتّقی فـإذا هـو مـبصر یرتدع عنها. وقد وردت روایات عدیدة بمضمون تفسیر الایة من أن العبد یهمّ بالذنب ثم‌ یـذكر‌ اللّه فـیحول الذكر بینه وبین تلك المعصیة

والمقام الاكبر فی التوبة من هذا المقام هـو تـوبة المـعصومین التی لیست توبة من الذنب ولا من الهمّ بالذنب، بل‌ من‌ سیئات المقرّبین التي هي مـن حـسنات الابرار.

نسأل الله أن يتوب عنا، وإن يجعل لنا قدم صدق عنده بجوار محمد وآله صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين.

والحمدلله رب العاملين.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2151
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 06 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19