• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الفقه وآيات الأحكام .
                    • الموضوع : معالم الحج و آفاقه في القرآن و مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) .

معالم الحج و آفاقه في القرآن و مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)

 السيد منذر الحكيم

‌‌‌تـحظي‌ فريضة الحج باهتمام المسلمين جميعا وتعدّ من الشعائر والعبادات التي يتفق علي وجـوب‌ أدائهـا‌ جـميع‌ المذاهب الإسلامية، كما تعبّر هذه الفريضة عن وحدة الأمة الإسلامية واستقلال كيانها . وهي‌ بعد ذلك كـلّه: رمز قوّتها وعظمة قدرتها واستمرار حيويتها .

ولم تستطع‌ أيدي العابثين أن تعطّل‌ هذه‌ العبادة العـظيمة بالرغم من سعيهم الحـثيث لإفـراغها من مضمونها ومحتواها الكبير .

ويعود ذلك كلّه لأسباب منها: الدور الفاعل لأهل‌بيت الوحي عليهم‌السلام بما فيهم سيد المرسلين، وأئمّة المسلمين من‌ أبناء الرسول العظيم، الذين تابعوا الرسول الكريم صلى الله عليه وآله في خُطاه الحكيمة والقـرآن العظيم في توجيهاته السديدة، فسلكوا سبيل الهدي بكلّ ما اُوتوا من حَولٍ وقوّة وحكمة حتي بينوا معالم‌ وتفاصيل‌ هذه العبادة المهمّة بشعائره المتنوّعة، وأرسَوا دعائمها تشريعا وتشويقا، وحَثّوا علي أدائها كـلّ مـن يرتبط بهم من قريب أو بعيد، وجسّدوا كلّ ما قالوا في سلوكهم الحي‌، ولم يكتفوا ببيان تاريخها العريق من لدن آدم عليه‌السلام إلي خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وفضائلها وآثارها الدنيوية المادية وأجرها الأخروي، وإنّما عكفوا عـلي بـيان فلسفتها شعيرة شعيرة، وعملاً‌ عملاً‌، ونَفَذوا إلي أعماقها؛ ليصوّروا عرفانها بالعمل قبل البيان، وبالجنان قبل اللسان .

لقد تميزت مدرسة أهل البيت في نظرتها إلي الحجّ وشعائره بمميزات أعطت الحجّ مضمونا خـاصّا‌، وشـكلاً‌ متميزا يشار من خلاله إلي‌ أتباعها‌ بالبنان‌، وهو يثير لدي المسلمين عامة أسئلة شتّي عن مدي البُعد المعنوي والسياسي المتميز لحجّهم عمّن سواهم، اقتداءً بأئمّة أهل‌ البيت‌ المعصومين‌ صلوات اللّه وسـلامه عـليهم أجـمعين .

ويمكن تلخيص‌ هذه‌ المميزات فـي عـدّة نـقاط:

الأولى: شدّة الاهتمام المتمثِّل بالقول والعمل معا .

الثانية: الاهتمام المتميز بالشكل‌ والمضمون‌ معا‌ .

الثالثة: عدم إغفال البُعدين السياسي والجهادي إلي جانب‌ البُعد العـبادي .

الرابـعة: تـعميق البُعد العبادي والعرفاني بشكل ملفت للنظر .

الخامسة: عـدم تـجاوز نصوص‌ ومقاصد‌ الكتاب‌ والسُنّة بالرغم من كثرة التقريع والتفصيل .

إنّ أهل بيت الرسول‌ الأمين‌ صلى الله عليه وآله وعترته المعصومين ـ الذين قـرنهم الرسـول صلى الله عليه وآله بمحكم التنزيل واعتبرهم عِدلاً للقرآن العظيم في حديث‌ الثقلين‌ الشـهير‌ وحديث السفينة وحديث النجوم وغيرها ممّا ورد في تفسير آيات الذكر الحكيم‌ التي‌ تشير‌ إلي أنهم أهل الذكر وولاة الأمر والحـافظون لحـدود اللّه ـ هـم الروّاد الصادقون الاُمناء‌ علي‌ شريعة‌ جدّهم ورسالته حيث عصمهم اللّه من الزلل وآمنهم مـن الفـتن، والمطهّرون الذين يتسنّي‌ لهم‌ تفسير الكتاب كما ينبغي، واقتفاء أثره اقتفاءً يجعلهم الاُسوة الحسنة بعد‌ رسـول‌ اللّه صلى الله عليه وآله والقدوة المثلي التي لا يطمع في إدراكها طامع .

ومن هنا كان من‌ الطـبيعي‌ جـدّا أن يـكون منهجهم في إرساء دعائم هذه الفريضة العظيمة وتعظيم شعائر اللّه‌ هو‌ منهج‌ القرآن المـجيد، وخـُطاهم إلي تـثبيت قواعدها تبعٌ لخُطاه .

والقرآن المجيد قد كثّف الإضاءَة‌ علي‌ بيت اللّه الحرام ومشاعر الحج العـظام، تـاريخا وتعظيما وفلسفةً وأحكاما وعِرفانا‌، فجعله‌ مركزا للتوحيد، وعتيقا من براثن الشرك، وقياما للنـاس، ومـباركا وهـدًي للعالمين، وأمنا‌ للناس‌، ومثابةً لهم، ومطهّرا ومحلاًّ خاصّا للطائفين حول محور الوحدانية الحقيقية‌ والعـاكفين‌ والركـّع السجود . . فهو التعبير الصادق عن إسلام الوجه للّه والتسليم لإرادته العليا، والمختبر‌ الكامل‌ للإنـسان الطـائع بـاتجاه الكمال اللائق به، والبوتقة التي تصهر شوائب الروح‌، وتمحو ما علق بها من أدران خلال‌ مختلف‌ مـراحل‌ الحـياة .

لقد كانت لسيرتهم الزاخرة بالعطاء‌ العلمي‌ والعَمَلي والعرفاني وكان لسعيهم الحثيث ـ لإرسـاء مـعالم الشـريعة وقواعدها المحكمة ـ الدور‌ الكبير‌ والأثر البالغ في تألّق الإسلام‌ والمسلمين‌ بشكل عام‌ وتجلية‌ عظمة‌ الشريعة الإسـلامية بـشكل خـاص، وتركيز‌ شعائر‌ الحج بشكل أخصّ حتي ورد عنهم عليهم‌السلام «أن الدين لا يزال قائما‌ مـا‌ قـامت الكعبة»، وأنّ ولاة الأمر مسؤولون‌ عن رعاية هذه الشعائر‌ في‌ كلّ الظروف التي تمرّ بها‌ الأمة‌ الإسـلامية، ويـنبغي أن لا يحول بينهم وبين إقامتها أي ضعف مالي، أو‌ أي خلل اقتصادي ينتاب النـاس‌ حـيث‌ تخصص‌ بعض ميزانية الدولة‌ الإسلامية؛‌ لإحياء هذه الشـعائر عـلي‌ مـرّ‌ الدهور والأحوال .

نعم هذه هي مدرسة أهـل البـيت عليهم‌السلام وهي تعطي صورة موجزة‌ وملخّصة‌ جدّا من معالم نظريتهم وثقافتهم الرّبانية‌ إليـ‌ الاسـلام ككل‌، وإلي هذا الركن الإسلامي‌ العـظيم بـشكل خاص .

الشـعائر الإلهـية:

جـاء في مختار الصحاح أنّ (الشعائر): هـي‌ كـلّ‌ ما جُعل علما لطاعة اللّه تعالي‌ . وهي‌ أعمال‌ الحج‌ أيضا، والمشاعر‌ هي‌ مـوضع المـناسك .

وشِعار القوم في الحرب علامتهُم ليـعرف بعضهم بعضا، وأسعر الهـدي إذا طـَعَنَ‌ سنامَه‌ الأيمنَ‌ حتّي يسيلَ مـنه دمـٌ ليعلَم أنّه هدي‌ .

ومن‌ هنا‌ فقد‌ عُرّف‌ الشِعار بأنه «ممارسة ـ كلامية أو غير كـلامية ـ تـصبغ شخصية الإنسان الممارِس، وتطبعها بـطابعٍ خـاص يـميزها عمّا سواها»(1).

فالشعائر الإلهـية هـي معالم الطاعة للّه‌ تـعالي، والتـي تتضمّن ممارستها أهدافا حقيقية هي أهداف الشريعة التي تقودها وتدعو إلي ممارستها، كما أنّها تـعطي للمـمارسين لها عنوانا يميزهم عَمّن سواهم .

وتـتجلّي هـذه النقاط بـوضوح‌ فـي‌ جـملةٍ من آيات الذكر الحـكيم، مثل قوله تعالي:

1 ـ ولكل أمّةٍ جعلنا منسكا ليذكروا اسمَ اللّه علي ما رزقهم من بهيمة الأنعام.(2)

2 ـ والبـُدنَ‌ جـعلناها‌ لكم من شعائر اللّه لكم فيها خير.(3)

3 ـ ذلك ومـن يـعظّم حـرمات اللّه فـهو خـيرٌ له عند ربّه.(4)

4 ـ ذلك ومـن يـعظّم شعائر‌ اللّه‌ فإنّها من تقوي القلوب. (5)

فالتقوي هو الهدف الذي تسعي الشريعة الإسلامية لتحقيقه من خلال العمل بـقوانينها، والشـعائر الإلهـية التي نصّت عليها آيات‌ الذكر‌ الحكيم هـي شـعائر الحـج‌ وهـي‌ مـن جـملة أركان العبادة الإسلامية، التي ينبغي للمسلمين احترامها وتعظيمها باعتبارها من «حُرُمات اللّه‌»، فهي من جملة القوانين التي تحمل طابع العبادة أوّلاً وتعطي للمسلمين معلَما من معالم‌ شخصيتهم‌ المـستقلّة ثانيا فهي تحمل بين جوانحها روحَ التسليم للّه، والشعور بالعزّة باللّه، والشعور بالاستقلال عن سائر الاُمم بشتي شرائعها ومذاهبها .

شعائر الحج في القرآن الكريم:

تتّضح‌ أهمية‌ الحج وشعائره‌ الإلهية في القـرآن الكـريم من خلال:

1 ـ المساحة التي استوعبتها آيات الحج في القرآن الكريم‌ .

2 ـ اسلوب الطرح واسلوب الدعوة إلي إقامتها .

3 ـ الاهتمام‌ البالغ بفلسفة إقامة هذه الشعائر .

4 ـ تقنين هذه الشعائر وبيان أحكامها بالتفصيل .

5 ـ ‌‌الاهتمام‌ بـبيان جـذورها التاريخية العريقة .

وإذا لاحظنا منهج أهل البيت عليهم‌السلام فيما يخص‌ إحياء‌ شعائر‌ الحجّ وقارنّاه بالمنهج القرآني وجدناه يحذو حذوه ويتمثّل خُطاه حذو القذّة بـالقذّة .

أمـا المساحة‌ الملفتة للنظر فهي تـتوزّع عـلي السور المكية والمدنية معا، ولا سيما إذا‌ لاحظنا كلّ ما يرتبط‌ بالحجّ‌ وتأريخه وشؤونه .

فمن السور المكية: سورة إبراهيم [الآيات 35 ـ 37]، والنمل [الآية 91] والقصص [الآية 67]، والعنكبوت [الآيـات 24 إلى 28] ومـطلع سورة البلد ومطلع سـورة‌ التـين وسورة قريش وسورة الفيل .

ومن السور المدنية: سورة البقرة [الآيات 125 ـ إلى 129 و142 إلى 152 و158 و189 و196 إلى 203] . وسورة آل عمران [الآيات 95‌ إلى‌ 97] وسورة المائدة [الآيات 2 و95 إلى 97]، وسورة الأنفال [الآيات 34 إلى 40] وسورة التوبة [الآيات 1 إلي 19 و28] وسورة الحجّ [الآيات 25 إلي 37]

وأمّا‌ اُسلوب‌ العرض فـهو اُسـلوب الحثّ والتحضيض والتأكيد والتعميم، فالخطاب فيه للناس كافة وليس للمؤمنين خاصة، قال تعالى:

1 ـ إنّ أوّل بيتٍ وُضع للناس لّلذي ببكة مباركا‌ وهدًي للعالَمين. (6)

2 ـ وللّه علي الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً. (7)

3 ـ وإذ جعلنا البيتَ مثابةً للنـاس وأمنا (8)

4 ـ جـعل اللّه‌ُ الكـعبة البيت‌ الحرام‌ قِياما‌ للناس. (9)

5 ـ وأذن‌ في‌ الناس‌ بالحج. (1)

وهناك أدوات أخرى للعموم استخدمها النص القرآني مثل قوله تعالى:

1 ـ ومـَن يعظّم حرمات‌ اللّه‌ فهو‌ خير له عند ربّه .

2 ـ ومن‌ يعظِّم‌ شعائر اللّه فـإنها مـن تـقوى القلوب .

ويتجلّى التأكيد في التكرار المتنوّع، واستعمال شتي أساليب التأكيد البلاغي في‌ الآيات‌ المباركة‌ .

ويأتي بيان حـرمة ‌ ‌البـيت وأمنه وحلول البركة فيه، واعتباره محطّة اشعاع وهداية للعالمين بما فيه من عـدّة عـوامل إيـجابية للحثّ والتحضيض والتشويق لقصده وحجّه وإحياء شعائره‌ .

هذا‌ فضلاً عن النص الدالّ علي الوجوب، والنصوص المـتضمّنة لبيان فلسفة‌ الحج‌، وفلسفة إقامة هذه الشعائر حيث إنّها تعدّ من أساليب الحـثّ والتشويق أيضا .

وتتكرّر فـي‌ آيـات‌ الحجّ‌ الإشارة والتصريح إلى فلسفة الحج في الإسلام، والحِكم التي تحققها ممارسة‌ شعائره‌ ومناسكه‌ . قال تعالى:

1 ـ ولكل أمةٍ جعلنا منسكا ليذكروا اسم اللّه على‌ ما‌ رزقهم‌ من بهيمة الأنعام.(1)

2 ـ والبدنَ جعَلناها لكم من شـعائر اللّه لكم فيها‌ خير.(12)‌

3 ـ لن ينالَ اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله‌ التقوى‌ منكم.(13)

4 ـ كذلك سخّرها لكم لتكبّروا اللّه على ما هداكم.(14)

5 ـ وأذِنّ‌ في الناس بالحجِّ . . . ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسمَ اللّه.(15)‌

6 ـ ذلك ومن يعظّم حُرماتِ اللّه فهو خـيرٌ له عـند ربّه.(16)

7 ـ ومن يعظّم شعائر اللّه فإنّها من تقوي القلوب لكم فيها منافع إلي‌ أجلٍ‌ مسمّى.(17)

8 ـ الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ . . . وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى(18)

إن تكثيف الإضاءة على فلسفة الحج، وحِكم ممارسة الشعائر المرتبطة‌ به‌، هـو أسـلوبٌ متميز في بناء الإنسان وتربيته وصياغة تصوّراته صياغةً تجمع بين طياتها روح التعبّد‌ والتعقّل‌ معا من دون أن يسلُبَ التعقُّلُ روحَ التعبّد من الإنسان العاقل، وإنّما‌ يتسامى بتقواه ليبلغ مرتبة أُولى الألباب، فـيتكامل‌ عـقلاً‌ ويتسامى روحا، وهو يمارس هذه الشعائر‌ بوعي‌ وجدٍّ واهتمام .

ويمكن تلخيص هذه الأهداف التي نصّ عليها الكتاب العزيز فيما‌ يلي‌:

1 ـ ذكر اللّه‌ وحده‌ في كلّ‌ حال‌ ومجال‌ وعلى كـلّ شـيء، واجـتناب رجس‌ الشرك‌ على كلّ المـستويات تـصوّرا واعـتقادا وتعلّقا وسلوكا .

2 ـ تنمية روح‌ التقوى‌ التي بها فلاح الانسان وفوزه على‌ أُسس التوحيد الخالص .

3 ـ الانتفاع من موسم الحج‌ وشعائره‌ علي شـتّي الأصـعدة: اجـتماعيا وسياسيا واقتصاديا فضلاً عن التكامل الثقافي في مـثل‌ هـذا‌ الموسم الفريد، والتسامي الروحي‌ والمعنوي‌ في‌ جميع لحظات هذا‌ الموسم‌ .

ويتفرّد القرآن الكريم‌ بأسلوبه‌ الخاصّ لبيان قوانينه وأحكامه بـيانا يـتناغم مـع منطق العقل ومنطق العاطفة، ويجمع بين‌ متطلّبات‌ العقل، متطلّبات الروح مـعا .

قال‌ تعالى:

1. وللّه‌ علي الناس حجّ البيت‌ من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإنّ اللّه غني عن العالمين.(19)

2. وإذ جعلنا‌ البـيت‌ مـثابةً للنـاس وأمنا واتخذوا من مقام‌ إبراهيم‌ مصلّي.(20)

فاللّه سبحانه ـ الذي‌ له المولوية المطلقة وله الخـلق وحـقّ النعمة علي جميع الناس ـ يجعل أداء هذا الواجب أداءً‌ لحقّه‌، والإعراض عنه كفرانا للنعم الإلهية وكفرا عمليا‌ بـالمنعم‌، ولا‌ يـكون‌ أداؤهـ‌ تلبية لهذا الحق لحاجةٍ منه تعالى إلي أعمال عباده، بل يعود نفعه إلي النـاس أنـفسهم . ومـثل هذا القانون الذي ينطلق تشريعه للناس من مصالح العباد‌ أنفسهم، ولا يكون للمشرِّع فيه أي غرض أو مـصلحة شـخصية، لا يـجد الانسان الطائع في أدائه ثقلاً وحرجا مهما كانت صعوبته..

ويأتي الاهتمام ببيان الجذور التاريخية العـريقة لهـذه‌ الشعائر‌ معلما من معالم المنهج القرآني؛ لإرساء قواعد هذه الفريضة في المجتمع الإسـلامي .

إن رفـع إبـراهيم وإسماعيل عليهماالسلام لقواعد البيت يشير إلي أن بيت اللّه الحرام قد سبق وضعه‌ للناس‌ عصر إبراهيم الخـليل عـليه‌السلام، والاهتمام ببيان دور إبراهيم عليه‌السلام وإسماعيل عليه‌السلام في تشييد دعائم هذا البيت العتيق وأمـره بـأن يـؤذن في الناس‌ بالحجّ‌ بعد تشييد دعائمه .

واستمرار‌ الناس‌ في إقامة شعائره كرمز من رموز الحـنيفية .. لَدليـل علي أهمية بيان الجذور التاريخية لهذه الفريضة المباركة، ومدي تأثير ذلك في إرسـاء‌ قـواعد‌ الحـركة التصحيحية والتكاملية، التي‌ خطاها القرآن الكريم باتجاه تعميق هذا التيار في المجتمع الإسلامي الفتي .

أهـل البـيت عـليهم‌السلام على خُطى القرآن الكريم

لم يتخطّ أهل البيت عليهم‌السلام هدى القرآن الكريم في سـيرتهم وسـنّتهم‌، التي هي تجسيد وامتداد لسنّة الرسول العظيم .

إنّ ما تضمّنته مصادر السيرة والتاريخ فيما يخصّ تـعامل أهـل بيت الوحي مع الحج في مجال العمل والتطبيق، لا يقلّ روعةً‌ وعظمةً‌ عـمّا تـضمّنته‌ كتب الحديث من نصوصهم الكثيرة حول الحـج ومـعالمه وفـلسفته وتأريخه، وشكله ومضمونه وترامي أبعاده وعمق‌ عـرفانه، وتـجلية الجانب العبادي فيه .

الحجّ في سيرة أهل‌ البيت‌ عليهم‌السلام‌ ونصوصهم

لقد تميز الحج فـي سـيرة أهل البيت عليهم‌السلام العملية، وتـميزت سـيرتهم في مـجال الاهـتمام بـالحجّ ‌‌حتي‌ ورد أنّ عبّادا البصري لقي الإمـام عـلي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في‌ طريق‌ مكة‌ فقال له: يا علي بـن الحـسين تركت الجهاد وصُعوبته، وأقبلت علي الحـجّ ولينه‌ إنّ اللّه عزّوجلّ يـقول: إن اللّه اشتري من المؤمنين أنفسهم وأمـوالهم بـأنّ‌ لهم الجنّة يقاتلون في‌ سبيل‌ اللّه ...؟!

فقال علي بن الحسين عليه‌السلام: أتمّ الآية. فـقال: التـائبون العابدون... الآية . فقال علي بـن الحـسين عـليه‌السلام: إذا رأينا هؤلاء الذيـن‌ هـذه صفتهم، فالجهاد معهم أفـضل مـن الحجج.(21) أو قال: إذا ظهر هؤلاء لم نؤثر علي الجهاد شيئا.(22)

وقد حجّ الإمام الحسن السبط خمسا وعشرين حـجّة مـاشيا علي‌ قدميه‌، وكانت النجائب تقاد بـين يـديه . وسُئل عـن كـثرة حـجّه ماشيا فأجاب: إنّي أسـتحي من ربّي أن لا أمضي إلي بيته ماشيا على قدمي.(23)

ونقل مثل هذا‌ عن‌ الإمام أبي عبداللّه الحسين عـليه‌السلام أيضا.(24)

وأمـّا زين العابدين (علي بن الحسين عـليه‌السلام ) فـقد كـان مـلازما للحـج منذ صغره، وكـان يـحجّ ماشيا وراكبا، وكان يدعو‌ إلى‌ تكريم الحجّاج إذا قدموا من بيت اللّه الحرام قائلاً: استبشروا بالحجّاج إذا قدموا وصـافحوهم وعـظّموهم، تـشاركوهم في الأجر قبل أن تخالطهم الذنوي.(25)

وكان إذا أراد السفر‌ إليـ‌ بـيت‌ اللّه الحـرام احـتفّ بـه القـرّاء‌ والعلماء‌، حيث إنهم كانوا يكتسبون منه العلم والعرفان والحِكم والآداب حتي قال سعيد بن المسيب: إنّ القرّاء كانوا لا يخرجون إلي‌ مكة‌ حتي‌ يخرج علي بن الحسين، فخرج وخـرجنا‌ معه‌ ألف راكب.(26)

وكان يهتم عليه‌السلام بسنن الحج بشكل كبير، ويقبل علي اللّه تعالي بكلّ إخلاص وخشية حتي‌ إنه‌ كان‌ إذا أراد التلبية عند عقد الإحرام اصفر لونه واضطرب، ولم يستطع أن يلبّي، فقيل له: مالَك لا تُلبي؟ فـيجيب وقـد أخذته الرعدة والفزع من اللّه‌: أخشي‌ أن أقول: لبيك فيقال لي: لا لبّيك .

وكان‌ إذا‌ لبّي غشي عليه من كثرة خشيته من اللّه، وسقط من راحلته، ولاتزال تعتريه هذه‌ الحالة‌ حتي‌ يقضي حجّه(27)

وهناك ظـاهرتان مـهمّتان في سيرة أهل البيت عليهم‌السلام في‌ حجّهم‌:

الاُولى: ظاهرة كثرة الدعاء وشدّة الإقبال علي اللّه تعالي بالأدعية الطويلة الزاخرة بالمفاهيم‌ التربوية‌ والمعرفية‌ العالية مثل دعـاء الإمـام الحسين عليه‌السلام المعروف بدعاء عـرفة، ولعـلّه أطول دعاء من‌ نوعه‌، ويناظره دعاء الإمام زين العابدين في الصحيفة السجّادية الخاص بيوم عرفة أيضا‌ .

قال‌ بشر وبشير الأسديان: كنّا مع الحسين بـن عـلي عليهماالسلام عشية عرفة فـخرج عـليه‌السلام‌ من‌ فسطاطه متذللاً خاشعا، فجعل يمشي هونا هونا حتي وقف هو وجماعة من‌ أهل‌ بيته‌ وولده ومواليه في ميسرة الجبل مستقبل البيت، ثم رفع يديه تلقاء وجهه كاستطعام المسكين‌ وقال‌:

الحـمد للّه الذي ليـس لقضائه دافع، ولا لعطائه مانع، ولا‌ كصنعه‌ صنع صانع، وهو الجواد الواسع... .

وممّا قال بعد أن دعا طويلاً‌ وكانت‌ دموعه‌ قد جرت علي سحنات وجهه الشريف:

اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك‌، واسعدني بـتقواك ولا تـشقني بمعصيتك وخـر لي في قضائك وبارك لي في قدرك، حتي لا‌ أحبّ‌ تعجيل ما أخّرت ولا تأخير ما عجّلت، اللهم اجعل غناي فـي‌ نفسي‌ واليقين في قلبي والاخلاص في عملي...

الثانية: ظاهرة العرفان العـميق

لهـذه‌ الفـريضة‌، وتجاوز مظاهرها باتجاه باطنها، والغور في أعماقها، فلكلّ عمل ظاهر‌ وباطن‌، ولكل شعيرة مظهر وواقع‌، وبالرغم مـن‌ ‌ ‌أنـ‌ الاهتمام‌ بمظاهر الحجّ يحقّق أهدافا جُلّي، وقد‌ دعا الأئمّة عليهم‌السلام المسلمين إلي الاهتمام بـهذه المـظاهر، ولكـن الأئمّة أنفسهم‌ لم‌ يقفوا عند حدود المظهر، بل‌ كانوا لا يعتبرون الحجّ‌ حجّا‌ إلاّ إذا نفذ الانسان إليـ‌ أعماقه‌ . وهناك نموذج ممّا أثر عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام في هذا الصـدد‌، وذلك في حديثه مع الشـبلي‌ بـعد‌ أن‌ حجّ والتقي بالإمام‌ عليه‌السلام.(28)‌

الهوامش:

______________________________

(1) السيد محمد باقر الحكيم: الفكر الإسلامي، العدد 11، ص10 (دور الشعار‌ في‌ النظرية الاسلامية).

(2) الحج: 34‌ .

 (3) الحج‌: 36 .

(4) الحج‌: 30 .

(5) الحج: 32 .

(6) آل عمران: 96

 (7) آل عمران:‌ 97

 (8) البقرة: 125

 (9) المائدة: 97

(10) الحج‌: 27‌ .

 (11) الحج‌: 34 .

(12) الحج: 36 .

 (13) الحج: 37 .

(14) الحـج: 37‌ .

(15) الحج: 27 .

 (16) الحج: 30‌ .

 (17) الحج‌: 32 .

(18) البقرة: 197 .

 (19) آل عمران: 97 .

(20) البقرة: 125 .

(21) وسائل الشيعة 11: 32 الحديث 3 و 6 .

 (22) المصدر نفسه .

(23) حياة الإمام الحسن بن علي 1: 327 ـ 328 .

 (24) حياة الإمام الحسين بن علي 1: 134 .

(25) حياة‌ الإمام‌ زين العابدين عليه‌السلام 1: 226 .

(26) المصدر 1: 227 .

(27) المصدر 1: 228 .

(28) راجع العدد الرابـع مـن مجلة ميقات الحج، للاطلاع‌ علي‌ تفصيل الحديث .

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2014
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 09 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24