• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : النبي (ص) وأهل البيت (ع) .
                    • الموضوع : المبادئ الدستورية عند الشيعة من خلال أقوال الإمام علي بن الحسين (ع) .

المبادئ الدستورية عند الشيعة من خلال أقوال الإمام علي بن الحسين (ع)

 حسين محمود مكي

في بحثنا الأول عن‌ المبادئ‌ الدستورية‌ عـند المـسلمين الشـيعة (*)، ذكرنا أنّنا نعالج الموضوع من‌ خلال أقوال الأئمة(ع) ومن خلال سيرتهم الشخصية ومراحل‌ حياتهم. حيث نستخرج ما يـتعلق‌ بمبادئ القانون الدستوري، والدولة وتكوينها، والحكومة وأشكالها، والقواعد‌ الاساسية لحقوق‌ الأفراد وحرياتهم.

وها‌ نحن في بحثنا هـذا نحاول أن نتبين هذه المبادئ مـن خلال أقوال الامام علي بن‌ الحسين(ع) وسيرته الشخصية ومراحل حياته.

لقد تعرفت الى حياة الامام زين العابدين عدة مرات حتى الآن. وكنت‌ في كل مرة أوفّق إلى‌ إدراك أمور جديدة من سيرته وآثار علمه وعمله تـزيدني إيمانا و تقوى، وتفتح أمامي آفاق الفكر الاسلامي بكل وقائعه و ابعاده.

تعرّفت إليه في طفولتي من خلال‌ الأدعية‌ المباركة التي كنت أستمع إليها في أوقات الغروب‌ و السحر والفجر. أدعية الصحيفة السجادية التي تربّيت عليها فكانت مـع القـرآن الكريم و نهج‌ البلاغة ملاذي وهدايتي في كل وقت.

وتعرّفت إليه‌ بعد‌ ذلك في شبابي حين كنت ألجأ إلى الصحيفة السجادية في أوقات ممتعة من‌ صفاء الذهن وهدوء النفس وحلاوة الايمان وعذوبة اليقين. وكنت أقتطف مـنها مـقاطع أستشهد بها حديثا‌ وخطابة وكتابة ودراسة، لأنّها تبعث في نفسي الطمأنينة والراحة وتبعثّ في نفوس المستمعين‌ القناعة والاستحسان والتأييد، فأشعر أنّني اهتديت وهذيت.

وتعرّفت إليه اليوم من جديد‌ في‌ معرض‌ إعداد هذه الدراسة، فكانت فـرصة ذهـبية‌ أتيحت‌ لي‌ لكي‌ أدرس الامام زين العابدين مجدّدا، وأتعرّف من خلال سيرة حياته و أقواله الى المبادئ الدستورية التي نادى بها و أعلنها ونشرها‌ في‌ أمور‌ الخلافة والولاية والبيعة والراعي والرعية‌ والحقوق والواجبات وتكوين الدولة والتشريع المـالي والقضائي.

هو الامـام عـلي بن الحسين، زين العابدين، السجّاد، ذو الثفنات، ولد فـي المـدينة‌ المـنورة‌ يوم‌ الاحد‌ في الخامس من شعبان عام ثمان و ثلاثين للهجرة. وتوفّي‌ فيها يوم السبت في الثاني من المحرّم‌ عام تسعين للهجرة، ودفن فـي البـقيع. وفـي ولادته و وفاته عدة روايات.

كان يقول‌ أنا‌ ابن الخيرتين مـن العـرب قريش، ومن العجم فارس. أفضل أهل زمانه‌ وأحلمهم‌ وأصبرهم وأكثرهم تسامحا، يحسن إلى من يسيء إليه، و يقول لمن يعاديه أو يشتمه «إن‌ كنت صادقا فـاسأل اللّه‌ أن‌ يغفر‌ لي، وإن كنت كاذبا فاسأل اللّه أن يغفر لك». حمي أهل مروان‌ بن الحـكم‌ يوم‌ وقعة‌ الحرة، فكان عظيم التجاوز والعفو والصفح.

قال عنه الزهوي: «كان أفضل هاشمي ادركناه»، وقال عنه‌ جابر: «ما‌ رؤي‌ من الأولاد مثل عـلي بـن الحـسين الا يوسف بن يعقوب». كان معظما مهيبا عند القريب والبعيد‌ والولي‌ والعدو.

وكان يـأبى أن يـؤاكل أمه و يقول: «أكره أن تمتد يدي‌ الى‌ ما‌ اشتهته عينها». وكان إذا أخطأ مولى له أعتقه ولو كان ثمن الخطأ وفاة ولده‌ كـما‌ حـدث له. فكان أقوى يد بين الأيدي التي عملت‌ على تحرير العبيد. وكان ينفق عـلى‌ هـذا‌ التـحرير‌ من ماله حتى قيل أنّه أعتق مئة ألف من الموالي‌ والجواري فسمّي محرّر العبيد.

كان أعلم‌ أهـل‌ زمـانه وأفـقهم وأورعهم وأعبدهم. كان يشبه جدّه أمير المؤمنين في‌ فقهه‌ و‌عبادته. خلف‌ أباه علما وزهدا وعبادة. وقـد اهـتمّ بالعلم و الثقافة وتهذيب الأخلاق بواسطة الدعاء... وعلى‌ يديه‌ تتلمذ الكثيرون من العلماء، ورافقه الكـثير مـن الرجـال الصحابة.

وروي عنه الفقهاء‌ ما‌ لا يحصى من العلوم وحفظوا عنه المواعظ والادعية، حتى قيل: «قلّما يوجد كتاب زهد و مـوعظة ليـس‌ فيه: قال‌ علي بن الحسين». وكان عبد اللّه بن الحسن يقول: «ما جلست إليه قط إلاّ‌ قمت‌ بـخير افـدته، اما خـشية في قلبي من خشية‌ اللّه‌ او‌ علم قد افدته منه». كلماته محظلة يانعة ترفل‌ بالحكمة‌ و الخير و الصـلاح و الفـلاح، وهي مظهر للنبوغ الفكري و الانساني‌ و مرآة‌ للعلم‌ و الثقافة. من مؤلفاته الصحيفة السجادية‌ الكـاملة‌ وهـي‌ تـحتوي‌ على‌ مجموعة الادعية المشهورة عنه. ورسالة الحقوق وهي‌ تحتوي على قواعد السلوك العام والخاص، وتتناول الحـقوق‌ الاساسية التـي نـصّت عليها‌ الدساتير‌ الحديثة للأفراد مثل حق الرعاية وحق العلم وحق‌ العمل‌ والفعل والتـصرّف والقول‌ وحرية العبادة وحقوق الجار والغريب والمواطن وحقوق الخصم المدّعي‌ والمدّعي‌ عليه وحقوق الخليط وغيرها.

وكان‌ فـي عـبادته وتقواه‌ سيد المتقين وإمام‌ المؤمنين. كان‌ كثير الصلاة والخشوع. كان يصلّي‌ صلاة مودّع يرى أنـّه لا يـصلّي بعدها أبدا. وقد قال‌ عنه‌ ولده الامام البـاقر(ع): «ما ذكـر للّه عـزّ وجل‌ نعمة الا‌ وسجد، ولا قرأ آية في‌ كـتاب اللّه إلاّ وسـجد، ولا فرغ من صلاة الا وسجد له‌ وفّق لإصلاح بين‌ إثنين‌ إلا وسجد». وكان أثر السجود‌ فـي‌ جـميع‌ مواضع‌ جسده‌ فسمي السجّاد ذو الثـقنات‌ مـن‌ طول السـجود وكـثرته. «ما عـرض له امران هما للّه رضا إلاّ أخذ بأشدهما عـليه فـي‌ دينه». «و ما‌ أطاق‌ عمل‌ رسول اللّه من هذه الأمة غيره». «عبد اللّه‌ حتى‌ اصفّر‌ لونـه، و‌بـكى‌ مأساته‌ حتى‌ رمضت عيناه». ومن أروع ما قـيل عن عبادته قول مـولاة له: «ما أتيته بطعام نهارا (صائم) ولا فرشت له فـراشا فـي ليل(قائم)».

ترك من آثار عبادته مجموعة من الادعية المشهورة‌ بلغت أقصى درجات الفصحاء والبلاغة وهـي مـجموعة في الصحيفة السجادية الكاملة وأربـع صـحائف مـن أدعيته». «و قد اتـّخذ مـن الدعاء أساسا لعلاج الأوضاع الراهـنة فـي عصره. فخلق الدعاء جوّا روحيا في‌ المجتمع‌ الاسلامي ساهم في‌ تثبيت الانسان المسلم أمام المغريات. فكانت الصـحيفة السـجادية عملا اجتماعيا عظيما وضرورة في‌ المرحلة الانـتقالية وتـراثا ربّانيا فريدا».

والمـحطة الأسـاسية فـي حياة الامام زين العـابدين هي كربلاء‌ التي‌ عاش فيها أيامه الصعبة فشحنت نفسه بالدعاء كما شحنت نفس أبيه الحسين بـالثورة. فقضى الوالد فـي سبيل الدفاع عن‌ الرسالة و عاش الابن لاسـتمرارها. الأب فـداها بـنفسه‌ ثـورة‌ عـلى الفساد و الابن حـفظها‌ بـعلمه‌ محاربة للفساد.

شهد الامام علي بن الحسين مأساة كربلاء، حيث قتل والده و له من العمر 23 سنة، فبكاه‌ أربعين سنة صائما نهاره قائما ليله. فقد أذهـب الحـزن قـلبه لمأساة‌ كربلاء. وكان حضوره لمعركة عاشوراء عنصرا‌ مـن‌ عـناصر المـأساة نـفسها كـما كـانت نجاته من القتل فيها سرا إلهيا من علاماته أنّه‌ حفظ خفايا المعركة وحفظ استمرار الرسالة.

عاشوراء علّمت زين العابدين الصبر كما أورثته الألم. فداوى ألمه بصبره و تغلّب‌ على ألمه‌ بتعبّده. وكان يـقول: «ما تجرّعت جرعة أحبّ إلي من جرعة غيظ أعقبها صبر». «الصبر من‌ الايمان بمنزلة الرأس من الجسد و لا إيمان لمن لا صبر له». وهو مع هذا الصبر يمثل‌ ثورة‌ صامتة وصورة‌ عالمية للمقاومة السلبية التي تـجسّدت فـي مواقفه وكلامه وتصرفاته. وقد حافظ بذلك على‌ آخر وصية أوصي‌ بها الحسين ولده زين العابدين: «إياك وظلم من لا يجد عليك‌ ناصرا‌ الا‌ اللّه». ويا لهول الظلم الذي تعرض له السجّاد بعد ذلك حتى كانت أول كلمات عـامة نـطق بها ‌‌قوله‌ لأهل الكوفة: «بأي عين تنظرون الى رسول اللّه إذ يقول لكم قتلتم عترتي وانتهكتم‌ حرمتي‌ فلستم‌ من‌ أمّتي».

وكما كان الحسين رائدا للثورة الاسلامية في كربلاء، كذلك كان ولده زين العابدين رائدا للمـدرسة الإسـلامية‌ في المدينة. فقد قدّر له أن يتسلّم مـسؤولياته القـيادية والروحية بعد استشهاد أبيه، فمارسها في‌ مرحلة من أدق المراحل‌ التي‌ مرّت بها الأمة، وهي المرحلة التي أعقبت موجة الفتوح الأولى حيث امتدّت الموجة بزخمها الروحي وحماسها العسكري والعـقائدي فـزلزلت عروش‌ الأكاسرة والقياصرة وضمّت شـعوبا مـختلفة وبلادا واسعة إلى‌ الدعوة الجديدة وأصبح المسلمون قادة الجزء الأعظم من العالم المتمدن فعرّضهم ذلك لخطرين: «أوّلهما ما نجم عن الانفتاح على ثقافات‌ متنوعة وأعراف تشريعية وأوضاع اجتماعية مختلفة وهذا ما استدعى العمل‌ لتـأكيد‌ أصـالة المسلمين‌ الفكرية وشخصيتهم التشريعية المميزة. والثاني ما نجم عن الرخاء الذي ساد المجتمع والانسياق‌ مع الملذات، فاتخذ الامام زين العابدين الدعاء أساسا للعلاج وخلق جوا روحيا ساهم في تثبيت‌ الانسان‌ المسلم‌ أمام المغريات».

من هنا فإنّ سـيرة الامـام زين العـابدين التي تعتمد على الكلمة و الموقف وترفل بالخير والصلاح‌ والفلاح ستبقى على الدوام تشيع فينا جوا روحيا يعمّ المـجتمع‌ الاسلامي‌ ويساهم في تثبيت الانسان‌ أمام المغريات كما أنّ الصفات والمزايا التـي تـحلّى بـها الامام السجاد ستبقى من أفضل ما نحتاج اليه، سواء بالتوكل الرائع او بالإيمان العميق.

وإذا تتبعنا‌ أقوال‌ الامام‌ زين العابدين وجدنا فـيها‌ ‌كـثيرا‌ من‌ المبادئ‌ الدستورية التي تتناول‌ صفات الحاكم وواجباته وحقوقه. وحقوق الافراد وواجباتهم، ومبادئ أسـاسية فـي التـشريع المالي‌ وفي القضاء والدفاع‌ وموضوع‌ الأرض على النحو التالي:

الوالي اختاره اللّه ليكون الوسيلة‌ والمسلك اليه خازنا للعلم وطـريقا للهداية. هو منارة وذريعة. مطاع ومعصوم ليكون موضع امتثال وتأييد ومصدر فتوى‌ يقيم‌ الحدود‌ ويـحفظ الحقوق. هذه صفات أساسية وشـروط لازمـة يجب أن‌ تتوفر في الحاكم. وفي هذا يقول الامام زين العابدين: «اللّهم صلّي على اطايب أهل بيته الذين اخترتهم لأمرك و جعلتهم‌ خزنة‌ علمك وحفظة دينك‌ وخلفاءك في أرضك وحججك على عبادك، وطـهّرتهم‌ من الرجس تطهيرا بإرادتك، وجعلتهم‌ الوسيلة اليك والمسلك الى جنّتك».

والخليفة موجود في كل عصر لأنه‌ الحجة‌ للّه‌ على عباده في جميع أنحاء أرضه، وطاعته‌ مفروضة وأمره ممتثل ونهيه‌ مطاع‌ كهف‌ المؤمنين وراعي الحدود والشـرائع والسـنن لرب العالمين.

وفي هذا يقول الامام علي‌ بن‌ الحسين: «اللّهم‌ إنّك أدّيت في كل أوان بإمام أقمته‌ علما لعبادتك ومنارا في بلادك، بعد أن وصلت‌ حبله‌ بحبلك وجعلته الذريعة الى رضوانك‌ وافترضت طاعته وحذرت معصيته وأمرت‌ بامتثال‌ أمـره‌ والانـتهاء عند نهيه، والا يتقدمه متقدم ولا يتأخّر عنه متأخر فهو عصمة اللائذين‌ وكهف المؤمنين وعروة المتمسكين وبهاء العالمين». «اللّهمّ‌ أقم به كتابك وحدودك وشرائعك‌ وسنن رسولك واجعلنا له سامعين مطيعين وفي رضاه ساعين و الى‌ نصرته والمـدافعة‌ عنه‌ ملتفين».

وفي هذا القول اشارة الى واجبات الرعية في طاعة الوالي والاستماع‌ اليه‌ والسعي لرضاه‌ ونصرته والدفاع عنه. وقد أشار الامام زين العابدين الى هذا الموضوع‌ في‌ رسالة‌ الحقوق تحت‌ عنوان حق السـلطان حـيث يـقول: «فأمّا سائسك بالسلطان فإن تعلم انـك جـعلت‌ له‌ فتنة وانه مبتلى‌ فيك بما جعله اللّه له عليك من السلطان. وان تخلص له في النصيحة‌ وان لا تماحكه ولا تخاصمه‌ ولا تنازعه ولا تعازه ولا‌ تعانده. وتلطف لاعطائه من الرضى مـا يـكفه‌ عـنك‌ ولا يضر بدينك، وتستعين عليه في ذلك‌ باللّه».

وفي هـذا الكـلام ايضاح سياسة السلطان الحاكم بالعدل الذي لا يستغفل الرعية بل‌ يخلص‌ لها القول والفعل حتى تصبح‌ له‌ بلاء وهمّا‌ ويكون سلطانه عـليه مـسؤولية وغـمّا‌ لأنه‌ يستوحي في عمله‌ قول اللّه تعالى وتعاليم الكتاب الحنيف. والرعية بـالمقابل تستطيع‌ بالفعل‌ الصالح أن تزيل الهم عن‌ الراعي إذا‌ أخصلت له قولا وفعلا‌ ووفّرت عليه النزاع والخصومة‌ وهي بهذا تخفّف أعباء مـسؤوليته‌ وتـسهّل قـيامه بواجبه.

كما أشار الامام زين العابدين‌ الى‌ حق آخر هو «حق سائسك بالملك‌ فـهو‌ نـحن‌ من حق سائسك‌ بالسلطان. إلاّ‌ أنّ‌ هذا يملك ما لا‌ يملكه‌ ذاك. تلزمك طاعته فيما دق و جل منك الا ان تخرجك من‌ وجوب حـق اللّه». في هـذه‌ الحال‌ يكون الوالي قد اخذته الدنيا عن‌ الآخرة‌ واقعده الملك‌ عن‌ العمل‌ وفـي هـذا يـقول: «عزة الملك‌ وحب الرئاسة ينهي عن العمل».

هنا تأتي واجبات الحاكم وهي كثيرة من طليعتها ان يحسن‌ الولايـة‌ لمـن يـرعاه فلا يظلم ولا يستعجل: «اللهم‌ اني‌ اعوذ‌ بك‌ من‌ سوء الولاية لمن‌ تحت‌ أيدينا وترك الشـكر لمـن اصطنع العارفة عندنا» أو أن ينطوي على غش أحد أو يتهضم السلطان...انما يعجل‌ من‌ يخاف‌ الموت، و انـما يـحتاج الى الظـلم الضعيف». وقد‌ قال‌ الحسين‌ لولده: «اياك‌ وظلم‌ من لا يجد عليك ناصرا الا اللّه». واشار الامام زيـن العـابدين الى حقوق الرعية بقوله: «فما أولى من الرعية بالرحمة والحياطة والأناة».

ومن حقوق الأفراد وواجباتهم البر‌ والانـصاف والمـسالمة والأمـن والسلامة وقد عدد الامام زين العابدين كثيرا من هذه الحقوق في رسالته التي تضمنت المبادئ الاساسية لحـقوق الأفـراد في المجتمع‌ ولحياة الناس كمواطنين. و‌في‌ رسالة الحقوق هذه نصوص تشير الى خـمسين حـقا تـتناول حقوق اللّه‌ أصل الحقوق، ثم حقوق الجوارح و الأفعال والواجبات للسلطان والرعية وللأهل والمواطنين.

ومن أقوال الامام زين‌ العـابدين‌ فـي هـذا الموضوع: «اللهم وفّقنا لأن نصل أرحامنا بالبر والصلة، وأن نتعاهد جيراننا بالأفضال والعطية. وأن نخلص أمـوالنا مـن التبعات و أن نطهرها باخراج‌ الزكاة‌ وان نراجع من هجرنا‌ وان ننصف من ظلمنا وان نسالم من عادنا... اللهم اني‌ اعتذر اليك من حـق ذي حـق لزمني لمؤمن فلم اوفره».

وفي الصحيفة السجادية تطرّق الامام‌ زبن‌ العابدين كذلك الى حـقوق‌ الافـراد‌ وواجباتهم اكثر من مرة فتناولت الادعية في الصـحيفة المبادئ الاسـاسية للعلاقات بين الافراد والتصرفات وطريقة التعايش والمسؤولية الاجـتماعية والفـردية وواجبات المواطنية الصالحة وكيفية التعامل مع‌ الناس.

وهذه نماذج من اقواله: «اللهم اعني على صـالح النـية ومرضى القول وممتحن العمل»، «اللهم انـزع الغـل من صـدري للمـؤمنين، وجـاورني الأطيبين من اوليائك»، «ولا تجعلني للظالمين‌ ظهيرا». «اللهم انـي اصـبح و امسي‌ مستقلا‌ عملي». «اللهم اكفنا‌ طول الأمل وقصّره عنا بصدق‌ العمل، واجعل لنا مـن صـالح الأعمال عملا نستبطئ معه المصير اليـك. واجعله‌ بابا من أبـواب‌ مغفرتك ومـفتاحا من مفاتيح رحمتك». «لا يقل عـمل مـع‌ تقوى‌ وكيف يقل ما يتقبل» «ان احبكم‌ الى اللّه احسنكم عملا». «لا حسب لقرشي ولا لعربي الا بتواضع». «الناس بـالناس». «دع‌ عني حـديث ‌‌ابي‌ وامي وجدي، خلق اللّه الجنة لمـن أطـاعه وأحـسن ولو كان‌ عبدا‌ حـبشيا. وخـلق النار لمن عصاه ولو كان ولدا قـرشيا». «و اللّه لا يـنفعك غدا الا تقدمة تقدمها‌ عن عمل صالح». وفي‌ هذه الأقوال تركيز على العمل الصالح، والنية الحـسنة، والابـتعاد عن‌ الظلم والمساواة في‌ الحقوق‌ والواجـبات عـلى أساس العـمل الصـالح لا عـلى أساس الحسب والنسب.

وتناول الامـام زين العابدين موضوع الأرض في أدعيته اكثر من مرة تناولها كوطن ومسقط رأس ومصدر راحة... انه الوطن الذي‌ يـجمع الانسان الى الأرض تحت ولاية واحدة يحميها الراعي الصـالح ويـحفظ ابـناءها الخـليفة العـادل «وهاجر الى بلاد الغـربة ومـحل النأي عن موطن رحله‌ وموضع رجله ومسقط رأسه ومأنس‌ نفسه‌ إرادة منه لاعزاز دينك».

«اصبحنا و اصبحت الاشياء كلها بـجملتها لك سـماؤها و ارضـها و ما بثثت في كل واحد منهما ساكنه و مـتحركة و مـقيمة و شـاخصة و مـا عـلا‌ فـي‌ الهوا وما كان تحت الثرى، أصبحنا في قبضتك يحوينا لملكك وسلطانك وتضمنا مشيئتك».

أمّا موضوع المال فقد تناوله الامام زين العابدين(ع) اكثر من مرة في أدعيته و أقواله ووضع النقاط الرئيسية‌ و المبادئ الأساسية للتشريع المـالي، فتحدث عن مصدر المال و إنماثه و إنفاقه و عن‌ الضرائب و تخليص الأموال و حق المشاركة و الحفاظ على الثروة و حق المسائل و المسؤول‌ على‌ النحو التالي:

1- مصدر المال: وكيفية اكتسابه وإنفاقه‌ قال‌ عنها: «ألا‌ و أنّ أول ما يسألانك عنه... وعن‌ مالك من أيـن اكـتسبته و فيما أنفقته» فالإنسان يحسب هذا القول مسؤول عن مصدر ثروته‌ وعن‌ كيفية‌ انفاقها‌ و التصرف بها، حيث قول الامام زين العابدين في‌ مكان‌ آخر «أما حق‌ المال فأن لا تأخذه الا من حله، ولا تنفقه الا في حـلّه ولا تـحرفه عن مواضعه ولا‌ تصرفه‌ عن‌ حقائقه ولا تؤثر به على نفسك من لعلّة لا‌ يحمدك، وبالحري أن لا يحسن خلافته في تركك‌ ولا يعمل فيه بطاعة ربك، فتكون معينا له على ذلك وبـما‌ أحـدث‌ في مالك أحسن نظرا لنفسه، فيعمل بـطاعة ربـه فيذهب بالغنيمة و تبوء بالإثم‌ والحسرة و الندامة مع التبعة».

2-استثمار المال: وتنميته و زيادته ضمن الأصول والحقوق وفي هذا‌ تمام‌ الثروة‌ حيث يقول: «استنماء المال تمام المرؤة، وارشاد المـستشير قـضاء لحق النعمة».

3-المال لا يتعلق‌ بكرامة‌ الانـسان‌ الشـخصية ومركزه الاجتماعي، فالمواطن لا يعامل ولا يقاس‌ على هذا الاساس، فلا بد مع المال‌ من‌ اخلاق «اللهم‌ اجمع لي المال والعفاف». «اللهم‌ اعصمني ان اظن بصاحب ثروة فضلا...اللهم اني اعوذ بك الأزراء‌ بالمقلين...».

4- الضرائب: موضوع جديد نتعرف اليه في هذا المجال. وقد اشار اليـه الامـام زين العابدين‌ بقوله: «اللّهمّ وفقنا‌ لأن‌ نخلص‌ اموالنا من التبعات، وان نطهرها بإخراج الزكاة...».

«اللّهمّ أجبر بالقرآن خلقنا من عدم الاملاق، وسق‌ الينا‌ رغد العيش وخصب سعة الأرزاق‌ وجنبنا به الضرائب المذمومة ومداني الاخلاق».

5-المشاركة:في المال‌ مـوضوع‌ جـديد كذلك أشـار اليه الامام زين العابدين بقوله: «حق‌ الشريك إن غاب كفيته وإن حضر ساويته. ولا‌ تعزم علي حكمك دون حكمه، ولا تعمل‌ برأيك دون مناظرته، وتحفظ اليـه ماله‌ وتنفي‌ عنه خيانته فيما عز أو هان فانه بلغنا ان يد اللّه‌ على الشـريكين مـا لم يتخاونا».

6- الصدقات: وقد‌ تعرض‌ لها الامام زين العابدين كمصدر من مصادر الحقوق في الأموال‌ بقوله:

«أمّا حقّ السائل‌ فإعطاؤه‌ إذا تهيأت صدقة و قـدرت ‌ ‌عـلى سد حاجته. وأمّا واجب المسؤول‌ فحقّه إن أعطي قبل منه ما‌ أعطي. و‌اعلم أنّه مـن مـنع فـما له منع و ان ليس التثريب في‌ ماله».

أمّا في‌ موضوع الدفاع عن الدولة (الولاية) فلابدّ هنا من‌ أن‌ نذكر‌ ما جـاء في دعائه‌ لأهل الثغور: «اللّهمّ حصّن ثغور‌ المسلمين‌ بعزّتك وأيد حماتها بقوّتك وأسبغ عطاياهم مـن‌ جدّتك وكثّر عدّتهم واشحذ‌ أسـلحتهم واحـرس حوزتهم وامنع‌ حومتهم وألّف‌ جمعهم‌ ودبّر أمرهم وتوحّد بكفاية مؤمنهم‌ واعضدهم بالنصر وأعنهم بالصبر وألطف لهم في المكر. وعرّفهم‌ ما يجهلون‌ وعلّمهم ما لا يعلمون وبصّرهم‌ ما لا يبصرون وأنسهم‌ عند لقائهم العدو ذكر دنياهم الخـدّاعة‌ الغرور‌ وامح عن قلوبهم خطرات المال الفتون و اجعل الجنة نصب أعينهم‌ و لوح منها‌ لأبصارهم‌ ما اعددت منها من مساكن‌ الخلد‌ ومنازل الكرامة والحور‌ الحسان والانهار المطردة بأنواع‌ الاشربة‌ والاشجار المتدلية بصنوف الثمر حـتى لا يـهم احد منهم بالادبار ولا يحدث نفسه‌ بفرار. أفلل‌ بذلك عدوّهم وأقلم عنهم أظفارهم‌ وفرّق بينهم‌ وبين‌ أسلحتهم‌ واخلع وثائق أفئدتهم‌ وساعد بينهم وبين أزودتهم وحيرهم في سلبهم وضلّلهم عن وجههم‌ واقطع‌ عـنهم‌ المـدد وانقص منهم العدد واملأ‌ افئدتهم‌ الرعب‌ واقبض أيديهم عن‌ البسط‌ واخزم‌ ألسنتهم عن النّطق وشّرد بهم من خلفهم ونكل بهم من ورائهم واقطع‌ نسل‌ دوابهم‌ و‌انعامهم. اللّهمّ وقوّ بذلك محال أهـل الاسـلام وحصّن‌ به‌ ديارهم‌ وثمّر‌ به أموالهم وفرّغهم‌ عن محاربتهم لعبادتك».

أما في موضوع الأمن للمواطنين: فيمكن أن نذكر هذا الدعاء:

«وقد فررت اليك يا إلهي بنفس، واليك مفر المسيء ومفزع المضيع لحظ‌ نفسه الملتجئ. فكم مـن عـدوّ انـتظى على سيف عداوته وشحذ لي ظـبة مـديته، وأرهـف لي شباء حدّه وأبان لي قواتل‌ سمومه وسدّد نحوى صوائب سهامه. ولم تنم عني عين‌ حراسته‌ وأضمر أن يسومني المكروه ويجرعني‌ زعاف مرارته فنظرت يا الهي الى ضـعفي عـن احـتمال الفوادح وعجزي عن الانتصار ممن قصدني‌ لمحاربته ووحدتي فـي كـثير عدد من ناوأني‌ وأرصد لي بالبلاء فيما لم أعمل فيه فكري فابتدأتني بنصرك‌ وشددت أزري بقوّتك ثم فللت لي حده وصيرته من بـعد جـمع عـديد‌ وحده‌ وأعليت كعبي عليه‌ وجعلت‌ ما‌ سدّده مردودا عليه فـرددته لم يشف غيظه ولم يسكن غليله وقد عضّ على شواه وأدبر موليا قد أخلفت سراياه».

أمّا في موضوع القضاء: فقد‌ تناول‌ الامام زين العـابدين عـددا‌ مـن‌ النقاط التي تعتبر أساسا للتشريع القضائي. منها: حق الشريك وحق الخليط وحق المال وحـق الغـريم وحق الخصم المدعي‌ والمدعي اليه.

«حق الغريم الطالب لك إن كنت موسرا كفيته وأغنيته‌ ولم ترده و تمطله، فإنّ رسول‌ اللّه (صلى اللّه عليه و سلم) قال: «مطل الغـني ظـلم» وان كـنت معسرا أرضيته بحسن القول. «حق الخليط أن لا تعزّه ولا تفشه ولا تكذّبه».

«حق الخصم المدّعي عليك فإن‌ كـان‌ مـا يـدّعي‌ عليك حقّا لم تنفسخ في حجة ولم تعمل في‌ إبطال دعوته وكنت خصم نفسك له والحاكم عليها والشـاهد له بـحقه دون شـهادة الشهود. وان كان‌ ما‌ يدعيه‌ باطلا‌ رفقت به وردعته وناشدته بدينه وكسرت حدّته عنك بذكر اللّه».

«و أمـّا حـق الخصم المدّعي عليه ‌‌فإن‌ كان ما تدّعيه حقا أجملت في مقاولته بمخرج الدعـوى فـإن‌ للدعوة غـلطة في سمع‌ المدّعى‌ عليه‌ و قصدت قصد حجتك بالرفق و امهل المهلة وابين البيان و الطف‌ اللطف ولم تـتشاغل‌ عـن حجتك بمنازعته بالقيل و القال فتذهب عنك حجتك ولا يكون لك‌ في ذلك‌ درك».

وأمّا حق‌ مـن‌ سـاءك القـضاء على يديه بقول أو فعل فإن كان تعمّدها كان العفو أولى بك لما فيه من القمع و حسن الأدب مـع كـثير أمثاله من الخلق فإن لم يكن عمدا لم تظلمه‌ بتعمّد الانتظار منه‌ فتكون قد كـافأته فـي تـعمّد على خطأ و رفعت به ورددته بألطف ما تقدر عليه».

هذه بعض المبادئ الدستورية التي أمكن استخلاصها مـن سـيرة حـياة الامام زين العابدين‌ ومن أقواله. وهي‌ تتناول كثيرا من المواضيع الاساسية فـي هـذا المجال وقد اكتفينا بهذه الدراسة السريعة بذكرها مع قليل من التعليق عليها وشرح مدلولها آملا في أن نـعود إلى هـذا الموضوع مرة ثانية‌ حيث‌ يتسنى لنا جمع أقوال الأئمة(ع) في كل موضوع على حـدة. و اللّه ولي التوفيق.

_________________________

(*) يمكن الرجوع إلى: المبادئ الدستورية عند الشيعة من خلال أقوال الإمام الحسن بن علي عليهما السلام.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2055
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 11 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24