• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : الثقافة .
              • القسم الفرعي : الأخلاق والإرشاد .
                    • الموضوع : دور الأخلاق فی عملیة التغییر .

دور الأخلاق فی عملیة التغییر

 محسن محمد عطوي

مقدمة:

إذا كان ثمّة دور لكثیر من الأمور فی‌ عملیة‌ التغییر‌ فان الدور الأسـاس إنـما هـو للاخلاق من دون نزاع، وان كان ثمة تراتب فی الأهمیة‌ للأدوار فان الدور الأهم-أیضا-إنما هو للأخلاق من دون نزاع، وعـندما یكون الأمر كذلك‌ تبدو میزة أخری، هی‌ أن‌ كل سبب من أسباب التـغییر یقوم فی جوهره عـلی القـیم الأخلاقیة التی تحكم مساره فی عملیة التغییر. فالحوزات العملیة، والجامعة، والمجتمع، والسیاسة، بتضاءل دورها فی تغییر الأفراد والأمم بالقدر الذی تفقده‌ من المرتكزات الخلاقیة فی وسائلها وأهدافها. وبهذا یكون هذا الموضوع أساس لكل مـا سبق ذكره من أسابب التغییر او جامعا وخلاصة له. إذن، نحن فی هذا البحث أمام الانسان مباشرة، بل‌ نحن‌ فی داخل الانسان نستبطن ذاته لنمسك بجذور التحول الذی نرید أن نضع الانسان فیه باتجاه الحـق والسـعادة، أو باتجاه الباطل والشقاء. وبقدر ما ننجح فی التنقیب، وبحجم الحصیلة التی‌ نخرج‌ بها، تكون ناجحین فی وضع القانون الصالح. ومن هنا نذهب نحن- معشر المؤمنین - إلی القول بضرورة استناد التشریع إلی اللّه تعالی، لأن الانسان لن یـتمكن مـن معرفة داخلة إلاّ بعد آماد طویلة من‌ البحث‌ لعلمی، إن صاب الواقع. وقبل ذلك سوف یبقی فی دوامة من التجارب التی تزیده إرتكاسا وبعدا عن الوصول إلی حیاة طیبة. وهذا الأمر یلقی عـلی البـحث شوائب تجعله متورطا‌ فی‌ بعض النظریات غیر الناضجة عن النفس وعوالمها‌ الغامضة‌ المعقدة، وتفرض علیه الإسترشاد بأداتین یجب حسم حجیتهما فی هذه الإطلالة، هما:العق لو الشرع.

التعریف

و الأخلاق هی جملة من القواعد التی تهذب‌ السـلوك‌ الانـساني‌ بـاتجاه تنظیم علاقته بالآخرین، والتی تـسالم عـلیها‌ النـاس، والتی تقوم علی الاختیار والتضحیة، والتی منشؤها النفس، ومیدانها العلاقات الاجتماعیة.

فهی تتلاقی مع القانون فی كونها تهدف‌ إلی‌ تنظیم‌ حیاة الانـسان لتـجعل مـنه انسانا مستقیما صالحا، ویعظم هذا‌ التلاقی فی التـشریع الاسـلامي عندما نلاحظ أن المسألة الأخلاقیة لم تنفصل فی المصادر الفكریة عن المسألة القانونیة، بل وردت‌ معها‌ علی‌ صعید النص، كما تكاملت معها عـلی صـعید النـموذج والقدوة فی حیاة‌ النبي‌ والأئمة صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعین، لتشكل نـسیجا واحدا متسقا. فمع النص الذی ورد لتنظیم عقد‌ البیع‌ مثلا‌ ورد بالوضوح نفسه النص الذی یأمر بالصدق والنصیحة للطرف الثانی من‌ المتعاقدین. كما‌ ورد‌ فـی السـیاق نـفسه الحث علی القناعة وعدم إظهار الأثرة والحرص من خلال‌ كراهة‌ دخـول‌ السـوق قبل الناس، وكراهة مدح السلعة، ونحو ذلك مما هو مظاهر لمثالب أخلاقیة ممقوتة. وهذا‌ التناسق فرضه الغـرض التـربوی الذی یـرمی إلیه التشریع والذی لا یلغی ضرورة‌ مراعاة‌ أصول‌ المنهج العلمی الذی یركز علی الفرق الحـاد بـین القـیمة الأخلاقية والمادة القانونیة. ویبدوك‌ ذلك‌ من خلال الأمور التالیة:

الأول: أن مصدر القیمة الأخلاقیة عقلي، إذ یوجد فـی مـدارك الذهـن‌ البشری‌ أمثلة‌ من المعلومات التی تحدد أصول المصالح والمفاسد الاجتماعیة من خلال جملة مـن البـداهات العملیة. فنحن‌ نری‌ أن العدل حسن وضروری لحیاة الانسان، والظلم قبیح ومفسد للحیاة. نری‌ ذلك‌ بـواجداننا‌ الذی یـتحرك مـن خلال بداهة هذا الأمر، حیت ولو لم تتنزل الشرائع بذلك وتأمر‌ وتنهی‌ عنه. ویشترك فی ذلك جمع النـاس بـمختلف أدیانهم واتجاهاتهم الفكریة. وهم‌ إذا اختلفوا فإنما یختلفون فی المصادیق وموارد التطبیق، دون أن یختلفوا فـی جـوهر المـسألة. وقد وردت‌ هذه‌ المسألة فی نزاعات الفرق الكلامیة الاسلامیة باسم الحسن والقبح. وأنه هو‌ هـو‌ ذاتـي عقلي أو أنه شرعي، وقد ذهب‌ الشیعة‌ والمعتزلة إلی ذاتیة القیم الأخلاقیة وعقلیتها. بینما‌ ذهـب‌ الأشـاعرة إلی أن الشـرع والوحي هو الذی یعطی الفعل قیمته. من دون أن‌ تكون‌ له قیمة قبل ذلك. ولذا‌ لا‌ مانع عند‌ الأشاعرة‌ أن‌ یـأمر اللّه بـالظلم فـیصبح حسنا وینهی‌ عن العدل فیصبح قبیحا، إذ لا قیمة ذاتیة له یقف عندها التشرعی ویراعیها.

و نـحن لا نـتردد فی اختیار‌ ذاتیة القیم الأخلاقیة بسبب‌ مانراه‌ بداهة فی عقولنا من حسن‌ أمور‌ معینة وقبح أخـری، بوصف هـذه المعلومات جزءاً من معلومات المسألة الفطریة التی یحتویها‌ الذهن‌ البشری فی عـالم السـلوك، والتی‌ یدركها‌ ما‌ اصطلح علی تسمیته (بالعقل‌ العـملي)، مضافة‌ إلیـها المـعلومات النظریة التی‌ یدركها‌ الذهن ویقیم علی أسـاسها إیـمانه باللّه تعالی، والتی یدركها ما اصطلح علیه (بالعقل النظري).

و بقدر ما یبرز هذا الأمر فـی‌ عـالم‌ الأخلاق، فان الذي‌ یظهر‌ فی‌ التـشریع عـكسه وخلافه، فان‌ أحـكام التـشریع لا تـأخذ هذا العنوان إلاّ إذا صدرت عن الوحي المـعصوم. . وبـلغت بواسطة الرسول‌ المعصوم، حیث نقف فیها عند قوة الإلزام‌ وعصمته. . لنمتنع‌ عن‌ المـساس‌ بـها أو الاعتراض‌ علیها، وتصیحیح سلوكا فینا نساق إلیه بـالتعبد والتسلیم. والأخلاق والقانون بـقدر مـا یختلفان فی المصدر فإنهما‌ یـتحدان‌ فـی‌ الغایة والهدف. فقد أثر (أن النبي رسول من‌ الخارج‌ والعقل‌ رسول‌ من‌ الداخل)، كلاهما یهدف إلی بـناء الانـسان الصالح.

الثاني: نلاحظ أن الأخلاق لا تحقق أهدافها إلاّ إذا صـدرت عـن وضـوح وقناعة وتمت مـمارستها بـاختیار الفاعل ورغبته، وظهر‌ فـهیا عـنصر التضحیة وتجاوز تالذات، وتحقق فی فعلها قدر من المعاناة وقهر النفس. وسبب ذلك أن الأفعال الاخـلاقیة مـرتبة فی كمال أعلی تهدف إلی تحقیق التـناسب والعـفویة‌ فی‌ التـزام الفـاضل لتـصبح طبعا في الانسان لا یـتكلفه. وبقدر ما یشتد وضوحه فی الذهبن قناعة، یحصل فی حیاة الانسان سلوكاً طیباً، وفی كل مـن القـانون والأخلاق یعانی الانسان‌ ویكره نفسه عـلی الالتـزام، لكـنه فـی الواجـب مسوق إلی الإلتزام بـالترغیب والتـرهیب، بینما فی الأخلاق والآداب مدفوع برغبته الذاتیة فی الكمال، فعندما یمتنع‌ أحدنا‌ عن الظلم بالإلزام القانون خوفا‌ من‌ العـقاب. لا یـكون نـبیلا مثل من یمتنع عن ظلم البهائم والحـشرات، فالأول یـحمل فـی نـفسه رغـبة فـی الظلم وحبا له. . یمنعه العقاب من ممارسته، بینما الثانی‌ أصبح‌ العدل جزءجا من ذاته‌ وسجیة فیه فوقع منه حتی علی البهائم رحمة بها ووعیا لدورها.

الأمر الثالث من الأمور التـی یختلفان فیها: توجه القانون فی تشریعاته إلی عموم الحیاة، كفرد ومجتمع وطبیعة، من أجل‌ أن‌ تكون كل نشاطات الانسان محكومة للشریعة وفی قبضتها، فلا ینحرف، ولا یشتط من أیة جهة من الجهات یمكن أن یأتي منها الفـساد والانـحراف، بینما نلاحظ أن الأخلاق تتجه إلی العلاقات‌ الاجتماعیة‌ بنحن بماشر، لأن‌ هدف الأخلاق هو تحسین التعالم بین الناس وترطیب العلاقات الاجتماعیة، فمثل الصبر، والحلم، والصدق، والتواضع والحیاء، والقناعة ونحوها من القیم الأخلاقیة، ینظر فهیا دائمـا إلی وجـود‌ طرف‌ آخر‌ تجب خدمته ومنع الصدام معه، ولو فی الحدود الدنیا التی قد لا یهتم بها الانسان كثیرا. لكن ‌‌الدور‌ المهم الذی تلعبه القیم الأخلاقیة إلی جانب القانون هـو أنـها تخفف من جفافه‌ وتعطیه‌ الحـحیویة والحـرارة لتنعكس دفئا فی العلاقات الاجتماعیة. فكم نری من الفرق بین من ینفق علی‌ أبویه العاجزین ویستأجر لهما خادما یقوم بشؤونهما، فیعدّ مؤدیا للواجب الشرعی، ومن یـقوم‌ هـو علی خدمة أبویه، مندفعا‌ بـنزعة‌ الاخـلاص والحنان علی هذین اللذین أنهكا جسدیهما فی سبیله، فتبدو فی الموقف الثانی الحرارة والدفئ اللذین لم یظهرا فی الموقف الأول.

و لا یعد هذا نقصا فی القانون بقدر‌ ما هو مسایرة لطبائع النفوس وتـفاوتها فـی درجات الكمال، وتنفیذ لنزعة الیسر التي هی أحد أركان القانون، عندما یكون فی الالزام بالأمر الثاني إرهاق للمكلف وإحراج له من جهة، ومن‌ الجهة‌ الثانیة لا یشعر الأبوان بامتلاء النفسي وبرد الجمیل لهما إلاّ فـی المـمارسة الطوعیة لهـذا الخدمات.

و مع كل هذا النزوع فی الاخلاق نحو الاعلاقات الاجتماعیة نلاحظ أن أصول هذه‌ الأفعال‌ فردیة، أي هي-أساسا-فی داخل النـفس. وفی هذا تأكید ثبات القیم الأخلاقیة واستمراریة مظاهرها الفعلیة، فی الوقـت الذی لا تـعد تـنظیما للداخل، فهی تصدر منه ولكنها لا تنظمه فیدخلنا‌ ذلك‌ فی تساؤل كبیر عمیا ینطّم الداخل ویكمله.

و لكن قبل الإجابة عـن ‌هـذا التساؤل لا بد من الانتهاك من مسألة الفروقات بین الأخلاق والشریعة، إذ نلاحظ علی هـامش‌ هـذه‌ الفـروق‌ أن ثمة قیماً أخلاقیة تسالم‌ علیها‌ الناس‌ وحكمت بها بداهة العقل العملي. نری أنها دخلت فی القانون وأصبحت واجـبات ومحرمات، بینما بقیت قیم أخری فی دائرة الآداب المستحبة‌ وداخلة‌ فی التعریف الذی نحن بصدد الخروج بـه من‌ ألوان‌ ظلم الآخـرین فـی كرامتهم، ومثل وجوب برّ الوالدین، وصلة الرحم، والصدق، ونحو ذلك، بینما بقی مطثل الحلم، والصبر، والتواضع، والقناعة، فی‌ معظم‌ جوانبها اختیاریة.

و الذي یبدو فی تفسیر هذه الظاهرة هو‌ أن التشریع الإلهی قد حرص علی جملة من هـذه القیم بسبب أهمیتها الكبری وضرورة قیام المكلفین بها. وخوفا‌ من عدم أدائهم لها إذا تركت لهم الحریة فی الأداء، ألزمهم بها، ولو‌ علی حساب بعض إیجابیات الأداء الطوعي لها. كما أن فی الالزام بها محاولة لتدریب النفس عـلی التـزام‌ القیم‌ الأخلاقیة‌ والإهتمام بها، وإلاّ فان معظم الناس لا یلتزمون هذه القیم باختیارهم، وإنّ‌ انتظارهم‌ حتی یتكاملوا یوقع كثیرا من المفاسد فی حیاة الناس الذین لا بدّ من المعالجة‌ الفوریة‌ والتامة لكل مـشاكلهم. وهـذا فی الحقیقة أحد مظاهر التكامل بین الأخلاق والقانون فی‌ السعي‌ الی بناء الحیاة الانسانیة السعیدة.

و خلاصة ما تقدم، أن القیم الأخلاقیة ما كانت‌ لتفصل‌ تحت‌ عنوان خاص ویكون لها علم خاص لو لا أن لهـا تـمایزا عن جملة‌ العلوم‌ التی تعنی بسلوك الانسان وتهذیبه، فهی جملة قواعد یستحسن التزامها بأمر الوجدان، وتصدر‌ عن‌ النفس‌ طواعیة واختیارا، لتحقق مزیدا من الكمال فی حیاة الناس الاجتماعیة، وقد ورد فـی العـاید‌ مـن‌ النصوص ما یفید الفرق بـنی الشـرعیة والأخـلاق، ویدعو إلی التزام الخلق‌ الحسن‌ بوصفه‌ جزءا من الایمان. وقد ورد «إنّ أكمل المؤمنین إیمانا أحسنهم أخلاقا» [بحار‌ الانوار، ج 74، ص 151] و ورد أن «الدین المعاملة» [بحار الأنوار، ج‌ 86، باب‌ حسن‌ الخلق.]. كما ورد:«إنتما‌ بعث‌ لأتمم‌ مـكارم الأخـلاق». وكـل ذلك یؤكد دور الأخلاق الممیز والأساس فی عملیة‌ التغییر. ومـا أظـن أن هذه المقدمة لون من الترف العملی، إلاّ إذا أردنا تجاوز الإعتبار العلمی والدخول‌ فورا‌ فی المسألة العملیة.

النفس

و لن یكتمل التخطیط لهذا البحث. . ورسم المـلامح الأسـاس‌ له، إلاّ‌ إذا توقفنا عند النفس التي هی موطن هذه‌ القیم‌ ومنطلقها إلى الجسد الذی یـبرزها سلوكاً وأعمالاً. والنفس كانت ولا تزال الشغل الشاغل للمصلحین وعلی رأسهم الفلاسفة الذین‌ هاموا‌ فی كل واد بحثا فیها، حتی‌ أصـبح‌ لهـا عـلم‌ خاص‌ فی‌ ثقافتنا الحدیثة، أحسن ما یاقل فیه أنه‌ لا‌ یزال ولیدا یـحبو، مع ضـخامة انجازات العلوم الطبیعیة التی بقیت أمامها علوم النس‌ ضئیلة‌ النتائج، ضعیفة الأبحاث. وما كانت النتائج لتكون‌ كـذلك لو لا أن النـفس‌ عزت علی المقاییس العملية، فبقیت‌ ترفل‌ فی سرها وغموضها، إلاّ علی اللّه الذی خلقها وحـذر منها.

و لكـن‌ الذي أظنه أن معظم الذین عالجوا‌ مسألة‌ النفس‌ بدأوا من تصور‌ یفترض‌ أن النفس شی‌ء خاص‌ مـستقل‌ فـی الوجـود، وله حیثیات محدودة فی داخل الجسد. وكأني بهذا الافتراض خاطئ، اذ یبدو لي‌ أن‌ النفس مـجرد اصـطلاح یقصد به مجموعة‌ الأنشطة‌ الذهنیة التی‌ ترتبط‌ بالجهادز‌ العصبی وتكون فی‌ جانبها العـفوی المـسترسل مـا نسمیه بالهوی والنفس الأمّارة، عبارة، وفی جانبها المهذب والمستنیر ما‌ نسمیه‌ بالصلاح أو النفس اللوامة أو الوجـدان، وكـلاهما‌ عبارة‌ عن‌ فكرة‌ ذهنیة تكونت ضمن‌ النشاط‌ الجسدی العام، وإذا أخذنا مثلا علی ذلك الشـهوة الجـنسیة، والتـی هی من أبرز مصادیق الهوی وأشدها‌ إلحاحا، والتی نجمع نحن علی أنها من جملة‌ اقرازات النفس الأمـّارة‌ بـل‌ ومن‌ أهمها، فما الذی یحدث؟ یكون الانسان منصرفا تماما عن المسألة الجنسیة. ثم یـری مـشهداً مـثیرا. أو یتخیله، وكلا هذین الأمرین نشاط ذهنی. بعد رؤیة المشهد تتحرك شهوة الانسان بسبب إفراز‌ هرمون جـنسی مـن غـدة معینة فی الجسد. عندها یعیش الذهن فی حالة من الرغبة، أي إنها تبقی مـاثلة فـی الذهن. وبقدر الفراز الهرمون یكون. إلحاح هذه الرغبة. وفی هذه الحالة إما أن یستجیب‌ لها‌ فینسجم مع الحـالته النـفسیة أي الذهنیة، وإما أن یقلع عنها. . ولا یكون الاقلاع إلاّ بصرف الذهن عن هذه الفكرة والانـشغال بـأمر ذهني آخر.

ففي كل هذه البلبلة الداخلية‌ الذاتـیة‌ لم نـشعر أن ثـمّة أمراً مستقلاً إسمه الهوی هو الذی تحرك، ولیـس ثـمة شي‌ء آخر غیر هذه الخاطرة الذهنیة والإلماعة العصبیة. هي التي‌ توهجت، ثم‌ خمدت عندما صـرفت عـنان تفكیرك‌ إلی‌ أمر آخر أسمی.

قـد یـندهش بعضهم لهـذه الفـكرة ویـظنها إبتداعاً فیما تسالم علیه الناس، أو المـسلمون، فقد وقـر فی الأذهان التعامل مع النفس بوصفها وجودا‌ً مستقلا‌ً فی الجسد، أن لها سـمة‌ غـیبیة‌ ترفعها عن مادیة الجسد وآلیته. ولكـن النفس فی الحقیقة لا یـوجد مـنها موقف دینی اعتقادی حاسم مـن حـیث ماهیتها، وإن كان هناك موقف رافض لنشاطها وإفرازاتها السیئة. واختلاف‌ فلاسفة المسلمین منها دلیـل عـلی عدم وجود موقف محدد مـنها. ومـا تـسالم علیه الناس لیـس قـائما عل یالعلم الجازم بـل عـلی الظن، وبذا لا یكون ثمّة حرمات ومقدسات، بل هو‌ المدی‌ الرحب للبحث‌ الأقرب للمعقول والمنطق.

و الذي یشیر إلی كـون الرغـبات النفسیة نشاطات ذهنیة مرتبطة بالجهاز العـصبی عـدة‌ أمور:

الأول: إنتقال السـجایا الأخـلاقية وبـعض النزعات النفسیة بالوراثة التـی أصبحت‌ بعض‌ قوانینها‌ المادية معروفة، والتی إلتفت إلهیا الاسلام فی بعض الأحادیث التربویة والجنسیة.

الثانی:المظاهر الجـسدیة للانـفعالات النفسیة مثل، الحیاء، و‌‌الغضب، والخوف، والخجل، ونـحو ذلك.

الثـالث:العقایر التـی تـعالج بـعض الاحالات النفسیة السابقة.

الرابـع:تأثیر الإنـصراف‌ الذهنی‌ باتجاه‌ الأمور السامیة عن الأمور الساقطة والشائنة.

الخامس:تركیز الإسلام علی العلم، وانه بقدر سموه فی‌ العـلم یـكون وصـوله إلی حالة نفسیة أفضل.

السادس:ما ورد من تأثیر بعض الأغـذیة‌ المـعینة عـلی الحـالات النـفسیة‌ والسـجایا الأخلاقیة. والتی أكدها الاسلام والعلم الحدیث معا.

و قد توجد أمور أخری تشیر إلی هذا الأمر.

و الحق أن صیاغة هذه النظریة بنحو كامل یستدعی وقتا واصنرافا للتوفر‌ علهیا، ونحن هنا فی عـجالة تفرض علینا الاشارة إلیها بما لها من علاقة بموضوع البحثآو قد وقع تحت نظری بعض الأقوال التی تذهب إلی ما یشبه هذا الرأي، ولم یتح لي‌ المجال‌ للتوسع فی هذه المسألة:وعـلی كـل حال، فاننا ینبغي أن لا نتوهم أن عالم النفس محاط بالغموض. وفی الأقل، فإن التعالیم التی ینبغی إلتزامها لتهذیب النفس قد وضعها خالق هذه النفس تعالی، فهي‌ صحیحة‌ تماما وموصلة إلی غرضها الكامل.

و هنا یصبح بالإمكان الإجـابة عـلی سؤال سابق، هو:إذا كانت غایة الأخلاق تهذیب المجتمع فمن هو الذي یهذب النفس، ما دامت هي الأساس فی‌ التغییر، سیّما‌ إذا التفتنا إلی قوله تعالی:

﴿إنّ اللّه لا یغیّر ما بـقوم حـتّی یغیّروا ما بأنفسهم﴾ فهی تشدد علی ضـرورلة تـغییر النفس حتی یتیسر تغییر المجتمع؟

و الذي یبدو فی الجواب علی‌ هذا‌ السؤال‌ هو أن ثمة عوالم عدة‌ تساهم‌ في‌ سلامة النفس، وجوهر ذلك كله وصول الوعي الذهني إلی مـرتبة الدفـع باتجاه الفعل، أو الوصول إلی مـرحلة تـحول الرغبة الذهنیة إلی إرادة‌ فاعلة. وهذه‌ الحالة یساهم فیها:

أولا: الیقين الاعتقادي والوضوح الفكري‌ المسبب‌ لحالة من الانكشاف تسهل معها الطاعة. ویمكن أن نسمیها انعدام الخلل الذهني ونصاعة الأفكار بدرجة قویة تقطع‌ دابر‌ الشبهة‌ والشـكوك. وقـد ورد ما یشبه هذا فی كثیر‌ من الآثار، منها ما ورد فی وصف المتقین للامام علی علیه السلام، ومنهأا ما نعت به علی علیه السلام‌ نفسه‌ من‌ أنه«لو كشف له الغطاء ما ازداد یقینا». ومـنها مـا ورد عنه‌ عـلیه‌ السلام:«أوّل الدّین معرفته، وكمال معرفته التّصدیق به» [نهج البلاغة، ج 1، ص 14].

ثانیا: إنشغال الذهن بما یوجب قلة خطور الأفكار المثیرة لسوء‌ الفعال، من‌ قـبیل‌ الخوف من العقاب والرغبة فی الثواب، وذكر الموت، والإعتبار بحال المـاضین‌ مـن‌ الأفـراد‌ والأمم، ونحو ذلك.

ثالثا: إستحضار النماذج الجیدة والاقتداء بها، الأمر الذی یملأ الذهن‌ بحالات‌ نقیة‌ ویثیر الدوافع باتجاه الكمال.

رابعا: بذل الجـهد ‌لإشـباع الحاجات الطبیعیة الموجبة لانشغال الفكر بطلبها. والانجرار‌ إلی ما یحسن من الفعال، مثل الفقر، والشـهوة، ونحوهما.

خـامسا: سلامة التـكوین والتربیة التی‌ تمنع‌ تكون‌ العقد النفسیة التی هی حالات ذهنیة متسلطة بسبب عاهة، أو عادة سـیّئة، أو غذاء سیّئ أو‌ محرم، ونحو ذلك.

سادسا:إلتزام الشرائع التی فرضها اللّه. والرغبة فی القرب مـنه تعالی، فانها لم‌ توضع‌ إلاّ‌ لتـهذیب النـفوس والعروج بها فی معارج الكمال، والتی منها الوصول إلی مرتبة إلتزام السجایا‌ الأخلاقیة‌ الحمیدة.

و فی هذا العرض الموجز یبدو أن الإلتزام الدینی والالتزام‌ الخلقی‌ من‌ سنخ واحد حیث لا بدّ من حصول هذه المرتكزات لتـسیر النفس باتجاه الكمال فی ذاتها، ومع‌ اللّه‌ تعالی، ومع الآخرین. وقد تكون مسألة الهدایة متضحة من خلال هذا العرض‌ بوصفها‌ إحدی غوامض المسائل النفسیة. وبهذا تأكید لنا أن القیم الأخلاقیة التی تـتكفل بـتهذیب العلاقات الاجتماعیة تصدر‌ عن‌ نفس قد تهذبت فتولدت منها هذه القیم، دون أن یكون للقیم ذاتها دور‌ فی‌ تهذیب النفس.

اصول القیم الأخلاقیة

و مجموعة القیم‌ التی‌ یستخدمها‌ المرء فی حیاته تغطی مساحة واسعة من‌ هذه‌ الحـیاة:فی المـأكل، والملبس، والسفر، والحدیث، والأسرة، ومختلف ألوان العلاقات الاجتماعیة، فی حالتی السلم‌ والحرب، والحزن والسرور. وكلّ‌ فعل‌ انساني ذي‌ أثر‌ اجتماعی‌ لا بد أن یكون حكوما لواحد‌ من‌ القیم الأخلاقیة، الواجبة أو الاختیاریة. ومن هنا تـكون القـیم أصولا، والأفعال الانسانیة اشارات‌ إلیها‌ ودلالات علهیا. فـ(الرزانة) تعتبر قیمة أخلاقیة أساساً یتفرع‌ منها وقار المسیر، وهدوء‌ الحدیث، ورویة التفكیر، وتأني الفعل، وقلة‌ المزاح، والإعراض عن اللغو واللعب، ونحو ذلك من السجایا والسمات‌ الطـیبة‌ الراقـیة. وهـكذا غیر الرزانة من‌ القیم‌ الاخـقیة، مثل‌ الشـجاعة، والصـبر، والرحمة، والحیاء. ونحن هنا لا‌ نرید‌ الاستغراق فی التفاصیل لضیق المجال عنه، ولكن لا بد من استعراض القیم الأخلاقیة الأصلیة‌ لنری‌ مقدار إحـاطة الأخـلاق بـالفعل الانساني ومدی‌ دعمها للشریعة‌ فی‌ بناء‌ الانسان المؤمن.

و القـیم الأسـاس‌ الكبری هی:

1- الحیاء: وفی دلالتها النفسیة تععنی الترفع عن الدنایا وشؤون الجسد بنحو یكون‌ العقل‌ هو الذی یمسك بزمام الجسد وحـاجاته، فلا‌ یـدع‌ الانـسان‌ یقع‌ فی العیب والاسفاف‌ والذلة من جراء الرغبة فی إشباع الحاجة.

2-الصـبر:و هو یعنی الأشمل من الحاجات المدایة إلی‌ مطلق‌ الانفعالات‌ النفسیة. . فیقف بها عند الحدود المطلوبة عرفا أو‌ شرعا‌ لیتحكم‌ الفـاعل‌ بـردة‌ الفـعل، دون‌ أن تتحكم به ردة العفل. ویشمل العفة وكذا القناعة وما یتفرع عنهما، ویـعنی بـالعفة الصبر عن الشهوة، وبالقناعة الصبر علی الحاجة. ویدخل فی الصبر‌ الحلم، والعفو، وكظم الغیظ، والورع، والرویـّة، ونـحوهاع مـن تونابع الصبر.

3- الشجاعة:و هی عبارة عن ثبات النفس أمام الخطوب والمحن ومواجهتها بـوعی، فتتمثل قـوة فـی الجسد، وثباتا فی الحرب، ویقینا‌ فی المعتقد، وجرأة فی القول، ونحو ذلك.

4- الحكمة:و هی حـالة مـن الوضـوح الفكری تنعكس علی العلم وتوابعه، وعلی إعطاء كل شی‌ء ما یسنابه، وتشمل أیضا الاقـتصاد، بنحو لا یـقع‌ فی‌ الاسراف والتبذیر.

5 -الرزانة: و هی خلیط من الصبر والحكمة، تنعكس هدوءا وطمأنینة فی القـول والفـعل. كما ألمـعنا إلهیا آنفا.

6 -الصد: فی القول‌ والفعل، بنحو یصدر عن ذهن موضوعی‌ یحب‌ الصراحة والوضوح فیما یصدر عـنه وفـیما یرد علیه.

7-التواضع:و هو من أهم القیم الأخلاقیة بسبب ما یدفع به من الكـبر والغـرور. ومـا‌ هما علیه من الخطر‌ العظیم. ویدخل فیه كراهة والرئاسة، والمشورة للآخرین، ومحاسبة النفس، والاعتراف بالخطأ.

8-الانـصاف: وهـو إعطاء كل ذی حق حقه سواء من نفسه أم من غیره، وهو أساس الحـیاة الصـالحة وروحـ‌ إلتزام القوانین، وجوهر احترام الآخرین وتقدیرهم.

9 -الرحمة:و هي القیمة الأكثر تأثیرات فی علاقات الناس الاجتماعیة لأنـها فـی مـعظمها مبنیة لعی التسامح، والمحبة، والحنان، والاحساس بآلام الآخرین، والتي هی فروع‌ هـذه‌ القـیمة الجلیلة.

10 -الانضباط: وهو یعنی معرفة حدود النفس، وتقدیر كفاءة الآخرین، والوفاء بالوعد أو العهد ذي المنحی السیاسي. والوقوف عـند تـلك الحدود.

و لكن المدقق فی هذه الأصول سوف‌ یضع‌ كثیرا‌ من الملاحظات التی تـجعل الواحـدة أقرب إلی الأخری أو یری فی قیمة منها فـرعا لقـیمة أخـری، الأمر الذي ‌‌یحتاج‌ إلی توسع فی البحث من جانب اللغـة والفـلسفة والدین، لیضع الجدول الدقیق‌ لمفردات‌ هذه‌ القیم بنحو متقن وكامل. ونحن ف ی‌الحقیقة نرسم مـلامح دون أن نـتعمق كثیرا فی‌ السمات والخصوصیات الحـاسمة. ومـع ذلك فنحن عـلی درجـة طـیبة من القناعة بسلامة‌ هذه التخطیط العام.

الدور التـغییري‌ للأخلاق:

أمـا دور الأخلاق فی عملیة التغییر فلیس موضع شك علی الاطلاق، بل لیس من شـك فـی كون الدور الطلیعی. إنما هو للأخلاق دون منازع، ولكـن صعوبة إلتزامها تستوجب مـنا مـزیدا من التوقف لنبحث‌ عن خـصوصیات هـذه المیزة. ویظهر هذه الأمر عند مقارنة الأخلاق بالمؤسات التعلیمیة أو بالنظام، فإن كل واحد مـنهما عـملیة مادیة تحدث خارج النفس وتـخضع لمـقاییس خـارجیة، فتنج فی التغییر بقدر إحتوائها عـلی عـناصرها‌ الموضوعیة‌ والفنیة. وإذا كان لا بـد مـن دور للأخلاق فیها، فهو الشرط الذاتي الذي لا بد من احتواء كل فعل علیه، بینما نری أن خصوصیة الأخـلاق الشـخصیة، بمعنی عیش الانسان فی حالة‌ استنفار‌ دائم مـع نـفسه ورغباته، وقـرب هـذه المـعركة من النفس یجعل عـملیة الاستمرار والنجاح فیها صعبة، الأمر الذی ینعكس وهنا علی دورها فی عملية التغییر. ولعل من اللافت للنـظر‌ أن یكون أعظم الأدیان وأهمها، وهو الاسـلام، وأعـظم الأنـبا‌ء شـأنا وخـاتمهم، محمد(ص)، قد جعلت الغایة مـنهما إتـمام مكارم الأخلاق، فلو لا صعوبة الوصول إلی هذه المرتبة لما وظفت أفضل الوسائل‌ لتحقیقها.

و الحقیقة، اننا طورا نرید التغییر علی‌ صـعید‌ نـخبة‌ مـن الأفراد یمثلون القدوة والشهادة علی الآخرین، وطـورا نـرید التـغییر عـلی صـعید جـمهور الناس، وكلاهما وان كانا ممكنین، إلاّ‌ أنّ‌ التفاوت‌ سوف یبقی كبیرا بین سمو أخلاق النخبة وأخلاق‌ الجمهور، الأمر الذی یحتم البحث عن حد أدنی لتغییر الأمة نضطر إلی الوقوف عنده.

و إذا اعتبرنا مضمون خـطبة المتقین‌ للامام‌ علیه‌ السلام هو الدرجة الممتازة التی یجب أن تصل إلیها النخبة، فان‌ ذلك یعنی أن جمهرة الناس سوف تلتزم الحد الأدنی من الأخلاق متأثرة بالقدوة، لأن (النموذج) هنا هو الذی یقوم بالدور‌ الأساس‌ فی‌ عـملیة التـغییر، سیما إذا التفتنا إلی أهمیة كون النبی(ص) علی خلق عظیم فی‌ وضع‌ النموذج الكامل أمام الناس. وبعد النبی أهل البیت الذین هم الامتداد المستمر لهذا النموذج، ومن هنا‌ لا‌ بد أن تخوض القلة المؤمنة مـعركة دائمـة مع نفسها من خلال ما سلف‌ ذكره‌ من‌ الأسس، والتی أهمها الوصول إلی مرتبة الیقنی الفكری الذی یجعل العقل كاشفا لحقائق الأمور. ومع‌ هذه‌ المـرتبة لا بـدی من عقد العزیمة علی اسـتحقار الدنـیا وما فیها من متابع‌ زائل. تخوض‌ النخبة هذه المعركة وتحسمها لصالح النموذج الأخلاقی، ثم لا بدی أن تسعی لابراز‌ هذا‌ النموذج، أی‌ إلی أن تكون هی الحاكمة لجمهور الناس، كی یتأثر النـاس بـهم كنموذج، فیعیش الجمهور فی الحـالة‌ الأخـلاقیة‌ بمراتب مختلفة تطبع الأمة بطابعها الأخلاقی، وتحقق الحد الأدنی من التغییر المطلوبة بالتعاون‌ مع‌ باقی‌ الأدوات. وفی هذه الكلمة لعلي علیه السلام فی وصف المتقین ما یكشف عن هذه المـسألة. یقول‌ عـلیه‌ السلام:«. . . هجم بهم العلم علی حقیقة البصیرة، وباشروا روح الیقین، واستلانوا ما استعوره‌ المترفون، أنسوا‌ بما‌ استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدّنیا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلی» [نهج‌ البلاغة، ج 3، ص 173] ومثل هذه المرتبة‌ من‌ الأخلاق‌ صعبة عـلی النـخبة، فلن تـكون سهلة علی الجمهور. وبما أن عامة الناس‌ لا‌ یهجم بها العلم علی حقائق الأمور، بل تبقی متقادة للملوكها ومتأثرة بـسلاطینها، فلا بدی من سلطان أخلاقی‌ یقتدی‌ به الناس باتجاه عملیة التغییر التـی تـصلح الحـیاة بحدها الأدنی.

إذن ثمّة‌ تلازم‌ مهم بین الأخلاق والسلطة فی تحقیق‌ التغییر‌ المطلوب‌ علی صعید لأمة، وبقدر ما تـفقد ‌الأمـة‌ النموذج‌ الحاكم، تكون صعوبة جعلها فی دورة التغییر التی یمكن أن تحققها الأخلاق من خلال‌ الوعـظ‌ والتـوجیه. وصـحیح أن الكلمة‌ تؤثر، ولكن عند‌ ما‌ ألقی‌ السمع وهو شهید. أما الذی ینسی‌ سریعا، ویصفق لحظة الاستماع إلی الكـلام الجمیل المنمق، فإنه لن یستفید من هذه المواعظ أبدا، ومعه‌ یبقی دور الأخلاق مقصرا علی التكامل‌ الفردی الذی سـوف تبقی‌ دائرة‌ محصورة فی النـخبة، وهـذه المسألة‌ هی‌ التی تفسر الدور السیاسی للدین الاسلامی فی الوقت الذی یقوم جوهره علی الأخلاق.

و قد یتوهم بعض السامعین أننا متشائمون فی‌ مـدی نـجاح الأخلاق في دورها، ولكن الواقع هو ذلك، لذا من هنا نركز فی عالم المسؤولية والمواقع الحساسة فی الأمة علی ضرورة أن یتولاها الكامل من الأفراد، وألا لكفی‌ مطلق العارف بمنصبه ولو لم یكن مؤمنا أو أخلاقیا. ولولا المـیزة التـی نـحن بصددها للفعل الأخلاقي، فی كونه فـعلاً نـفسیاً یـحتاج باستمرار إلی بذل الجهد، لما كنا بحاجة إلی‌ موجهین‌ ولا إلی سلطة، ولتعليم الخیر والنفع للمجتمعات البشریة كلها. لكن الواقع أن هذه المیزة هي التي جـعلت الأخـلاق تـدخل فی كل‌ أمر‌ لتكون ضمانة استمرار الالتزام، وضـمان‌ بـقاء الكمال، فی الوقت الذی تضمن فیه السلطة توسع دور الأخلاق علی صعید الامة، فان الأخلاق هی جوهر نجاح العمل السیاسی لیصل إلی أهدافه مـن خـلال‌ النـخبة. وهكذا یتكاملان فی هذا‌ الدور‌ كما تتكامل أمور كثیرة فی بـناء الحیاة السعیدة.

و من الضروري قبل تجاوز هذه الفقرة أن نؤكد أننا لا نقصد بهذه الفكرة فرض القیمة الأخلاقیة بقوة السلطة. . لأن ذلك یـلغي جـوهر‌ القـیمة‌ الأخلاقیة القائم علی الممارسة الطوعیة للأفعال الأخلاقیة، بل إن دور السلطة هو أن تساعد عـلی الوجـود الساطع للنموذج الأخلاقی الذی یحقق ثماره الطیبة فی تأثر الناس واقتدائهم به.

و قد‌ یكون‌ من الضروري‌ لمن یـرید أن یـأخذ نـفسه بمكارم الأخلاق أن یكره نفسه علی الفعل الأخلاقی عندما لا یری من‌ نفسه الاقـبال العـفوي عـلیه، وذلك فی المرحلة الأولی من جهاد النفس‌ وجعلها‌ فی مسیرة الكمال. وصحیح أن الفرق كبیر بین الطـبع والتـطبع، ولكـن التطبع یصبح مهما ولازما ‌‌عندما‌ تكون الخطوة لا بدّ منها، وعندما تكون المقدمة ضروریة لجـعل النـفس تألف ما‌ هی‌ عازفة‌ عنه. وقد ورد فی الآثار ما یفید التسامح بهذا الأمـر فـی الخـشوع فی الصلاة وفی البكاء علی الامام الحسین علیه السلام، فقد ورد الحث علی البكاء أو التباكی‌ عـلی مـصیبة أبی عبد‌ اللّه‌ الحسین، كما ورد فی جملة من آداب الصلاة ما یساعد علی تحقیق حـالة الخـشوع، مـثل ترقیق الصوت، وسكون الجوارح ونحوها، كذلك نحن نری فی عموم النظام التربوي ‌ما یشجع علی التـمسك الظـاهري‌ بالآداب والفضائل والمندوبات لتكون مقدمة للإلتزام الحقیقي والذي یبدو فی تفسیر هذا الأمر أن التـطبع الاخـتیاري یـعبّر عن رغبة فی الفعل ناتجة من درجة طیبة من الوضوح، وتحتاج إلی‌ المزید‌ من الصـقل لتـصیح نـاضجة كاملة. فإذا قام الانسان بالفعل فی بداة الأمر رغبة به فقد سـلك الطـریق وبدأها، وبقی علیه أن یتعهد هذه الرغبة بالنمو والعنایة لتؤتی ثمارها‌ الكاملة، وحینئذ لا فرق بین الناس فـی هـذا الأمر، بل هذه المرتبة هی الحد الأدنی الذي علیه معظم الناس. ولذا نلاحظ أن قسماً مـن النـاس خلوقون فی المجتمع مع الأغراب عـنهم، بینما تـكون أخـلاقهم سیئة مع الأقارب والأهل. وهذه الظاهرة تـدل عـلی أن الإلتزام في هذا القسم من القیم الأخلاقیة لم یصل إلی مرتبة الطبع الكامل. . وإنما التزمها بتأثیر العـرف ومـفهوم‌ العیب‌ واللیقات الاجتماعیة التی تـجعل‌ حـاجزا‌ بین‌ الانـسان وطـبعة المـسترسل غیر المهذب فإذا ارتفع هذا الحـاجز بـین الأهل أو عند الشدائد. . یظهر الطبع علی حقیقته، و؟ قول النبی(ص): «خیركم خیركم‌ لأهل‌ وأنا خـیركم لأهـلی» یشیر إلی هذه الظاهرة ویشدد‌ علی‌ ضرورة عـدم التسامح في مكارم الأخـلاق مـع الأهل، فهي أن ظهرت معهم سـوف تـظهر بطریق أولی مع غیرهم.

و دور‌ المؤمن‌ الخلوق فی عملیة التغییر دور مهم، لكن الواقع الذی یعیش‌ فیهأ المـؤمنون لیـس فی مستوی الدور، فالذي نلاحظه یـؤكد وجـود مـؤمنین یلتزمون أحكام الشـرع التـزاما ظاهریا دون أن تنعكس‌ حرارة‌ فـی‌ القـلوب وخشوعا فی القلوب ودموعا فی الأعین من خشیة‌ اللّه، وهو أشبه ما یكون بـالامان المـجلد الفاقد للحیاة، كذلك فان جملة المؤمنین لم یـكمل إیـمانهم بحسن أخـلاقهم، فتعجب‌ لوجـود‌ مـشاكل‌ بینهم، كما تعجب لعدم نـجاح الكثیر منهم فی حیاتهم الأسریة رجالا كانوا أم‌ نساء. ولو‌ أخذت شریحة من هؤلاء المؤمنین وشـریحة مـن غیرهم من عامة الناس، لما رأیت فـرقا‌ كـبیرا‌ بـینهما‌ إلاّ فـیها نـدر، وإلا فی بعض الأمـرو الظاهریة.

و هـذا أمر خطیر فی النخبة، لأن‌ المسؤولیة‌ الكبیرة التی یتحملها الأخوة المؤمنون فی قیادة العمل الاسلامی ورعایته والمـشاركة‌ فـیه‌ تـستوجب‌ أن یكونوا نماذج طیبة فی حیاتهم وقدوة لغیرهم.

و یـبدو أن أسـالیبنا فـی‌ التـربیة‌ مـسؤولیة عـن معظم ذلك، فلا یكفی أن تحشو أفكارنا وأفكار غیرنا بالعلم وفنون‌ المعرفة‌ لنصبح فی الموقع، المناسب، بل لا بدّ من أخذ النفس بألوان المكارم الأخلاقیة، وتعهد من هم معنا‌ بالتربیة‌ العملیة والعـنایة الدائمة، إذ من الضروري تلاقی العلم والعمل فی واقع‌ الحیاة‌ لنسیر‌ جمیعا وحو الأفضل، لذا فإنه «من ازداد بابا من العلم ولم یزدد بابا من التقوی لم‌ یزدد‌ من‌ اللّه إلاّ بعدا»و لیس ذلك إلاّ لأن العلم تبدو قیمته بـالعمل الذي یتم‌ علی أساسه والكمال الذی یتحقق من خلاله، وان معركة المؤمنین عظیمة وواسعة وشرسة‌ مع‌ قوی الكفر والطغیان وشرط القوة فیها كما هو شرط الأنتصار، المزید‌ من التقوی والمزید من مـكارم الأخـلاق، فی‌ زمن‌ قلّ‌ فیه التقاة والأخلاقیون. وحتی علی صعید‌ الانتصار‌ فی المعركة مع المنافقین والسفهاء لا بدّ من احتلال النماذج الممتازة موقع‌ القرار‌ والقیادة لتـكون مـؤثرة فی‌ قیادة‌ هذه المرحلة‌ العـصیبة‌ مـن‌ تاریخنا.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2146
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 06 / 19
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19