• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : مؤلفات الدار ونتاجاتها .
              • القسم الفرعي : الترجمة .
                    • الموضوع : أبعاد الحج (3) .

أبعاد الحج (3)

 بقلم: ناصر شکريان

ترجمة بتصرّف: عباس الجعفري / القسم الثقافي للدار

قد تحدّثنا في القسم الثاني من هذا البحث وبشكل مفصّل عن البُعد السياسي للحج. سنتحدّث في القسم الثالث عن بُعد آخر مهمّ؛ وهو:

البُعد الاجتماعي للحج

يعدُّ الحج الفريضة الوحيدة التي يدعو الله سبحانه وتعالى‌ فيها عباده المسلمين من شتّى أنحاء العالم أن يجتمعوا في نقطة معيّنة وفي أيّام معلومات، ولا يحقّ لهم أن يؤدّوا هذه الأعمال في مكان وفي زمان غير الذي فرض عليهم: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة: 197].

بالرغم من المحاولات التي تسعى لأن تكون أعمال الحج فريضة فردية، إلا أنّ الآيات والروايات يُفهم منها أنّ الحج مركز لاجتماع المسلمين،‌ وإذا كان الهدف هو أداء المناسك والطواف حول الكعبة و... فقط، فلماذا لا يجوز الإتيان بهذه الأعمال طوال السنة؟ بل لابدّ من الاتيان بها في فترة زمنية‌ خاصّة ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج: 28].

من المميّزات الخاصة بالحج هو الخطاب العام للناس؛ كما في الآيات التالية:

﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج: 27ـ28].

﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 96ـ97].

﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: 125]، ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 199].

﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة: 97].

هذه الآيات لها دلالة‌ واضحة‌ على‌ البُعد الاجتماعي للحج؛‌ لأنّه إذا كان الحج مسألة‌ فردية، فما هو موجب التركيز والتأكيد المستمرّ على كلمة «الناس»؟ إضافة إلى ذلك، ما هو الموجب من حثّ كلّ مَن أراد الحج من المسلمين من أقاصي البلاد وقريبها المجيء في زمان ومكان محدَّدين لتأدية هذه الفريضة‌ الإلهية بشكل جماعي؟‌ وإن كانت ثمرة‌ الحج ثمرة فردية، فلماذا ـ إذاً ـ يقول القرآن: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: 125]، ويقول أيضاً: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 199]؟ تقول هذه الآية إنّ الحج مركز لاتحاد المسلمين ولا يحقّ لأيّ فرد أن ينأى بنفسه ويبتعد عن الجماعة،‌ لأنّ الحج إضافة إلى‌ كونه فريضة فردية، فهو أيضاً فريضة جماعية وتعود فوائده إلى جميع المسلمين.

القدر المتيقّن أنّ المقصود من «قياماً للناس» في الآية: ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة: 97] هو البُعد الاجتماعي؛ لأنه يستظهر من إطلاق كلمة‌ «قياماً» ومعناها ومناسبتها مع «للناس» أنّ الكعبة والحج هما سبب في إصلاح الأمور الدينية والدنيوية للناس «جعلها الله لدينهم ومعايشهم» [بحار الأنوار، ج86،‌ ص 65].

ومن ناحية أخرى؛ فكما أنّ الهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو «قيام الناس بالقسط» ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25]، فإنّ الحج يُعدّ أفضل وسيلة لتحقيق هذا الهدف الذي هو منفعة اجتماعية أخرى للحج.

الخلاصة: إنّ قوام المجتمع البشري هو بإقامة العدل والقسط بين الناس وإصلاح الأمور الدينية والدنيوية للناس، ولا تتحقّق هذه الأمور إلا بإتيان مراسم الحج بالشكل الصحيح.‌ وفي المقابل، إنّ انهيار المجتمع البشري وانتشار الظلم وفساد دين الناس ودنياهم رهين بتعطيل مناسك الحج، ‌لذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «لا تتركوا حج بيت ربكم فتهلكوا» [بحار الأنوار،‌ ج 96،‌ ص 19]. إذاً، فإحياء مناسك الحج الإبراهيمي له تأثير عميق في المجتمع، وهو في الحقيقة‌ سبب لبقاء أصل الدين، وفي التالي توقّف بقاء المتديّنين على بقاء الكعبة وشموخها «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة» [وسائل الشيعة،‌ ج 11، ص 21].

المنافع والآثار الاجتماعية للحج

بما أنّ الحج مركز لاجتماع المسلمين واتحادهم، فإنّ فيه منافع وآثاراً اجتماعية كثيرة؛ نُشير إلى‌ بعضها:

أحد أبرز هذه المنافع لهذا الاجتماع العظيم هو إيجاد التفاهم وتعزيز الأخوّة ورفع الخلافات الدينية بين المسلمين،‌ وذلك بالتدقيق في الآيات كقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46]، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، أو في الروايات مثل: «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد» [الكافي،‌ ج2، ‌ص165]، وتخصيص باب مستقل باسم أخوة المؤمنين بعضهم لبعض، وأحاديث كثيرة أخرى أيضاً.

المنفعة الاجتماعية‌ الأخرى للحج هي «المساوات الاجتماعية‌ الحقيقية»، حيث إنّ جميع الزائرين يتمتعون بالمستوى الأقل من أمور الحياة ويجرّبون حياة اقتصادية بعيدة نوعاً ما عن الطبقية؛ إذ يعيشون حياة قريبة بعضهم من بعض في المأكل والمشرب والملبس،‌ وكذلك إلغاء الامتيازات العرقية والطائفية و...، وأيضاً الشخصية؛ كالمال والمقام والنسب والجمال و...

إنّ هذا السلوك الجماعي في الحج هو انعكاس عن العدالة‌ الاجتماعية الإسلامية التي من مصاديقها: إعانة الفقراء،‌ ودفع الحقوق الشرعية،‌ وتطهير الأموال وأداء الديون؛ لأنّ أوّل مرحلة من مراحل الحج هو إبراء الذمة المالية من الله ومن عباده، وهو نوع من أنواع توزيع الثروة الاجتماعية المبنيّة على العدالة.

المنفعة الاجتماعية الأخرى للحج هو «الأمن الاجتماعي»، ففي طوال أيّام موسم الحج لا يحقّ لأي شخص أن يتعرّض حتى للحيوانات فضلاً عن الإنسان، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى‌ في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران: 97]، ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة: 125]. إنّ وجود مجتمع آمن ومستقرّ وبعيد عن جميع أنواع الانتهاكات، هو ما كان ولا زال يتطلّع إليه جميع العلماء والمصلحين والمنظّمات العالمية ويأملونه،‌ إلا أنهم لم يصلوا إلى نتيجة‌ لحد الآن، لكن الله سبحانه وتعالى وبحكمته المتعالية وقبل قرون، كان قد جعل مكاناً معيّناً على هذه الأرض لهذا الغرض ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67].

ومن المنافع الاجتماعية الأخرى للحج هي تعارف المسلمين الذين قدموا من جميع أنحاء العالم بعضهم مع بعض،‌ يقول الإمام الصادق (ع): «... فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا» [وسائل الشيعة، ج 11،‌ ص 14]. وفي ظل التعرّف على‌ الآخرين يتمّ التبادل والتلاقح بين الأفكار والآراء، وكل فئة من الناس تأتي من أيّ بلد تحمل معها انجازاتها العلمية ومستجدّاتها الثقافية والاقتصادية، وينقلونها إلى إخوانهم في الدين من باقي الدول الأخرى،‌ ومن خلال معطيات هذا الأمر يتعرّفوا على‌ نقاط الضعف والقوّة فيهم ويحاولوا إعانة بعضهم في سيرهم نحو الرقي والكمال.

المنفعة الاجتماعية الأخرى للحج هي تنظيم السلوك الاجتماعي عند النساء والرجال؛ فيتعلّموا في أيّام الحج كيف يكونون حذرين في تعاطيهم مع الآخرين، وعدم الظهور في الملأ العام بشكل مثير،‌ بل عليهم الابتعاد عن أيّ نوع من أنواع الزينة وأن يلبسوا ملابس بسيطة وعادية،‌ بل عليهم ان يتجنّبوا حتى اللّذّة الجنسية المحلَّلة،‌ كي يتدرّبوا على هذه الأمور ويعملوا بها في حياتهم الاجتماعية ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] والمقصود من «الرفث» كل أنواع اللذّة الجنسية في أيّام الإحرام. إذاً، يتمّ التمرّس على «العفاف الاجتماعي» في موسم الحج حتى يصلح تعامل النساء مع الرجال في غير أيّام الحج.

إنّ من الآثار الاجتماعية الأخرى للحج هو التمرّس على النظم والانضباط الاجتماعي؛‌ لأنّ الجميع طيلة موسم الحج يسيرون وفق نظام وترتيب خاص،‌ حيث يكون البدء من وقت معيّن ومن مكان محدّد وبلباس معيّن وطواف وسعي ووقف ورمي وهدي و... لابد أن تكون وفق كيفية معيّنة ونظام خاص،‌ حتى‌ يتمرّس الإنسان على‌ النظم والانضباط الاجتماعي ويستخدمه في حياته الاجتماعية.

وفي النتيجة يكون الاجتماع العظيم للحج نموذجاً عملياً للمجتمع الإسلامي الذي تشكّل في ظل الإيمان، وهو عبارة عن صورة مصغّرة عن مجتمع حيّ تكون فيه علاقات‌ الناس متأثّرة بالإيمان والمحبّة، وتضمحل في تلك البيئة الروحانية الأنانية والسلوك السيّئ، وتكون بيئة يعمّها الاستقرار والصفاء وتراعى فيها الفضائل الأخلاقية والحقوق الاجتماعية للآخرين.

فوائد السلوك الجماعي في الحج

لا يوجد أدنى شكّ أنّ الحج مظهر من مظاهر السلوك الجماعي، وهذا السلوك الجماعي هو قضية عالمية ولا تختصّ بمنطقة معيّنة أو بزمان خاص أو بفئة دون أخرى، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [البقرة: 27].

إنّ هذا السلوك الجماعي الذي يصدر من أشخاص مختلفين جاؤوا من مناطق مختلفة من العالم، له فوائد كثيرة؛ منها: أوّلاً أنها تُعدّ تمهيداً لاستقرار دولة عالمية واحدة،‌ وهذا السلوك الجماعي يوحي بأنّ الإسلام دين عالمي. والدليل على ذلك هو هذا الحضور العام؛ حيث يأتي المسلمون من مختلف القارّات باختلافاتهم العديدة ويجتمعون في نقطة معيَّنة ويتّبعون إلهاً واحداً ونبيّاً واحداً وكتاباً واحداً وقبلة واحدة وهدفاً واحداً،‌ ويُستشفّ من هذا التفاهم أنّ الحكومة العالمية الواحدة ممكنة التحقّق، وفي الحقيقة إنّ الحج نموذج عملي لهذه الحكومة العالمية الواحدة.

ومن ناحية أخرى: لا يوجد أدنى‌ شك أنّ السلوك الجماعي يؤدّي إلى تغيير ملموس في الاجتماع، وبما أنّ السلوك الجماعي في الحج هو أعلى مراتب التعامل الاجتماعي،‌ إذاً، إنّ هذا السلوك هو في المرتبة العليا؛ لأنّ:

أوّلاً: إنّ تغيير المجتمع فيه مأمول، وثابت، وعميق، وراسخ.

ثانياً: بعد أداء‌ مناسك الحج، يحدث تغييران في الإنسان: أحدهما تغيير روحي وتطهير نفسي، والآخر تغيير اجتماعي.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2012
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 09 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19