• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : عاشوراء والأربعين .
                    • الموضوع : منهج التربية الثورية عند الإمام الحسين (ع) .

منهج التربية الثورية عند الإمام الحسين (ع)

طه الديواني*

التربية الثورية إنّما ينهض بها القادة التاريخيون الذين يهدفون‌ الى تـحرير‌ الإنـسان‌ من أسـار وضع اجتماعي فاسد، ولبناء مجتمع صالح على أنقاضه. وعندما يصبح مثل‌ هذا الهدف هو‌ الهاجس الوحـيد للقائد التاريخي، عندها يبدأ عملية التعبئة الفكرية والروحية بهذا الإتجاه، وتلتحق به‌ النخبة المـختارة التي ترتضي‌ هذا‌ الهـدف مـحورا لحركتها وهمومها ومواقفها.

الاسلام العظيم بصفته الدين السماوي الخالد، الذي اختاره اللّه تعالى للبشرية جمعاء يهدف الى اخراج الناس من عبودية العباد والطواغيت الى عبودية اللّه وحده، قال تعالى:

«يريدون أن‌ يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به...» 1

1.و هذا بدوره سيؤدي الى اخراج الناس‌ من الظـلمات الى النور ومن الفساد والانحلال‌ والفوضى الى الخير والأمن والازدهار. وقد اوكل‌ هذا الهدف العظيم‌ الى أنبياء اللّه المرسلين والى خاتم الأنبياء والى أوصيائه النجباء، قال تعالى:

«هو الذي ينزّل علي عبده آيات بينات‌ ليخرجكم من الظّلمات الى النور..» 2

2. ومن هنا، فعندما ينحرف الحـكام عـن الاسلام‌ العظيم، ويبغونها عوجا، ويتحولون‌ الى طواغيت، يهلكون الحرث والنسل ويعيثون في البلاد والعباد فسادا، كما حصل عندما استولي الامويون علي‌ السلطة، وأخذوا يمارسون أنواع الظلم والجور، ويرتكبون‌ أنواع المـحرّمات والمـنكرات ويعملون‌ في عباد اللّه بالإثم والعدوان، ويخالفون سنّة رسول اللّه، ويستأثرون بالفيء من دون المسلمين. لا بدّ حينئذ للقائد التاريخي أن يتصدى بكل جرأة وشجاعة لهذا‌ الانحراف‌ والعمل لإرجاع الأمور الى نصابها، وإلاّ‌ فإنّ‌ أمر‌ الامة المـسلمة سـينتهي‌ الى الانهيار والانحلال وضياع القيم التي أرساها الرسول الأعظم(ص) وهذا حال لا يمكن‌ السكوت عليه. وهكذا كان وعي القائد‌ التاريخي، الإمام‌ القائد‌ الحسين بن علي(ع). وكان يصرّح بهذا مرارا، ولذلك اتجه‌ الامام‌ القائد(ع) الى اعداد النخبة المؤمنة، وتـهيئتها، وتـربيتها للقـيام بالدور التاريخي المطلوب. دون الاقلال من أهـمية وضـرورة احـداث وعي متزايد لدي جماهير الامة المسلمة لتتحمل‌ مسؤوليتها‌ الشرعية‌ أيضا.

و من هنا نجد أنّ الامام الحسين(ع) قد اختار أنصاره، واختار لهم‌ الدور العظيم والخطير، ووفقوا هم لأداء هذه المـسؤولية الكبرى.

و هـنا يـثور سؤال:

ما هو منهج الإمام الحسين(ع) في التربية الجهادية الثورية؟ وكيف‌ جـعل‌ الأنـصار والأصحاب‌ ينهضون لأداء دورهم بكل اخلاص وحماس؟!

للإجابة عن هذا‌ السؤال، لا‌ بدّ أن نحدد أولا أهم‌ عناصر المنهج الثوري عند الامام الحسين(ع) لنرى بعد ذلك كيف نهض الامـام القـائد‌ بـه، وكيف‌ ربّي‌ أنصاره وسيرهم عليه.

يمكننا أن نحدد أهم العناصر الأساسية لهذا المنهج بالآتي:

1- الوعي والتبصير‌ ووضـوح الهدف.

2- الإيمان المطلق بالقيادة والوفاء لها.

3- الاستعداد العالي للتضحية.

4- الانضباط التام.

هذه من وجهة نظرنا أهم‌ عناصر‌ المنهج‌ الثوري‌ عند الامام الحسين(ع)، فلنتبين كيف‌ كان(ع) يعدّ أصحابه ويربيهم وفق هـذا البرنامج‌ (المنهج).

أولا: الوعي والتـبصير ووضـوح‌ الهدف

إن الوعي والبصيرة التي يجب أن يتحلّى بها الانسان، أمر ضروري جدا لأي عمل أو‌ دور، يريد أن‌ يـؤديه، فلا‌ يـمكن للإنسان السير في الطريق الى الهدف بدون تلكؤ أو تعثر، ما لم يكن علي بينة‌ من‌ أمره‌ ووضوح في هدفه. واسـتنادا اليـه، فقد وجـدنا الإمام الحسين(ع) يحدد الهدف بوضوح، ويرسم‌ للمجاهدين الطريق، ويبين‌ معالمه‌ بوضوح‌ أيضا، قال الامام(ع):

«أيها الناس، إني سمعت جـدي رسـول اللّه (ص) يقول: من رأى مـنكم سلطانا جائرا، مستحلا لحرام اللّه، ناكثا لعهد اللّه، مخالفا لسنّة‌ رسول‌ اللّه، يعمل في عباد اللّه بالإثم‌ والعدوان، فلم يغير عـليه بـفعل ولا قـول، كان‌ حقا على‌ اللّه‌ أن يدخله مدخله»3.ثم قال مشيرا الى السلطة الأموية الغاشمة: «ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشـيطان، واسـتحلوا‌ حرام‌ اللّه‌ واستأثروا بالفي‌ء»4.

و هكذا حدد الإمام القائد الهدف، الذي يتمثل‌ بضرورة إزالة مثل هذا الحكم‌ المـتسلط‌ الجـائر، واجـتثاث الفساد، فيزيد-الحاكم الأموي-فاسق‌ فاجر شارب للخمر ومعلن بالفسق.

و في ضوء هذا، نري انه لم يكن أمام‌ الأصحاب‌ والأنصار إلاّ الإطـاحة بـه وتخليص البلاد والعباد منه. ثم إنّ الإمام القائد(ع)مع‌ تحديده‌ لهذا الهدف‌ المباشر من حركته وثورته، إلاّ أنـه‌ يـضع‌ أنـصاره‌ وتابعيه، أمام مسؤولية أعظم، ويبصرهم بأنه، مع‌ أهمية هذا الهدف، إلاّ‌ أنه‌ لا ينبغي أن يكون هذا هو هاجسهم الأكبر، بل يجب أن تـكون الاطـاحة بالنظام المتسلط، تمهيدا لإقامة‌ حكم‌ اللّه بتحكيم‌ شريعته، أي الاسلام العظيم، ولذلك‌ صرّح‌ الامام‌ الحسين(ع) قائلا: «إني لم‌ أخرج‌ أشـرا‌ ولا بـطرا ولا مـفسدا، وإنما‌ خرجت‌ لطلب الإصلاح في‌ أمة جدي(ص) أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى‌ عن المنكر، وأسير بسيرة جدي‌ وأبي...»5.

فالمطلوب تحديدا-هو الاصـلاح الجـذري‌ وتـحويل مسار‌ الامة الى الاتجاه الصحيح، أي‌ الى اتباع‌ سيرة النبي(ص)، ويتضح لدينا من‌ هذين‌ الخطابين، أنّ‌ الإمـام(ع) في صـدد تبصير النخبة المؤمنة وكذلك الجماهير، بالخروقات والتجاوزات‌ التي ترتكبها السلطات الأموية الحاكمة‌ ضد الاسلام‌ وسيرة وسنّة الرسول‌ الأعظم. مما‌ يضع‌ الانسان‌ المـسلم، وجها لوجـه أمام‌ اختبار‌ واحد لا غير، وهو أن‌ يشهر‌ السلاح فيقاتل لتغيير مثل هـذا الواقع السـياسي الفاسد، وليوطن المؤمن حينئذ نفسه في لقاء ربـّه. قال الامـام‌ عـليه‌ السلام:

«ألا ترون الى الحق لا يعمل‌ به‌ والى الباطل‌ لا‌ يـتناهى‌ عـنه، ألا فليرغب المؤمن في‌ لقاء اللّه، فإني لا أري الموت إلاّ سعادة، والحياة مع‌ الظالمين إلاّ برما...»6.

وهنا في غمرة تـهيئة‌ ذهـنية‌ المسلم، ونفسيته‌ للمواجهة الحاسمة مع النـظام المـتسلط، وتعبئته‌ بـهذا الاتجاه. فإن‌ الإمـام‌ القـائد‌ عليه السلام، يذكر أصحابه باستمرار، بأن‌ العمل‌ الجهادي لايـقتصر علي مـجرد الاصلاح أو تغيير النظام فحسب، بل‌ يجب أن يكون الهدف دائما أكبر من ذلك، وهو تحكيم‌ شـريعة‌ اللّه تـعالى، ولذلك وجدناه يقول:

«و قد بعثت‌ اليكم، بهذا‌ الكتاب‌ وأنـا‌ أدعوكم‌ الى كتاب اللّه، وسـنّة نـبيه، فإنّ السنّة قد اميتت، والبدعة قد احـيت..»7.ثم يـقول عليه السلام في خطاب آخر:

«ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفـساد، وعـطّلوا‌ الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام اللّه، وحـرّموا حلاله».

و هـكذا يظهر أنّ الامـام الحـسين(ع) يبصّر المسلمين بأنه عندما تنحدر الأمـور الى الحـالة الموصوفة، فينكر المعروف، ويستمرئ الناس‌ المنكرات، وينظر الى الحق فلا يعمل به، والباطل‌ لا يتناهى عنه.. فلا‌ بدّ‌ حينئذ مـن الانـتفاضة المسلحة، والثورة العارمة لإعادة الحق الى نصابه، ولا يـقاف حـالة الانهيار والتـداعي فـي الامـة، والانتفاضة المسلحة تعني الدخـول في المواجهة الحاسمة مع النظام المتسلط، وهنا نجد الإمام‌ القائد(ع) يحدث‌ وعيا‌ متزايدا ومهما بما تتطلبه مثل‌ تلك المـواجهة المـسلحة، فلنستمع اليه يقول:

«يا أهل الكوفة، أنتم الأحبة الكرماء، والشـعار دون الدثـار، جدّوا فـي اطـفاء مـا وتر بينكم، وتسهيل مـا‌ تـوعر‌ عليكم، ألا وإن الحرب‌ شرها مريع، وطعمها‌ فظيع، فمن أخذ لها أهبتها، واستعدّ لها عدّتها، ولم يألم كلومها قبل حلولها فذاك صـاحبها، ومـن عـاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها فذاك قـمين أن‌ لا‌ يـنفع‌ قومه، وأن يـهلك نفسه...»8.

فهاهنا نـجد‌ الامـام القائد، يبصّر الأتباع‌ والأنصار باشتراطات المواجهة المسلحة مع‌ النظام، بغية حصد النتيجة وقطف الثمرة المرجوة، أي الظفر والانتصار. ويتضح من كلماته عليه‌ السلام وعباراته أن المطلوب-علي وجه التحديد أولا-هو أن يكون جميع‌ الثوار‌ والمنتفضين فـي‌ وجه النظام المتسلط الجائر، علي حالة من الصفاء والانسجام فيما بينهم، لأن هذا شرط أوّلي‌ وأساسي لكسب المعركة. إنّ حالة الانسجام تلك‌ لا يمكن أن تتحقق دون أن يكون بين الجميع تفاهم‌ وتآلف، ودون أن‌ يكونوا أيضا علي درجـة عـالية من‌ التعاون والتشاور، وعلي درجة واحدة من نكران‌ الذات وتذويب الخصوصيات لحساب‌ الهدف‌ الأعظم. وعند ذاك كما يقول الإمام(ع): «يسهل‌ ما توعر» ويحصل الانسجام المطلوب.

ثم يبين‌ الإمام‌ بعد‌ ذلك ويلفت الانتباه الى امور خطيرة وذات أهمية خاصة في شأن المـواجهة المسلحة، منها، ضرورة التـبصّر بأمر الحرب، وما ‌‌قد تجرّه‌ من ويلات وعذابات «فطعمها فظيع». وهذا بالضرورة يقود الى أهمية أخذ الأهبة، واعداد العدّة والعدد، ولكن‌ الأهم من كل ذلك في تقدير الإمـام‌ القائد(ع) هو أن لا يـتعجل المجاهدون المواجهة قبل حلول الفرصة المـناسبة، أي‌ قـبل نضوج‌ الظروف الموضوعية للانتفاضة المسلحة، أي أن من‌ الضروري أولا أن تصبح الانتفاضة أو الثورة‌ حاجة مسلحة، ومطلبا جماهيريا جديا‌ وحقيقيا.

«فلقد اجتمع زعماء المعارضة من أنصار الامام‌ الحسين(ع) في الكوفة في بيت سليمان بن صـرد الخزاعي، واسـتعرضوا الأوضاع السياسية والاجتماعية، ومـوت مـعاوية، وانتقال السلطة الى يزيد، وتباحثوا في ضرورة تحرك الامام‌ الحسين(ع) وقرروا نصرته، والانضواء تحت‌ قيادته‌ وإمامته، واعلان الولاء له ومكاتبته». وهنا نذكر نص آخر كتاب وصل الى الامام:

للحسين بن علي أمير المؤمنين، من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين(ع)، أما بعد:

«فإنّ النـاس يـنتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل‌ يا ابن رسول‌ اللّه، فقد‌ اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض، وأورقت الأشجار، فأقدم علينا إذا شئت، فإنما تقدم علي جند لك مجنّدة والسلام عليكم‌ ورحمة اللّه وبركاته وعلي أبيك من قبلك».

كما اجتمع ناس في‌ البـصرة‌ فـي منزل امـرأة من‌ عبد القيس، يقال لها مارية بنت سعدة، وكانت‌ تتشيع، وكان منزلها لهم مألفا يتحدثون فيه. فعزم‌ يزيد بن نبيط علي الخـروج الى الحسين(ع)«و هو من عبد القيس». كما أجاب فريق من أهل‌ البصرة كتاب‌ الامام الحـسين(ع)، منهم يـزيد بـن مسعود الذي جمع بني تميم، وبني حنظلة، وبني سعد وحثّهم‌ علي نصرة الحسين(ع)و حذرهم من الخذلان.

و كان سليمان بن صـرد ‌الخـزاعي قد خطب فيهم‌ قائلا: «إنّ معاوية قد‌ هلك، وإن‌ حسينا قد تقبض علي‌ القوم ببيعة، وقـد‌ خـرج‌ الى مـكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه، وتقتل أنفسنا دونه، فاكتبوا اليه واعلموه، وإن خـفتم‌ الفشل‌ والوهن‌ فلا تغروا الرجل. قالوا: بل نقاتل عدوه‌ ونقتل أنفسنا دونه»9.

وحتى‌ مع توافر هذا العـامل المهم، فلا بدّ أيضا من تـهيئة مـستلزمات الظفر والنصر، أي كسب المعركة. ومن جملة ذلك، بل علي رأس‌ الأولويات‌ هو‌ أن‌ تتمتع الكوادر الجهادية بقوة رصد الأحداث، والقدرة علي استكشاف الامكانات‌ الخبيثة للعدو، تلك الامكانات التي قد يزج بها العدو في‌ المعركة، والتـحسب لها، مع امثلاك القدرة علي فك‌ أية تعقيدات يمكن أن‌ تنشأ‌ أثناء‌ الحدث الثوري أو قبل وقوعه، وإلاّ فربما يؤدي ذلك الى النكوص‌ والاحباط‌ والفشل.

اننا نستكشف من خلال هذه التوصيات والبرامج‌ التي وضعها الامام القائد، أنه(ع)كان يعدّ أتباعه‌ وأنصاره، ويـربيهم اسـتنادا‌ الى هذه‌ الأساسيات التي‌ تتمثل بالوعي المتزايد ووضوح الهدف، هذا من‌ جهة، ومن جهة اخري نستطيع‌ أن‌ نستكشف‌ أيضا أن الامام القائد(ع) كان يهيئ الأمور لمثل هذا المستوي، ويوفر العوامل الطبيعية للظفر.

ثانيا: الايمان المطلق بالقيادة والوفاء‌ لها لا يمكن‌ للإنسان الذي يـثور في وجه الواقع‌ الفاسد، ويسعي الى تغييره أن يصل الى الهدف‌ المعلن، ما لم‌ يؤمن‌ بقيادة مؤهلة، ويكون وفيا لها. وأعني بها تلك القيادة الشجاعة التي تتصدي بكل‌ جرأة‌ لتحقيق‌ هدف‌ اسقاط السلطة وتسلّم الحكم. إنّ مـن غـير المتصور أن ينهض الجمهور دون قيادة شجاعة تدير‌ دفة‌ المعركة، وتحسن المناورة والمصاولة. كما أن من غير المتصور بلوغ الهدف‌ من دون وجود العلاقة‌ المذكورة‌ بين‌ الأتباع‌ والقائد، فكما أن الجمهور بعفويته وحماسته وجرأته‌ لا يتمكن من خوض المـواجهة المـسلحة بـدون‌ القيادة الشجاعة، كذلك‌ القائد فهو لا يستطيع أن يـقود المنازلة حتى النـهاية، بدون أن يكون الأتباع‌ والأنصار‌ علي‌ إيمان‌ مطلق ووفاء تام لتلك القيادة، وإلاّ فإن الارتجالية والعفوية ستسود ساحة المواجهة، والخاسر فيها‌ من‌ يفتقد‌ زمام السـيطرة والتـحكم فـي أتباعه وأنصاره وجماهيره. وهنا وجدنا الامام الحسين(ع)يربّي‌ أتباعه، ويـعبئهم روحـيا وفكريا، ليكونوا علي هذا المستوي من الايمان‌ والوفاء. ونحن إنما نستطيع أن نطلق القول بذلك، إذا‌ نظرنا‌ الى الأنصار والأتباع في ساحة المواجهة، وفـي سـاحة اصـطكاك الأسنة، وحتي مع‌ عدم‌ الرجوع‌ الى مواقفهم، واسلوب منازلتهم‌ الأعداء، فإنّ لنا في الوسـام‌ الذي‌ قلّده‌ الامام‌ الحسين(ع)إياهم، خير دليل، فقد قال(ع)في‌ حقهم: «إني لا أعلم أصحابا أوفي‌ من‌ أصحابي..»10 وكفي بذلك دليلا وبرهانا علي‌ ما قلناه. ولو لا تلك التربية، وذلك الاعـداد‌ الروحـي‌ والنـفسي والفكري، لما وصلوا الى مثل‌ هذه المرتبة من‌ الاستعداد‌ لنيل‌ الشرف والكرامة، ولمـا استحقّوا مـثل هذا‌ الوسام‌ الرفيع من سيد الشهداء الامام القائد الحسين بن علي(ع).

إنّ الرجوع الى ملاحم بطولاتهم، وجرأة‌ مواقفهم‌ وعظيم صـبرهم فـي عـرصة كربلاء‌ ما يزيد هذا البرهان سطوعا، وهذه‌ الحقيقة جلاء. وفي هذه‌ النقطة لا‌ أري‌ ضـرورة لسـرد مـلاحم البطولة التي‌ سجّلها الأنصار الأبطال، فهي من الشهرة بمكان، ومن الشيوع والانتشار‌ مما لا نحتاج الى بيانه‌ فـي‌ اثبات‌ هـذا‌ المـطلب، ولكن أكتفي‌ بهذا‌ الموقف: طلب الإمام الحسين(ع) من أصحابه‌ التفرق‌ عنه‌ لأنّ القوم لا يريدون غيره، فقام سعيد بـن عـبد اللّه‌ الحنفي فقال: «لا واللّه يا ابن‌ رسول‌ اللّه، لا نخليك‌ أبدا حتى يعلم اللّه أنّا‌ قد‌ حفظنا فـيك‌ وصـية‌ رسـول‌ اللّه‌ محمد(ص)ثم قال: واللّه، لو علمت‌ أني اقتل فيك ثم‌ احيا ثم احرق ثم اذري يفعل ذلك بي سـبعين مـرة ما فارقتك حتى ألقي‌ حمامي دونك...» و قال زهير ابن‌ القين: «و اللّه‌ يا‌ ابن‌ رسول‌ اللّه، لوددت‌ أنـي قـتلت ثم‌ نشرت‌ ألف‌ مرة، وأن اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك‌ ...»و قال مسلم بن عوسجة مثل ذلك: «لا افـارقك‌ أو أمـوت‌ معك»11.

ثالثا: الاستعداد العالي‌ للتضحية والانضباط التام

إنّ الانسان الذي يضع نصب‌ عينيه‌ هدفا‌ كبيرا وعظيما، لا‌ بدّ‌ أن يـحسب حـسابه للتـضحية والاستعداد العالي للتحمل في سبيل الوصول الى مثل هذا الهدف. ومن هنا كان لا بدّ للقائد التـاريخي‌ الذي يـتحمل مـسؤولية تاريخية عظمي، ويريد النهوض بأعباء الثورة‌ العارمة، لا بدّ له أن يثير أصحابه، ويستفز فيهم كلّ دواعـي الاسـتعداد للتضحية، وأعلى درجات القدرة على التحمل‌ والصبر، أي الصبر على حرّ السلاح وملاقاة الحتوف. وهذا ما فعله الإمام القـائد(ع) تماما. وكـما يظهر من‌ خطاباته‌ وتوصياته، أنه كان يعدّ أصحابه، ويربيهم على هذه المعاني، فلنسمعه في‌ قوله(ع):

«أيها الناس، إنما جـمعتكم عـلي أن العراق لي، وقد أتاني خبر فظيع عـن ابـن عـمي مسلم يدلّ‌ على أن شيعتنا قد خذلتنا، فمن أحبّ‌ أن‌ يـنصرف‌ فلينصرف ليس عليه منّا ذمام»12.

هكذا اذن بكل وضوح وصراحة، وبجرأة وشجاعة القائد التاريخي الذي لا تزيده كثرة النـاس‌ حوله شـجاعة، ولا قلتهم ضعفا‌ وتراخيا عن هـدفه. يقف الامـام(ع)، واضعا حقيقة‌ المـوقف‌ وأبـعاده‌ ومـلابساته، وكل ما يكتنفه من ظروف ومـستجدات، يضع كـلّ ذلك أمام الأتباع والأنصار. إنها إذن‌ المواجهة الحاسمة والمصيرية التي تطير فيها الرؤوس، وتكون‌ الأجساد‌ عـرضة للطـعن وهدفا للسيوف. إنها‌ المواجهة‌ التي يقلّ فيها النـاصر ويتكاثر المتخاذلون، ويقعد فـيها النـاس، فلا يتصدى، ولا ينهض حينئذ إلاّ من وطّن نـفسه عـلى‌ المنية، ووضع روحه على راحته، لا يبالي أوقع على‌ الموت أم وقع الموت عليه.

اننا نستفيد من‌ هذه‌ الخـطبة، أن القـائد التاريخي‌ لا يتردد في اطلاع واعـلام مـن مـعه، في حركته‌ الجهادية على حـقيقة المـوقف أولا بأول، دون‌ مواربة ولا تضليل ولا خداع. وانـنا نـلمس بكل‌ وضوح. أن الامام الحسين(ع)، اعتمد مبدأ المصارحة، فهو منذ اللحظة‌ الأولى‌ قد صارحهم‌ بما سيؤول اليه الأمر من قـتله وقـتل من معه من أهل‌ بيته. وبذلك وضـع المـوت أمامهم عـلى أنـه‌ الحـقيقة التي عليهم مواجهتها والاستعداد الكـافي لها. فقد قال مثلا منذ لحظة انطلاقته، وبدء‌ مسيرته‌ الجهادية: «خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على‌ جيد الفتاة، ومـا أولهـني الى اسلافي، اشتياق‌ يعقوب الى يوسف، وخير لي ‌‌مصرع‌ أنا لاقـيه، كأني بـأوصالي تـقطعها عـسلان الفـلوات بين‌ النواويس وكربلاء.. لا مـحيص عـن يوم خطّ بالقلم، رضى‌ اللّه‌ رضانا‌ أهل البيت، نصبر على‌ بلائه، ويوفينا اجور الصابرين»13.

إذن، هو يتحدث بكل صراحة عمّا سيلاقيه، لا يمارى ولا يـخادع، ومـع أن هـذا الأمر-كما أشرت-كثير ما تحدث عنه الامام(ع) مع‌ أصحابه، وفي مـناسبات عـديدة، ومـواضع جـمّة، فإنه‌ لم يـكتف بـذلك، بل واجه‌ أصحابه‌ ليلة العاشر من المحرّم مواجهة أكثر صراحة، فلربما ما يزال في‌ ذهن أحد منهم احتمال آخر غير ملاقاة الموت‌ والشهادة. فجمعهم وقال:

«يا قوم، أعلم أنكم خرجتم معي بعلمكم أني‌ أقدم علي قـوم بايعونا بألسنتهم وقلوبهم، وقد انعكس القلم، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم‌ ذكر اللّه، والآن لم يكن لهم مقصد إلاّ قتلي وقتل‌ من يجاهد بين يدي وسبي حزيمي بعد سلبهم، وأخشي أنكم ما تعلمون وتستحيون، والخداع‌ عندنا‌ أهل‌ البـيت مـحرّم، فمن كره منكم ذلك‌ فلينصرف، فالليل ستير، والسبيل غير خطير، والوقت ليس بهجير، ومن آسانا بنفسه، كان في‌ الجنان نجيا من غضب الرحمن...»14.

و بعد هذا التصريح والمكاشفة، نجد موقف‌ الأنصار والأتباع يثلج الصدر‌ وينمّ عن مدى تـأثير التربية الجـهادية والروحية التي استطاع الامام‌ الحسين(ع) أن يزرعها فيهم. نعم، نجدهم يشهرون‌ سيوفهم من أغمادها، ويتجمعون حوله مصرّين على الجهاد، والذبّ عن حرم رسول اللّه(ص) غير هيابين ولا وجلين، فقد امتلأت نفوسهم‌ رضي، بنصرة‌ ابـن بـنت نبيهم والموت دونه. فلما رآهم‌ الإمام(ع) على هـذا الحـال، حمد اللّه وأثني عليه، ثم قلّدهم وسام الشرف الأبدي والكرامة الخالدة بقوله: «إني لا أعلم أصحابا أوفي من أصحابي...» ومع كل‌ ذلك، أي‌ مع‌ تصريحهم بموقفهم واشتياق‌ الإمام(ع) منه، إلاّ أنه‌ لم‌ يترك‌ فـرصة إلاّ واستغلها، لتأكيد ضرورة الصبر في المـواجهة والثـبات في وجه‌ العدو حتى النهاية، أي حتى بذل آخر قطرة دم. وهكذا، فعند ما‌ أصبح‌ صباح‌ اليوم العاشر من‌ المحرّم خطبهم عقب الصلاة قائلا:

«إنّ اللّه‌ تعالى قد أذن في قتلكم وقتلى في‌ هذا اليوم، فعليكم بالصبر والقتال...»15.

ومن هـنا يـتأكد لدينا، أنّ الإمام الحسين(ع) مع‌ يقينه وعلمه‌ بمقتله‌ ومقتل من معه، لم يهن، ولم‌ يضعف، وكان هو وأصحابه الميامين‌ على أعلى درجات الاستعداد للتضحية والفداء في سبيل‌ نصرة الدين القويم، وابقاء جذوته متقدة أبد الآبدين.

الانضباط التام

يعد الانضباط التام‌ مسألة‌ جـوهرية‌ في أيـة مواجهة مسلحة. والانضباط بمفهومه، هو الالتزام‌ الصارم بتوجيهات القيادة وأوامرها، وبدونه‌ فإنّ‌ الارباك‌ والفوضى والانفلات، ستسود في الطرف‌ الذي لا يلتزم بمثل ذلك الانضباط المـطلوب. وهو ما يؤدي الى الانكسار‌ والفشل. ولكن الانضباط لا يسود عادة وتكون له الأولوية اعتباطا، بل إن‌ ذلك يـتحقق عـبر‌ ممارسات‌ جادة‌ واختبارات‌ معقدة، ومن خلال النمو المتزايد للشعور العالي‌ بالمسؤولية والايمان المطلق بالقيادة. وهنا نجد حالة‌ الانضباط‌ بالصورة‌ التـي ‌ذكـرناها قائمة أثناء المواجهة المسلحة في الجبهة التي يقودها الإمام‌ الحسين(ع) مع تأثير فرص الانفلات في‌ الجـبهة المعادية. فنحن‌ نـجد الأنـصار ينقادون لتوجيهات‌ الامام(ع) وأوامره، ويخضعون لها بكل اخلاص‌ ونكران ذات، على الرغم من‌ وجود‌ حالة‌ الغليان‌ والحـماس وعشق الشهادة.. وهذه تعدّ من العوامل، التي ربما تقود الانسان الى التصرف‌ والاندفاع، بعيدا عن التـوجيهات الصارمة للقيادة. ولعل الأمـثلة علي ذلك فـي واقعة الطف كثيرة. ولكن‌ ربما‌ يثور هنا‌ سؤال هو:

كيف يمكن أن نقوّم موقف أحد الأنصار16 الأبطال- عابس الشاكري- عندما ينزل الى ساحة المعركة، فيرمي سيفه، وينزع درعه‌ ثم‌ يواجه القوم‌ الأعداء، على كثرة عددهم أعزل، إلاّ من صلابة الايمان وقوة الأعصاب ورباطة‌ الجأش؟! إنّ‌ هـذه‌ الصورة‌ في الوقت الذي تؤشر الى حالة العشق‌ للشهادة، وحالة الذوبان في الامام الحسين(ع)، إنّ هذه الصورة هي‌ تجسيد‌ للإقدام‌ البطولي‌ والاستماتة في سبيل الحق، التي أظهرها هذا البطل، إنها الصورة التي أرعبت العدو وأربكته، وأظهرت مدى أحقّية الامـام(ع) في مـوقفه الذي‌ اتخذه. كما انها سجّلت صفحة نادرة في سجل‌ ملحمة كربلاء الخالدة، يترسمها الأبطال‌ والمجاهدون‌ علي‌ مدي التاريخ. إنّ مثل هذه الصور الرائعة لا نجدها في معسكر الأعداء، في الجبهة المعادية للحق‌ والاسلام، بل نستطيع القول انه في‌ كل معارك التـاريخ‌ لمـ‌ تستطع‌ جبهات الباطل أن‌ تقدم صورة واحدة من هذا‌ القبيل، وليس بإمكانها أن تفرز مثل هذه الصور الخالدة من البطولة النادرة والشجاعة الفذة، بينما نستطيع‌ العثور‌ علي عشرات‌ بل مئات الصور من‌ مـثل‌ هـذه التضحية‌ النادرة‌ في‌ جبهات‌ الحق، جبهة صراع الاسلام مع قوي الكفر والضلال‌ على طول التاريخ، ولا ينبغي أن نستغرب‌ ذلك، لأن الانسان بطبعه، لا تهون عليه حياته‌ ودمه‌ إلاّ عندما يدرك، أن الغاية عظيمة والهدف هو اللّه، والثـواب‌ والعـوض أعـظم. وهذا لا يتوافر‌ إلاّ‌ في جبهة الحق والديـن، وإلاّ تـحت قـيادة حماة الدين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) استاذ سابق في كلية الفقه في النجف الأشرف

(1) سورة النساء، آية:60.

(2) سورة الحديد، آية:9.

(3) «الكامل في التاريخ» ج‌ 4، ص‌ 48.

(4) المصدر نفسه.

(5) «مقتل الحسين(ع)» الخوارزمي، ج 1، ص 188.

 (6) «اللهوف في‌ قتلى‌ الطفوف» السيد ابن طاووس، ص‌ 34.

 (7) «مقتل الحسين(ع)» السيد‌ المقرّم، ص 141-142.

 (8) «لمعة من بلاغة‌ الحسين(ع)» مصطفي‌ محسن‌ الموسوي الحائري ‌ص 7، نقلها عن «شرح النهج» لابن‌ أبي الحديد، من خـطبة يـدعو فـيها الناس الى المسير الى الشام‌ مع‌ أبيه‌ عليهما السلام.

 (9) راجع حول هذه المـسألة: «الامام الحـسين(ع) و يوم‌ عاشوراء» اعداد‌ لجنة التأليف‌ في‌ دار‌ التوحيد-اصدار دار التوحيد. وراجع «الارشاد» الشيخ المفيد، ص‌ 202-203 وما نقله من كتب ورسائل زعماء الكوفة الى الامام الحسين‌ صلوات اللّه وسلامه‌ عـليه، وراجـع أيـضا: «اللهوف في قتلى‌ الطفوف» ابن طاووس، ص 14-15.

(10) «أعيان الشيعة» ج‌ 1، ص‌ 600، السيد‌ محسن‌ الأمين‌ العاملي.

(11) «مقتل الحسين» لأبي مخنف، ص‌ 98.

(12) «الكامل» ابن الأثـير، ج 4، ص 43.

(13) راجع: «مقتل الحسين» المقرّم، ص 65.

(14) «أعيان الشيعة» ج 1، ص 600.

(15) «اثبات الوصية» المسعودي، ص 141.

(16) «تاريخ الرسل والملوك» الطبري، ج 4، ص 338.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2045
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 10 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24