• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : النبي (ص) وأهل البيت (ع) .
                    • الموضوع : نهج الإمام علي عليه السلام في الحکم ودوره في تشکيل مسار الخلافة الراشدة .

نهج الإمام علي عليه السلام في الحکم ودوره في تشکيل مسار الخلافة الراشدة

 

 د. عبد المجيد زراقط

 

 

السؤال: لم كانت «قريش»(1) معادية للامام علي(ع)؟

ثمة سؤال طرح من قبل، ولا يزال يطرح اليوم، من دون ان يلقى اجابة حاسمة، وهو: لماذا وقف القرشيون بخاصة، ومالكو الثروة بعامة، موقفاً معادياً للامام علي(ع)، وعملوا جهدهم من اجل الحيلولة دون توليه الخلافة، على الرغم من معرفتهم بموقعه من النبي(ص) ودوره في التاريخ الاسلامي، وبأهليته لها وصية وكفاءة؟

اثيرت هذه المسالة في زمن معاصريها، فعجب المقداد بن الاسود مما اوتيه اهل البيت، فقال: «ما رأيت مثل ما اوتي إلى اهل هذا البيت بعد نبيهم! اني لأعجب من قريش انهم تركوا رجلاً ما اقول ان احداً اعلم ولا اقضى منه بالعدل!»، وتمنى ان يجد اعواناً، فأضاف: «اما، والله، لو اجد عليه اعواناً!»(2).

وتثار حديثا، فقد لاحظ المستشرق نيكيتيا اليسييف ان القرشيين كانوا مصرين على تقليد الخلافة لواحد منهم على ان يكون الاكثر حزماً في مواجهة اسرة النبي (علي وذويه)».

وفي ما(3) يأتي نحاول ان نتلمس اجابة من خلال استقراء الوقائع التاريخية.

معرفة «قريش» حق الامام علي(ع)

تفيد هذه الوقائع ان القرشيين كانوا يعرفون حق الامام علي كما يعرفه المقداد، فنقرا في هذه الوقائع ان عبد الرحمن بن عوف قال للامام علي(ع)، في اثناء مداولات «شورى الستة»: «انك تقول: اني احق من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن اثرك في الدين، ولم تبعد»(4).

وتفيد هذه الوقائع، ايضاً، انهم كانوا يعرفون طبيعة ما يفعلونه، وهو «ابتزاز الحق»، على حد تعبير معاوية بن ابي سفيان، في رسالته لمحمد بن ابي بكر عندما كتب إلى هذا الاخير، فقال: «... وقد كنا، وأبوك معنا، في حياة من نبينا(ص)، نرى حق ابن ابي طالب لازماً لنا، وفضله مبرزاً علينا، فلما اختار الله لنبيه(ص) ما عنده، واتم له ما وعده، واظهر دعوته، وافلج حجته، قبضه الله اليه، فكان ابوك وفاروقه اول من ابتزه وخالفه. على ذلك اتفقا واتسقا... فان يكن ما نحن فيه صواباً فأبوك اوله، وان يك جوراً فأبوك اسسه، ونحن شركاؤه، وبهديه اخذنا، وبفعله اقتدينا...»(5).

يقر معاوية بـ «اننا كنا نرى ان حق ابن ابي طالب لازم لنا وفضله مبرزاً علينا..»، فما هو هذا الحق؟ نرى انه كان يشير، من دون ان يصرح، إلى النصوص النبوية التي تقر هذا الحق، وهي الاحاديث النبوية المعروفة: «من كنت مولاه فعلي مولاه»؛ «ان علياً مني وانا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي»؛ «ان هذا اخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له واطيعوا»؛ «حديث الثقلين»؛ «انت مني بمنزلة هارون من موسى»؛ «يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش»(6).

وان كان معاوية لم يصرح بطبيعة هذا الحق واصوله، فإن الخليفة عمر بن الخطاب قد اشار في حديث له مع عبدالله بن عباس إلى ذلك عندما قال مرة: «لقد كان في رسول الله من امره ذرو(طرف) من قول...»، ومرة اخرى: «لقد كان النبي يربع في امره وقتا ما، ولقد اراد في مرضه ان يصرح باسمه، فمنعت من ذلك، اشفاقاً وحيطة على الاسلام! ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش ابداً»(7).

وفي حوار السيدة ام سلمة والسيدة عائشة، تقر الثانية ان النبي(ص) اجابها عندما سالته: من كنت مستخلفا عليهم؟

ـ «خاصف النعل»،

فنظرت فلم تر سوى علي بن ابي طالب، فقال لها الرسول: «هو ذاك»(8).

واقر سعد بن عبادة، فذكر نصاً يوجب ولاية الامام علي بن ابي طالب(ع)، فقال له ابنه قيس: «انت سمعت رسول الله(ص) يقول هذا الكلام في علي بن ابي طالب(ع)، ثم تطلب الخلافة، ويقول اصحابك: منا امير ومنكم امير!؟ لا كلمتك والله من راسي بعد هذا كلمة ابداً»(9).

وهكذا نرى ان القرشيين والمسلمين الخرين كانوا يعرفون حق علي(ع) وفضله، لكن القرشيين ابتزوا هذا الحق، وسوغ الخليفة عمر ذلك بقوله: «اشفاقاً وحيطة على الاسلام!»، لأن قريشاً لا تجتمع عليه ابداً.

فقريش اذا هي صاحبة القرار، وقد قرر الخليفة ابو بكر ذلك، فقال في اجتماع السقيفة: «ان العرب لا تعرف هذا الامر الا لهذا الحي من قريش»(10)، وهي لا تجتمع على علي(ع)، فلم كان هذان الامران؟

اسباب لها نصيب من الصحة

في حديث دار بين ابن عباس والخليفة عمر بن الخطاب قال الخليفة: «ما اظنهم منعهم عنه الا انه استصغره قومه»، فقال ابن عباس: «والله ما استصغره الله حين امره ان يأخذ براءة من صاحبك»(11)! وفي قول آخر جاء: «ان ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم ابداً، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم»(12). وفي قول ثالث جاء: انه وتر القرشيين، وفي قول رابع جاء في حديث بين الخليفة عمر بن الخطاب وابن عباس ما يأتي: قال الخليفة: «كرهوا ان يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريش لانفسها فاصابت ووفقت». فقال ابن عباس: «اما قولك، يا امير المؤمنين، اختارت قريش لانفسها فاصابت ووفقت، فلو ان قريشاً اختارت لانفسها حيث اختار الله عز وجل لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، واما قولك انهم كرهوا ان تكون لنا النبوة والخلافة، فان الله عز وجل وصف قوماً بالكراهية فقال: ﴿ذلك بانهم كرهوا ما انزل الله فاحبط اعمالهم [محمد/9]». فقال الخليفة: «بلغني انك تقول: انما صرفوها عنا حسداً وظلماً». فقال ابن عباس: اما قولك، يا امير المؤمنين ظلما فقد تبين للجاهل والحليم، واما قولك حسداً فان ابليس حسد آدم فنحن ولده». فقال الخليفة: «هيهات ابت، والله، قلوبكم يا بني هاشم الا حسداً ما يحول وغشاً وضغناً ما يزول»، فقال ابن عباس: «مهلاً، يا امير المؤمنين، لا تصب قلوب قوم اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً...»(13).

في سبيل البحث عن العامل الاساس

قد يكون، في هذه الاسباب: حداثة السن ووتر القرشيين والرغبة عن ان تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم، والخوف من استئثار بني هاشم بالخلافة ان صارت اليهم، نصيب من الصحة، ولكن ايامنها لا يرقى لان يمثل عاملاً اساساً في تشكيل المسار التاريخي للمرحلة التأسيسية في التاريخ الاسلامي، ما يقتضي ان نبحث في الوقائع عن العامل الاساس الذي حكم تشكلها في مسارها المعروف.

في ما سبق تبين لنا ان قريشاً كانت صاحبة القرار، وان الخليفة عمر اقسم انها لا تجتمع على علي(ع)، واشفاقاً وحيطة منه على الاسلام، كما قال، منع ان يصرح النبي(ص) باسمه، في اشارة منه إلى ما سماه ابن عباس «يوم الرزية» عندما قال: «الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللهوبين ان يكتب لهم ذلك الكتاب»، فقد قال النبي(ص)، في مرضه قبيل وفاته: «ائتوني اكتب لكم كتاباً لا تضلوا به بعدي ابداً»، فقال الخليفة عمر: «ان رسول الله قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله!»(14)، فما الذي يجعل من قريش صاحبة القرار؟ ولم كان قرارها عدم الاجتماع على علي(ع)؟ ولم كان قرارها دافعاً إلى اشفاق الخليفة عمر على الاسلام فبادر إلى منع التصريح بالاسم، ثم اكمل مبادرته فاسهم هو وآخرون، منهم ابو بكر وابو عبيدة بن الجراح، في عدم سير جيش اسامة إلى تنفيذ المهمة التي كلفه بها النبي(ص)، وفي اتمام بيعة السقيفة؟

تقتضي الاجابة عن هذه الاسئلة معرفة امرين: اولهما موقع قريش في النظام الاجتماعي ورؤيتها إلى ما ينبغي ان يكون عليه حكمه، وثانيهما نهج الامام علي(ع) في بناء هذا النظام وحكمه ومعرفة اي ثنائية يشكل هذان الامران، اي معرفة طبيعة العلاقة التي نشأت بينهما.

في سبيل بيان الامرين والعلاقة التي نشأت بينهما يمكن القول، وبإيجاز:

موقع قريش في النظام الاجتماعي ورؤيتها..

تفيد المعطيات التاريخية ان قريشاً تجمع من خمسة وعشرين بطناً(15) ورث عرب المحطات التجارية المقضي عليها كالبتراء وتدمر، وورث الخط النبطي الذي استخدم في الكتابة؛ الامر الذي ساعد على نمو التجارة وتطور اللغة وتوحيدها، وورث نظام آلهة ومهارة تجارية...، اضافة إلى موقع حصين لا يمكن ان يحدث له ما حدث للمحطات التجارية التي سبقته... هذه العوامل مجتمعة مكنت القرشيين من احتكار التجارة البرية ومن اقامة علاقات تجارية بحرية مع الحبشة، واكثر ما استفادوا منه، واستغلوه لدرجة انهم كانوا يربحون للدينار ديناراً حاجة الروم الماسة إلى تجارتهم. وقد تمكنوا، وبخاصة بعد ان عقدوا معاهدات مع مختلف القوى السياسية التي كانت قائمة آنذاك، بما في ذلك القبائل العربية القادرة على تهديد طريق القوافل، من تنظيم تجارتهم بشكل ممتاز، فمثلوا دور الوسيط التجاري بين عالمين: الاوروبي والآسيوي الافريقي، وهو وسيط ماهر قدم له الروم اسواقاً تجارية كالقلزم في مصر وغزة في فلسطين وبصرى في الشام، كما انهم اتفقوا مع القبائل العربية الاخرى على اشهر يحرم فيها القتال، وتقام فيها الاسواق التجارية والادبية في مناطق عديدة من شبه الجزيرة العربية، مثل دومة الجندل وهجر وعمان وحضرموت فعدن وصنعاء، وكانوا ينتهون من هذه الاسواق إلى عكاظ في الاشهر الحرم(16).

وكان الحج إلى مكة مصدراً آخر للرزق وفرض السيادة؛ اذ كسبوا به اعتراف العرب بمكة عاصمة دينية لهم اضافة إلى كونها عاصمة اقتصادية.

وقد فرض هذا سيادة التجار الاغنياء من قريش، مالكي الثروة والعبيد وزمام تسويق البضائع، واوصل مجتمع مكة إلى مستوى من الغنى والترف في جانب، ومن الفقر والتقشف في جانب آخر، يعبر عنهما الخبر الذي يفيد ان عبدالله بن جدعان ارسل الفي بعير لتجلب له البر والسمن للفقراء.

فهذا الخبر يدل، من نحو اول، على مستوى من الثراء يتيح لثري واحد ان يتصدق بحمولة الفي بعير من البر والسمن، ومن نحو ثان على وجود عدد كبير من الفقراء يحتاج إلى مثل هذه الحمولة، ومن نحو ثالث على وصول التفاوت الطبقي إلى درجة من الحدة اضطرت هذا الثري إلى اجراء ما يحول دون تطور الامور إلى صراع يحول دون استمرار النظام الاجتماعي القائم وتطوره.

وبغية توفير شروط الاستقرار والتطور عرفت مكة ما سمي «دار الندوة»، وكانت كما يقول المسعودي «للحل والعقد»، واذ بدا ان فئة من القرشيين تعتدي عقدت فئة اخرى ما سمي «حلف الفضول»، وهدفه انصاف المظلوم من الظالم، وكان الداعي اليه الزبير بن عبد المطلب بن هاشم، وكان المعتدي العاص بن وائل السهمي حليف الامويين، ووالد عمرو بن العاص، والبطون التي عقدت هذا الحلف هي: بنو هاشم والمطلب وزهرة وتيم والحارث(17). ويرى السيد جعفر مرتضى ان هذا الحلف انما كان ضد «الاحلاف» الذين ابوا معونة المعتدى عليه: الزبيدي، والاحلاف هم بنو عبد الدار ومخزوم وجمح وسهم وعدي بن كعب(18).

وفي الدلالة على طبيعة هذا الحلف، يروى ان النبي(ص) ابدى في ما بعد رضاه عنه، وان الامام الحسين(ع)، عندما ظلم في عهد معاوية هدد بالدعوة إلى «حلف الفضول».

نهجان متضادان

وهكذا، كما يبدو، كان المجتمع المكي في امس الحاجة إلى نظام مجتمعي، وقد تبلورت فيه فئتان اساسيتان: اولاهما مالكو الثروة والعبيد، وهؤلاء توزعوا في اتجاهين رئيسيين، اولهما الممثل بالعاص بن وائل السهمي، حليف الامويين، الظالم المعتدي، وثانيهما الممثل بالزبير بن عبد المطلب الداعي إلى انصاف المظلوم ورد الاعتداء، وبعبدالله بن جدعان الذي اطعم الفقراء وكانت داره مكان عقد «حلف الفضول»، وثانيتها الاعبد والحلفاء، وهؤلاء كانوا فقراء مضطهدين يبحثون عن خلاص.

في هذا الواقع جاء النبي(ص) يدعو إلى الاسلام وليقيم مجتمع العدالة، فكان الصراع مع القرشيين، وبخاصة اصحاب الاتجاه الاول مريراً. وفي سبيل بيان جانب من جوانب هذا الصراع نعود إلى بعض الوقائع ذات الدلالة:

ـ جاء رؤساء قريش إلى النبي(ص) يقولون: «فإن كنت انما جئت تطلب بهذا الحديث مالاً جمعنا لك من اموالنا حتى تكون اكثرنا مالاً، وإن كنت انما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا...»، فقال لهم: «ما جئت لما ذكرتم...، ولكن الله بعثني اليكم رسولاً، وانزل علي كتاباً، وامرني ان اكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالات ربي...»(19)

ـ مشى عتبة وشيبة ابنا ربيعة وآخرون من رجالات قريش إلى ابي طالب، وقالوا له: «لو ان ابن اخيك طرد عنا هؤلاء الاعبد والحلفاء كان اعظم له في صدورنا واطوع له عندنا وادنى لاتباعنا اياه وتصديقه. فذكر ذلك ابو طالب للنبي(ص)، فانزل تعالى الية الكريمة: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الانعام/51 و52]»(20).

ويقول العلامة الطباطبائي في تفسير الآية 52: «ظاهر السياق، على ما يؤيده ما في الآية التالية: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) الخ، ان المشركين من قومه(ص) اقترحوا عليه ان يطرد عن نفسه الضعفاء المؤمنين به، فنهاه الله تعالى في هذه الآية عن ذلك»(21).

ـ جاء القرشيون إلى العباس عم النبي(ص)، وقالوا له، بلسان صفوان بن امية والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو، انهم يريدون طرد من اطلقوا عليهم اسم «السفلة» من صفوف المسلمين، لكن النبي(ص)، افهمهم حقيقة موقفه من هذا الامر، وهو موقف الاسلام الذي لا يميز بين مسلم وآخر الا بالتقوى.

تفيد هذه الاخبار، من نحو اول، ان ارستقراطية تكونت في مكة يمثل الامويون واحلافهم نواتها وقادتها، كانت تريد ان تقيم ملكاً يحقق مصالحها، من دون ان يكون فيه للاعبد والحلفاء، او لمن اطلقت عليهم اسم «السفلة»، موقع ودور ومصالح، ولم يكن ليضيرها ان يكون النبي(ص) الملك، شريطة ان يتخلى عن امرين: اولهما رسالته وتعاليمها، وثانيهما المؤمنون به من الاعبد والحلفاء، ومن نحو ثان ان النبي(ص) بين لهؤلاء الفرق بين الملك والنبوة المؤدية رسالة الله سبحانه وتعالى، واكد لهم ان هذه الرسالة تتضمن تعاليم منها عدم التمييز بين مسلم وآخر الا بالتقوى.

ويفهم من الآية القرآنية ان الناس في مكة كانوا فئتين: اولاهما ﴿الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ وثانيتهما ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، والاولى تريد من النبي(ص) ان يطرد الثانية، فكان حكم الله سبحانه، ان ينذر النبي(ص) هذه الفئة الظالمة. وهذان هما النهجان المتضادان.

استمرار الصراع بين النهجين في الاسلام

استمر الصراع بين هذين النهجين إلى ان جاء نصر الله، فالتحق القرشيون طلقاء ومؤلفة قلوبهم بالاسلام منتظرين الفرصة المناسبة لتحقيق اهدافهم.

ويبدو ان مسالة خلافة النبي(ص) قد اثيرت عملياً، على الاقل، منذ يوم الغدير؛ حيث اعلن النبي(ص) وصيته في هذا الشأن، فبدا ان تلك الفئة من قريش لا تجتمع على الامام علي(ع)، وهذا ما صرح به الخليفة عمر بن الخطاب في ما بعد، كما مر بنا، وسوغ به تصرفه في ذلك اليوم الذي سماه عبد الله بن عباس «يوم الرزية». وقد يكون تدبير النبي(ص) المتمثلان بتجهيز جيش اسامة والامر بتسييره والاصرار على ذلك، ومحاولة كتابة عهد لا يضل المسلمون بعده ابداً معالجة لهذا الموقف الذي كان واضحاً له، لكن هذين التدبيرين لم يتما لأن تكتلاً قام وقرر المبادرة لحسم الامر، وسوغ الخليفة عمر بن الخطاب ذلك في ما بعد بانه «اشفاق وحيطة على الاسلام»، وتمت بيعة السقيفة استناداً إلى حجتين هما: الشورى والقربى، وقد قال فيهما الامام علي(ع):

فإن كنت بالشورى ملكت قلوبهم

فكيف بهذا، والمشيرون غيب!؟

وان كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك اولى بالنبي واقرب!(22)

وقد ادرك الامام علي(ع) الخطر المحدق بالاسلام، فقال، بعد ان «نظرت قريش لنفسها فاختارت» سواه ثلاث مرات: «بايع الناس لابي بكر، وانا والله اولى بالامر منه، واحق به منه، فسمعت واطعت مخافة ان يرجع الناس كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف، ثم بايع الناس عمر وانا والله اولى بالامر منه، واحق به منه، فسمعت واطعت مخافة ان يرجع الناس كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف، ثم انتم تريدون ان تبايعوا عثمان! اذاً اسمع واطيع»(23) وقال ايضاً: «لقد علمتم اني احق بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت امور المسلمين، ولم يكن فيها جور الا علي خاصة...»(24).

وتوجه إلى الله سبحانه وتعالى فقال: «اللهم، اني استعديك على قريش ومن اعانهم، فانهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، واجمعوا على منازعتي امراً هو لي...»(25).

طبيعة الصراع: قريش تعادي منهجاً وليس شخصاً

ان ذلك الملأ من قريش لم يكن يعادي شخصاً فحسب، وانما كان يعادي نهجاً، فعلى اهمية دور موقفهم الشخصي من الامام علي(ع) بخاصة ومن بني هاشم بعامة في القيام بما قاموا به، فانهم كانوا يعادون نهجاً، ويعملون على اقصائه عن الحكم، ودليلنا على ذلك أمران:

اولهما اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب، وثانيهما محاولة الوصول إلى تسوية مع الامام علي(ع) بعد ان بويع له بالخلافة تذكر بالتسوية التي حاول اسلافهم الوصول اليها مع النبي(ص).

ففي صدد الامر الاول يمكن القول:  ان اغتيال الخليفة الراشدي الثاني قرار اجراء سياسي وليس عملاً انتقامياً فردياً كما يفهم من ظاهر الروايات(26)، والادلة على ذلك هي:

1 ـ ان المغيرة بن شعبة هو الذي طلب من الخليفة ان يسمح بدخول غلامه ابي لؤلؤة إلى المدينة، وكان الخليفة لا يسمح بدخول غير المسلمين اليها،

2 ـ ان كعب الاحبار انذر الخليفة بانه سيموت قبل ثلاثة ايام من حدوث عملية الاغتيال، وكان في كل يوم يأتيه ليطلب منه ان يعهد بالخلافة، ومعرفة كعب ليست من الكتب كما ادعى، فهذا الادعاء غير مقبول عقلاً، وقد شك فيه الخليفة نفسه، ولا ننسى هنا الموقع الذي اتخذه كعب في ما بعد لدى الخليفة الثالث والدور الذي اداه في الخلاف مع ابي ذر حول مال المسلمين.

3 ـ لم يحقق احد في الجريمة في ما بعد، وخصوصاً بعد ان قتل عبيد الله بن عمر المتهمين.

4 ـ المسؤول المباشر عما احتج عليه ابو لؤلؤة سيده المغيرة وليس الخليفة، وكان الاولى، ان كان دافعه الانتقام من ظالمه، ان يقتل الظالم نفسه وليس الخليفة.

5 ـ تم قتل الخليفة بعد ان عرف عهده ظاهرة سياسية مفادها الاقتراب من الامام علي(ع)، وبعد ان اعلن انه سيتبع نهج الاسوة في العطاء، اذ يروى انه قال: «لئن عشت إلى العام المقبل لالحقن آخر الناس باولهم حتى يكونوا بياناً واحداً»، او «لو استقبلت من امري ما استدبرت لاخذت فضول اموال الاغنياء، فقسمتها على فقراء المهاجرين»(27).

ويرى السيد هاشم معروف الحسني ان تقريب الامام علي(ع)من عمر بن الخطاب مثل ظاهرة في سياسته، ادت إلى اغتياله بتدبير من بني امية وتواطؤ المغيرة بن شعبة وكعب الاحبار؛ اذ ظنوا انه سيعهد بالخلافة إلى علي(ع)(28)، ويروي الطبري ما يدل على صحة هذا الظن، فقد قال عمر قبل ان ينص على الشورى: «قد كنت اجمعت بعد مقالتي لكم ان انظر فاولي رجلاً امركم هو احراكم ان يحملكم على الحق»، واشار إلى علي، ثم قال: ان غشية رهقته، وانه لا يريد ان يتحملها حياً وميتاً، وعليكم هؤلاء الرهط، وسمى رجال الشورى وحدد شروطها(29).

وثانيهما ان قريشاً، وكانت ثروات ابنائها، وبخاصة الامويون منهم، قد عظمت(30)، مشت إلى الامام علي(ع) بعدما بويع له بالخلافة في حركة شعبية، تقول: انت ابن عمنا واولى الناس بالامر، واننا نسامحك بالوتر الذي اصابنا منك آنفاً، ويقصدون ما حدث في بدر وسواها، لكننا نريد ان تترك لنا ما اصبنا من ثروة ومناصب، وان تدع تنفيذ الاسوة في العطاء، هذا اضافة إلى ان طلحة والزبير طلبا ان يوليهما البصرة والكوفة(31). وقد اجاب الامام علي المتحدثين اليه بقوله: ايما رجل استجاب الله ورسوله، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الاسلام وحدوده، فأنتم عبيد الله مثلكم مثل بقية المسلمين. وكان قد اشترط على الذين اصروا على مبايعته: «ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم»، وهم جمهور المسلمين الشاكون مما ابتلوا به من ظلم ذوي القربى(32).

يعيد هذا الموقف موقف النبي(ص) من القرشيين من قبل، وهو موقف نهج يمليه الاسلام، وقد حدد الامام علي(ع) هذا النهج، فقال:

«الا لا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار وفجروا الانهار وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً اذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، واصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن ابي طالب حقوقنا»(33).

ثم، في الغد، اعتمد الاسوة في توزيع العطاء، فنقم رجال منهم طلحة والزبير وعبد الله بن عمر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم، فذكرهم بكتاب الله وحكمه وبسنة رسوله(ص)، واعاد التذكير نفسه عندما قال له طلحة والزبير: «انك جعلت حقنا كحق غيرنا وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا في ما افاء الله علينا بأسيافنا ورماحنا...»(34).

وقد ادرك انصار الامام علي حقيقة هذا النهج، وكانوا يقاتلون وهم يعون تماماً ما يفعلون، فقال عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي: «لكن القوم انما يقاتلون فراراً من الاسوة وحباً للاثرة وظناً بسلطانهم وكرهاً لفراق دنياهم التي في ايديهم وعلى احن في انفسهم»(35). وكان مقاتلو معاوية، او قادة هؤلاء المقاتلين يعون تماماً ما يفعلون، فقد قال مالك بن هبيرة السكوني: «ليس نقاتل الا عن عرض الدنيا»، وقال النعمان بن جبلة التنوخي لمعاوية: «... ما وفقت لرشدي حين اقاتل على ملكك ابن عم رسول الله(ص) واول مؤمن به ومهاجر معه... سنقاتل عن تين الغوطة وزيتونها اذ حرمنا اثمار الجنة وانهارها»(36). وقد اختار عمرو بن العاص ما هو خير له في دنياه واعياً ذلك تمام الوعي(37).

وفي بيان نهج الامام علي(ع) يقول محمد عمارة: «ان الملا من قريش الذين مالوا بالخلافة عن علي بن ابي طالب كانوا يخشون من علي نهجاً اجتماعياً ثورياً ومتقدماً...»(38).

وعياً من هذا «الملأ» لنهج الامام علي مال عنه، ووعياً من الفقراء وعشاق العدالة له ايضاً مالوا اليه، فكان الامام علي(ع)، كما يقول محمد عمارة، هو الذي انعقدت عليه آمال الفقراء وانصار العدل في «استمرار النهج الاجتماعي الذي شهدته شبه الجزيرة العربية على يد دعاة الاسلام، وايضاً الضمانة الاساسية كي لا يعود ملأ  قريش واغنياؤها للامساك بالسلطة والسلطان من جديد تحت رايات الدين الجديد واعلامه»(39).

سعي قريش للامساك بالسلطان تحت رايات الدين الجديد

يميز محمد عمارة بين فريقين: اولهما الملأ من قريش وثانيهما الفقراء وانصار العدل، وقد بقي الفريق الاول، الملأ من قريش، يرى الرؤية نفسها التي سبق بيانها إلى السلطان، وسعى إلى الامساك به تحت رايات الدين الجديد، وقد اتيح لممثليه ان يغدو اصحاب القرار في آونة قصيرة، فقبل بيعة عثمان تولى يزيد بن ابي سفيان قيادة الجيش المتوجه إلى دمشق، ثم أمد باخيه معاوية الذي ما لبث ان تفرد بالشام، وتولى عمرو بن العاص فلسطين ثم مصر، وعتبة بن ابي سفيان كنانة والوليد بن عقبة بن ابي معيط الجزيرة، وذلك في الوقت الذي لم يول فيه احد من بني هاشم على ولاية، ثم وعندما تولى عثمان الخلافة مارس سياسة مكنت الامويين من الامساك بحبال السلطان وخزائن الثروات جميعها.

نص يمثل الواقع السياسي

ويمكن ان نلمس الواقع السياسي فضاء وخطاباً واتجاهات في نص للطبري غني بدلالاته:

يروي الطبري ان حواراً دار بين عبد الرحمن بن عوف وبين جماعة من المسلمين في اثناء المداولات التي كان يجريها لاختيار خليفة من رجال الشورى الذين عينهم عمر بن الخطاب: «... فقال عمار: ان اردت ان لا يختلف المسلمون فبايع علياً، فقال المقداد بن الاسود: صدق عمار، ان بايعت علياً قلنا: سمعنا واطعنا. قال ابن ابي سرح: ان اردت الا تختلف قريش فبايع عثمان، فقال عبدالله بن ابي ربيعة: صدق، ان بايعت عثمان قلنا سمعنا واطعنا... فقال عمار: ايها الناس، ان الله عز وجل اكرمنا بنبيه واعزنا بدينه فانى تصرفون هذا الامر عن اهل بيت نبيكم، فقال رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا ابن سمية، وما انت وتأمير قريش لانفسها...»، ثم وخوفاً من ان «يفتتن الناس»، كما قال سعد بن ابي وقاص، بايع عبد الرحمن لعثمان الذي رضي ان يعمل بسيرة الخليفتين مضافة إلى كتاب الله وسنة رسوله، في حين قال علي انه يرجو ان يعمل بكتاب الله وسنة رسوله بمبلغ علمه وطاقته، ولما بايع عبد الرحمن عثمان قال الامام علي(ع):«حبوته حبو دهر، ليس هذا اول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون...». فقال المقداد: «اما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون...»، واذ اعتذر عبد الرحمن بانه اجتهد للمسلمين، اضاف المقداد: «ما رأيت مثل ما اوتي إلى اهل هذا البيت بعد نبيهم... اما والله، لو اجد عليه اعوانا»، فقال عبدالرحمن: «يا مقداد، اتق الله فاني خائف عليك الفتنة»(40). ويضيف المسعودي إلى ما سبق ان قاله المقداد قوله: «... اعجب من قريش، وانما تطولهم على الناس بفضل اهل هذا البيت، وقد اتفقوا على نزع سلطان رسول الله(ص) بعده من ايديهم، وايم الله يا عبد الرحمن، لو اجد على قريش انصاراً لقاتلتهم كقتالي اياهم مع رسول الله(ص) يوم بدر»(41).

هذا النص، كما قلنا، غني بدلالاته، ومنها:

أولاً ـ ان الحوار يدور في فضاء قوامه الخوف من «الفتنة»، كما سميت، او في فضاء الصراع الحاد المنذر بان يغدو قتالاً في حال توافر شروط هذا القتال: الاعوان.

ثانياً ـ يدور في هذا الفضاء سؤال يثير العجب والمرارة والاسى عن اصرار قريش على صرف الخلافة عن اهل البيت(ع) وتماديها في التظاهر عليهم، على الرغم من تطولها على الناس بهم، وفيهم من يقضي بالحق وبه يعدل، وقد بدا لنا ان هذا هو السبب الرئيس في ذلك الاصرار والتمادي.

ثالثاً ـ الفريقان واضحان: اولهما قريش التي لا تختلف ان بويع عثمان، وثانيهما جمهور المسلمين الذين لا يختلفون ان بويع علي،

رابعاً ـ الفريق الثاني يفتقر إلى الاعوان، ما يعني ان مراكز القوة ليست في يده، ولو توافرت لما رضي بما يفرض عليه.

خامساً ـ يبدو الصراع للطرف الثاني استمراراً للصراع بين المسلمين والقرشيين في ايام الاسلام الاولى ـ بدر، وخطاب المخزومي لعمار يكاد يعيد خطاب اسلافه له في بدايات الاسلام في مكة،

سادساً ـ ان الطرف الاول (قريش) يرى ان لا علاقة للطرف الثاني (جمهور المسلمين) بمسألة الخلافة، اذ انها، كما يبدو له، مسالة تأمير قريش لانفسها، وليست خلافة المسلمين،

سابعاً ـ اضافة مصدر آخر إلى مصدري الاسلام، وهما الكتاب والسنة، وهو سيرة الخليفتين، وهو ما رفضه الامام علي(ع)؛ اذ ليس من تعاليم الاسلام ان يكون اجتهاد الخليفة سنة يشترط اتباعها، وقد كان واضحاً لعبد الرحمن بن عوف ان الامام عليا(ع) سيرفض الشرط الاخير، ولعله بسبب معرفته هذه اشترطه ليجعل الرفض صادراً عن الامام علي(ع). وتفيد بعض الروايات ان عمرو بن العاص قام بدور على صعيد تأكيد ذلك لابن عوف، وقد وصف الامام علي(ع)هذا الدور بقوله: «خدعة وايما خدعة»(42).

الصراع المسلح

ولم تلبث سياسة الخليفة عثمان ان هيأت شروط الصراع المسلح وانضجت ظروفه، فالخليفة الذي تولى هذا المنصب بموجب عقد يشترط عليه الالتزام بكتاب الله سبحانه وسنة نبيه(ص) وسيرة الخليفتين: الاول والثاني غداً يرى ان الخلافة سربال سربله اياه الله(43)، سبحانه، ولذا فهو حر في تصريف شؤونها واموالها وولاياتها، فحدث الصدام بينه وبين كثير من المسلمين كابي ذر وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر. وعلى هذا النحو، مضى رجال خلافته وولاته، وكانوا في معظمهم من اقربائه، ومن الطلقاء او المؤلفة قلوبهم، ورأوا ان الخلافة ملك أفاءه الله سبحانه عليهم، فهذا ابو سفيان يقول: على اثر تولي قريبه الخلافة: «يا بني امية، تلقفوها تلقف الكرة؛ والذي يحلف به ابو سفيان ما زلت ارجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة»(44)، وهذا معاوية يخاطب من نقموا على الخليفة عثمان سياسته: «وقد بلغني انكم نقمتم قريشاً، وان قريشاً لو لم تكن عدتم اذلة كما كنتم... والله لتنتهن او ليبتلينكم الله بمن يسومكم ثم لا يحمدكم على الصبر...»، ثم اضاف في حديثه عن قريش: «ثم بنى هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم»(45). ورأى سعيد بن العاص، والي الكوفة، ان سواد العراق بستان لقريش او قطين لها، فرد عليه مالك بن الحارث النخعي: «اتجعل ما افاء الله علينا بظلال سيوفنا ومراكز ارماحنا بستاناً لك ولقومك!؟»(46).

وخاطب مروان بن الحكم الوافدين إلى المدينة من الامصار: «جئتم تريدون ان تنزعوا ملكنا من ايدينا».

وهكذا تبلورت معالم سياسة مفادها: الملك لنا بستان وقد سربلنا اياه الله، ومن يعترض يبتلى بمن يسومه فلا يحمد على الصبر.

وقد توقع الخليفة عمر بن الخطاب امراً قاله للمغيرة بن شعبة في لجة تنم عن تأنيب وتحذير: «يا مغيرة، هل ابصرت بهذه عينك العوراء منذ أصيبت؟ اما والله ليعورن بنو امية الاسلام كما اعورت عينك هذه، ثم ليعمينه حتى لا يدري اين يذهب ولا اين يجيء»(47).

ويروي الطبري ان الخليفة عمر قال: «الا وان قريشاً يريدون ان يتخذوا مال الله معونات دون عباده»(48) «ولم تمض سنة من امارة عثمان حتى اتخذ رجال من قريش اموالاً في الامصار وانقطع الناس اليهم»(49).

واذ وجد المعترضون اعواناً جاؤوا من الامصار يحاورون الخليفة، ومن نماذج هذا الحوار ما دار بين الامام علي بن ابي طالب(ع) الذي اجتمع اليه الناس وطلبوا منه ان يتدخل، وبين الخليفة عثمان، قال الامام علي(ع): «ضعفت ورفقت على اقاربك! قال الخليفة: هم اقرباؤك ايضاً! قال الامام علي(ع): عمري ان رحمهم لقريبة، ولكن الفضل في غيرهم...»، فتدخل مروان بن الحكم، الرجل الاقوى في دار الخلافة: «ان شئتم حكمنا، والله، بيننا وبينكم السيوف»(50).

وهكذا حكمت السيوف بين الاتجاهين، غير ان معاوية الذي قال للخليفة: «لتغتالن او لتغزين»(51)، ومناه بالنجدة، لم يلب دعوته في الوقت المناسب. قال الطبري: «ارسل عثمان إلى معاوية ان ابعث الي من قبلك من مقاتلة اهل الشام، فلما جاء الكتاب معاوية تربص»(52)، وقد قال له محمد بن مسلمة في ما بعد: «اما انت فلعمري ما طلبت الا الدنيا، ولا اتبعت الا الهوى، فان تنصر عثمان ميتاً فقد خذلته حياً»(53). وقد تربص معاوية إلى ان يعرف نتيجة الصراع في المدينة فخذل الخليفة. وقد اسهم خذلانه هذا في ايصال الامور إلى ما صارت عليه، وهدفه من ذلك الدنيا كما قال ابن مسلمة، والطمع في الملك كما يروي الطبري في وقائع المؤتمر الذي عقده عثمان لعماله سنة 35 هـ، فعلى اثر انتهاء المؤتمر رجز الحادي:

«قد علمت ضوامر المطي

 وضمرات عوج القسير

ان الامير بعده علي

وفي الزبير خلف رضي

وطلحة الحامي لها ولي،

فقال كعب، وهو يسير خلف عثمان، الامير، والله، بعده صاحب البغلة، واشار إلى معاوية».

ويضيف الطبري في رواية اخرى ان معاوية ما زال «يطمع فيها بعد مقدمه على عثمان حين جمعهم فاجتمعوا اليه في الموسم...»(54).

من التنزيل إلى التأويل

وهكذا كان قتل الخليفة الثالث قتلاً سياسياً افاد منه معاوية والامويون وذلك الملأ من قريش، في خروجهم على الخليفة الرابع الذي تمت له بيعة شعبية عامة وكان الصراع بين الاتجاهين/ النهجين امتداداً للصراع الذي خاضه رسول الله(ص)، فهو صراع على التأويل، اذ كان ذلك صراعاً على التنزيل. وتمت نبوءة النبي(ص) اذ يروى انه قال لأصحابه: «ان منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فيتمنى كل منهم ان يكون ذلك الرجل، لكن النبي(ص) يقول: لكنه علي»(55).

كان المقداد قد رأى ان الصراع هو امتداد لمعارك الاسلام الاولى، كما في بدر، كما مر بنا، وها هو عمار بن ياسر يقول في صفين عن راية معاوية: «ان هذه الراية قاتلتها ثلاث عركات، ما هذه بأرشدهن»(56) ويروي المسعودي ان عماراً قال: «ايها الناس، هل من رائح إلى الله تحت العوالي؟ والذي نفسي بيده لنقاتلنهم على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله، وتقدم يرتجز:

نحن ضربناكم على تنزيله

فاليوم نضربكم على تاويله

افضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

او يرجع الحق إلى سبيله(57)

وهكذا تبدو حقيقة هذا النهج جلية، فهو نهج الاسلام الممتد من التنزيل إلى التأويل، إلى جعل الحق يمضي في سبيله في كل مكان وحين.

وان يكن البحث عن العامل الاساس في تشكيل المسار التاريخي للمرحلة التأسيسية في التاريخ الاسلامي، قد افاد، من طريق استقراء الوقائع التاريخية، انه نهج الامام علي في الحكم، فمن الطبيعي ان نحاول تبين معالم هذا النهج في ما يأتي:

نهج الامام علي(ع) في الحكم

مشروعيته

يتبين مما سبق ان المسلمين كانوا يعلمون حق الامام علي(ع) في الخلافة ومشروعية هذا الحق: وصية وكفاءة، فعلاوة على ما سبق ذكره مما تضمنه حديث الخليفة عمر بن الخطاب لعبد الله بن العباس ورسالة معاوية لمحمد بن ابي بكر... يصرح الامام علي نفسه بذلك فيقول، على سبيل المثال في نص: «اما، والله، لقد تقمصها فلان، وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى...»(58)، وفي نص آخر: «فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي، مستأثراً علي منذ قبض الله نبيه(ص) حتى يوم الناس هذا» (59). وقد رأى ان الصبر على «الطخية العمياء»، وهو يرى «تراثه نهباً»، احجى من ان يصول «بيد جذاء»(60) لسببين اساسيين: اولهما مواجهة الخطر الذي يهدد الاسلام، وثانيهما عدم وجود الناصر، واذ توفر هذا، واقتضت مصلحة الاسلام ان ينهض فعل ذلك، ومما قاله، في هذا الصدد، نذكر على سبيل المثال: «اما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما اخذ الله على العلماء ان لا يقاروا على كظة ظالم ولاسغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكاس اولها، ولألفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز»(61).

وكانت قريش تنقم اصل هذه المشروعية، وهو «اختيار الله»، وتحول دون تحققها، وفي اشارة إلى ذلك يقول الامام علي(ع): «والله، ما تنقم منا قريش الا ان الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا...»(62).

طبيعته

ويتبين مما سبق ان الاسلام عرف، في ايام النبي(ص)، وبخاصة بعد فتح مكة، حيث كثر «الطلقاء» و«المؤلفة قلوبهم»، اتجاهين اساسيين، متضادين يمثل اولهما القرشيون ومالكو الثروة وكثير من شيوخ القبائل، ويمثل ثانيهما المسلمون الاتقياء، وكان الصراع بينهما، قبل فتح مكة، على التنزيل، وبعده على التأويل... وان يكن التكتل الذي قاده الخليفة عمر بن الخطاب قد اجل الصراع المسلح «حيطة واشفاقاً» على الاسلام، كما قال، فانه مهد لأن يصبح الاتجاه الاول اكثر قدرة على ادارة الصراع وحسمه لصالحه، اذ ان ممثليه تولوا معظم مراكز القرار ومصادر الثروة في دولة الخلافة في حين حرم ممثلو الاتجاه الثاني، وبخاصة اهل بيت النبوة(ع)، من اي مصدر من مصادر القوة: ولاية وقيادة جيش وثروة...

وقد تحدث الامام علي(ع) عن هذين الاتجاهين، فقال: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما اسلموا، ولكن استسلموا، واسروا الكفر، فلما وجدوا اعوانا اظهروه... رجعوا إلى عداواتهم منا الا انهم لم يدعوا الصلاة»(63)، وهذا يفيد وجود اتجاهين: اولهما الايمان بالاسلام وثانيهما الاستسلام الذي يظهر الاسلام ويسر الكفر، ويخرج على الاسلام عندما يجد اعواناً، وقد كان هذا واضحاً لانصار الامام علي، فقال عمار بن ياسر: «فان مراكزنا على مراكز رايات رسول الله(ص) يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين، وان هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الاحزاب»(64).

وللامام علي(ع) غير قول في غير موضع يوضح طبيعة نهجه وتضاده مع نهج الذين عملوا دون وصوله إلى الخلافة، وعلى تشكيل مسار الخلافة، ومن هذه الاقوال نذكر: «ما لي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين، واني لصاحبهم بالامس كما انا صاحبهم اليوم»(65)، وهو في نهجه على بينة من ربه ومنهاج من النبي(ص)، فقد قال: «واني لعلى بينة من ربي ومنهاج من نبيي، واني لعلى الطريق الواضح، القطه لقطاً»(66). وهذا المنهاج الذي يمضي فيه تركه ممثلو الاتجاه الثاني طائعين، اذ انهم كانوا قد دخلوه مكرهين، ففي خطاب له لمعاوية جاء: «واني لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين ودخلتم فيه مكرهين»(67).

مصدر احكامه

مصدر الاحكام في هذا المنهاج، القرآن الكريم وسنة النبي(ص)، وقد كان الامام علي واضحاً في تأكيد ذلك عندما اجاب عبد الرحمن بن عوف في مداولات شورى الستة كما مر بنا، ونجد، في غير موضع من خطابه، هذا التأكيد، فقد تحدث عن اختلاف القضاة في الفتيا، وعن تصويب الامام الذي يستقضيهم آراءهم جميعاً، ويعجب من هذا الاختلاف «وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد»، ثم يتساءل عما اذا كان الله سبحانه وتعالى انزل ديناً ناقصاً فاستعان بهم على اتمامه، ام كانوا شركاء له، ام انزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصر الرسول(ص) عن تبليغه وادائه، والله سبحانه يقول: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ، وقال: «فيه تبيان كل شيء»، وذكر ان الكتاب يصدق بعضه بعضاً، وانه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، ثم يقرر: «وان القرآن ظاهره انيق، وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات الا به»(68).

وقد خاطب المسلمين عند مسير اصحاب الجمل إلى البصرة: «ولكم علينا العمل بكتاب الله تعالى وسيرة رسول الله(ص) والقيام بحقه والتسنن لسننه»(69). وكان قبل ذلك خاطب طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة، وقد عتبا عليه ان ترك مشورتهما، بقوله: نظرت إلى كتاب الله، وما وضح لنا وامرنا بالحكم به، فاتبعته، وما استسن النبي(ص) فاقتديته، فلم احتج في ذلك إلى رايكما ولا رأي غيركما...»(70). وقد اوصى قبيل وفاته: «اما وصيتي، فالله لا تشركوا به شيئاً، ومحمد(ص) فلا تضيعوا سنته...»(71)، والنهي عن تضييع السنة ذو دلالة بالغة على ما كانت عليه حالها وما آلت اليه في ما بعد مما لا نحتاج إلى تفصيله(72).

وظيفته

تحدث الامام علي(ع)، في غير موضع، عن وظيفة الحكم في نهجه، وقد مر بنا شيء من هذا لدى الحديث عن المشروعية وفي ما يأتي نقدم نماذج من اقوال الامام(ع) تحدد هذه الوظيفة:

ـ «اللهم انك تعلم انه لم يكن الذي منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك»(73).

ـ «ايها الناس، اعينوني على انفسكم، وايم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته، حتى اورده منهل الحق، وان كان كارهاً»(74).

ـ «وايم الله لأبقرن الباطل حتى اخرج الحق من خاصرته»(75).

وهكذا يبدو جلياً ان وظيفة الحكم في نهج الامام علي(ع) ان يورد الناس منهل الحق.. والعدل على محضه(76) وان كان الظالم لذلك كارها، فالمقياس في التمييز بين الذليل والعزيز والقوي والضعيف هو «الحق»: «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه»(77).

وكان متشدداً في نهجه هذا لا يصغي إلى قول القائل وعتب العاتب(78) وعندما تولى الخلافة رد ما اقطعه عثمان لعدد من اقاربه، وقال: «والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الاماء لرددته، فان في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه اضيق»(79). وهو في ذلك انما يطيع الله زاهداً في الدنيا: «والله لو أعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها على ان اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وان دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى!». وقال لابن عباس عن نعله وقد رآه يخصفها: «والله لهي احب الي من امرتكم إلى ان اقيم حقاً او ادفع باطلاً»(80).

والمضي في هذا النهج انما هو سفر في سبيل رضى الله سبحانه وتعالى: ومن اقواله في هذا الصدد: «... فانه من يعمل لغير الله يكله الله إلى من عمل له. نسأل الله منازل الشهداء، ومعايشة السعداء، ومرافقة الانبياء»(81)، وانما طلب للآخرة بعمل الدنيا، فاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب(82) ولا عمل وقد كان الامام علي(ع) يمتلك البصيرة النافذة إلى منهل الحق والعدل، واكد ذلك غير مرة، فقال على سبيل المثال: «ما شككت في الحق مذ أريته» «من وثق بماء لم يظمأ»، و«ان معي لبصيرتي ما لبست على نفسي، ولا لبس علي»(83).

احكام اساسية منه

ومن احكام هذا النهج الاساسية التي يقتضى المقام التحدث عنها:

الاسوة: المساواة بين المسلمين

تحدث الامام علي لما عوتب على التسوية في العطاء، بوصفها عاملاً يعوق النصر، فقال: «أتأمروني ان اطلب النصر بالجور في من وليت عليه، والله ما اطور به ما سمر سمير وما ام نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وانما المال مال الله...»(84)، وقال لطلحة والزبير عندما اغضبتهما السوية بين المسلمين في قسمة الاموال: «واما ما ذكرتما من امر الاسوة، فان ذلك امر لم احكم انا فيه برأيي ولا وليته هوى مني، بل وجدت انا وانتما ما جاء به رسول الله(ص) قد فرغ منه»(85). واذ تبين لأعيان القوم واصحاب الثروات ان الناس عند الامام، في الحق، اسوة هربوا إلى الاثرة(86).

الجنى ملك من يجنيه، فيء المسلمين لهم

قال سعيد بن العاص لفرسان المسلمين: ان سواد العراق، اي ارض العراق الخصبة، بستان لقريش، وقال الامام علي لرجل من شيعته جاء يطلب نصيباً في الفيء: «ان هذا المال ليس لي ولا لك، وانما هو فيء المسلمين وجلب اسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم، وان مجناة ايديهم لا تكون لغير افواههم»(87) وارسل إلى عامله مصقله الشيباني بعد ان بلغه عنه ما يريبه في قسمة الفيء: «الا وان حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء، يردون عندي عليه ويصدرون عنه»(88).

عمارة الارض

ان الله سبحانه وتعالى ارسل رسوله(ص) هادياً ولم يرسله جابياً، كما ان مهمة ولاة الامر من المسلمين عمارة الارض كما نص القرآن الكريم: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا.. [هود/61]، وهذا ما اكد عليه الامام علي بن ابي طالب(ع)، في غير موضع، ومن نماذج ذلك:

ما جاء في عهده لمالك الاشتر: «وتفقد امر الخراج بما يصلح اهله، فان في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم... وليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج»(89).

وما جاء في كتابه لعمال الخراج بعد ان وصفهم بـ«وكلاء الامة وسفراء الائمة»: «لاتحسموا احداً عن حاجته، ولا تحبسوه عن طلبته، ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعتملون عليها، ولا عبداً، ولا تضربن احداً سوطاً والمكان درهم، ولا تمسن مال احد من الناس، مصل ولا معاهد الا ان تجدوا فرساً او سلاحاً يغدى له على اهل الاسلام...»(90).

عمارة الانسان

كان الامام علي يدارس اصحابه ويحاججهم، ويعرفهم حقوقهم وواجباتهم وحقوق الوالي وواجباته في سعي واضح إلى تنشئة مسلمين حقيقيين يمتلكون المعرفة والوعي، وهذا من النادر ان يفعله اي صاحب سلطان، فهذا يريد السمع والطاعة من رعية يحكمها وفاقاً لما تقتضيه مصالحه، اما الامام فيريد للامة التي وصفت بانها «خير امة» ان تخرج إلى الناس لتهديهم إلى الدين الحنيف، ومن النماذج الدالة في هذا الصدد:

ـ خاطب الامام علي(ع) اصحابه: «... دارستكم الكتاب، وفاتحتكم الحجاج، وعرفتكم ما انكرتم وسوغتكم ما لججتم...»(91).

ـ تحدث غير مرة إلى اصحابه عن حقه عليهم وحقهم عليه ومن نماذج ذلك: «... فقد جعل الله لي عليكم حقاً بولاية امركم، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم...»، ثم فصل في ذلك(92).

وقد اثمر هذا النهج في التنشئة، فقد بدا واضحاً لمعاوية، في ما بعد، ان انصار الامام علي(ع) كانوا يمتلكون، في ما يمتلكون من امكانات، القدرة على امرين: اولهما رؤية الحق ومعرفته وثانيهما الجرأة في قوله والسعي إلى جعله واقعاً. ولهذا كان يقول، وهو يستجوب بعضهم بعد ان تولى الخلافة: «هيهات لمظكم جاي علمكم وذوقكم ج ابن ابي طالب الجرأة»، ويعيد القول: «يا اهل العراق، نبهكم علي بن ابي طالب فلم تطاقوا»، وكان يعجب لوفاء هؤلاء الانصار فيكرر قوله: «والله لوفاؤكم له بعد موته اعجب من حبكم له في حياته»(93).

كان معاوية يعجب من جرأة انصار الامام علي(ع) ومن بقائهم اوفياء له بعد وفاته، وهم في الحقيقة كانوا يتبعون منهجاً ارسى اسسه الاسلام، وكان هو يضيق بهذا النهج، وطالما سعى هو واضرابه إلى الحيلولة دون وصول ممثله إلى الحكم، ولما وصل خرج عليه وحاربه. واذ صارت اليه امور الخلافة صمم على القضاء عليه وعلى انصاره، وبدا ذلك السيل الجارف من الطغيان، وبدأت مقاومته ايضاً، وهذا الصراع بين هذين النهجين استمر طوال التاريخ الاسلامي، ما حكم تشكيل مسار هذا التاريخ.

في الختام

وفي الختام يمكن القول: ان السعي إلى معرفة نهج الامام علي(ع) في الحكم ودوره في تشكيل مسار الخلافة الراشدة، اقتضى اثارة السؤال عن اسباب معارضة قريش ومالكي الثروة لوصول الامام علي إلى الحكم على الرغم من معرفتهم لحقه: وصية وكفاءة؟ اشرنا إلى غير اجابة، وراينا انها غير كافية، وبحثنا عن العامل الاساس، ما اقتضى البحث في موقع قريش ودورها في النظام الاجتماعي الذي كان قائماً آنذاك ورؤيتها، في تمثيلها نهجاً معيناً اتخذ حتى فتح مكة موقفاً معادياً للاسلام، واذ اضطرت لقبول الاسلام، استمر الصراع بين نهجها والنهج الاسلامي، وقد بدا واضحاً ان قريش كانت تعادي نهجاً وليس شخصاً، وبينا ذلك في نص من تاريخ الطبري يمثل الواقع السياسي الذي تطور، بعد مرحلة اتيح فيها للقرشيين امتلاك القدرة، إلى صراع مسلح رأى فيه كثير من المسلمين صراعاً على التأويل، وامتداداً للصراع الذي خاضه النبي(ص) على التنزيل، ما يعني ان صراع القرشيين كان للحيلولة دون وصول الامام علي(ع)، بوصفه ممثل نهج في الحكم إلى الخلافة، ما اقتضى ان نتبين معالم هذا النهج من حيث مشروعيته وطبيعته ووظيفته ومصدر احكامه واحكام اساسية منه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1.    تعني «قريش‏»، هنا، ذلك الملا منها الذي يعنيه الخليفة عمر بن الخطاب بقوله: «واللّه لا تجتمع عليه قريش ابداً».

2.    ابو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الامم والملوك، القاهرة: المطبعة الحسنية المصرية، ط‏1، مجلد2،ج‏5، ص 37 و38.

3.    نيكيتيا اليسييف، الشرق الاسلامي في العصر الوسيط، ترجمة منصور ابو الحسن، بيروت: الكتاب الحديث،1986، ص93.

4.    الطبري، م.س، 5/36.

5.    نصر بن مزاحم المنقري، وقعة صفين، تحقيق وشرح: عبد السلام هارون، قم: مكتبة آية اللّه العظمى ‏المرعشي النجفي، ط‏2، 1382ه، ص 120.

6.    راجع: صائب عبد الحميد، مسار الاسلام بعد الرسول...، تاريخ الاسلام الثقافي والسياسي، بيروت: الغدير، ص 164 174، وفيه نص الاحاديث وتوثيق لها.

7.    ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، القاهرة: دار احياء الكتب العربية،2ا/21.

8.    م.ن.، 6/217 و218، ابن اعثم الكوفي، الفتوح، بيروت: دار الكتب العلمية، 1406هـ ، ا/456. عمر رضا كحالة، اعلام النساء في عالمي العرب والاسلام، مؤسسة الرسالة، 1991م، 3/38.

9.    شرح نهج البلاغة، م.س، 6/44.

10.                       الطبري، بيروت: دار الاعلمي، 2/446.

11.                       شرح نهج البلاغة، م.س، 6/45، 2ا/46.

12.                       الطبري، المطبعة الحسنية، م.س.، 5/38.

13.                       م.ن.، 5/31 و32.

14.                       م.ن.، دار الاعلمي، 2/64، ابن الاثير، الكامل في التاريخ، بيروت: دار صادر، 1982، 2/32.

15.                       راجع لمعرفة هذه البطون: المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، بيروت: الجامعة اللبنانية، 1970،3/8.

16.                       راجع: جرجي زيدان، تاريخ التمدن الاسلامي، 3/33.

17.                       المسعودي، م.س.، 1970، 3/9.

18.                       السيد جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة الاعظم، قم، 1400هـ ، ا/97 108.

19.                       1ابن هشام، السيرة النبوية، بيروت: دار الكتب العلمية، ا/295 و296.

20.                       1امالي اليزيدي، ا/93 عن كتاب «روح المعاني‏».

21.                       1العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، قم: جماعة المدرسين في الحوزة ‏العلمية، المجلد الرابع، ص 99.

22.                       1نهج البلاغة، محمد عبده، 3/195.

23.                       1تاريخ الاسلام الثقافي والسياسي، م.س.، ص 191.

24.                       1نهج البلاغة، الخطبة 74.

25.                       1م.ن.، الخطبة 162.

26.                       1الطبري، المطبعة الحسنية، م.س.، 5/12.

27.                       1م.ن.، 5/33، ابو عبيد القاسم بن سلام، الاموال، تحقيق محمد هراس، بيروت: دار الفكر، 1988،ص‏336، جر651.

28.                       1هاشم معروف الحسني، سيرة الائمة الاثني عشر، بيروت: دار التعارف 1986، ا/347.

29.                       1الطبري، المطبعة الحسنية، م.س.، 5/34.

30.                       1راجع لمعرفة حجم هذه الثروات: المسعودي، م.س.، 3/76.

31.                       1الطبري، المطبعة الحسنية، م.س، 5/153.

32.                       1م.ن.، 5/156.

33.                       1شرح نهج البلاغة، م.س.، 7/37.

34.                       1م.ن، 7/41 و42.

35.                       1صفين، م.س، ص 102.

36.                       1المسعودي، م.س، 3/132.

37.                       1راجع في تفصيل اتخاذ قراره: صفين، م.س، 35.

38.                       1تاريخ الاسلام السياسي والثقافي، م.س، ص 419. ومحمد عمارة، الفكر الاجتماعي لعلي ‏بن ابي ‏طالب، ص 12 و26.

39.                       1م.ن.

40.                       1الطبري، المطبعة الحسنية، م.س، 5/37.

41.                       1المسعودي، م.س، 3/86 و87.

42.                       1راجع: الطبري، مؤسسة الاعلمي، م.س، 3/302.

43.                       1ابن الاثير، م.س، 4/371.

44.                       1المسعودي، م.س، 3/86.

45.                       1الطبري، المطبعة الحسنية، م.س، 5/86.

46.                       2المسعودي، م.س، 3/80.

47.                       2شرح نهج البلاغة، م.س، 2ا/86.

48.                       1الطبري، المطبعة الحسنية، م.س، 5/134.

49.                       1م.ن.

50.                       1راجع تفاصيل الحوار في: م.ن، 5/96 98.

51.                       1نفسه، 5/101.

52.                       1نفسه، 5/115.

53.                       1صفين، م.س، ص 77.

54.                       1الطبري، المطبعة الحسنية، م.س، 5/100.

55.                       1فضائل الخمسة من الصحاح والستة، 2/389، باب ان عليا يقاتل على التأويل. وراجع: التاريخ السياسي والثقافي، م.س، ص 179، نقلاً عن مسند احمد، 3/82، صحيح ابن حبان، 9/46 ح‏6898،المصنف، ابن ابي شيبة، فضائل علي، ج‏19، البداية والنهاية، 7/398.

56.                       1صفين، م.س، ص 340.

57.                       1المسعودي، م.س، 3/128 و129.

58.                       1الامام علي بن ابي طالب، نهج البلاغة، بيروت: مؤسسة الاعلمي، 1413ه، 1993م، ا/51.

59.                       1م.ن.، ا/62.

60.                       1م.ن.، ا/51، طخية: ظلمة وهي مجاز عقلي يفيد ان القائمين بها لا يهتدون إلى الحق، جذاء: مقطوعة، وهي مجاز يفيد الافتقار إلى الاعوان.

61.                       1م.ن.، ا/56، كظة: التخمة، السغب: شدة الجوع. الغارب: الكاهل، عفطة: ما تنشره من انفها.

62.                       1م.ن.، ا/104.

63.                       1نصر بن مزاحم المنقري، وقعة صفين، م.س، ص 215.

64.                       1م.ن.، ص 321.

65.                       1نهج البلاغة، م.س، ا/104 + 346 + 452.

66.                       1م.ن.، 2/217.

67.                       1م.ن.، 3/500.

68.                       1م.ن.، ا/75 و76، وراجع: م.ن.، 2/280 و281.

69.                       1م.ن.، 3/344.

70.                       1م.ن.، 3/436.

71.                       1م.ن.، 3/298.

72.                       1راجع في تفصيل هذه المسألة: مصطفى خميس، لا تضيعوا السنة، بيروت: مركز الغدير للدراسات‏ الاسلامية.

73.                       1م.ن.، ص 278.

74.                       1م.ن.، ص 284.

75.                       1م.ن.، ص 227.

76.                       1م.ن.، ص 327.

77.                       1م.ن.، ص 111 وراجع: م.ن، ص 331، 467.

78.                       1م.ن.، ص 209.

79.                       1م.ن.، ص 67.

80.                       1م.ن.، ص 469 و103.

81.                       1م.ن.، ص 82.

82.                       1راجع في تفصيل ذلك، على سبيل المثال، م.ن.، ص 100 و116 و119 و135 و219 و243.

83.                       1م.ن.، ص 59 و60 و64 و285.

84.                       1م.ن.، ص 271 و272.

85.                       1م.ن.، ص 437.

86.                       1م.ن.، ص 617.

87.                       1م.ن.، ص 477.

88.                       1م.ن.، ص 556.

89.                       1م.ن.، ص 584.

90.                       1م.ن.، ص 569 و570.

91.                       1م.ن.، ص 362.

92.                       1م.ن.، ص 453، وراجع: م.ن.، ص 568 و569.

93.                       1ابن عبد ربه الاندلسي، العقد الفريد، بيروت: دار مكتبة الهلال، ط‏1، 1986، ص 219 و220 و222.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2125
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 04 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28