• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : مؤلفات الدار ونتاجاتها .
              • القسم الفرعي : الترجمة .
                    • الموضوع : أبعاد الحج (2) .

أبعاد الحج (2)

 بقلم: ناصر شکريان

ترجمة بتصرّف: عباس الجعفري/ القسم الثقافي للدار

كنّا قد تحدّثنا في القسم الأوّل من هذا البحث وبشكل مفصّل عن بُعدين من أبعاد الحج المهمّة، وهما: البُعد المعنوي والعرفاني، والبُعد الثقافي. سنتحدّث في القسم الثاني عن بُعد مهمّ آخر، وهو:

البُعد السياسي للحج

يُعدّ الحج من أجلى مصاديق الأعمال العبادية، إلا أنّه يختلف كثيراً عن سائر العبادات؛ لأنّ الحج ليس مجرّد عبادة فردية محضة بعيدة عن المجتمع، بل له علاقة وثيقة مع الأمور الإسلامية العامة، وفي الواقع يُعدّ الحج نقطة التقاء العبادة مع السياسة، ومركز اتصال العبودية لله مع سائر المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لذلك يقول السيّد الإمام الخميني إنّ أهمية البُعد السياسي للحج لا يقل أهمية عن بعده العبادي؛ لأنّ البُعد السياسي إضافة إلى كونه سياسياً، فإنه عبادي أيضاً.

ونظراً لأهمية هذه القضية نأمل في هذا القسم ومن خلال الاستعانة بالآيات الشريفة والروايات أن نسلّط الضوء على البُعد السياسي للحج وذلك لمظلومية ومهجورية هذا البُعد ومن أجل التصدّي لإعلام أعداء الإسلام ومؤامراته، وبيان الصورة الحقيقية للحج.

1. منافع الحج

قال تعالى في خصوص منافع الحج: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ [سورة الحج، 27ـ 28]. ما نريد الوقوف عليه في هذه الآية الكريمة هو جملة ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾. وبعد التدقيق يتّضح ما يلي:

أ. يقول السيّد الطباطبائي (رحمه الله): «قوله تعالى: ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات.. الخ، اللام للتعليل أو الغاية والجار والمجرور متعلق بقوله: «يأتوك» والمعنى يأتوك لشهادة منافع لهم أو يأتوك فيشهدوا منافع لهم وقد أطلقت المنافع ولم تتقيد بالدنيوية أو الأخروية» [تفسير الميزان، ج 14، ص 169].

ب. يقول الآلوسي في تفسيره: «... فتنكيرها وإن لم يكن فيها تنوين للتعظيم والتكثير. ويجوز أن يكون للتنويع أي نوعاً من المنافع الدينية والدنيوية، وتعميم المنافع بحيث تشمل النوعين» [تفسير الآلوسي، ج 17، ص 145].

ج. وقال الزمخشري: «نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة، دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات» [الكشاف، ج 3، ص 11].

والظاهر أنّ هناك منافع أخرى جاءت في آيات؛ منها قوله تعالى: ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سورة المائدة: 97]، وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [سورة البقرة: 125]، وقوله سبحانه: ﴿انَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [سورة آل عمران: 96], وغيرها. وهي من المصاديق البارزة للمنافع في الآية المذكورة.

رُوي عن الإمام الرضا (عليه السلام) في بيانه لمعنى المنافع أنّه قال: «... وما في ذلك لجميع الخلق من المنافع... ومنفعة من في المشرق والمغرب ومن في البر والبحر، وممن يحج وممن لا يحج» [بحار الأنوار، ج 96، ص 32].

يتّضح من خلال شمولية معنى المنافع التي تشمل حجاج بيت الله الحرام بل حتى غيرهم، بأنّ المراد من المنافع ليس المنافع الفردية بل المقصود المنافع العامة، لذا قدّمت على المنافع الفردية التي هي في ترتيب الآية ﴿يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ﴾.

وإذا تردّد شخص فيما ذكرنا، فنقول إنّ كلمة (منافع) جاءت مطلقة وبدون أيّ قيد، فهي تشمل جميع أنواع المنافع، وليس لأحد أن يحدّها بمعنى خاص بلا دليل أو قرينة، لذا فإنّ أغلب المفسّرين ـ سواء الخاصة منهم أو العامّة ـ حملوها على الإطلاق، وقالوا إنّ المراد من المنافع هو المنافع الدينية والدنيوية [من مفسّري العامّة: ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان؛ الفخر الرازي، في تفسيره الكبير؛ الزمخشري في تفسيره الكشاف؛ الآلوسي في تفسيره روح لمعاني؛ السيد قطب في تفسيره في ظلال القران]، كذلك رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال عندما سأله السائل عن المنافع: «إني سمعت الله عز وجل يقول: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ . فقلت: منافع الدنيا أو منافع الآخرة؟ فقال: الكل». [تفسير نور الثقلين، ج3، ص488].

الشاهد القطعي الآخر هو تمسّك الإمام الرضا بجملة ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾، وذكره مجموعة من منافع الحج؛ من جملتها: «علة الحج الوفادة إلى الله عز وجل... وقضاء حوائج أهل الأطراف والمواضع الممكن لهم الاجتماع فيها كذلك ليشهدوا منافع لهم». [بحار الانوار، ج 96، ص 32].

إذن، إنّ الله تعالى قد كلّف إبراهيم الخليل (عليه السلام) أن يدعو المؤمنين، القريب منهم والبعيد، للاجتماع في زمان خاص ومكان معيَّن ويشهدوا منافعهم العظيمة، ويتعلّموا كيف يكونوا ـ على تشتّتهم ـ قوّة واحدة وعظيمة يمكن من خلالها حل جميع المشاكل وإعزاز المؤمنين وإرهاب الكافرين وإبطال مؤامراتهم المشؤومة.

2. الحج، عنصر قيام وثبات المسلمين

جعل الله الكعبة المشرَّفة بيتاً مقدَّساً ووسيلةً لتنظيم أمور الناس، لهذا يقول سبحانه: ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ [سورة المائدة: 97].

يقول الراغب الاصفهاني في الآية الكريمة: «أي: قِوَاماً لهم يقوم به معاشهم ومعادهم» [مفردات الراغب، ص691].

وقال بعض المفسّرين أيضاً في بيانهم لمعنى القيام: «قياماً للناس أصله قوام لأنه من قام يقوم، وهو ما يستقيم به الأمر ويصلح» [تفسير الرازي، ج 13، ص100].

فنظراً لما تقدّم ذكره، والمفهوم الشامل للحج، وأيضاً من خلال التمسّك بإطلاق «قياماً للناس»، يظهر أنّ المسلمين يمكنهم اللّجوء إلى هذا البيت المقدَّس وما يصدر من صاحب هذا البيت الشريف أن يقوموا بجميع أعمالهم الفردية والاجتماعية والمادية والمعنوية والسياسية والاقتصادية التي تتعلّق بالمجتمع، ولا يحقّ لأيّ أحد أن يحصر هذا المفهوم الشامل في المصالح الفردية بدون أيّ دليل وقرينة؛ لأنّ الدليل الموجود هو خلاف هذا، ولأنّ الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسيره لهذه الآية ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ يقول: «جعلها الله لدينهم ومعايشهم» [تفسير نور الثقلين، ج1، ص 680]؛ وكذلك أغلب مفسّري العامّة والخاصّة قد فسّروا «قياماً للناس» بمعناها الواسع الشامل [من مفسّري العامة أمثال الطبري في تفسيره جامع البيان وفي ذيل ‌الآية يقول: «جعلها معالم لدينهم ومصالح أمورهم...» وكذلك رشيد رضا، في تفسيره المنار، ج 7، ص 118].

إذا كان هدف الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وبحسب ما يقوله القرآن الكريم هو إقامة العدل والقسط بين الناس ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]، فإنّ موسم الحج باعتباره أفضل أداة للتجلّي الحقيقي والعيني للقسط والمساوات لابدّ أن يستغل، وإذا ما أردنا أن يبقى المجتمع البشري تحت ظلّ هذه الكعبة،‌ بل إذا ما أردنا أن يبقى الدين شامخاً فهذا كلّه يكون بقوام الكعبة، لذلك يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في رواية: «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة» [الكافي، ج 4،‌ ص271]. فما دامت الكعبة قائمة فالدين قائم، وفي ظل حياة الدين تكون حياة البشر‌، لذلك جاء في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا تتركوا حج بيت ربكم فتهلكوا» [بحار الأنوار،‌ج 96، ص 19].‌ فإن أردنا دعوة الناس إلى القيام بوجه الظلم، فإنّ موسم الحج هو أنسب مكان لذلك، كما حدث للإمام الحسين (عليه السلام) الذي كان بداية انطلاقة ثورته الخالدة من الكعبة المشرّفة،‌ وكذلك الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) الذي يبدأ قيامه من الكعبة المكرّمة، وهكذا بالنسبة للموروث الذي وصل إلينا من نبي الله إبراهيم الخليل (عليه السلام) المتمثّل بالقيام بوجه الظالمين،‌ إذاً الكعبة محلّ للقيام والانتفاضة والحركة، لا الجمود والسكون.

وبما أنّ هذا المكان بحاجة إلى‌ الأمان ليتمكّن المظلومون في جميع أنحاء العالم من الاجتماع فيه وإيصال معاناتهم إلى‌ أسماع جميع مسلمي العالم لإيجاد‌ الحلول المناسبة، فإنّ الله سبحانه وتعالى جعل هذا البيت مكاناً آمناً، فقال في كتابه الكريم: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ [سورة البقرة: 125].

ولا يوجد أدنى‌ شك بأنّ المجتمع البشري عند حدوث الخلافات والتجاوزات، بحاجة إلى مثل هكذا ملجأ، كما هو الحال بالنسبة للأنظمة‌ الوضعية، حيث اضطرّ البشر المتمدّن في المجتمع الحديث إلى تأسيس مجامع دولية للجوء إليها عند الحاجة، إلا أنّ الله سبحانه وتعالى‌ وبحسب حكمته المتعالية ومنذ خلق الخلق، جعل الكعبة أماناً وملجأً للعالمين،‌ يلجأ إليه الناس عند الضرورة، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى‌ في الآية مورد البحث ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 97].

وإذا ما شك أحد في دلالة الآية على‌ البُعد السياسي، فلا يمكنه أن يشك في عمل الإمام علي (عليه السلام) الممثّل الرسمي للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في السنة التاسعة للهجرة في موسم الحج الذي كان سياسياً مئة في المئة،‌ حيث جاء في الخبر المتواتر والمتّفق عليه بين الفريقين أنّ الإمام علياً (عليه السلام) قد كُلّف من قبل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بقراءة آيات من سورة البراءة في موسم الحج.

النتيجة: إنه إذا كان قوام الدين ودنيا الناس يتوقّفان على‌ الكعبة وأداء الحج بالشكل الحقيقي،‌ فلابدّ من الحفاظ على أهمية مفهوم «قياماً للناس» بتمام أبعاده، لأنّه في التالي سيكون سبباً في بقاء الدين وأهله.

3. الحج والبراءة من المشركين

 ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: 1ـ3].

قبل الدخول في البحث، نورد ملاحظات تظهر فيها أهمية البحث:

1. بما أنّ سورة التوبة بدأت بدون بسملة، فإن المفسّرين ذكروا وجوهاً عديدة لذلك، منها ما ذكره المرحوم الطبرسي نقلاً عن رواية يرويها عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه قال: «أنه لم ينزل بسم الله الرحمن الرحيم على رأس سورة براءة، لأن بسم الله للأمان والرحمة، ونزلت براءة لرفع الأمان بالسيف» [مجمع البيان، ج 5، ‌ص 6].

2. البراءة تعني لغةً انقطاع العصمة.

3. أي: هذه براءة، والتنوين للتفخيم وابتدائية كما يؤذن به مقابلتها بـ (إلى) المتعلقة بمحذوف وقع صفة للخبر، لفساد تعلّقه به؛ أي: واصلة من الله، وقدّروه بذلك دون حاصله لتقليل التقدير لأنه يتعلق به الآتي أيضاً، وجوز أن تكون مبتدأ لتخصيصها بصفتها [تفسير الآولسي، ج 10، ‌ص42]

4. إنّما نسبت البراءة إلى الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) مع شمولها للمسلمين في اشتراكهم في حكمها ووجوب العمل بموجبها وعلقت المعاهدة بالمسلمين خاصة مع كونها بإذن الله تعالى واتفاق الرسول عليه الصلاة والسلام للإنباء عن تنجزها وتحتمها من غير توقف على رأي المخاطبين لأنها عبارة عن إنهاء حكم الأمان ورفع الخطر المترتب على العمل، السابق عن التعرض للكفرة وذلك منوط بجانب الله تعالى من غير توقف على شيء أصلاً، واشتراك المسلمين إنما هو على طريق الامتثال لا غير، وأما المعاهدة فحيث كانت عقداً كسائر العقود الشرعية لا تتحصل ولا تترتب عليها الأحكام إلا بمباشرة المتعاقدين على وجه لا يتصور صدوره منه تعالى وإنما الصادر عنه سبحانه الإذن في ذلك وإنما المباشر له المسلمون، ولا يخفى أن البراءة إنما تتعلق بالعهد لا بالإذن فيه فنسبت كل واحدة منهما إلى من هو أصل فيها، على أن في ذلك تفخيماً لشأن البراءة وتهويلاً لأمرها وتسجيلاً على الكفرة بغاية الذل والهوان ونهاية الخزي والخذلان. [انظر: تفسير الآولسي، ج10، ‌ص42]

5. في بيان المراد من يوم الحج الأكبر، هناك ثلاثة أقوال:

أ. يوم النحر؛ يوم عيد الأضحى المبارك

ب. يوم عرفة

ج. جميع أيام الحج، كما يُقال: يوم الجمل ويوم صفين...، ويُراد به الحين والزمان [تفسير مجمع البيان،‌ ج 5،‌ ص 12]. والمراد هنا: من يوم الحج الأكبر هو كل فترة الحج. ما يستشف من الشواهد التالية، يتّضح بأنّ المراد من الحج الأكبر هو العيد الأضحى لأنّه:

أوّلاً: يُستفاد من كثير من الروايات التي نقلت عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) وأهل العامة بأنّ المقصود من ذلك اليوم هو يوم العيد الأضحى المبارك، يعني يوم النحر، فعن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن يوم الحج الأكبر؟ فقال: هو يوم النحر. [تفسير نور الثقلين،‌ ج 2،‌ ص 185]. أيضاً عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الحج الأكبر يوم الأضحى. [تفسير نور الثقلين،‌ ج 2،‌ ص 185]. وعن فضيل بن عياض عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الحج الأكبر؟ فقال: أعندك فيه شيء؟ فقلت: نعم كان ابن عباس يقول: الحج الأكبر يوم عرفة، يعني إنه من أدرك يوم عرفة إلى طلوع الشمس (الفجر خ ل) من يوم النحر فقد أدرك الحج، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج فجعل ليلة عرفة لما قبلها ولما بعدها. والدليل على ذلك أنّ من أدرك ليلة النحر إلى طلوع الشمس، فقد أدرك الحج وأجزأ عنه من عرفة. فقال أبو عبد الله: قال أمير المؤمنين عليه السلام: الحج الأكبر يوم النحر [تفسير نور الثقلين،‌ ج 2،‌ ص 185].

إضافة إلى الروايات التي ذكرناها،‌ هناك روايات كثيرة نقلها أهل السنّة تؤيّد هذا الأمر [راجع: الدر المنثور لجلال الدين السيوطي،‌ ج 4،‌ ص127ـ 128].

ثانياً: ما جاء عن أبي عبد الله حيث قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الحج الأكبر يوم النحر، واحتج بقول الله: عز وجل: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُر﴾، فهي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من شهر ربيع الآخر، ولو كان الحج الأكبر يوم عرفة لكان أربعة أشهر ويوماً. [تفسير نور الثقلين،‌ ج 2،‌ ص 185].

ثالثاً: بما أنّ في يوم عيد الأضحى المبارك الحاج ينتهى من أغلب أعمال الحج لذلك يمكننا أن نطلق عليه يوم الحج،‌ بخلاف يوم عرفة.

رابعاً: أغلب المفسّرين من الفريقين (العامة والخاصة) يعتقدون بأن المراد من الحج الأكبر هو عيد الأضحى المبارك. [راجع: الميزان،‌ ج 9،‌ ص 149؛ المنار، ج 10،‌ص 169؛ روح المعاني، ج 10،‌ ص 46].

ملاحظة

التركيز والاهتمام على يوم الحج الأكبر ـ سواء كان يوم الأضحى أو يوم عرفة ـ يثبت أن الإعلان عن البراءة من المشركين يجب أن يقام في يوم يجتمع فيه جميع الناس حتى يتمّ بأفضل وجه، ويلقي الرعب والخوف في قلوب الأعداء، ومن جهة أخرى يبيّن لجميع المسلمين أنّ الله ورسوله براء من المشركين.

وتختلف الآية الأولى عن الثالثة: بأنّ الآية الثالثة مع تأكيدها على الحكم السابق، تذكر فروقاً؛ منها ما ذكره بعض المفسّرين: «ليست الآية تكراراً لقوله تعالى السابق ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾، فإنّ الجملتين وإن رجعتا إلى معنى واحد وهو البراءة من المشركين، إلا أن الآية الأولى إعلام البراءة وإبلاغه إلى المشركين بدليل قوله في ذيل الآية: ﴿إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بخلاف الآية الثانية فإنّ وجه الخطاب فيه إلى الناس ليعلموا براءة الله ورسوله من المشركين، ويستعدوا ويتهيأوا لإنفاذ أمر الله فيهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم بدليل قوله : ﴿إِلَى النَّاسِ وقوله تفريعاً: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾ إلى آخر الآية» [تفسير الميزان،‌ ج 9، ص149].

الفرق الآخر: إنّه تعالى في الكلام الأوّل، أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد. وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معين، تنبيهاً على أنّ الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم. [التفسير الكبير للرازي،‌ ج 15،‌ ص 222].

البراءة؛ حكم أبدي للدين

يُستفاد من مجموع ما ذكرناه أنّ البراءة حكم حتمي ومنجّز وسارٍ في جميع الأزمنة ولا يختص بزمان دون زمان،‌ ومن ناحية‌ أخرى من خلال إسناد التبرّي وإعلانه إلى الله سبحانه وتعالى ورسوله، يفهم بأنه لا يحقّ لأيّ إنسان مسلم أن يقيم علاقة مع قومٍ قطع الله ورسوله العلاقة معهم، وهذه الآيات في الحقيقة هي خارطة طريق لكافّة المسلمين في كافّة الأزمنة،‌ بأنّ المسافة بين الإسلام والكفر شاسعة، وأنّ الإسلام والكفر خطّان ومنهجان متضادّان، أحدهما يستند على‌ عبودية الله ويشدد على إقامة الحكومة الإلهية في الأرض،‌ والآخر على عبودية البشر للبشر،‌ لذلك بينهما تضادّ في جميع الأمور الكلّية والجزئية، وتنظيم الأمور الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية و...

إنّ بدء الآيات بدون البسملة والإعلان العام للبراءة والتشديد الكثير الذي يظهر من الجمل،‌ وكذلك إعلان البراءة من قبل الممثّل الرسمي للنبي الأعظم وفي يوم الحج الأكبر وفي مكان مرتفع وعند الاجتماع الكبير للمسلمين والمشركين، وأيضاً اللحن الصريح والحازم للقرآن الكريم ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 5] كلّها تدلّ على أهمّية البراءة وضرورته، وأنّ التديّن لا يتحقّق إلا من خلال إظهار المحبّة والولاء لأهل الحق والبراءة من الباطل وأهله، لذلك يقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله): «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وتوالي أولياء الله والتبرّي من أعداء الله» [الكافي، ج 2، ص 126]. والروايات تؤكّد على‌ أنّ الإيمان ما هو إلا الحب والبغض «هل الدين إلا الحب؟» [ميزان الحكمة،‌ ج2،‌ ص956].

خلاصة‌ البحث

1. من خلال سياق الآية يتّضح أنّ الصراع بين الحق والباطل صراع دائمي ولا يختص بزمان دون زمان،‌ بل يجب التأسّي بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في إعلان البراءة في موسم الحج العظيم.

2. ما يفهم من معنى «الأذان» وكلمة «الحج الأكبر» يظهر أنّ البراءة‌ ـ أوّلاً ـ لابدّ أن يصدح به بصوت عال، وثانياً يجب أن يكون في موسم الحج.

3. بما أنّ «البراءة» و «الأذان» منسوبان إلى الله تعالى، وقد أكّد عليها كثيرا،‌ لذلك يستظهر منها بانه لا يحق لاي مسلم ولاي حاكم اسلامي ان يقيم علاقة مع الكفار بل يجب اظهار البراءة‌ منهم بشكل علني.

4. إذا كان خاتم الأنبياء قد أعلن البراءة من الكفار،‌ فلابدّ للعلماء والحكام المسلمين أن يتأسوا بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ويطهروا الساحة المقدّسة للكعبة المكرّمة‌ من جميع مظاهر الشرك والكفر سواء كان في الكلام أو بالفعل.

 4. الحج والحكومة الاسلامية

إنّ من شؤون الحكومة‌ الإسلامية هو اختيار «أمير الحاج»، حيث يعيّن في كل عام من قبل الحاكم الإسلامي‌ ليشرف على الحجاج، وكذلك يُعلن عن مواقف الحكومة‌ الإسلامية في جميع المسائل،‌ ومن أجلى‌ مصاديق ذلك حدث في العام التاسع للهجرة النبوية‌ الشريفة،‌ إذ اتفق جميع علماء المسلمين من الفريقين على أنّ النبي الأعظم (صلى‌ الله عليه وآله) كان قد عيّن أميراً للحاج وأرسله من المدينة إلى مكّة المكرّمة،‌ والإسلام الذي يحثّ كل ثلاثة أشخاص مسافرين أن يجعلوا عليهم أميراً، كيف يترك هذا العدد الهائل من الناس الذين يجتمعون من شتى أنحاء العالم مع اختلافهم في اللّون والعرق والعادات والتقاليد ولا يعيّن عليهم أميراً ويتركهم لشأنهم؟! لذلك كتب بعض المؤرّخين أنّ مسألة تعيين أمير الحاج راجت منذ السنة الهجرية التاسعة،‌ وذكروا أسماء أربعين شخصاً تولّوا هذا المسؤولية من السنة التاسعة للهجرة‌ النبوية الشريفة إلى العام 335. وقد أوكل أيضاً أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه المهمّة‌ في فترة خلافته لعبد الله بن عباس ثلاث مرّات، ومرّة لأقثم بن عباس حيث كتب له «أما بعد فأقم للناس الحج وذكرهم بأيام الله...» [نهج البلاغة،‌ كتاب رقم 67].

والدليل الآخر الذي يدلّ على‌ كون الحج من شؤون الحكومة الإسلامية هو قول الإمام الصادق (عليه السلام): «لو عطل الناس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحج إن شاؤوا وإن أبوا لأن هذا البيت إنما وضع للحج» [بحار الأنوار،‌ ج 96، ‌ص 18].

إذاً أداء مراسم الحج العظيم هو من الشؤون الواجبة واللازمة للحكومة الإسلامية، لذلك نرى أغلب العلماء الكبار من أمثال الشيخ الكليني صاحب كتاب الكافي والشيخ الحرّ العاملي صاحب كتاب وسائل الشيعة وغيرهما، قد أفردوا باباً أسموه «باب وجوب اجبار الوالي الناس على الحج» لما فهموه من الروايات الواردة في هذا الباب.

والدليل الآخر هو أنّ هناك قسماً من الروايات تعدّ الحج نوعاً من أنواع البيعة لولاة الأمر، كقول الإمام الباقر (عليه السلام): «إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرهم» [بحار الأنوار، ج 96، ص 374].

إذاً، إنّ أحد أهداف وجوب الطواف هو إتيان الأئمة الهداة وإظهار الولاء والنصرة لهم (عليهم السلام)، لذلك يقول الإمام الباقر (عليه السلام) في رواية أخرى: «نظر إلى الناس يطوفون حول الكعبة، فقال: هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية، إنما أمروا أن يطوفوا بها، ثم ينفروا إلينا فيعلمونا ولايتهم ومودتهم ويعرضوا علينا نصرتهم...» [الكافي، ج 1، ‌ص 392]

الدليل الآخر هو ما قام به الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في حجّة‌ الوداع التي أثبت فيها دور القيادة في الحج، وكيف يمكن من خلال القيادة الحكيمة أن يجعل من كل هذه الجموع المتفرّقة قوّةً واحدةً تُرهب الأعداء وتكون مظهراً من مظاهر القوّة والعظمة للحكومة الإسلامية، لذا أمره الله للتعرّض إلى مسألة إمامة الإمام علي (عليه السلام) قائلاً: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [المائدة: 67].

فإن كانت الرسالة لا تساوي شيئاً بدون الولاية، فالحج أيضاً لا يساوي شيئاً بدونها، وقد يكون قوله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ*وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ [البلد: 1-2] ناظر إلى هذا المعنى وهو أنّ مكّة سوف تتحوّلان إلى معبد للأوثان بدون حضور ووجود الأئمّة (عليهم السلام)، والظاهر أن السرّ في ولادة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في جوف الكعبة هو أنّ هناك علاقة واتصالاً عميقاً بين الكعبة وولي الله؛ بحيث جميع الأعمال لا تساوي شيئاً إذا لم تكن مع الولاية،‌ وكما رُوي عن أبي حمزة الثمالي قال: قال لنا عليّ بن الحسين عليهما السّلام: أيّ البقاع أفضل؟ فقلت: الله ورسوله وابن رسوله أعلم، فقال: أما أفضل البقاع ما بين الركن والمقام ولو أنّ رجلاً عمّر ما عمّر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يصوم النهار ويقوم اللَّيل في ذلك المكان ثمّ لقي الله عزّ وجلّ بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً [المحجة البيضاء، ج 2، ‌ص 153].

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2008
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 09 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20