• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : عاشوراء والأربعين .
                    • الموضوع : التخطيط الحسيني لتغيير أخلاقية الهزيمة .

التخطيط الحسيني لتغيير أخلاقية الهزيمة

 السيد محمد باقر الصدر

الموضوع ‌‌‌هـذا‌ نصّ محاضرتين للمرجع الشهيد السيد محمّد باقر الصدر قدس‌سره ألقاهما في النجف الأشـرف‌ بـتأريخ‌ 16‌ و 17 / صـفر / 1389 ه ق وقد حصلت المجلّة عليهما مدوّنتين بنصّيهما من‌ قبل سماحة السيد كاظم الحائري... تنشران بعد اضـافة عنوان رأسي‌ وعناوين فرعية مع تعديل‌ يسير‌ في بعض العبارات وحذف بعض الإحـالات.

إنّ الإمام الحسين وقف ليـعالج مـرضا من أمراض الاُمّة كما وقف من قبله أخوه الإمام الحسن ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ ليعالج مرضا آخر‌ من أمراض الاُمّة، بينما قدّر للإمام الحسن أن يعالج مرض الشك في الاُمّة الإسلامية التـي بدأت في عهد أميرالمؤمنين تشك في الخط الرسالي الذي سار عليه قادة أهل البيت، واستفحل‌ لديها هذا الشك حتّي تحوّل الى حالة مرضية في عهد الإمام الحسن عليه‌السلام، هذه الحالة المرضية التي لم يـكن بـالإمكان علاجها حتّي بالتضحية، عالج الإمام الحسين عليه‌السلام حالة‌ مرضية‌ اُخري هي حالة انعدام الإرادة مع وضوح الطريق، فالاُمّة الإسلامية التي كانت تشك (أو التي بدأت تشك) في واقع المعركة القائمة داخل الإطـار الإسـلامي بين الجناحين المتصارعين اتّضح‌ لها‌ بعد هذا الطريق، لكن هذا الطريق اتضحت لها معالمه بعد أن فقدت إرادتها، وبعد أن نامت واستطاع الذين اغتصبوها وسرقوا شخصيتها وزوّروا إرادتها وأباحوا كرامتها، واستطاعوا أن‌ يخدّروها‌ و أن يـجعلوها غـير قادرة علي‌ مجابهة‌ موقف‌ من هذا القبيل، هذه الحالة المرضية الثانية عالجها الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام بالموقف الذي شرحناه، [يشير قدس‌سره الى ما شرحه في‌ محاضرة‌ سـابقة، ومـلخّصه المـستفاد مما كتبه سماحة السيد كـاظم الحـائري:

أنـّه كانت أمام الحسين عليه‌السلام عدّة مواقف عملية‌، كان‌ بإمكانه عليه‌السلام أن يتّخذ أي واحد منها بعد أن طلب‌ يزيد منه أن يبايع:

الموقف الأوّل: أن يبايع يـزيد بـن مـعاوية كما بايع أميرالمؤمنين أبا بكر وعمر‌ وعثمان‌.

الموقف الثـاني: أن يـرفض البيعة لكن يبقي في مكة أو المدينة‌.

الموقف الثالث: أن يلجأ الى بلد من بلاد العالم الإسلامي كما اقترح عليه أخوه محمّد بـن‌ الحـنفية‌.

الموقف الرابـع: أن يتحرك ويذهب الى الكوفة مستجيبا للرسائل التي وردته من‌ أهلها‌ ثـم‌ يستشهد بالطريقة التي وقعت...

وكان اختياره للموقف الرابع قائما علي أساس ادراكه‌ لطبيعة‌ الظرف‌ الذي يعيشه، فإنّه كان عليه أن يـقف مـوقفا يـعالج فيه عدة أقسام من‌ أفراد‌ الاُمّة الإسلامية:

القسم الأوّل: وكان يشكل جزءا كـبيرا مـن الاُمّة كان قد‌ فقد‌ خلال‌ عهد معاوية بن أبي سفيان ارادته وقدرته علي مواجهة الوضع القـائم وهـو يـشعر الذل‌ والاستكانة‌، وأنّ خسارة كبيرة تحيق بالأمة الإسلامية وهي تبديل الخلافة الى كسروية وهـرقلية‌.

القسم الثـاني‌: مـن الاُمّة هان عليه الإسلام، فلم يعد يهتم بالرسالة بقدر اهتمامه بمصالحه الشخصية‌، وتضاءلت أمـامه الرسـالة وكـبر أمامه وجوده ومصالحه واعتباراته.

والقسم الثالث: كان‌ من‌ المغفّلين‌ الذين كان بالإمكان أن تنطلي عليهم حـيلة بـني اُمية لو سكت صحابة الرسول عن تحويل‌ الخلافة‌ الى قيصرية وكسروية.. فإنّ الخلافة وإن انـحرفت عـن خـطها المستقيم منذ توفي الرسول‌ صلى‌الله‌عليه‌و‌آله لكن بقي مفهومها هو مفهوم الخلافة غاية الأمر اغتصبه أبـو بـكر ومن ثم عمر وعثمان‌. بينما في عهد معاوية بن أبي سفيان طرأ عـلي نـفس المـفهوم تغير‌ اساسي‌ إذ لم تعد الخلافة حكما للاُمّة وانما‌ حوّلها‌ معاوية‌ الى حكم كسري وقيصر، وهو تحويل‌ خـطير‌ فـي المفهوم اراد معاوية ان يلبسه ثوب الشرعية ولو كان هذا التحويل يواجه‌ بسكوت‌ من قـبل الصـحابة لأمـكن ان‌ تنطلي‌ حيلة معاوية‌ علي‌ الكثير‌ من السذّج والبسطاء اذ يرون في‌ سكوت‌ الصحابة إمضاءً له...

والقسم الرابـع: وهـو مـا يرتبط بتنازل‌ الإمام‌ الحسن عليه‌السلام عن المعركة مع معاوية‌ وإعلانه الهدنة بـاعتباره هـو‌ الاسلوب‌ الوحيد الذي كان يحتّمه علي‌ الإمام‌ الحسن عليه‌السلام موقعه ومركزه كأمين علي الإسلام والمسلمين.. فإن هـذا الواقـع لم‌ يكن‌ مكشوفا ـ في أكبر الظن‌ ـ بالدرجة‌ الواضحة إلاّ داخل‌ دائرة‌ الجماهير التي كـانت تـعيش‌ المأساة‌ عن قرب كالعراق بشكل عام دون مـن كـان يـعيش في اطراف العالم الإسلامي كأقاصي‌ خراسان‌ حـيث لم يـعش المحنة يوما بعد‌ يوم‌ ولم يكتوِ‌ بالنار‌ التي‌ اكتوي بها الإمام الحسن‌ عليه‌السلام فـي الكـوفة من قواعده واعدائه، وانّما كـانت تـصله الأخبار عـبر المـسافات الشـاسعة بين‌ الكوفة‌ وأطراف خراسان مثلاً.. فـهو لم‌ يميز‌ أنّ‌ هذا‌ التنازل‌ هل هو اعتراف‌ بشرعية‌ الاُطروحة الاموية أو هو تـصرّف اقـتضته الضرورة والظروف الموضوعية التي كان يـعيشها الإمام الحسن عليه‌السلام.

فكان لابـدّ‌ للإمـام‌ الحسين عليه‌السلام أن يختار موقفا يـعالج فـيه‌ هذه‌ الأقسام‌ الأربعة‌ من‌ الاُمّة‌ وليس هذا تقسيما حدّيا بحيث لا يمكن ان ينطبق قـسمان مـنهما علي فرد واحد، بل يـمكن أن يـتصادق عـنوانان منها علي فـرد أو أفـراد من الاُمّة الإسلامية‌ فـكان لابـدّ أن يختار الموقف الذي يرجع فيه للقسم الأول إرادته التي فقدها بالتميع الاُموي والي القسم الثاني إيمانه بالرسالة وشـعوره بـأهمية الإسلام، وان يسلب الدليل عن معاوية عـلي تـحويل‌ الخلافة‌ الى كـسروية وقـيصرية، وذلك عـن طريق معارضة الصحابة المـتمثلة فيه وفي البقية الباقية من الصحابة والتابعين لعملية التحويل هذه.. وأن يختار الموقف الذي يشرح فيه حـتي لمـن‌ كان‌ بعيدا عن الأحداث أنّ تـنازل الإمـام الحـسن عـليه‌السلام لم يـكن إمضاء لعملية التـحويل.]

وقلنا: إ نّه‌ كان‌ بالإمكان عـدّة بدائل للموقف الذي اتّخذه الإمام الحسين إلاّ أنّ‌ كلّ‌ البدائل الممكنة والمتصوّرة لم تكن‌ تحقّق‌ الهدف في علاج هـذه الحـالة المـرضية، وكان الطريق الوحيد لعلاج هذه الحالة المـرضية هـو الخـطّ الذي سـار عـليه سـيد الشهداء عليه أفضل الصلاة‌ والسلام‌.

والموقف الأوّل: وهو‌ أن‌ يبايع يزيد بن معاوية لا يحقّق مكسبا على مستوى معالجة تلك الأقسام من الاُمّة... لأنّه لم تكن قصة يزيد قصة أبي بـكر وعمر وعثمان، لأنّ التحويل هنا‌ علي‌ مستوي المفهوم، ولم يكن بالإمكان أن تمضي دون أن يقف أهل البيت الذين هم القادة الحقيقيون للاُمّة الموقف الديني الواضح المحدّد من عملية التغيير هذه..

والموقف الثاني: كذلك‌ لا‌ يـحقّق ذلك‌ المكسب الذي يريده الحسين عليه‌السلام، ذلك لأن الإمام الحسين عليه‌السلام كان يؤكد، والظروف الموضوعية كانت‌ تشهد علي طبق تأكيده أ نّه لو بقي في المدينة أو في‌ مكة‌ رافضا‌ للبيعة لقتل من قبل بني اُمـية حـتي ولو كان معلقا بأستار الكعبة.. وهذا القتل ليس كالقتل ‌‌الذي‌ استطاع أن يحرّك البقية الباقية من عواطف المسلمين تجاه رسالتهم ودينهم.. فإرجاع‌ الناس‌ الى عـقيدتهم بـاستغلال المتبقي من عواطفهم ومشاعرهم لا يـمكن خـلال قتل عابر سهل من هذا القبيل، بل لابدّ من أن تحشد له كل المثيرات والمحركات.

الموقف الثالث: فهذا‌ وان كان أسلم علي‌ الخط‌ القصير لانه يمكنه ان يعتصم بـشيعته فـي اليمن مثلاً الى برهة مـعينة لكـنه سوف ينعزل ويحيط نفسه بإطار منغلق عن مسرح الأحداث بينما لابدّ ان يباشر عمليته علي مسرح الأحداث الذي‌ كان وقتئذٍ هو الشام والعراق ومكة والمدينة كي يمكن لهذه العملية أن تؤثر تـربويا وروحـيا وأخلاقيا في كل العالم الإسلامي.

وعليه كان لابدّ ان يختار الموقف الرابع الذي استطاع ان يهزّ‌ به‌ ضمير الاُمّة من ناحية، ويشعرها بأهمية الإسلام وكرامة هذا الدين من ناحية ثانية. وان يدحض عملية تحويل الخـلافة الى كـسروية وقيصرية مـن ناحية ثالثة، وان يوضح لكل‌ المسلمين‌ مفهوم التنازل عند الإمام الحسن عليه‌السلام وأ نّه لم يكن موقفا إمضائيا وإنما كـان اسلوبا تمهيديا لموقف الإمام الحسين عليه‌السلام.

نحاول الآن أن نستعرض عمق هذا المرض فـي جـسم‌ الاُمـّة‌ الإسلامية حتّي نعرف أ نّه بقدر عمق هذا المرض في جسم الاُمّة الإسلامية لابدّ وأن يفكر في العلاج أيـضا ‌ ‌بـتلك الدرجة من العمق، وإذا كان من المقَدّر كما‌ فهمنا‌ في‌ محاضرات سابقة أنّ العـلاج الوحـيد‌ للحـالة‌ المرضية‌ الثانية هذه هي التضحية، فبقدر ما يكون هذا المرض عميقا في جسم الاُمّة يجب أن تـكون التضحية أيضا عميقة مكافئة لدرجة‌ عمق‌ هذا‌ المرض في جسم الاُمّة، وهذا المـرض كان‌ يشمل‌ كلّ قـطاعات الاُمـّة عدا بصيص هنا وهناك تجمّع مع الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام.

المشهد الأول: التخويف بالموت‌ من‌ عقلاء‌ المسلمين:

خلال خطّ عمله وحركته لاحظنا كيف أنّ الإمام الحسين‌ ـ عليه الصلاة والسلام ـ حينما قرّر السفر مـن المدينة الى مكة، أو في النهاية حينما قرّر‌ الهجرة‌ من‌ الحجاز متّجها الى العراق، الى تسلّم مسؤولياته كشخص ثائر حاكم‌ علي‌ طواغيت بني اُمية كان يتلقّى من كلّ صوب وحدب النصائح من عقلاء المسلمين، أو مـن‌ يـسمّون‌ يومئذٍ‌ بعقلاء المسلمين الذين يؤثرون التعقّل علي التهوّر، كيف أنّ هؤلاء العقلاء‌ أجمعت‌ كلمتهم‌ علي أنّ هذا التصرّف من الإمام الحسين ليس تصرّفا طبيعيا، كانوا يخوّفونه بالموت، كانوا‌ يقولون‌ له: كـيف تـثور علي بني اُمية وبنو اُمية بيدهم السلطان، والرجال، والمال‌، وكلّ وسائل الإغراء والترغيب والترهيب؟! كانوا يحدّثونه عن النتائج التي‌ وصل‌ إليها‌ الإمام في صراعه مع بني اُمية، والتي وصـل إليـها الإمام الحسن في صراعه‌ مع‌ بني اُمية، كانوا يمنّونه السلامة، كانوا لا يتصوّرون أنّ التضحية يمكن‌ أن‌ تكون‌ بديلاً لحياة بالإمكان الاحتفاظ بأنفاسها مهما كانت هذه الأنفاس، و مهما كانت مـلابسات هـذه‌ الأنـفاس‌، هذه النصائح لم يتلقّها الإمام الحـسين مـن رعـاع، أو من‌ عوام‌ وإنما‌ تلقّاها من سادة المسلمين، من الأشخاص الذين كان بيدهم الحلّ والعقد في المجتمع الإسلامي، تلقّاها‌ من‌ أشخاص من قبيل عـبداللّه بـن عباس [مقتل الحـسين عـليه‌السلام للمـقرم: 196، طبعة بصيرتي]، وعـبداللّه ابن عمر بن الخطّاب [المصدر‌ نفسه: 155]، وعبداللّه بن جعفر الطيار، ومـن قـبل أخيه محمّد بن الحنفية [المصدر نفسه: 149]، ومن قبل غيرهم من‌ سادة‌ الرأي في المجتمع الإسلامي، حتّي أنّ عبداللّه بن جعفر [المصدر نفسه: 195 ـ 196] الذي هو‌ ابن‌ عمّه، الذي هـو ابـن أخـي علي‌ بن‌ أبي‌ طالب، بالرغم من ارتباطه النسبي الوثيق‌ بـالخطّ‌ كان منهارا نفسيا الى الدرجة التي أرسل فيها رسالة الى الإمام الحسين حينما‌ سمع‌ بعزمه علي سرعة الخروج من‌ مـكة‌: أنـ‌ انـتظر‌ حتي‌ ألحق بك، وماذا كان يريد‌ من‌ هذا الانتظار؟ الإمام الحـسين لم يـنتظره، فحينما وصل عبداللّه بن‌ جعفر‌ الى مكة كان الإمام الشهيد قد‌ خرج منها، فذهب‌ عبداللّه‌ بن جـعفر رأسـا الى والي‌ بني‌ اُمية في مكة وأخذ منه كتاب الأمان للحسين، وذهب بالكتاب الى الحـسين‌ و هـو يـري أ نّه قد‌ استطاع‌ بهذا‌ أن يقضي علي‌ كلّ‌ مبرّرات خروج الحسين، لماذا‌ يخرج الحسين مـن مـكة؟ لأنـّه خائف فيها وقد جاء الأمان له من‌ سلاطين‌ بني اُمية.

هذه النصائح كانت تعبّر‌ عن‌ نـوع مـن‌ الانهيار‌ النفسي‌ الكامل الذي شمل زعماء‌ وسادة المسلمين فضلاً عن الجماهير التي كانت تـعيش هـذا الانـهيار مضاعفا في اخلاقها وسلوكها واطماعها‌ ورغباتها‌، هذه السلبية والبرود المطلق الذي‌ كان‌ يواجهه‌ الإمـام‌ الحـسين‌، أو تواجهه‌ حركة‌ الإمام الحسين بالرغم من قوّة المثيرات، هذا البرود المطلق في لحـظات تـرقّب العـطاء الحقيقي كان‌ يعبّر‌ عن‌ ذلك الانهيار النفسي علي مختلف المستويات.

المشهد الثاني‌: موقف‌ عبداللّه‌ بن‌ الحر الجـعفي:

الحسين عـليه الصلاة والسلام بنفسه يقصد عبداللّه بن الحرّ الجعفي الى خيمته ويتوسّل به الى أن يرتبط بهذا الخطّ، ويتّصل به وهو أعـرف النـاس بـصحّة هذا الخطّ وصوابه‌، فيعزّ عليه أن يقدّم قطرة من دمه، ويعزّ عليه أن يـقدّم شـيئا سوي الفرس [المصدر نـفسه: 222 ـ 225] (1) فقط، لم يستطع أن يذوق طعم التضحية إلاّ علي مستوي تقديم فرس واحدة‌ فقط‌.

المشهد الثالث: موقف زعماء البـصرة:

الإمام الحـسين يكتب الى ستّة من زعماء البصرة يختارهم من اُولئك الذين لهم ارتباطات مع خـطّ الإمـام‌ علي‌ عليه‌السلام فإنّ زعماء البصرة علي‌ قـسمين‌: زعـماء مـرتبطون مع خطّ بني اُمية وخطّ عائشة وطـلحة والزبـير، وزعماء يرتبطون مع خطّ الإمام علي ومدرسته، فيختار الإمام الشهيد ستة‌ من‌ الاشـخاص الذيـن يرتبطون بمدرسة‌ الإمام‌ علي ويـشعرون بـالولاء لمفاهيم هـذه المـدرسة وشـعاراتها وأهدافها، ويكتب اليهم يستنصرهم ويستصرخهم ويـشعرهم بـالخطر الدائم الذي تواجهه الاُمّة الإسلامية ممثّلاً في كسروية وقيصرية يزيد بن معاوية، فماذا‌ يـكون ردّ الفـعل لهذه الرسالة ؟ يكون رد الفعل ـ إذا استثنينا شـخصا واحدا وهو عبداللّه بـن مـسعود النهشلي الذي كتب مستجيبا ـ هو البـرود المـطلق، أو الخيانة، إذ‌ يبعث أحدهم‌ برسول الحسين الى عبيداللّه بن زياد وكان وقتئذٍ واليا علي البـصرة (صـدّقوا: أنّ هذا الشخص‌ الذي قام بـهذا العـمل هـو من شيعة عـلي بـن أبي طالب‌، ولم‌ يـكن عـثمانيا، بل كان علويا، ولكنّه علوي فقد كلّ مضمونه، فقد كلّ معناه، ‌‌فقد‌ كلّ إرادتـه ) أخـذ الرسول مع الرسالة الى عبيداللّه بن زيـاد لكـن لا حبّا‌ لعـبيداللّه‌ بـن‌ زيـاد، ولا إيمانا بخطّ عبيداللّه بـن زياد، بل حفاظا على نفسه، وابتعادا‌ بنفسه عن أقلّ مواطن الخطر، خشية أن يطّلع في يـومٍ مـا عبيداللّه‌ بن زياد على أنّ‌ ابـن‌ رسـول اللّه كـتب إليـه يـستصرخه وهو لم يكشف هـذه الورقـة للسلطة الحاكمة وقتئذٍ، فيتّخذ هذا نقطة ضعف عليه، فلكي يبتعد عن أقلّ نقاط الضعف، ولكي يـوفّر له كـلّ‌ عـوامل السلامة، وكلّ ضمانات البقاء الذليل أخذ رسول الإمـام والرسـالة وقـدّمهما بـين يـدي عبيداللّه بن زياد، فأمر عبيداللّه بن زياد بالرسول فقتل [المصدر نفسه: 160] (رضوان‌ اللّه‌ عليه).

شخص آخر من هؤلاء الزعماء الأحنف بن قيس الذي عاش مع خطّ جهاد الإمام علي وعاش مـع حياة الإمام علي عن قرب، وتربّي على يديه، ماذا‌ كان‌ جوابه لابن الإمام علي؟ أمره بالتصبّر والتريث وقال له في رسالة أجاب بها على رسالته: ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون [المصدر نفسه: 160] معرّضا بالطلبات التي كـان الإمـام الحسين عليه الصلاة والسلام‌ يتلقّاها‌ من شيعته. وفي الواقع كانت رسالة الأحنف تعبّر عن أخلاقية الاُمّة المهزومة، فإنّ الاُمّة في حالة تعرّضها للهزيمة النفسية، وفي حالة فقدانها لإرادتها وعـدم شـعورها بوجودها‌ كأمة‌ تنشأ‌ لديها بالتدريج أخلاقية معينة هي‌ أخلاقية‌ هذه‌ الهزيمة. وأخلاقية هذه الهزيمة تصبح قوّة كبيرة جدّا بيد صانعي هذه الهزيمة لإبـقاء هـذه الهزيمة وإمرارها، وتعميقها وتوسيعها، ويـصبح‌ العـمل‌ الشجاع تهورا والتفكير في شؤون المسلمين استعجالاً، ويصبح‌ الاهتمام بما يقع علي الإسلام والمسلمين من مصائب وكوارث نوعا من الخفّة، واللاتعقّل، نوعا من العـجلة وقـلة‌ الأناة‌، نوعا من التـسرّع فـي العمل أو التفكير.

هذه الأخلاقية هي‌ أخلاقية الهزيمة التي تصطنعها الاُمّة لكي تبرّر هذه الهزيمة حينما تُهزم وتشعر بأنّها قد انتهت مقاومتها، فتنسج‌ بالتدريج‌ مفاهيم‌ غير مفاهيمها الاُولى، وقيما وأهدافا ومُثُلاً غير القـيم والمـثل والأهداف‌ التي‌ كانت تتبنّاها في الأوّل، لكي تبرّر أخلاقيا ومنطقيا وفكريا الموقف الذي تقفه.

فالإمام الحسين عليه‌ الصلاة‌ والسلام‌ كان يريد ـ في الواقع ـ أن يبدّل هذه الأخلاقية، ويصنع‌ أخلاقية‌ جديدة‌ لهذه الاُمّة تنسجم مـع القـدرة علي التـحرّك، والارادة حينما كان يقول: «لا‌ أرى‌... والحياة مع الظالمين إلاّ برما» [بـحار الانـوار 44: 192‌] لم يكن هذا مجرّد شكوي‌، وإنّما كان عملية تغيير لأجـل إيجاد أو ـ في الواقع ـ إرجاع هذه‌ الأخلاقية‌ الاُخرى‌ التي فقدها الأحنف بـن قيس، وفقدها كل الناس الذين مشوا مع الأحنف بن قيس.

المشهد الرابع‌: مغادرة بني أسد محلّ سكناهم:

حبيب بـن ‌ ‌مـظاهر يستأذن من الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام‌ أن‌ يذهب ويدعو عشيرته، ويدعو بـني أسـد للالتـحاق بخطّ سيد الشهداء، وكلّ‌ المسلمين‌ يعرفون من هو حبيب بن مظاهر في مواقفه وجهاده، وفـي بياض تأريخه وصفاء سيرته‌، وفي‌ ورعه وتقواه، يذهب حبيب بن مظاهر ليطلب العـون والمدد من عشيرة‌ بـني‌ أسـد للإمام عليه الصلاة والسلام، وتكون النتيجة لذلك أن تغادر عشيرة بني أسد بأجمعها تلك‌ الليلة‌ المنطقة، وتنسحب هذه العشيرة انسحابا إجماعيا، ويرجع حبيب بن مظاهر‌ ليبلّغ‌ الإمام الحسين هذه النتيجة الغريبة وهي: أنـّ‌ عشيرته‌ تخشي أن تبقي بعد اليوم، تخشي‌ أن‌ تبقي حتي حيادية، لأنّه قد لا يكتفي عمر بن سعد بهذا‌ الحياد‌، فتغادر المنطقة نهائيا ولم‌ يكن‌ جواب سيد‌ الشهداء‌ علي‌ ذلك إلاّ أن قال: « لا‌ حول ولا قوّة إلاّ بـاللّه العـلي العظيم » [مقتل‌ الحسين عليه‌السلام: 254].

هذا البرود والسكون‌، هذه الهزيمة النفسية قبل الهزيمة الخارجية‌ هي مرض الاُمّة الذي كان‌ يعالجه‌ الإمام الحسين عليه‌السلام.

المشهد الخامس‌: موقف أهالي الكوفة من مقتل رسول الحسين عليه‌السلام:

الصيداوي ـ وأظنّه: قيس‌ بـن‌ مسهر [المصدر‌ نفسه‌: 219‌ ـ 220] ـ الذي أرسـله الإمام‌ الحسين‌ عليه‌السلام‌ لكي يبلّغ رسالته‌ الى أهل الكوفة يعطي لهم‌ إشعارا‌ بأنّه في الطريق، وأنّه علي الأبواب... هذا الرسول‌ يدخل‌ الكوفة بعد أن انقلبت، وبعد‌ أن‌ تغيرت الكـوفة‌ غـير‌ الكوفة‌، وسيطر عبيداللّه ابن‌ زياد علي كلّ القطاعات العسكرية في الكوفة، يؤخذ [ قيس بن مسهر] أسيرا الى عبيداللّه بن‌ زياد‌، وقبل أن يصل اليه يمزّق الكتاب، ويـقف بـين يـدي عبيداللّه‌بن زياد يقول له: لماذا‌ مـزّقت‌ الكـتاب ؟ يـقول: لأني لا اُريد‌ أن‌ تطّلع‌ عليه‌، يقول‌ له: وماذا كان فيه؟ فيقول: لو كنت اُريد أن اخبرك لما مزّقت الكتاب، يقول له: إنّي أقتلك إلاّ إذا صعدت عـلى هـذا‌ المـنبر وقلت بالصراحة شيئا في سبّ علي بن أبـي طـالب والحسن والحسين، هذا الرسول الأمين يغتنمها فرصة، ويصعد علي المنبر في هذه اللحظة الحاسمة، في آخر لحظة‌ من‌ حـياته، فـي هـذا الإطار العظيم من البطولة والشجاعة والتضحية أمام عبيداللّه بن زيـاد، وأمام شرطته وجيشه يوجّه خطابه الى أهل الكوفة ويقول: أنا رسول الحسين اليكم‌، إنّ الحسين على الأبواب، فيؤدّي هـذه الرسـالة بـكل بطولة، وبكلّ شجاعة، فيأمر عبيداللّه بن زياد به فيقتل، وماذا يـكون‌ الصـدى‌ لمثل هذه الدفعة المثيرة القوّية!‌ الآن‌ رسول الإمام الحسين ـ الذي كتبوا له أهل الكوفة يطلبونه ـ على المنبر بـهذا الشـكل غـير الاعتيادي والسيف فوق رقبته وهو يودّع الحياة في‌ آخر‌ لحظة من اللحـظات، وهـو‌ يـبلّغهم الرسالة بكلّ أمانة وشجاعة، ويضحي في سبيل تقديمها بدمه وبروحه، فماذا يكون أثر ذلك ؟ يـكون أثـر ذلك: أنـّه حينما يأمر عبيداللّه بن زياد به‌ أن‌ يقتل فيقتل يأتي شخص [المصدر نفسه‌: 220. وهو عبدالملك بن عمير اللخمي] من أهل الكوفة فـيقطع رأسـه، فيقال له: لماذا قطعت رأسه؟ فيقول: لكي اريحه بذلك. هذه الاُمّة لا تفكر إلاّ على هـذا المـستوى‌ مـن‌ الشفقة في‌ حياتها، الشفقة التي تشعر بها هي الشفقة علي هذا المستوي أما الشـفقة عـلي الوجود الكلي، الشفقة علي الكيان، الشفقة علي العقيدة قد انتزعت من قلوبها‌ لأ‌ نـّها‌ تـكلّف ثـمنا غاليا، الشفقة التي لا تكلّف ثمنا هي أن تقطع رقبة هذا الشخص، وأن ‌‌يريحه‌ من هذه الحياة فـي ظـل عبيداللّه بن زياد.

هذه المظاهر من البرود والسكون‌ بالرغم‌ من‌ قوّة الاثارة هـي دليـل عـلى عمق ما وصلت اليه الاُمّة من انحلال.

المشهد السـادس: الانـدفاع نـحو‌ خطّ السلطة:

الي جانب‌ ذلك‌ ـ أو في عكس ذلك ـ يوجد الاندفاع المحموم نحو خطّ السـلطان، نـحو خط الحكم القائم، استطاع عبيداللّه بن زياد خلال اسبوعين أو ثلاثة أسابيع ـ علي أكثر تقدير‌ ـ بعد مـقتل مـسلم بن عقيل الى أوّل المحرّم أن يجنّد عشرات الاُلوف من أبناء هذا البلد الذي كان وما يـزال ـ الى ذلك الوقـت ـ يحمل رسالة علي، والولاء‌ له‌، جنّد من هـذا البـلد عـشرات الآلاف، واستجاب له مئات من الأشخاص الذين كانوا قـد حـاربوا مع الإمام علي في صفّين، وحاربوا مع الإمام علي في سائر مراحل‌ جـهاده‌، اسـتجاب له شخص من قبيل عمرو بـن الحـجّاج، ومن هـو عـمرو بـن الحجّاج؟ هو من اُولئك الذين اضطهدوا فـي سـبيل الإمام علي، من أولئك الذين‌ عاشوا‌ المحنة أيام زياد، ولكنّه لم يستطع أن يواصل المـحنة، طـلّق عقيدته قبل أن يصل الى آخر الشوط، لأنـّه شعر أنّ هذه العـقيدة تـكلّف ثمنا غاليا‌، وأنّه إذا طلقّها أمـكنه أن‌ يشتري‌ بدلاً‌ عنها دنيا واسعة. هذا الشخص الذي رافق الإمام علي في جهاده انـهار أخـيرا وانتهت إرادته، انتهت شخصيته كـإنسان مـسلم‌ يـفكر‌ في‌ الإسلام. عـمرو بـن الحجّاج نفسه كلّفه عـمر‌ بـن‌ سعد بأسوأ عمل يمكن أن يكلّف به إنسان كلّفه بالحيلولة دون سيد الشهداء والماء، بقي واقـفا عـلي الماء‌ يمنع‌ ابن‌ رسول اللّه والبقية البـاقية مـن ثقل النـبوة عـن أن يـشربوا‌ من الماء، واستجاب لذلك شـبث بن ربعي [المصدر نـفسه: 239 ـ 240‌]، ومن هو شبث بن ربعي؟ هو الرجل الذي‌ عاش‌ مع‌ جهاد أميرالمؤمنين، الرجل الذي كـان يـعي مدلول حرب صفّين، وكان‌ يدرك أنّ الإمـام عـليا فـي حـرب صفين يمثل رسـول اللّه صـلى‌الله‌عليه‌و‌آله في غزوة بدر، ولكنّ‌ الدنيا‌، الانهيار النفسي، ولكن النفس القصير خنقه في النهاية، فذاب وتميع‌، واشـتدّ‌ تـميعه بـالتدريج الى أن وصل الى حدّ: أنّ عبيداللّه بن زياد يـبعث إليـه‌ ليـقاتل‌ الحـسين‌ ابـن رسـول اللّه، فماذا يكون العذر؟ ماذا يكون الجواب؟ لا يملك أن‌ يعتذر‌ بعذرٍ من الأعذار إلاّ أن يقول: «أنا مريض» كلمة باردة‌ جدّا‌ على‌ مستوى بروده النفسي، عبيداللّه بن زياد يبعث اليه الرسول مرّة اُخرى ليقول له: المسألة حدّية، لأمرض في هذه الحالة‌، إمّا‌ أن تكون معنا، وإمّا أن تكون عدوّنا، وبمجرّد أن يتلقّى هذه الرسالة ـ ويعرف‌ أنّ المسألة حدية ـ يقوم شبث بن ربعي ويلبس مـا كـان يلبسه‌، ثم‌ يخرج متّجها الى عبيداللّه بن زياد وهو يقول: لبيك... هذه الاستجابات‌ من‌ هذا‌ الطرف، وذاك البرود، وتلك السلبية من ذلك الطرف هم أكبر‌ دليل‌ على هذا المرض.

المشهد السابع: محنة مـسلم وهـاني:

والدليل الذي هو أكبر من هذا هي‌ محنة‌ مسلم وهاني التي يقلّ نظيرها في التأريخ، هذه المحنة تصوّر هذا‌ المرض‌ وهو في قمّته، وهو فـي شـدّته‌ بأروع‌ تصوير‌، أو بأفظع تصوير، قـد يـذهب‌ وهم‌ الإنسان الى أنّ مسلم بن عقيل كيف اتّفق له أن يفرّط بكل هذه‌ القوي‌ الضخمة التي كانت بين يديه‌ ؟!‌ كيف فرّط‌ بهذه‌ القوي‌ الشعبية التي بـين يـديه بين عشية‌ وضحاها‌ وبـقي وحـيدا فريدا يتسكع في الطرقات ؟! كيف لم يستثمر هذه القوي‌ في‌ معركته مع عبيداللّه ابن زياد ؟!

في الواقع: أنّ هذه‌ القوي‌ لم تكن قوي إلاّ علي‌ الورق‌، لم تكن هذه القوي قوي إلاّ في سجل تسجيل الأسـماء حـينما سجّل‌ الأسماء‌ فبلغت ثمانية عشر ألف، أو‌ بلغت‌ عشرين ألف، أو‌ بلغت ثلاثين ألف، كانت‌ قوي علي الورق، وذلك لأنّ هؤلاء الثمانية عشر أو العشرين ألف كانوا جزءا‌ من‌ هذه الاُمّة الميتة، من هذه‌ الاُمّة‌ المنهارة هذا‌ الانهيار‌ العـجيب‌ المـفاجئ في لحـظة، هذا الإنهيار العجيب المفاجئ يعكس تلك الهزيمة المسبقة، هزيمة النفس، هزيمة الوجدان، هزيمة‌ الضمير، وتلك الهزيمة، أيـّ‌: هزيمة‌ النفس‌ والوجدان‌ والضمير هي أساس‌ هذه‌ الهزيمة [أي: هزيمة تلك القوي الشـعبية الضـخمة التـي كانت بين يدي مسلم عليه‌السلام وتشتّتها‌ بين‌ عشية‌ وضحاها]

عبيداللّه بن زياد يبعث الى هاني‌ بن‌ عروة [مقتل الحسين عليه‌السلام: 177 ـ 178] يـقول‌‌ ‌له‌: تعال زر الأمير، الأمراء لا يطيقون الجفاء، لماذا أنت منقطع عن الأمير؟ هذا في الوقـت الذي كـان مـسلم بن عقيل في بيت لهاني‌ بن عروة، والشيعة يذهبون اليه متستّرين، هاني بن عروة يـأتي الى عبيداللّه بن زياد فيتّهمه بأن مسلما موجود عندك، وأ نّك تفكر في الخروج وشـق عصا الطاعة‌، هاني بـن عـروة يصطدم مع عبيداللّه بن زياد ويقول له بأنّي لا أدري أين مسلم، يقول عبيداللّه: لا بدّ لك أن تجده. فيقول هاني: لو‌ أنّ‌ مسلما كان تحت قدمي لما رفعت قدمي، ثم ّ يقدّم هاني له نصيحة بكلّ قوة، وبكل شـجاعة ـ هو من الأفراد‌ القلائل‌ الذين استطاعت حركة الحسين أن‌ تكشفهم‌ في مجموع هذه الاُمّة الميتة ـ فقال: لي نصيحة لك، قال عبيداللّه وماهي هذه النصيحة؟ قال: النصيحة أن تذهب أنت‌ وأهل‌ بيتك، وتحمل معك‌ كـلما‌ لديـك من أموال الى الشام سالما صحيحا، لا شغل لنا بك. كان يتكلّم هاني بن عروة وهو يتخيل أنّ له رصيدا، وأنّ عشرات الآلاف من خلفه سوف‌ تنفّذ‌ إرادته إذا أصبحت هذه الإرادة بحاجة الى التنفيذ حينما اشـتدّ غـضب عبيداللّه بن زياد، وحينما غضب هاني، حينما أمر بأن يحبس هاني انعكس الخبر في الكوفة بأنّ هانيا‌ قتل‌ أو في‌ معرض القتل، جاء عمرو بن الحجّاج وجاء معه أربعة آلاف إنـسان مـن عشيرته لكي يتفقّدوا أحوال‌ هاني بن عروة ووقفوا بباب القصر يطالبون بحياة هاني بن عروة‌، عبيداللّه‌ بن زياد يبعث علي شريح القاضي باعتباره قاضيا لابدّ أن تتوفّر فيه شرائط فـهو يـعتبر شـاهدا ثقة ‌‌اذا‌ استعمل شهادة، فقال له: تـعال ادخـل الى الغـرفة التي سجن فيها‌ هاني‌، انظر اليه حيا، واشهد أمام هؤلاء بأنّ هانيا حي، فدخل شريح القاضي الى الغرفة فرأي أنّ هـانيا حـي، يـقول شريح القاضي ـ لعنة اللّه عليه‌ ـ بمجرّد أن دخلت‌ الى الغـرفة ورأيـت هاني بن عروة صاح في وجهي: أين ذهب المسلمون؟! لو أن عشرة يهجمون على القصر الآن لأنقذوني [راجع البحار ج 44 ص 348 مع بعض الفـروق واهـمّها‌ انه‌ ليس‌ فيه ما نقل الشهيد قدس‌سره هنا من ان شريحا همّ بأن يـبلغ رسـالة هاني]، لأنّ‌ القصر ليس فـيه شـرطة، ليـس فيه جيش، يعني لو أنّ عشرة فقط كانوا مستعدين لأن يموتوا فـي سبيل اللّه لتغير وجه الكوفة يومئذٍ لأن البيت ليست فيه شرطة‌، ولكن الشرطة كانت أوهام هذه الاُمّة التي فقدت شـجاعتها وإرادتـها. هـذه الاُمّة التي فقدت شخصيتها خيل لها أنّ هذا القصر هو جـبروت، هـذا القصر هو المعقل الذي لا‌ يمكن‌ اجتيازه، بينما هذا القصر كان أجوف لم يكن فيه شرطة ولا جيش، ولم يكن فـيه سـلاح بـالقدر الكافي الذي يمكن أن يصمد أمام عشرة فقط، لذا‌ قال‌ هاني: أين ذهب المسلمون، عـشرة فـقط يـكفون لإنقاذي، يكفون للقضاء علي هذا القصر، يكفون لاحتلال هذا القصر، شريح القاضي يقول: أنـا رجـعت الى عمرو‌ بن‌ الحجّاج وأنا مكلّف بأن اُؤدّي‌ الشهادة‌ الشرعية‌ بأنّ هاني بن عروة حـي حـتي يرجع عمرو بن الحجاج، لان عمرو بن الحجاج والاربعة آلاف الذين جاؤوا معه قصاري‌ هـمهم‌ أنـ‌ يـكون هذا حيا، ليس لهم همّ وراء‌ أن‌ يكون هذا حيا، يقول رجعت فهممت أن ابلّغ عـبارة هـاني ابن عروة لعمرو بن الحجّاج، أن أقول‌ له‌ أنّ‌ هانيا يطلب عشرة فقط، يـقول لو أن عـشرة يـهجمون‌ علي هذا (البُعبُع) [يراد‌ بها الأمر المـخيف والمـرعب]، علي هذا الشبح الضئيل الذي يكمن فيه عبيداللّه بن زياد، لتمزّق‌ هذا‌ الشـبح‌، وتـحطّم هذا (البُعبُع)، يقول: هممت ثم‌ التفت‌ الى أنّ شرطي عبيداللّه بن زياد واقـف الى جـنبي فـسكتّ. وأدّي الشهادة المطلوبة منه رسميا‌ وحكوميا‌ بأنّ‌ هانيا حي، ورجع عمرو بن الحجاج، وقتل هاني فـي اليـوم‌ الثـاني‌.

مسلم بن عقيل بنفسه يخرج مع أربعة آلاف شخص يطوّقون قصر الأمارة وعبيداللّه بـن زيـاد‌ ليس‌ معه‌ إلاّ ثلاثون علي ما تقول الرواية، وعشرون من أشراط الكوفة. مسلم بن‌ عقيل‌ معه أربـعة آلاف لكـن أربعة آلاف ليس لهم قلوب، ليس لهم أيدي‌ ليس‌ لهم‌ إرادة، اقرؤوا أسماء قـادة مـسلم بن عقيل في هذه المعركة هؤلاء الأربـعة آلاف‌ فـيهم‌ جماعة من كبّار يوم عاشوراء لكـنهم انـهزموا جـميعا، لم يبق‌ مع‌ مسلم‌ واحد أبدا، يـعني أنـّ حركة الحسين هي بنفسها صنعت هؤلاء، هي بنفسها صعّدت‌ هؤلاء‌، حتي هـؤلاء السـبعون الذين استشهدوا مع الحسين عليه‌السلام كـان عدد منهم نتاج‌ مـحنة‌ حـركة سيد الشهداء، وإلاّ فلماذا انهزموا؟ عـلي الأقـلّ يبقي مع مسلم هذا الشخص الذي‌ يعرف‌ الطريق. صلّى في المسجد وتفرّق النـاس، يـقول التاريخ: كانت‌ تأتي‌ المرأة فـتنتزع زوجـها وأبـاها وأخاها وتقول: مـالك‌ وعـمل‌ السلاطين. هذا نهاية فـقدان الارادة، إنـّ‌ الرجل يذوب ويتميع لأنّ امرأة واحدة تأتي وتنتزعه انتزاعا. هذه المرأة هي‌ نفسها‌ تـلك المـرأة التي وقفت بعد‌ الإمام‌ الحسين عـليه‌السلام‌ تـلك‌ الوقفات‌ العـظيمة عـلي طـول الخطّ، هذه‌ المرأة‌ هـي نفس تلك المرأة التي أحبطت مؤامرة إمارة عمر بن سعد، حينما‌ مات يزيد بن مـعاوية وبـويع من‌ قبل الأمويين في الكوفة‌ لعـمر‌ بـن سـعد مـوقّتا، فـأصبح‌ أميرا‌ علي الكـوفة، مـن الذي أسقط إمارته ؟ اسقطته تلك المرأة التي كانت‌ تذهب‌ الى زوجها وأبيها وأخيها تنتزعهم‌ انتزاعا‌، وتقول لهم: لا‌ شـغل لك مـع السـلاطين‌، هذه المرأة بنفسها قامت بمظاهرة وقفت أمـام بـيت عـمر بـن سـعد تـندب الحسين وتصيح‌: أن قاتل الحسين لا يمكن أن‌ يكون‌ أميرا في‌ الكوفة‌ حتي‌ سقط عمر بن سعد‌.

المشهد الثامن: التخالف بين عمل الاُمّة وعواطفها:

وأعجب مظهر من مظاهر هذا الانهيار هـو‌ التناقض‌ الذي كان يوجد بين قلب الاُمة‌ وعواطف‌ الاُمّة‌ وعملها‌، هذا التناقض الذي‌ عبّر‌ عنه الفرزدق بقوله للإمام الحسين عليه الصلاة والسلام: إنّ قلوبهم معك وسيوفهم عليك، لا‌ أنّ‌ جماعة‌ قلوبهم مـعك وجـماعة اُخري سيوفهم عليك، بل‌ الوحدات‌ الثمانية‌ في‌ التناقض‌ كلّها محفوظة، ولكن مع هذا لا تناقض لأنّ هذا الشخص الذي لا يملك ارادته يمكن أن تتحرّك يده علي خلاف قلبه وعاطفته، ولهذا كنّا نـراهم يـبكون‌ ويقتلون الإمام الحسين، لانهم يشعرون بأنّهم بقتلهم للامام الحسين يقتلون مجدهم، يقتلون آخر آمالهم، يقتلون البقية الباقية من تراث الإمام علي، هذه البقية التي كـان يـعقد عليها‌ كلّ‌ الواعين من المـسلمين الأمـل في إعادة حياة الإسلام، في إعادة الحياة الى الإسلام، كانوا يشعرون بأنّهم يقتلون بهذا الأمل الوحيد الباقي للتخلّص من الظلم القائم، ولكنهم‌ مع هـذا الشـعور لم يكونوا يستطيعون إلاّ أن يقفوا هـذا المـوقف، ويقتلوا الإمام الحسين. قتلوا الإمام الحسين وهم يبكون.

وأسأل اللّه‌ ان‌ لا يجعلنا نقتل الإمام الحسين ونحن‌ نبكي‌، أن لا يجعلنا نقتل أهداف الحسين ونحن نبكي، الإمام الحسين ليس إنسانا محدودا عاش من سـنة كـذا ومات في سنة كذا، الإمام‌ الحسين‌ هو الإسلام ككل، الإمام‌ الحسين هو كل هذه الأهداف التي ضحّي من أجلها هذا الإمام العظيم، هذه الاهداف هي الإمام الحسين، لأنها هي روحـه، وهـي فكره، و هـي قلبه وهي‌ عواطفه‌، كل مضمون الإمام الحسين هي هذه الأهداف، هي هذه القيم المتمثلة في الإسلام، فـكما أنّ أهل الكوفة كانوا يقتلون الحسين وهم يبكون فهناك خطر كـبير فـي أن‌ نُمني‌ نحن بنفس‌ المحنة، أن نقتل الحسين ونحن نبكي. يجب أن نشعر بأنّنا يجب أن لا نكون‌ علي الاقل قـتلة ‌ ‌للحـسين ونحن باكون، البكاء لا يعني أننا‌ غير‌ قاتلين‌ للحسين، لان البكاء لو كان وحده يعني أنـّ الإنـسان غـير قاتل للحسين إذن لما كان عمر ‌‌بن‌ سعد قاتلاً للحسين، لان عمر بن سعد بنفسه بكي حـينما مرّت زينب‌ ـ عليها‌ الصلاة والسلام ـ في موكب السبايا، في الضحايا، حينما التفتت الى أخـيها، حينما اتّجهت الى رسول اللّه صـلى‌الله‌عليه‌و‌آله تـستنجده أو تستصرخه، أو تخبره عن‌ جثة الإمام الحسين وهي‌ بالعراء‌، عن السبايا وهم مشتتون، عن الأطفال وهم مقيدون، حينما أخبرت جدّها صلى‌الله‌عليه‌و‌آله بكل ذلك ضجّ القتلة كلّهم بالبكاء [مقتل الحسين‌ عليه‌السلام‌: 404]، بكي السفاكون بكي هؤلاء الذين أوقعوا هـذه المجازر، بكوا بأنفسهم، إذن فالبكاء وحده ليس ضمانا، العاطفة وحدها ليست ضمانا لأثبات أنّ هذا صاحب العاطفة هو لا يقف موقفا يقتل فيه الإمام الحسين، أو يقتل فيه أهداف‌ الإمام‌ الحسين، لا بدّ من امـتحان، لا بـدّ من تأمل، لا بدّ من تدبّر، لا بدّ من تعقّل لكي نتأكد من أننا لسنا قتلة للامام الحسين، ومجرّد أنّنا نحبّ الإمام الحسين، مجرّد أنّنا نزور الإمام الحسين مجرد أ نّنا نـبكي عـلي الإمام الحسين، مجرد أنّنا نمشي الى زيارة‌ الإمام الحسين، كل هذا شيء عظيم، شيء جيد، شيء ممتاز، شيء راجح، لكن هذا الشيء الراجح لا يكفي ضمانا ودليلاً لكي يثبت أنـّنا لانـساهم‌ في‌ قتل‌ الإمام الحسين، لأنّ بإمكان‌ إنسان‌ أن‌ يقوم بكلّ هذا عاطفيا وفي نفس الوقت يساهم في قتل الإمام الحسين، يجب أن نحاسب أنفسنا، يجب أن نتامّل‌ في‌ سلوكنا‌، يجب أن نـعيش مـوقفنا بـدرجة أكبر من‌ التدبّر‌ و العمق والإحـاطة والانـفتاح عـلي كل المضاعفات والملابسات، لكي نتأكد من أنّنا لا نمارس من قريب أو بعيد بشكل‌ مباشر‌ أو‌ بشكل غير مباشر قتل الإمام الحسين عليه الصـلاة والسـلام.

الاُمّة [من هنا تبدأ المحاضرة الثانية لسماحة السيد الشهيد قدس‌سره] حـينما تنهزم وينتزع منها شخصيتها وتموت إرادتها تنسج بالتدريج ـ كـما قـلنا ـ أخلاقية معينة تنسجم مع الهزيمة النفسية‌ التي‌ تعيشها‌ بوصفها اُمّة بدون إرادة، اُمّة لا تشعر بكرامتها وشخصيتها. بالرغم‌ من وضوح الطـريق وجـلاء الأهـداف وقدرتها علي التميز المنطقي بين الحقّ والباطل، وبالرغم من أن‌ اُطروحة‌ معاوية‌ قد تكشّفت كأطروحة جاهلية في ثوب الإسلام، وأنّ اُطروحة علي عليه‌ الصلاة‌ والسلام‌ قد اتّضحت أنـّها التـعبير الاصـيل عن الإسلام في معركة ثانية مع الجاهلية، بالرغم‌ من‌ وضوح‌ كـل ذلك بـعد الهدنة التي أعلنها الإمام الحسن عليه‌السلام بدأت الاُمّة نتيجة لفقدان إرادتها‌ تنسج‌ أخلاقية معينة تنسجم مـع هـزيمتها النـفسية، و الروحية والاخلاقية. وبهذا كان‌ الإمام‌ الحسين‌ عليه‌السلام بين اخلاقيتين بين أخلاقية الهـزيمة التـي تـعيشها الاُمّة الإسلامية قبل ان تهزم فعليا‌ يوم‌ عاشوراء والاخلاقية الأخرى التي كان يريد ان يبثها وان يـنشرها فـي الاُمـّة الإسلامية‌ وهي‌ أخلاقية‌ الإرادة والتضحية والعزيمة والكرامة. كان الإمام الحسين عليه‌السلام يواجه تلك الأخلاقية التـي تـرسخت، ورسّخت من المفاهيم عن‌ العمل‌، والسـلب والايـجاب، والاثـبات والنفي ما يشلّ طاقات التحرك، وكان يريد أن يغير تلك‌ الاخلاقية‌ دون‌ أن يستفزها، كان يـواجه الأخـلاقية التي تمثلت في كلام للأحنف بن‌ قيس‌ حينما وصف المتحركين في ركاب الإمـام الحـسين بـانهم اولئك الذين لا يوقنون. وأولئك الاشخاص الذين‌ يتسرّعون‌ قبل ان يتثبتوا من وضوح الطريق، هذا المفهوم من الأحنف بـن‌ قـيس‌ كان يعبّر عن موقف أخلاقية الهزيمة من‌ التضحية‌... إنّ التضحية والاقدام عـلي طـريق‌ قـد‌ يؤدي الى الموت نوع من التسرّع و قلة الأناة، والخروج عن العرف‌ المنطقي‌ للسلوك. هذا المفهوم هـو‌ مـعطي‌ أخـلاقية الهزيمة‌. هذا‌ المفهوم الذي تبدد بعد حركة الحسين‌ عليه‌ الصلاة والسلام واحتل بـديله مـفهوم التضحية الذي علي أساسه قامت حركة التوابين‌، حركة أربعة آلاف لا يرون لهم هدفا‌ في طريقهم إلاّ التضحية‌، لكي يـكفّروا بـذلك عن سيئاتهم‌ وموقفهم‌ السلبي تجاه الإمام الحسين.

أخلاقية الهزيمة هي هذه الاخلاقية التـي انـعكست في كلام‌ لأخي‌ الحسين عمر الأطرف حـينما قـال‌ للامـام‌ الحسين‌ عليه‌السلام أن تبايع‌ يزيد‌ خير لك من أن تقتل [مـقتل الحسين عليه‌السلام: 148 ـ 149]، مـن أن تموت. هذه أخلاقية الهزيمة هي التي تبدّلت بعد هذا خلال‌ خطّ‌ حركة الحـسين عـليه‌السلام، وانعكست في‌ مفهوم‌ لعلي بـن‌ الحـسين‌ حينما‌ قـال لأبـيه: أولسـنا‌ علي الحقّ؟ قال: بلي قال: إذن لا نـبالي، أوقـعنا علي الموت أو‌ وقع‌ الموت علينا... اخلاقية‌ الهزيمة‌ التي‌ كان‌ يواجهها‌ الإمام الحـسين عـليه‌السلام‌ هي‌ الأخلاقية التي انعكست في كـلام لمحمد بن الحنفية [مـقتل الحسين عليه‌السلام: 149 ـ 150] حينما كـان يـنصح الإمام الحسين ويقول له: إنّ‌ أخـشى‌ مـا أخشى أن تدخل الى مصر وبلد‌ من‌ بلاد‌ المسلمين‌ فيختلف‌ عليك‌ المسلمون، فبعض يقفون مـعك وبـعض يقفون ضدّك، ويقع القتال بـين أنـصارك وأعـدائك فتكون أضيع النـاس دمـا، الأفضل من ذلك أن تقف بـعيدا عـن المعترك، ثم تبثّ رسُلك وعيونك في الناس، فإن استجابوا فهو، وإلاّ كنت في أمن مـن عـقلك ودينك وفضلك ورجاحتك. هذه هي أخـلاقية الهـزيمة التي تـحوّلت فـيما بعد، حـيث‌ أصبح‌ دم الحسين عليه‌السلام ـ هذا الدم الذي كان يتصوّره محمد بن الحنفية أ نّه سوف‌ يكن‌ أضيع دم‌ـ مـفتاح تـحريك الاُمّة حينما قال المختار في سـجن عـبيداللّه بـن زيـاد: إنـي أعرف كلمة اسـتطيع بـها أن أملك العرب، هذا‌ الدم الذي كان يتصوّره أ نّه‌ أضيع دم أصبح هو مفتاح السلطات والسيطرة علي المنطقة كلها.

أخلاقية الهـزيمة هـي الاخـلاقية التي عبّر عنها الأمير الأموي يزيد بـن مـعاوية فـي رسـالةٍ‌ لهـ‌ الى عـبيداللّه بن زياد‌، يقول في الرسالة: انّ آل أبي طالب هؤلاء أسرع ما يكونون الى سفك الدماء. هذا التعبير في الواقع هو ظاهرة من ظواهر أخلاقية الهزيمة، حينما تبرز أخلاقية الهـزيمة‌ وتترسخ‌ وتتعمّق تتحوّل كل محاولة جدّية لمقابلة الظلم والظالمين الى نوع من السفك و القتل في نظر المثبّطين والمجمّدين هذه الأخلاقية التي يريد الإمام الحسين عليه‌السلام أن يحوّلها الى أخلاقية التضحية‌ والارادة‌، الى الاخلاقية الإسـلامية الصـحيحة التي تمكن الإنسان المسلم من أن يقف موقفه الايجابي والسلبي وفقا لما تقرّره الشريعة‌ الإسلامية إيجابا وسلبا.

دقّة التحرك في عملية التحويل:

وفي عملية‌ التحويل‌ هذه‌ كان الإمام الحسين يواجه أدقـّ مـراحل عمله وذلك لانه في نفس الوقت الذي يريد ان يبثّ في ‌‌جسم‌ الاُمّة وفي ضميرها ووجدانها أخلاقية جديدة كان يحافظ في نفس الوقت علي ان‌ لا‌ يـخرج‌ خـروجا واضحا عن الاخلاقية التقليدية التـي عـاشتها الاُمّة نتيجة لهزيمتها الروحية، كان يحرص علي‌ ان لا يخرج بشكل واضح ومثير عن تلك الاخلاقية المنحطّة التي عاشتها الاُمّة‌، وذلك لأنه كان‌ يريد‌ أن يخلق وينشئ الاخـلاقية الجـديدة عن طريق هزّ ضـمير الاُمـة الإسلامية، ولم يكن بامكانه أن يهزّ ضمير الاُمّة الإسلامية الا اذا قام بعمل مشروع في نظر هذه الاُمّة الإسلامية التي‌ ماتت ارادتها وتغيرت أخلاقيتها، والتي أصبحت تعيش هذه المفاهيم التي انعكست في كلمات هـؤلاء الذيـن تحدثنا عنهم. كان لا بد أن يراعي الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام في سيره وتخطيطه هذه‌ الاخلاقية، وان لا يستفزّها لكي يبقي محتفظا لعمله بطابع المشروعية في نظر المسلمين الذين ماتت أخلاقيتهم الحقيقية وتبدّلت مفاهيمهم عـن العـمل والسلب والايـجاب.

الإمام الحسين عليه‌السلام يخطط لعملية التحويل:

الإمام الحسين‌ عليه‌السلام في الواقع قد اتّخذ منذ البدء موقفا ايجابيا واضحا صـريحا بينه و بين ربّه، كان قد صمّم منذ اللحظة الاُولي علي أن يخوض المـعركة مـهما كـلفه الامر‌ و علي جميع الاحوال والتقادير، وأن يخوضها الى آخر الشوط والي أن يضحي بآخر قطرة من دمه، كان يفكر تفكيرا إيـجابيا ‌ ‌مـستقلاً في ذلك، لم يكن يتحرّك‌ نتيجة‌ لردود‌ فعل من الاُمّة، بل‌ كان‌ هو‌ يحاول أن يخلق ردود الفـعل المـناسبة لكـي يتحرّك، ومن أدلة ذلك أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام بدأ بنفسه الكتابة الى زعماء‌ قواعده‌ الشعبية‌ في البصرة. نـعم لم يروِ لنا التأريخ‌ أ نّه كتب ابتداءً بشكل مكشوف واضح الى زعماء قواعده الشعبية فـي الكوفة، ولكنّ التأريخ حـدّث بـأنّه كتب‌ وابتدأ‌ بالحديث‌ والتحريك قواعده الشعبية في البصرة، وأعلن في رسالته لهم‌ أنه قد قرّر الخروج علي سلطان بني اُمية. قال لهم بأنّ هذا الخطّ الذي يمثّله هو و يمثّله‌ أخوه‌ وأبـوه هو الحق، إلاّ أ نّه سكت وسكت أبوه وأخوه‌ حينما‌ كان الكتاب والسنّة تراعي حُرمتهما. أما حينما انتهكت حرمة الكتاب وحرمة السنّة، حينما اُميتت‌ السنّة‌، حينما احييت البدع، حينما انتشر الظلم لابدّ لي أن أتـحرك، ولابـدّ‌ لي‌ أن اغير، ولابد لكم أن تحققوا في هذا الموقف درجة تفاعلكم مع رسالتكم‌. قال‌ ذلك بوضوح، وطلب منهم بشكل ابتدائي الالتفاف حول حركته، وهذا يعني أنّ‌ لامام‌ الحسين لم يكن في موقفه يـعبّر عـن مجرد استجابة لردود فعل عاطفية، أو‌ منطقية‌ في الاُمّة، بل كان هو قد بدأ منذ اللحظة الاُولي في تحريك الاُمة‌ نحو‌ خطّته وخط عمله. موقفه من والي المدينة أيضا واضح في ذلك حينما‌ اسـتدعي‌ مـن‌ قبل والي المدينة وعرض عليه الوالي في نصف الليل أن يبايع يزيد بن معاوية، وحينما‌ تكشف لوالي المدينة أنّ امتناع الحسين عليه‌السلام عن البيعة هو بحسب الحقيقة لون‌ من‌ ألوان‌ الرفض، صرّح بعد هـذا الإمـام الحـسين بكل وضوح عن إيمانه بـحقّه فـي الخـلافة، وقال‌ نصبح‌ وتصبحون، وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة وكان هذا واضحا في‌ إعلانه‌ العزم والتصميم علي حركة مسلّحة ضدّ السلطان القـائم وقـتئذٍ. هـذا التهديد وتلك الرسالة الابتدائية لزعماء‌ قواعده‌ الشعبية فـي البـصرة ـ الى غير هذا وذاك من القرائن والدلائل ـ يعبّر‌ عن أنّ الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام‌ كان‌ يخطّط‌ تخطيطا ابتدائيا لتحريك الاُمّة وكـان قـد صـمّم‌ علي‌ ان يتحرّك مهما كانت الظروف والأحوال. هذا واقع التخطيط.

ولكن الإمـام الحسين‌ حينما‌ كان يلقي شعارات هذا التخطيط‌ علي‌ هذه الاُمّة‌ الإسلامية‌ المهزومة‌ أخلاقيا، المهزوزة روحيا، المتميعة‌ نفسيا‌، الفـاقدة لارادتـها، حـينما كان يلقي شعارات هذا التحرّك علي هذه‌ الاُمّة‌ لم يكن في كـل إلقـاءاته صريح‌ واضحا محدّدا، وذلك‌ لانه‌ كان يجامل تلك الاخلاقية التي‌ عاشتها‌ الاُمّة الإسلامية، وكانت هذه المـجاملة جـزءا ضـروريا من إنجاح الحسين في هدفه‌ لانه‌ اذا خرج عن هذه الاخلاقية‌ فقد‌ فـقد‌ بـذلك عـمله طابع‌ المشروعية‌ في نظر اُولئك المسلمين‌، وبذلك يصبح هذا العمل غير قادر على أن يهزّ ضـمير إنـسان الاُمـّة الإسلامية، كما‌ كان من المفروض أن يهزّه.

الشعار الأول‌: حتمية‌ القتل‌:

كان الإمام الحسين يعترض عليه‌، ويقال: لِمـَ تـخرج ؟ يعترض عليه عبداللّه بن الزبير وغيره، فيقول له‌: بأنّي أنا اُقتل علي كـلّ حـال‌ سـواء‌ خرجت‌ أو‌ لم‌ أخرج، إنّ‌ بني‌ اُمية لا يتركونني، و لو كنت في هامة من هذه الهوام لأخـرجوني وقـتلوني، إنّ‌ بني‌ اُمية‌ يتعقبوني أينما كنت، فأنا ميت علي‌ أي‌ حال‌ سواء‌ بـقيت‌ فـي‌ مـكة أو خرجت منها، ومن الافضل أن لا اُقتل في مكة لكي لا تنتهك بذلك حرمة هذا الحرم الشريف.

فتراه طرح هذا الشـعار، و هـذا الشعار بالرغم‌ من واقعيته منسجم مع أخلاقية الاُمّة المعاشة أيضا، فأخلاقية الهـزيمة التـي تـعيشها الاُمّة الإسلامية لا تجد منطقا تنفذ منه للتعبير عن نقد مثل هذا التحرك من الإمام الحـسين عـليه الصـلاة‌ والسلام‌، فهو عليه‌السلام يقول: أنا مقتول علي كلّ حال، و الظواهر كلّها تـشهد بـذلك، الدلائل والأمارات والملابسات تشهد بأنّ بني اُمية قد صمّموا علي قتل الإمام‌ الحسين‌ عليه‌السلام ولو عن طريق الاغـتيال ولو كـان متعلقا بأستار الكعبة، إذن فطرح مثل هذا الشعار لاجل تفسير هذا الموقف كـان مـناسبا جدّا‌ مع‌ إقناع أخلاقية الهزيمة، مع‌ كـونه‌ شـعارا واقـعيا في نفس الوقت.

الشعار الثاني: غيبية قرار التـحرك:

يأتي أشـخاص آخرون اليه يعترضون عليه، يقولون: لِمَ تتحرّك، يأتي‌ محمد‌ بن الحنفية ينصحه فـي‌ أوّل‌ الليـل بنصائح عديدة فيقول له: انظر، افـكر فـيما تقول فـيذهب مـحمد بـن الحنفية وفي آخر الليل يسمع بـأنّ الإمـام الحسين قد تحرك، فيسرع اليه ويأتي ويأخذ براحلته‌ ويقول‌ له: يا أخي قـد وعـدتني أن تفكر، قال: نعم، ولكني بِتُّ فـي هذه الليلة فرأيت رسـول اللّه صـلى‌الله‌عليه‌و‌آله، فقال: إنّك مقتول، فتراه عـليه‌السلام‌ يـجيب‌ بهذا الجواب‌، يجيب بقرار غيبي [صادر] من أعلى، و هذا القرار الغيبي من أعـلى لا يـمكن لأخلاقية‌ الهزيمة أن تنكره مادام صـاحب هـذه الأخـلاقية مؤمنا بالحسين، و مـؤمنا‌ بـرؤيا‌ الحسين، طبعا هو لم يـحدث بـهذه الرؤيا عبداللّه بن الزبير الذي لم يكن مؤمنا برؤيا الحسين‌، ‌‌بل‌ حدث بذلك محمد بن الحـنفية وأمـثال محمد بن الحنفية، فهذا شعار آخـر‌ كـان‌ يطرحه‌ وهـو شـعار حـتمية الموت [الصادرة] من أعـلى، وأنّ هناك قرارا من أعلى يفرض‌ عليه أن يموت، أن يضحي، أن يغامر، أن يقدم علي‌ هذه السفرة التـي قـد‌ تؤدي‌ الى القتل، و هذا الشعار أيضا كـان بـالرغم مـن واقـعيته يـنسجم مع أخلاقية الهـزيمة، وهـو في نفس الوقت شعار واقعي.

الشعار الثالث: ضرورة إجابة دعوات أهل الكوفة:

وكان في مرّة ثالثة يطرح شـعارا ثـالثا، كـان يقول للأشخاص الذين يمرّ بهم في طـريقه مـن مـكة الى العـراق، فـي مـنازله المتعدّدة حينما كانوا ينصحونه بعدم التوجّه الى العراق، كان‌ يقول لهم: إنّـي قد تلقّيت من أهالي الكوفة دعوة للذهاب اليهم، و قد تهيأت الظروف الموضوعية في الكوفة لكي أذهـب، ولكي اُقيم حقا و أزيل باطلاً، فكان‌ يعكس ويفسّر سفرته علي أساس أنّها استجابة وأنّها ردّ فعل، و أنّها تعبير عن إجابة طلب، أنّ الاُمّة تحركت و أرادت، وأنه قد تمّت الحجّة عليه‌، ولابدّ له أن يـتحرك. الإمـام الحسين لم يكن في واقعه يقتصر في مرحلته الجهادية هذه علي أن تطلب منه الاُمّة فيتحرّك، والاّ لما راسل ابتداءً زعماء قواعده‌ الشعبية‌ بالبصرة‌ و يطلب منهم التحرّك، و لكنّه‌ في نفس الوقت كـان يـعكس هذا الجانب أكثر مما يعكس ذاك الجانب، لأنّ هذا الجانب أقرب انسجاما مع أخلاقية الهزيمة‌، ماذا‌ تقول أخلاقية الهزيمة أمام شخص يقول لها: بـأنّـي‌ قـد تلقّيت دعوة، و إنّ ظروف هـذه الدعـوة ملائمة للجواب والتحرك نحو الداعي، وبطبيعة الحال هناك فرق‌ كبير‌ بين‌ إنسان يتحرك تحركا ابتدائيا وإنسان آخر يتحرّك إجابةً لجماهير آمنت‌ به وبقيادته وزعـامته، فـهناك قول أخلاقية الهزيمة انّ هـذا متسرع، و إنّ هذا لا يفكر في‌ العواقب‌، وإنّه ألقي بنفسه في المخاطر. أمّا حينما يكون العمل إجابة‌ لدعوة‌ من جماهير قد هيأت كل الأجواء اللازمة لهذه الدعوة، فهذه الاخلاقية المهزومة لا تـقول عـن‌ هذا‌ العمل‌ وهذا التحرك: إنّه عمل طائش إنّه عمل صبياني، إنّه عمل‌ غير‌ مدروس‌.

هذه الشعارات التي طرحها الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام كانت كلّها واقعية وفي نفس‌ الوقت‌ كانت‌ مـنسجمة مـع أخلاقية الاُمـّة المهزومة روحيا وفكريا ونفسيا.

الشعار الرابع: ضرورة الثورة ضد‌ السلطان‌ الجائر:

وكان يطرح أيضا الى جانب كل هذه الشعارات الشـعار الواقعي حينما كان‌ يؤكد‌ على‌ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌و‌آله قال: من رأي سلطانا جائرا يـحكم بـغير مـا أنزل اللّه‌ فلم‌ يغير من ذلك السلطان بفعل أو قول كان حقا علي اللّه أن يدخله‌ مدخله‌. فكان الى جانب تلك الشـعارات ‌ ‌التـي يسبغ بها طابع المشروعية علي عمله في مستوي أخلاقية‌ الاُمّة‌ كان يعطي أيـضا بـاستمرار ودائمـا الشعار الواقعي الحي الذي لا بد وأن‌ يكون‌ هو‌ الاساس للاخلاقية الجديدة التي كان يبنيها في كـيان هذه الاُمّة الإسلامية.

الاسلوب الأول: عدم‌ البدأة‌ بالقتال‌:

من جملة الاساليب التي اصطنعها عليه أفضل الصـلاة والسلام للتوفيق بين الأخـلاقيتين‌، لمـجاملة أخلاقية الهزيمة لكي يحوّلها بالتدريج الى أخلاقية التضحية أ نّه طرح شعار: أن لا‌ يبدأ‌ الآخرين بقتال. هذا الشعار كان قد طرحه أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام‌، ولكن فرقا كبيرا بين الشعار الذي طرحه‌ الإمام‌ علي‌ عـليه‌السلام والشعار الذي طرحه الإمام الحسين عليه‌السلام‌. الإمام علي عليه‌السلام كان رئيس دولة، ورئيس الدولة من المفروض أن لايبدأ‌ أحدا‌ من المواطنين بقتال إلاّ إذا‌ بدأه‌ المواطن بشقّ‌ عصا‌ الطاعة‌، والتمرد عليه، والقتال، فكان‌ من المفروض أنّ الإمـام أمـيرالمؤمنين عليه‌السلام لا يبدأ عائشة مثلاً بقتال، لا يبدأ‌ الزبير‌ أو طلحة بقتال، لأنهم مواطنون‌ في دولة هو رئيسها‌، ما لم يخرجوا عن الخط‌ يحاربوا‌ الوضع الشرعي الحاكم في تلك الدولة، فكان شعار: أن لا يبدأ‌ أحدا‌ من المـواطنين بـقتال مفهوما وواضحا‌. أما‌ علي مستوي حركة‌ الحسين‌ عليه‌السلام الذي خرج ثائرا‌ على‌ دولة قائمه وسلطان قائم، فليس من المنطقي ان يقال: إن شخصا يثور‌ علي‌ سلطان قائم لا يبدأ هذا السلطان‌ القائم‌ بقتال، ولكـن‌ هـذا‌ الشعار قد طرحه عليه‌ أفضل الصلاة والسلام لكي يكون منسجما مع أخلاقية الهزيمة أيضا التي عاشتها الاُمّة الإسلامية، لكي‌ يسبغ علي عمله طابع المشروعية علي‌ مستوي‌ هذه‌ الاخلاقية‌. حـينما التـقي عـليه‌ أفضل‌ الصلاة والسلام مع طـليعة جـيش عبيداللّه‌ ابن زيـاد بقيادة الحرّ [مـقتل الحسين عليه‌السلام: 214]، وكانت الطليعة عبارة عن ألف جندي‌ اقترح‌ عليه‌ زهير بن القين [مـقتل الحسين عليه‌السلام: 214] (على ما اظن) أن‌ يبدأهم‌ بقتال‌، وقال: ان هؤلاء أوهن علينا مـمن يـجيء بـعدهم، فلنبدأ بقتال هؤلاء، و لنفتح الطريق الى الكوفة، قال عـليه الصـلاة والسلام: إنّي لا‌ أبدأهم بقتال، و من مصاديق تطبيق هذا الشعار كان وضع مسلم بن عقيل عليه‌السلام، فإنّ مسلم بن عـقيل قـد ذهـب الى الكوفة رسولاً من قبل الإمام الحسين‌ عليه الصلاة‌ والسلام‌ إلاّ أ نّه ذهـب في إطار هذا الشعار، وهذا هو الذي يفسّر لنا عدم قيام مسلم بن عقيل بأي عمل إيجابي سريع خـلال الأحـداث التـي مرّت به في‌ الكوفة‌.

قد يخطر علي ذهن البعض أنّ مسلم بـن عـقيل لم يستطع أن يزن الأحداث أو أن يقدّر الظروف تقديرها اللازم، و أنّ‌ مسلم‌ بن عقيل كان مدعوّا الى نوع‌ من المـبادأة لكـي يـستلّم زمام الموقف. إلاّ أنّ هذا التصور إنّما ينتج عن تخيل أنّ مسلم بـن عـقيل قـد ذهب من قبل الإمام‌ الحسين‌ الى الكوفة واليا، حاكما‌، سلطانا، وليس في نصوص التأريخ أيّ دلالة عـلي ذلك، الإمـام الحسين حينما أرسل مسلم بن عقيل وكتب معه كتابا لم يكن هناك في الكتاب أدنـى إشـارة الى إعطاء‌ مسلم بن عقيل صفة الولاية والحاكمية والسلطان، وإنّما قال لأهل الكـوفة: إنـّي أرسـلت ثقتي اليكم من أهل بيتي لكي يستطلع أحوالكم و يتأكد من إخلاصكم، ويكتب الى بـذلك‌، فـإن‌ كتب الى بما جاءت به كتبكم ورسلكم استجبت لدعوتكم وجئتكم.

مسلم بن عقيل كـان مـكلّفا فـي نصّ‌ هذا الكتاب باستطلاع أحوال تلك القواعد الشعبية التي راسلت الإمام الحسين‌ عليه‌السلام‌، ولم يكن مـكلّفا بـأزيد من ذلك، وبالفعل لم يقم مسلم بأزيد من ذلك، دخل الكوفة [مـقتل الحسين عليه‌السلام: 167] ‌‌ونزل‌ ضيفا في بيت المـختار رحـمة الله عـليه، وبقي في بيت المختار مكشوف‌ الحال‌ تزوره‌ الشيعة ويتجمعون عنده، فيتحدّث اليهم، و يؤكد لهم أهداف الإمام الحسين عليه‌السلام‌، ويؤكدون له اخلاصهم‌ واستعدادهم‌ للعمل في تلك الأهـداف، حـتي يدخل عبيداللّه بن زياد الى الكوفة [مـقتل الحسين عليه‌السلام: 170] حينئذٍ فيتوتر الجوّ و يغير الموقف بشكل عام، مسلم ابن عقيل يري أنّ مـن المصلحة أن ينتقل الى بيت آخر ويكون مكثه في الكوفة سريا، لان عبيداللّه بـن زيـاد بدأ عملية التعقيب و التفتيش عن مسلم بـن عـقيل، فـبينما الوالي السابق كان سلبيا أصبح عبيداللّه بن زيـاد‌ يـفكر‌ في مجابهة هذا التجمّع وبذرة هذا التجمع، حينئذٍ انتقل مسلم بن عقيل مـن بـيت المختار الى بيت هاني بن عروة [مـقتل الحسين عليه‌السلام: 170] رضـوان اللّه عـليه، وبقي هـناك مـتكتّما بـمكثه، وأخذ‌ الشيعة يزورونه متكتمين، وكان ظـهور مـسلم بن عقيل في اليوم المشهود مع أربعة آلاف، وكان العمل الذي مارسه حينما ذهـب الى قـصر الامارة مع هذا العدد من‌ الشـيعة‌ وحاول أن يحتل قصر الامـارة وأن يـسيطر علي مقاليد الموقف، كان هـذا العـمل خارج نطاق التخطيط المتفق عليه بين مسلم والحسين، كان هذا العمل بملاك الدفـاع، لانـ‌ مسلم‌ بن عقيل رضوان اللّه عـليه‌ وقـع‌ فـي‌ موقع الدفاع، عـبيداللّه بـن زياد بدأ بالهجوم، أخـذ يـحاول أن يتعقّب مسلم بن عقيل وان يقضي علي هذه البذرة‌، فكان‌ مسلم بن عقيل في حـالة دفـاع، و لم‌ يكن في حالة غزو أو هـجوم، يـعني أنّ الظـروف اضـطرّته الى أن يـقف موقف المدافع، ولو لم‌ يـبدأ‌ بهذه‌ العملية إذن لهجم عليه عبيداللّه بن زياد، وهجم علي‌ شيعته وهم في البيوت، فكان عـلي مـسلم بن عقيل لا بمنطق رسالته من قـبل الحـسين لا بـمنطق‌ الحـاكمية‌ والسـلطان‌ والولاية، بل بـمنطق الدفـاع أن يبدأ بمثل هذه العملية كدفاع‌ عن‌ نفسه وعن قواعده التي التفّت حوله حينما يحاول عبيداللّه بـن زيـاد ان يـبدأ بالهجوم. اقرؤوا‌ رسالة‌ الإمام‌ الحسين عليه الصـلاة والسـلام التـي بـعثها مـع قـيس بن مسهر الصيداوي الى الكوفة‌، كان في الرسالة يقول: انّي سوف أرد اليكم قريبا، فانكمشوا علي أمركم‌ حتي‌ آتي‌. الرسالة واضحة في أنّ الإمام الحسين عليه الصلاة والسـلام لم يكن قد خطط‌ لمسلم‌ بن عقيل أن يملك الكوفة، وأن يسيطر علي الكوفة كحاكم ووالٍ وسلطان‌، يقول‌: انكمشوا في أمركم يعني حاولوا أن تحفظوا هذا التجمع الى أن آتي، فكان تحويل هذا التجمع الى مـجتمع‌، الى سلطان، الى دولة، كان كل هذا موقوفا علي دخول الحسين عليه الصلاة‌ والسلام‌، ولهذا أوصي بأن ينكمشوا في أمرهم. إذن فرسالة مسلم بن‌ عقيل‌ لم‌ تكن إلاّ عبارة عن استطلاع أحوال تلك القـواعد الشـعبية، وتزويد الإمام الحسين بالمعلومات الواضحة‌ المؤكدة‌ عن‌ تلك القواعد الشعبية، ولم يكن مسلم بن عقيل مكلّفا بحرب، وانّما‌ قام بما قام به في اللحـظة الأخـيرة كدفاع عن النفس، حيث لم يـكن هـناك طريق‌ آخر‌ للاستمرارية غير أن يتخذ هذا الموقف الدفاعي. كل هذا يعبّر في‌ الواقع‌ عن شعار عدم الابتداء بالقتال، هذا‌ الشعار‌ الذي‌ كان من المـفروض عـلي الإمام الحسين عليه‌ الصـلاة‌ والسـلام أن يطرحه لكي يشعر الناس جميعا بأنّ العملية عملية فوق الشك، وأنّها‌ مشروعة حتى على مستوى تصورات‌ الإنسان‌ المسلم المهزوم‌ روحيا‌ وأخلاقيا‌، ونحن إذا لاحظنا الإمام‌ الحسين‌ عليه‌السلام في مسيره من مـكة الى العـراق نري أ نّه كان باستمرار‌ يؤكد‌ علي ضرورة مواصلة السير والسفر لأنّه مدعوّ، ولا‌بد‌ له أن يجيب هذه الدعوة‌.

بلغه في الطريق أنّ مسلم بن عقيل قُتل ولم يغير من موقفه، أي‌ يسقط‌ هذا الشـعار، بـل بقي‌ هـذا‌ الشعار‌ مرفوعا وهو شعار‌ أ نّه مدعوّ من قبل‌ الكوفة‌ ولا بدّ له أن يجيب بالرغم من أ نّه اطّلع علي أنـّ مسلم بن‌ عقيل‌ وهاني بن عروة قد قتلا، بعد‌ هذا اطـّلع‌ عـلي‌ أنـ‌ قيس بن مسهر الصيداوي‌ قد قتل من قبل عبيداللّه بن زياد، مع هذا لم يغير هذا الشعار، بـل‌ ‌ ‌بـقي يؤكد أ نّه مدعوّ من‌ قبل‌ أهل‌ الكوفة‌ ولا‌ بدّ له أن‌ يجيب‌ هذه الدعوة، حـتي التـقي مـع الحر بن يزيد الرياحي، جاءه الطرمّاح قال له: الحقْ‌ بالجبل‌ الفلاني وأنا أجمع لك عشرين ألف نفر‌ مـن‌ العشيرة‌ الفلانية‌ يلتفّون‌ حولك‌، واللّه يغنيك بذلك عن الكوفة، قال عليه‌السلام: بيننا و بين القـوم عهد، ولابدّ لي أن أسير اليـهم.

بعد كـل هذه الدلائل من أهالي‌ الكوفة علي نكث العهد، مع هذا بقي الإمام الحسين يواصل تأكيده علي هذا الشعار، إذن القصة في الواقع لم تكن قصة أن يقتنع الحسين، ولم يكن تحركه عليه‌السلام‌ بينه‌ وبين نفسه كنتيجة لرد فـعل لطلب قواعده الشعبية في الكوفة، لانّه اطّلع في أثناء الطريق علي أنّ هذه القواعد الشعبية في الكوفة قد خانته، قد قتلت رسوله‌، قد قتلت ثقته من أهل بيته، ومع هذا كـان يـواصل السفر اليها، كان هذا الشعار شعارا منسجما مع الأخلاقية التي تعيشها‌ الاُمّة‌ الإسلامية، وكان لابدّ له‌ أن‌ يطرح هذا الشعار لكي يسبغ علي العملية طابع المشروعية في نظر اُولئك الذي يحبّون السـلامة، اُولئك الذي يـرون في التضحية لونا من ألوان‌ التهوّر‌ واللامعقولية وقلّة الاناة.

الاُسلوب الثاني‌: حشد كل المثيرات العاطفية في المعركة:

وكان من الأساليب التي اتخذها أيضا عليه أفضل الصلاة والسلام لكسب هذه الأخلاقية ومـجاملتها أ نـّه حشد في المعركة كل القوي والامكانيات، لم‌ يكتفِ ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ بأن يعرّض نفسه للقتل عسي أن تقول أخلاقية الهزيمة: إنّ شخصا حاول ان يطلب سلطانا فقتل، بل أراد أن يعرّض أولادهـ‌ للقـتل‌، وأهـله‌ للقتل، ونساءه للسبي، أراد أن يجمع عـلي نـفسه كـل ما يمكن أن يجتمع علي إنسان‌ من مصائب وتضحيات وآلام، لأنّ أخلاقية الهزيمة مهما شككت في‌ مشروعية‌ أن‌ يخرج إنسان للقتل، فهي لا تـشكك فـي أنّ هذا العمل الفظيع الذي قامت به جيوش بني ‌‌اُمـية‌، قـامت به جيوش الانحراف ضدّ بقية النبوّة، لم يكن عملاً صحيحا‌ علي‌ كل‌ المقاييس، وبكل الاعتبارات، كان لابدّ للامام الحسين عـليه‌السلام أن يـدخل فـي المعركة دمه‌ وأولاده وأطفاله ونساءه وحريمه وكل الاعتبارات العاطفية، وكل الاعـتبارات التأريخية، حتي‌ الآثار التي كانت قد‌ تبقّت‌ له من عهد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌و‌آله، حتي العمامة، حتي السيف، لبس عمامة رسـول اللّه، تـقلّد سـيف رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌و‌آله أدخل كل هذه المثيرات التاريخية والعاطفية الى المعركة‌، وذلك لكي يـسدّ عـلي أخلاقية الهزيمة كل منفذ وكل طريق الى التعبير عن هزيمتها، وعن نوع من أنواع الاحتجاج علي هـذا العـمل، لكـي يهزّ بذلك ضمير ذلك الإنسان‌ المسلم‌ المهزوز الذي تميعت إرادته، وهكذا كان... قد استطاع عليه الصـلاة والسـلام بـهذا التخطيط الدقيق الرائع أن يهزّ ضمير ذلك الإنسان المسلم.

ومن هذا التخطيط يمكننا أن نستفيد‌ درسا‌ عاما، وحاصل هـذا الدرس: أن عـملية التـغيير في أخلاقية الاُمّة لا يجوز أن تقوم بأي مجابهة واضحة للأخلاقية الفاسدة الموجودة في الاُمّة، لأن المـجابهة الواضـحة الصريحة للأخلاقية‌ الفاسدة‌ الموجودة في الاُمّة يكون معناها الانعزال عن هذه الاُمّة والانـكماش، وعـدم القـدرة علي القيام بعمل مشروع في نظر هذه الاُمّة حينما نريد أن ننفذ الى ضمير الاُمّة التـي‌ مـاعت‌ أخلاقيا‌، لابدّ لنا أيضا في‌ نفس‌ الوقت‌ الذي نفكر في إنشاء أخلاقيتها من جـديد أن نـفكر فـي عدم مجابهة الأخلاقية القائمة بالشكل الذي يعزل هذا الشخص الذي يريد‌ أن‌ يغير‌ أخلاقية الاُمّة، فلا بـدّ له أن يـفكر‌ في‌ انتهاج طريق في التغيير يستطيع به أن ينفذ الى ضمير الاُمّة، وهو لا يـمكنه أن يـنفذ الى ضـمير الاُمّة‌ إلاّ‌ إذا‌ حافظ باستمرار علي معقولية ومشروعية عمله في نظر الاُمّة، كما عمل الإمام الحسين عـليه الصـلاة والسـلام. لم يبق لدي شخص من أبناء الاُمّة الإسلامية أي شك‌ في‌ أنّ‌ عمل الإمـام الحـسين كان عملاً مشروعا صحيحا، وأن عمل بني‌ اُمية‌ كان عملاً ظالما عاتيا جبّارا.

وهذا الوضوح في الرؤية هـو الذي جـعل المسلمين يدخلون بالتدريج الى آفاق‌ جديدة‌ من الأخلاقية تختلف عن أخلاقية الهـزيمة، هـذا الوضوح هو الذي هزّ‌ ضمير‌ الإنسان‌ المسلم، وهـو الذي يـهزّه الى يـومنا هذا، فليس دم الإمام الحسين عليه‌السلام‌ رخيصا‌ بـدرجة‌ يـُكتفي فيثمنه بأن يهتزّ ضمير الإنسان المسلم في عصر واحد، أو في جيل‌ واحد‌، لا يـمكن أن يـكون ثمن دم الإمام الحسين عليه‌السلام أن تـتزلزل قـواعد بني‌ اُمـية‌، أو أن يـكشف عـن حقيقة بني اُمية، أو أن تنتعش ضمائر جـيل مـن‌ اُمّة‌ الإسلام... هذا لا يكفي ثمنا لدم الإمام الحسين الطاهر، بل‌ أنّ ثمن دم الإمام الحسين ـ الذي هـو أغـلي دم سفك في سبيل الإسلام ـ أن يبقي‌ مـحرّكا‌، منوّرا، دافعا، مطهّرا، مـنقّيا عـلي مرّ التاريخ لكل‌ أجيال‌ الاُمـّة‌ الإسـلامية، لابدّ وأن يهزّ ضميرنا وضمير كل واحد منّا اليوم كما كان يهزّ ضمير‌ المـسلمين‌ قـبل‌ ثلاثة عشر قرنا، لابدّ أن يـهزّ ضـمير كـل واحد منّا حـينما‌ نـجابه‌ أي موقف من مـواقف الاغـراء، أو الترغيب أو الترهيب، لا بدّ وأن نستشعر تلك‌ التضحية‌ العظيمة حينما نلتفت الى أننا مدعوون الى تضحية جزئية بـسيطة، حـينما‌ يتطلّب‌ منّا الإسلام لونا من التـضحية وقـدرا بسيطا‌ وضـئيلاً‌ مـن‌ التـضحية، لا بدّ وأن نلتفت دائما‌ الى ذلك القدر العظيم غير المحدود من التضحية الذي قام به الإمام الحسين عليه‌السلام‌ لكي‌ نستصغر، ولكي يتضاءل أمـامنا‌ أي‌ قدر نواجهه‌ في‌ حياتنا‌ ونـكلّف أنـفسنا بـالقيام بـه فـي سبيل‌ الإسلام‌.

إنّ الإسـلام اليـوم يتطلّب منك قدرا قليلاً من التضحية بوقتك، براحتك‌، بمصالحك الشخصية، برغباتك بشهواتك، في سبيل تعبئة كـل‌ طـاقاتك‌ وامـكانياتك وأوقاتك لأجل الرسالة. أين‌ هذه التضحية مـن تـلك التـضحية العـظيمة التـي قـام بها الإمام الحسين عليه‌السلام؟ من‌ تضحيته بآخر قطرة من دمه‌، بآخر‌ شخص من ذرّيته‌، بآخر كرامة من كراماته‌ بحسب‌ مقاييس الإنسان الدنيوي؟! لا بدّ أن نعيش دائما هذه التـضحية، ونعيش‌ دائما‌ مدلول هذا الدم الطاهر لكي يكون‌ ثمن‌ دم الإمام‌ الحسين‌ حيا‌ علي مرّ التاريخ.

غفر اللّه لنا ولكم.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2047
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 10 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29