• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : مؤلفات الدار ونتاجاتها .
              • القسم الفرعي : مقالات المنتسبين والأعضاء .
                    • الموضوع : الاستفادة الفقهية من أسباب النزول والتنزيل والتأويل .

الاستفادة الفقهية من أسباب النزول والتنزيل والتأويل

 السيّد حكمت أسد الموسوي/ 

القسم الثقافي في دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم


المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين.

ممّا أجمع عليه المسلمون أنّ آيات القرآن الكريم نزلت نجوماً متفرّقة على مدى ثلاث وعشرين سنةً بعد البعثة النبوية المباركة، منها ما نزل لبيان حكم شرعي أو للحِكَم والأمثال، أو لبيان بعض الأمور الغيبية التي تختص بعالم غير عالمنا كوصف الجنة والنار والملائكة، أو ما يتعلّق بأصول المعارف والعقائد كصفات الله تبارك وتعالى وأسمائه الحسنى وغير ذلك، ولكل واحد من هذه الأقسام شأنه البياني طبقاً لما يرتبط بنوع الموضوع الذي تتناوله الآية أو الآيات الكريمة.

والغرض من هذا البحث، دراسة أسباب النزول والتنزيل والتأويل ودورها في الفقه الإسلامي. وقبل الدخول إلى جزئيات البحث، نتعرّض إلى بيان مجمل لبعض المفاهيم المطروحة.

سبب النزول في الاصطلاح

عرّف سبب النزول في اصطلاح العلوم القرآنية بأنه: «العلم الذي يتكفل بالكشف عن الأحداث التاريخية والوقائع التي كانت من دواعي النص القرآني» [موجز علوم القرآن، داود العطار، ص21].

وعرّف أيضاً بأنه: «أمور وقعت في عصر الوحي واقتضت نزول الوحي بشأنها» [علوم القرآن، السيد محمد باقر الحكيم، ص38].

وفي تعريف آخر هو: «ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أو مبينة لحكمه أيام وقوعه» [مناهل العرفان، الزرقاني، ج1، ص105].

ونلاحظ في هذه التعريفات أنها متفقة على أمر واحد هو أنّ أسباب النزول هي عبارة أحداث وأمور وقعت في عصر الوحي كانت الداعي لنزول قرآن فيها.

سبب النزول وشأن النزول

أفاد بعض العلماء في مقام التفريق بين مصطلحي سبب النزول وشأن النزول، أنّ الأول يتناول مشكلة حاضرة لحادثة عارضة تكون كداعٍ وموجب لنزول قرآن بشأنها، أما الثاني فهو يتناول مشكلة أمر واقع سواء أكانت حاضرة أم غابرة، ولا مشاحة في الاصطلاح.

حيث تطرّق الشيخ المحقّق محمد هادي معرفة (ره) إلى بيان التفريق بين الاصطلاحين بقوله: «أسباب النزول أي السبب الداعي والعلة الموجبة لنزول قرآن بشأنها. وهذا أخص من قولهم: «شأن النزول» لأن الشأن أعم مورداً من السبب في مصطلحهم بعد أن كان الشأن يعني الأمر الذي نزل القرآن آية وسورة لتعالج شأنه بياناً وشرحاً أو اعتباراً بمواضع اعتباره كما في أكثرية قصص الماضين والإخبار عن أمم سالفين أو عن مواقف أنبياء وقدّيسين كانت مشوهة وكادت تمسّ كرامتهم أو تحطّ من قدسيتهم، فنزل القرآن ليعالج هذا الجانب ويبين الصحيح من حكاية حالهم والواقع من سيرتهم بما يرفع الإشكال والإبهام وينزه ساحة قدس أولياء الله الكرام» [تلخيص التمهيد، محمد هادي معرفة، ج1، ص112 - 113].

اتجاهات المفسرين حول معرفة أسباب النزول

اختلفت نظريات العلماء والمفسرين بشأن أسباب النزول، ويمكن حصرها في ثلاثة هي:

1- الاتجاه الأول: امتناع تفسير أي آية إلا بمعرفة سبب نزولها.

وهو ما يُفهم من كلام الواحدي صاحب كتاب (أسباب نزول الآيات)، حيث قال في مقدمته للكتاب: «فآل الأمر بنا إلى إفادة المبتدئين المتسترين بعلوم الكتاب إبانة ما أنزل فيه من الأسباب إذ هي ما يجب الوقوف عليها وأولى ما تصرف العناية إليها لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها» [أسباب نزول الآيات، علي بن أحمد الواحدي، ص8].

وظاهر هذا الرأي المبالغة في هذا المنحى أي: امتناع معرفة تفسير الآية إلا بمعرفة سبب نزولها، إلا أنه يمكن حمل كلامه خصوصاً عند قوله: «إبانة ما أنزل فيه من الأسباب ... لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها» في ما جاء في الآية من سبب نزول، وإلا فإن لم يكن فيها ذلك أو لم يصلنا فيها من حادثة خارجية حصلت في عصر الوحي تكون سبباً لنزولها فهو أمر خارج عن محل الكلام، إذ البحث منصب فعلاً ـ كما هو مسمّى الكتاب (أسباب نزول الآيات) ـ على ما ورد في الآيات من أسباب نزول.

ويمكن بيان كلامه أيضاً بأن بيان قصة الآية وسبب نزولها، إذا كان، فهو أمر مؤثّر في معرفة تفسيرها، وهو ممّا لا غبار عليه.

لكن معرفة سبب نزول الآية أمر يُساعد في فهم الآية وتفسيرها لكنه ليس بشرط في التفسير؛ بمعنى إذا لم يرد في الآية شيء من أسباب النزول فلا يبقى تفسيرها مجهولاً أو ممتنعاً بل يمكن الوصول إلى تفسيرها من محل آخر، وإلى هذا المعنى أشار الدكتور محمد الصادقي بقوله: «إن شؤون نزول الآيات وإن كانت تساعد على تفهم معانيها أحياناً ولكنها ليست شرطاً في التعرف على معاني آيها، ولا أنها تحدد معاني الآيات بمواردها، فلو أن الآية ماتت بموت الشأن الذي نزلت فيه إذاً لماتت الآيات كلها، وإنما شؤون النزول مبررات وقتية لنزولها تماشياً مع كل حادث وحديث في نزولها، فالآيات مستقلة في دلالاتها على معانيها عرفت شؤونها أم لا، وأما شؤون نزولها فلا شأن لها أصلاً في تفسيرها، وإنما الشأن الأصيل هو شأن الآيات أنفسها دون شؤون سواها» [الفرقان في تفسير القرآن، محمد الصادقي، ج1، ص50].

2- الاتجاه الثاني: إنكار أغلب أسباب النزول لضعف سندها رواياتها ولكثرة الإسرائيليات فيها، إلا القليل الموثوق منها.

لذا ذهب أصحاب هذا الرأي إلى تجاهل أغلب أسباب النزول ورفضها وعدم جعلها في كتبهم التفسيرية، ومنهم:

أ- الشيخ محمد جواد مغنية، قال في مقدّمة تفسيره الكاشف: «تجاهلت ما جاء في الروايات في أسباب التنزيل إلا قليلاً منها؛ لأن العلماء لم يمحصوا أسانيدها ويميزوا بين صحيحها وضعيفها» [الكاشف، محمد جواد مغنية، ج1، ص14].

ب- السيد عبد الأعلى السبزواري، حيث قال في مقدّمة تفسيره: «كما أني لم أهتم بذكر شأن النزول غالباً؛ لأن الآيات المباركة كليات تنطبق على مصاديقها في جميع الأزمنة، فلا وجه لتخصيصها بزمان النزول أو بفرد دون فرد آخر» [السيد عبد الأعلى السبزواري، مواهب الرحمن، ج1، ص7].

ج- السيد محمد صادق الصدر، قال في مقدّمة تفسيره: «ومما ينبغي الإلماع إليه أنني بطبعي لا أميل إلى الأخذ بروايات موارد النزول وأسبابه، فإنها جميعاً ضعيفة السند وغير مؤكدة الصحة، بالرغم من اهتمام بعض المؤلفين بها كالسيوطي وغيره، وإنما المهم في نظري كما ينبغي أن يكون هو المهم في نظر الجميع، إن كل آية من آيات الكتاب الكريم تعد قاعدة عامة ومنهج حياة وأسلوب سلوك قابل للانطباق على جميع المستويات وعلى جميع المجتمعات، بل على جميع الأجيال، بل كل الخلق أجمعين، فإن القرآن هو خلاصة القوانين والمعارف المطبقة فعلاً في الكون والموجودة في أذهان الأولياء والراسخين في العلم» [منة المنان في الدفاع عن القرآن، السيد محمد صادق الصدر، ص21].

د- السيّد محمد حسين الطباطبائي، يمكن أن يعد من هذا الاتجاه الرافض لأسباب النزول، فهو يرى أن المعارف القرآنية أنها معارف عالمية دائمة لا تحتاج كثيراً أو لا تحتاج أبداً إلى أسباب النزول [القرآن في الإسلام، السيد محمد حسين الطباطبائي، ص153].

3- الاتجاه الثالث: عدم تجاهل أسباب النزول واعتبارها معيناً على فهم الآية، وفي نفس الوقت التحذير من الأخذ بأي رواية؛ إذ لابد من معرفة صحتها من سقمها بسبب دخول الكثير من الإسرائيليات في الأحاديث والروايات.

يقول الشيخ البلاغي في مقدمة تفسيره (آلاء الرحمن): «وأما الرجوع في التفسير وأسباب النزول إلى أمثال عكرمة ومجاهد وعطاء وضحاك، كما ملئت التفسير بأقوالهم المرسلة، فهو مما لا يعذر فيه المسلم في أمر دينه فيما بينه وبين الله، ولا تقوم به الحجة؛ لأن تلك الأقوال إن كانت روايات فهي مراسيل مقطوعة، ولا يكون حجة من المسانيد إلا ما ابتنى على قواعد العلم الديني الرصينة» [آلاء الرحمن في تفسير القرآن، محمد جواد البلاغي،  ج1، ص45].

ويقول المحقّق الشيخ السبحاني في هذا الأمر: «لا يمكن الاعتماد على كل ما ورد في الكتب باسم أسباب النزول، بل لابد من التحقيق حول سنده والكتاب الذي ورد فيه، فإن أكثر المفسرين في القرون الأولى أخذوا علم التفسير من مستسلمة أهل الكتاب خصوصاً فيما يرجع إلى قصص الأنبياء وسيره أقوالهم، فلا يمكن الاعتماد على كلام هؤلاء» [المناهج التفسيرية في علوم القرآن، الشيخ جعفر السبحاني، ص40 - 41].

مناقشة الأقوال في معرفة أسباب النزول

الملاحظ في هذه الاتجاهات والآراء الواردة فيها بعد التمحيص والتدقيق في مؤدّاها، أنّ الاختلاف بينها لا يعدو كونه أمراً شكلياً وظاهرياً، حيث إن أصحاب الرأي الأوّل يذهبون إلى القول بضرورة التفسير بالاستفادة من أسباب النزول، وواضح أنه بخصوص الآيات التي جاء فيها أسباب نزول (وبالشروط المقرَّرة)، لكن هذا لا يرقى إلى أن يكون شرطاً في تفسير الآية؛ إذ يمكن فهمها من قرائن ونواحٍ أخرى غير أسباب النزول.

أما أصحاب الرأي الثاني فالمفهوم من قولهم هو مجرّد التثبّت في روايات أسباب النزول في المرحلة الأولى قبل القبول بها وتفسير الآيات بالاستفادة منها، وذلك لكثرة ما رُوي فيها من إسرائيليات وروايات ضعيفة.

إذاً، الموضوع يختلف في الاتجاه الأوّل عن الاتجاه الثاني، فأصحاب الرأي الأوّل يتكلمون عن ضرورة معرفة أسباب النزول وفائدتها الكبيرة في تفسير الآية وهذا واضح، أما أصحاب الرأي الثاني فيتكلّمون عن ضرورة التثبت في روايات أسباب النزول، فيمكن الجمع بينهما.

أما الرأي الثالث فهو مجرّد جمع بين الرأيين السابقين في رأي واحد، فلا أحد ينكر فائدة أسباب النزول، هذا من جانب، ومن جانب آخر ليس كل ما ورد في رواية من أسباب نزول فيمكن التعويل عليه بدون تمحيص سند الروايات ودلالتها، فالإسرائيليات والضعيف المردود من الروايات، هي ـ بلا شك ـ غير معتمدة ومردودة في مرحلة سابقة حتى نقول: هل يُعتمد عليها في التفسير أو لا، فلا يُعتمد عليه من الأساس.

التأويل في اللغة والاصطلاح

مصطلح التأويل في اللغة مأخوذ من (الأَوْل) بمعنى: الرجوع؛ فالتأويل هو الإرجاع، وتأويل الشيء هو عبارة عن ردّه إلى حقيقته [انظر: معجم مقاييس اللغة، ج 1، ص 16؛ لسان العرب، ج 1، ص 5- 264؛ المفردات، الراغب الاصفهاني، ص 27]. وعليه؛ يكون تأويل الآية بمنزلة ردّها إلى أحد معانيها المحتملة. وجاء هذا المصطلح 17 مرّة في القرآن الكريم في 15 آية و 7 سور [روش هاى تأويل قرآن (طرق تأويل القرآن)، محمد كاظم شاكر،  ص 32].

وأمّا التأويل في مصطلح أهل التفسير فله معنيان:

أحدهما يختصّ بباب المتشابهات، بمعنى: تأويل المتشابه من الأقوال كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران : 7]، أو الأعمال كما جاء في قصة موسى وصاحبه (عليهما السلام): ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف: 78]، إلى الوجه المعقول المقبول. ومن ثَمَّ فهو نوع تفسير، ينضمّ إلى رفع الإبهام عن الآية، دفع الإشكال عنها أيضاً، ليكون رفعاً ودفعاً معاً. فالتأويل في باب المتشابهات، هو بمعنى: توجيهها إلى الوجه الذي يقبله العقل والشرع. [التفسير الأثري الجامع، معرفة: ج1، ص30]

والمصطلح الآخر للتأويل هو: تبيين المفهوم العامّ الخابئ وراء ستار اللفظ الذي يبدو خاصّاً حسب التنزيل. فإنّ غالبية الآيات النازلة حسب المناسبات تبدو خاصة بها لا تتعدّاها ظاهرياً، فهذا يجعل من رسالة القرآن عقيمةً مدى الأيام، غير أن النبي (صلى الله عليه وآله) أكد على ضرورة استخلاص الآية من ملابساتها، ولتكون ذات مفهوم عام وشامل لجميع الأقوام والأعصار [التفسير الأثري الجامع، معرفة: ج1، ص30]، حيث روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن» [بحار الأنوار، ج33، ص155]، وقد سئل الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) عن تفسير هذا الحديث فقال: «ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن، يجري كما يجري الشمس والقمر» [بصائر الدرجات، ص216، ح 7]. وأضاف (عليه السلام) القول: «لو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية، لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض، ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شرّ» [تفسير العياشي: ج1، ص21 / 7].

إذاً، للقرآن ظهر حسب التنزيل، وبطن حسب التأويل.

ومن المعاني التي ذكروها للتأويل:

1- التفسير، حيث كان هذا المعنى شائعاً لدى قدماء المشهور من أهل التفسير.

2- ارجاع ظاهر اللفظ إلى المعنى الراجح على المعنى المرجوح، وذلك لأجل الدليل الموجود.

3- باطن القرآن، حيث ذكر هذا المعنى آية الله معرفة (ره)، وذلك طبقاً للدليل الروائي الخاص الموجود في شأن التأويل.

4- تعبير الرؤيا، الذي جاء في عدد من الآيات الكريمة؛ منها قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ... * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ...[سورة يوسف، 100-101].

5- عاقبة الشيء وخاتمته، وهو أيضاً معنى استخدم في القرآن، ومنه قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[سورة النساء، 59].

الفرق بين التنزيل والتأويل

بالنسبة للقرآن الكريم فالتنزيل عبارة عن الآيات والسور النازلة على النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) بنفس الألفاظ وما لها من المعنى الظاهر. والتأويل ـ كما مرّ بحثه ـ هو المعنى الخابئ والخفيّ للآية غير المعنى الظاهر.

وفي حديث الإمام علي (عليه السلام) قال: «ما من آية إلاّ وعلّمني تأويلها» أيّ معناه الخفيّ الذي هو غير المعنى الظاهري ، لما تقرّر من أن لكلّ آية ظهراً وبطناً والمراد أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أطلعه على تلك المعاني الخفيّة والأسرار المكنونة [الطريحي، مجمع البيان، ج5، ص312، مادة (أول)].

وقد يُطلق التأويل على التفسير والشرح ـ كما تقدّم بحثه في الموضوع السابق ـ فيما إذا كانت الآية مجملة تحتاج إلى بيان معناها الحقيقي. فقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[سورة طه، 5] هو التنزيل لكنّه بحاجة إلى كشف الغطاء عن معناه لأنّ الله تعالى ليس جسماً حتى يجلس على العرش، فتأويل الآية هو إحاطة الله تعالى بالكائنات والمخلوقات واحتواؤه على العالم، فكأنّه ملك جالس على السرير يراقب رعيّته ويدبّر أمرهم.

العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

السؤال المهمّ المطروح هنا: هل السبب الذي استدعى نزول الآية يخصّص أو يقيّد المدلول القرآني لها؟ وبعبارة أخرى: هل إنّ ما ينزل من القرآن لسبب من الأسباب يقتصر على ذلك السبب فيما أفاد من حكم ومدلول؟ أم يتعدّاه إلى غيره من الأمور والوقائع المطابقة؟

اتفق علماء الأصول على أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأرادوا بهذا أنّ السبب الذي ينزل إثره الوحي لا يحبس التشريع ولا يقيّده، وإنّما يكون ذلك السبب مجرّد مثير لنزول الوحي فيشمله الحكم النازل ويبقى هذا الحكم على عمومه سارياً على كل الوقائع والأحداث المماثلة لذلك السبب [موجز علوم القرآن، داود العطار، ص135]، ومثاله آية الظهار ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ...[سورة المجادلة، 3]، وإن نزلت بمناسبة مظاهرة أوس بن الصامت لزوجته خولة بنت ثعلبة، إلا أنّ حكم الظهار الذي تضمّنته الآية لا يختصّ بهما ولكنّه يجري في كل حالة مشابهة إلى يوم القيامة [الوجيز في علوم القرآن، مصطفى قصير العاملي، ص86]؛ لأنّ الحكمة في نزول آية وسورة ليست بالتي تقتصر على معالجة مشاكل حاضرة وليست دواء وقتياً لداء عارض وقتي، إذاً تنتفي فائدتها بتبدّل الأحوال والأوضاع، بل القرآن في جميع آيه وسوره نزل علاجاً لمشاكل أمة بكاملها في طول الزمان وعرضه. إلى ذلك يشير قولهم (عليهم السلام): «نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة» [تلخيص التمهيد، معرفة، ج1، ص115].

وإلى هذا المعنى أشار العلامة السيد الطباطبائي في الميزان بقوله: «القرآن نزل هدى للعالمين يهديهم إلى واجب الاعتقاد، وواجب الخلق، وواجب العمل وما بينه من المعارف النظرية حقائق لا تختص بحال دون حال ولا زمان دون زمان، وما ذكره من فضيلة أو رذيلة أو شرعه من حكم عملي لا يتقيد بفرد دون فرد ولا عصر دون عصر لعموم التشريع. وما ورد من شأن النزول لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها ويموت بموتها لأن البيان عام والتعليل مطلق» [الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص42].

دور أسباب النزول في المسائل الفقهية

إنّ للوقوف على سبب النزول أهمية كبيرة في التعرّف على مدلول الآية ومفهومها ووجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم؛ إذ كما قيل: «العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب». ولا شك أنّ صياغة الآية وطريقة التعبير عنها يتأثر إلى حدّ كبير بسبب نزولها، فالاستفهام مثلاً لفظ واحد ولكنّه يخرج إلى معانٍ أخرى كالتقرير وغيره ولا يفهم المراد إلا بالأمور الخارجية والقرائن الحالية [موجز علوم القرآن، داود العطار، ص130].

يقول المحقّق الشيخ جعفر السبحاني: «إن لمعرفة أسباب النزول دوراً هاماً في رفع الإبهام عن الآيات التي وردت في شأن خاص لأن القرآن الكريم نزل نجوماً عبر ثلاثة وعشرين عاماً إجابة لسؤال أو تنديداً لحادثة أو تمجيداً لعمل جماعة إلى غير ذلك من الأسباب التي دعت إلى نزول الآيات، فالوقوف على تلك الأسباب لها دور في فهم الآية بحدها ورفع الإبهام عنها» [المناهج التفسيرية في علوم القرآن، الشيخ جعفر السبحاني، ص38].

وقد مرّ قول الواحدي في أسباب النزول: «لا يمكن معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها» [أسباب نزول الآيات ، ص10]، وقال ابن دقيق العيد: «بيان سبب النزول سبب قوي في فهم معاني القرآن» [لباب النقول في أسباب النزول، السيوطي، ص8].

وفيما يلي نعرض أمثلة متعدّدة لآيات كان لمعرفة سبب نزولها دور كبير في تفسيرها الفقهي:

1- قوله تعالى: ﴿وَللهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[سورة البقرة، آية 115].

حيث المتبادر من مدلول ألفاظ الآية ومن مظاهر سياقها أن المصلي له أن يصلي إلى أية جهة كانت في السفر والحضر فللّه المشارق والمغارب فأينما يُولي المصلي وجهه فقد توجه إلى الله تعالى وهذا خلاف الإجماع [موجز علوم القرآن، آية 131]، وهو يتعارض مع قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ [سورة البقرة، آية 144]، وبالنظر في أسباب النزول تجد أنها نزلت في الصلاة المستحبة يستطيع الإنسان أن يؤديها على راحلته أينما اتجهت الراحلة دون اشتراط الاتجاه نحو القبلة [الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج1، ص303].

2- قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا[سورة البقرة، 158].

إن ظاهر لفظ ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ لا يقتضي أنّ السعي بين الصفا والمروة واجب وفرض، ولكن حينما نرجع إلى أسباب النزول نرى أن المشركين كانوا يسعون بين الصفا والمروة، وقد وضعوا على الصفا صنما اسمه (أساف)، وعلى المروة صنماً آخر سموه (نائلة) وكانوا يتمسحون بهما لدى السعي، من هنا خال المسلمون أن السعي بين الصفا والمروة عمل غير صحيح، وكرهوا أن يفعلوا ذلك. فنزلت الآية المذكورة لتعلن أن الصفا والمروة من شعائر الله، وتلويثها بالشرك على يد الجاهليين لا يبرر إعراض المسلمين عن السعي بينهما. [انظر: الأمثل، ج1، ص449؛ مجمع البيان في تفسير القرآن، ج1، 445؛ أسباب النزول، علي بن أحمد الواحدي، ص27]

3- قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة آل عمران، 188].

حيث أشكل على مروان بن الحكم فهم الآية وقال: «لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يُحمد بما لم يفعل لنعذبن أجمعون حتى بيّن له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب» [الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص59].

قال صاحب الأمثل في نزول الآية: «إن اليهود كانوا يفرحون لما يقومون به من تحريف لآيات الكتب السماوية وكتمان حقائقها ظناً منهم بأن يحصلوا من وراء ذلك على نتيجة وفي الوقت نفسه كانوا يحبون أن ينسبهم الناس إلى العلم ويعتبرونهم من حماة الدين، فنزلت هذه الآية ترد على تصورهم الخاطئ هذا [ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج3، ص41].

4- قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ سورة البقرة، آية 189].

قد يتعجّب الإنسان عندما يقرأ الآية ولكن عندما يقف على سبب نزولها يزول تعجّبه؛ لأنّ الآية نزلت في طوائف من العرب عندما كانوا يحرمون لا يدخلون بيوتهم من أبوابها ولكنهم كانوا ينقبون في ظهر بيوتهم أي في مؤخرها نقباً يدخلون ويخرجون منه فنهوا عن التدين بذلك [مجمع البيان في تفسير القرآن، ج1، ص508].


 

خلاصة البحث

تبيّن من خلال البحث أنّ أسباب النزول عبارة عن حوادث ووقائع وقعت في عصر التشريع، جاء الوحي الإلهي لمعالجتها وحلّها بنزول الآيات الكاشفة والمبيّنة لهذه الحوادث، وأنّ معرفة سبب النزول يعطي فهماً أفضل للنص القرآني، لكن ليس بمعنى عدم إمكان تفسير الآيات مع الجهل بأسباب نزولها.

كما اتضح ضرورة الرجوع إلى الروايات الصحيحة وبالأخص الروايات الصادرة من أهل البيت (عليهم السلام) لأنّهم المفسّر الحقيقي للقرآن الكريم وهم عِدْل القرآن كما ورد في حديث الثقلين، وأنّ المسلمين قد خسروا خسارة فادحة بإهمالهم أحاديث وروايات أهل البيت (عليهم السلام)، حيث انحرفوا عن طريق الرشاد ووقعوا في تيه الأحاديث المزوّرة والمدسوسة وقبول الإسرائيليات السقيمة.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2053
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 11 / 01
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16