• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : النبي (ص) وأهل البيت (ع) .
                    • الموضوع : عالمية الإمام الكاظم عليه السلام .

عالمية الإمام الكاظم عليه السلام

 

الشيخ عبدالجليل البن سعد

ليست تلك العالمية مكتسبا جماهيريا أو محبوبية شعبية ناتجة عن كثرة الأضواء والفلاشات الإعلامية المأجورة ..

وليست سباقا رئاسيا تشترى فيه الأصوات بالدراهم والدنانير..

إنها القيادة الرسالية والزعامة الدينية والرمزية الفكرية .

المفارقة بين العصر الأموي والعباسي:

إن الوعي الديني في ذلك المقطع من فيلم الخلافة الإسلامية بدأ يتحرر ...ونحن إذ نرى هذا الرأي فإننا نعتمد على ملاحظتنا الدقيقة للمفارقة التاريخية الكبيرة ما بين هذين العصرين،  ولا خيار أمامنا إلا أن نجمل الحديث في واقع تلك المفارقة:

إن العلم والفتوى والحديث والتفسير (منابع النظرية الدينية) كانت تطلب من الخليفة ولم تكن توجد أوسمة لأنه لا توجد أكاديمية إسلامية، وحتى من يوفد من الصحابة أو يستعمل على المدن والأمصار لا مهمة له سوى إقراء الناس للقرآن الكريم وتبليغ ما تأمر به الخلافة..

ولكن وفي الفترة التي بدأ فيها الوثن الأموي في التحطم ظهرت الفرصة لتأسس الأكاديمية الإسلامية العفوية وإن لم تكن تنظيمية.. وانتعشت في عمر الإمامين الصادقين ــ باقر وجعفر ــ عليهما السلام، واتسقت أمورها في عمر الإمامين الكاظم والرضا عليهما السلام .

فالفكر بكل خطوطه الفقهية، والعقدية، والتفسيرية، والحديثية، أصبح خارج السيطرة الحكومية لبني العباس ولذا شهدت ساحة السجون معاقبات فردية للفقهاء والمتكلمين بلا تمييز بين الشيعة والسنة أعني: على هذا المستوى فقط، فسجن أحمد بن حنبل وتعرض ابو حنيفة للتهديد والحصار وغيرهم من الشيعة كمحمد ابن أبي عمير وغيرهم العديد، وقد يكون هناك تمييز لكن على المستويات الأخرى ..

وهنا وفي تلك المرحلة الزمنية كانت العلامة العلمية، ولقب المرجعية، والزعامة الدينية لزعيم آل البيت عليهم السلام الإمام أبي الحسن الكاظم عليه السلام حتى قد أصبح من بين أسمائه التي يعرف بها " العـــالم ".

ولعل هذا الاسم لم يأتي عن تدبير أمني محض، ولا لأجل التغطية الظاهرية على شخص الإمام، وإن كان هذا هو التصور الرسمي حول هذا اللقب وسائر ألقابه الأخرى.. وأنا وفي الوقت الذي لا أعارض فيه هذا التصور، أرى أنه تصور مائج ومرن لا جمود فيه قابل للامتزاج بمثل هذا التصور الجديد ..

والآن يهمنا في هذه اللحظات أن نستجلي عالمية الإمام والأصداء الشعبية العابرة لحدود شبه الجزيرة العربية، وسوف نقرأ ذلك في أجزاء من البحث:

 

 حساسية هارون ممن له دين وعقيدة؟!

لقد توصل هارون العباسي إلى جذر مشكلته هو مع أهل البيت عليهم السلام، وعرف أن الوعي الديني قد دعمهم كما أنهم قد دعموه أيضا.. ولذا ظل يبحث عمن لا دين له لتحقيق أهدافه الشيطانية وسياساته القذرة  ضد العلويين بعامة.

ولنصغي معا إلى جزء من حكاية حميد بن قحطبة الطائي الذي يقول:

"  أنفذ إليّ هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب فلما دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة تتقد وسيفا أخضر مسلولا وبين يديه خادم واقف فلما قمت بين يديه رفع رأسه إليّ فقال كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت بالنفس والمال فأطرق ثم أذن لي في الانصراف. "

فلم ألبث في منزلي حتى عاد الرسول إليّ وقال أجب أمير المؤمنين فقلت في نفسي إنا لله، أخاف أن يكون قد عزم على قتلي وإنه لما رآني استحيا مني فعدت إلى بين يديه فرفع رأسه إليّ فقال كيف طاعتك لأمير المؤمنين فقلت بالنفس والمال والأهل والولد فتبسم ضاحكا ثم أذن لي في الانصراف.

فلما دخلت منزلي لم ألبث أن عاد الرسول إليّ فقال أجب أمير المؤمنين فحضرت بين يديه وهو على حاله فرفع رأسه إلي فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت بالنفس والمال والولد والدين فضحك ثم قال لي خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به هذا الخادم...الخ "" .

(عيون أخبار الرضا:2/100)

ولنا في تمام القصة حاجة أخرى تأتي إن شاء الله تعالى .

الإمام وتربية الكوادر العلمية والقيادية..

لقد أنجبت حركة الإمام الكثير من القادة والمفكرين وفي حياة الإمام الكثير من الأمثلة التي يمكن أن ترى على السطح، ولكن هنا موقف آخر ربما يحتاج التعرف على دلالاته إلى الغوص والنظر تحت الماء..

لما قتل موسى بن المهدي الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي المعروف بحسين فخ عزم على أن ينال من الإمام الكاظم وقد كشف عن نيته بقوله: والله ما خرج حسين إلا عن أمره ولا اتبع إلا محبته، لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت قتلني الله إن أبقيت عليه، فقال له أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي وكان جريئا عليه: يا أمير المؤمنين أقول أم أسكت؟

فقال قتلني الله إن عفوت عن موسى بن جعفر ولولا ما سمعت من المهدي فيما أخبر به المنصور بما كان لجعفر من الفضل المبرز عن أهله في دينه وعلمه وفضله وما بلغني فيه عن السفاح من تقريظه وتفضيله لنبشت قبره وأحرقته بالنار إحراقا، فقال أبو يوسف: نساؤه طوالق، وعتق جميع ما يملك من الرقيق وتصدق بجميع ما يملك من المال وحبس دوابه وعليه المشي إلى بيت الله الحرام إن كان مذهب موسى بن جعفر الخروج لا يذهب إليه ولا مذهب أحد من ولده.... ولم يزل يرفق به حتى سكن غضبه.

"يقول وكتب علي بن يقطين إلى موسى بن جعفر عليه السلام بصورة الأمر فورد الكتاب فلما أصبح أحضر أهل بيته وشيعته فأطلعهم على ما ورد عليه من الخبر وقال لهم ما تشيرون في هذا فقالوا نشير عليك أصلحك الله وعلينا معك، أن تباعد شخصك عن هذا الجبار، وتغيب شخصك دونه،  فإنه لا يؤمن شره وعاديته وغشمه سيما وقد توعدك وإيانا معك،  فتبسم موسى بن جعفر ... ثم أقبل على من حضره وقال: ليفرح روعكم إنه لا يرد أول كتاب من العراق إلا بموت موسى بن المهدي  وهلاكه ... ".

(بحار الأنوار:48/150)

إيحاءات الموقف..

هذه الحكاية هي واحدة من النقولات التي تكشف لنا عن مدى المركزية المعنوية للإمام عليه السلام وقدرته على كسر قرارات الجماعة المنحرفة ضده وضد شيعته، ومن إشارات ودلالات الموقف:

1   اختراقه جهاز الدكتاتور موسى بن المهدي من خلال تثبيت أمثال يعقوب بن إبراهيم القاضي وعلي بن يقطين..

2   طلبه المشورة والتشاور وهذا  يوحي بأن هناك مجموعة حول الإمام لهم الإحاطة الكافية بالوضع السياسي والاجتماعي، وأنهم أهل لحفظ السر، وغير ذلك مما تتوقف عليه المشورة في الأمور الخطيرة، فدل ذلك على أن الإمام قد أعد الكوادر والمجموعات القيادية التي تحسن أن تسمع وتجيب وهو عمل يتطلب وقتا وجهدا سابقا ونوعيا كان قد قام به الإمام عليه السلام..

حيرة هارون العباسي مع هيبة وسؤدد الإمام عليه السلام!!

لقد استبدت به الحيرة مع شهرة الإمام، وهي ناتجة عن قلق وواصلة إليه من طريق معرفته بالواقع القوي والمتماسك الذي يعيشه هذا السيد الهاشمي، لذا تجد مواقفه متناقضة مع الإمام فمرة تجده يجامل الإمام بالإجلاس له في مجلسه وبكثرة الصلات وهذا ما كان في المرحلة الأولى .

وأما في المرحلة الثانية فقد سجن الإمام عليه السلام وأطال السجن لأكثر من عشر سنوات وهذا ما يحتاج إلى رأي بديل عن الرأي المشهور الذي يقول أنه قد أطال سجنه من باب الكراهية والتشفي ..

والرأي الأتم هو أنه لم يكن قادر على اتخاذ قرار التصفية الجسدية للإمام ..فقد كان الإمام قويا وهو في دائرة الحبس كما بان لهارون ضعف شخصيته أكثر وأكثر من خلال سجن موسى بن جعفر ؟!

كان يرى أن يده شلاء لا تستطيع أن تمس الإمام بمكروه ويرى أن الحسابات تخونه في موضوع تصفية الإمام بالتصفية الجسدية ..

وتعرف هارون على منزلة الإمام بعد أن زج به في السجن أكثر مما كان يعرفه عنه وهو يعيش في الهواء الطلق ..

حيث رأى العلماء وهم يحاولون الاتصال به في سجنه وأن قضبان السجن لم تستطع أن تحجز الإمام عن العلماء حتى سجن السندي بن شاهك ..

بل إن لقد سجلت يوميات السجن غرائب وعجائب لعلاقة العلماء به فقد كتب  موسى بن إبراهيم المروزي كتابا بإملاء الإمام وهو في سجن السندي بن شاهك !!

 (موسوعة أهل البيت: باقر شريف القرشي:29)

و من بين العلماء الذين كان لهم خير تواصل مع الإمام عليه السلام هند بن الحجاج، فقد كتب كتابا من إملاء الإمام وهو في السجن.

ولم يكن هذا خاصا بعلماء الشيعة فقط، فإن أبا يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني ــ من علماء أهل السنة ــ قد قاما بزيارة الإمام عليه السلام في غلس الليل وهو سجين!!

فهذه العالمية وهذه الشهرة وهذا التألق ما كان ليرتاح منه هارون أبدا ..

بل إن هذا المشهد وغيره من مشاهد القوة للإمام قد وضع هارون في أجواء الرهبة التي اشتعلت جمرتها قبل ذلك حينما بدأ الناس نوعا من المظاهرة الكلامية والاحتجاجية وذلك عندما ألقى القبض على الإمام عليه السلام بتلك الطريقة الوحشية التي لم تسبق مع أحد،  فقد كان يصلي عند قبر جده ولم يمهلوه إلى أن ينفتل من صلاته بل ألقي عليه القبض، وسحب وهو على تلك الحالة، فارتفعت الأصوات التي تحتج على هذه الممارسة البشعة مع سيد الناس، هنالك اشتد الخوف بهارون، ولشدة ثقته بأن الناس لن تترك سيدها وإمامها، أمر بقبتين إحداهما تسير إلى البصرة والأخرى إلى الكوفة ليموه على الناس أمره ..

بل ازدادت وتمادت جمرة الرهبة من وجود الإمام بعد أن أعلن الولاة رفضهم لتنفيذ قراره باغتيال الإمام الكاظم عليه السلام !!

فقد كتب إلى عيسى واليه على البصرة وقد تفاجأ بأن عيسى رد إليه الكتاب معلنا الرفض في التورط بدم الإمام واقترح على هارون أن يسرحه إلى سجن آخر ..

هنا يعبر بعض الكتاب أن هارون قبل منه اقتراحه.. وظني أن هارون لم يأخذ بهذا المقترح ترحيبا ولا تصويبا ولكن أضطره موقفه الضعيف إلى قبول ذلك !!

فأمر بحمله إلى بغداد ليتولى الفضل سجنه في قصره وبيته، وهذه علامة أخرى تدل على عالمية الإمام عليه السلام حيث لم يكن يسجن في الأماكن العامة من أول الأمر، لكن كان يسجن  في بيوت وقصور الولاة كنوع تكريم، وتعزيز لمقامه، إلى أن جاءت مرحلة السجن عند السندي بن شاهك عليه لعائن الله .

وإن الصدمة كانت أكبر على هارون مع الفضل منها مع عيسى والي البصرة .. حيث بلغته الأنباء أن الفضل يرفه على الإمام ويوسع عليه فتحرق هارون بالغيظ والغضب فأمر بالإمام أن يؤخذ إلى السندي بن شاهك كما أمر بالفضل أن ينكل به وأن يضرب مائة سوط، وكان سيقتل لولا تدخل بعض الجهات لحل ربقته !!

وإن هذا العرض يؤكد لنا أن عصر العلم الذي تميزت به  أيام العباسيين تحول إلى  عصر أهل البيت عليهم السلام، حيث لم يكن  بمقدور أحد أن يسابقهم في ذلك، بل إن العلم(الذي تمثل أحاديث النبي صلى الله عليه واله الجزء الأوفر منه) مليء بالوصية بهم والأمر بمحبتهم والإجلال لهم، فكلما دار العلم ظهرت هذه العناوين للعلماء لهذا ذلت لهم رقاب العلماء والمفكرين فتمدد شعاعهم و قصر كل صوت دون صوتهم ..

ومن هنا لم يكن غضب هارون ليتفجر على الإمام الكاظم عليه السلام فحسب بل إنه صب جام غضبه على العلويين أجمع وهذا ما يشهد له الجزي الثاني من حكاية حميد بن قحطبة الذي يقول عن مهمة ذلك السيف الذي سلمه إياه هارون:

"" فتناول الخادم السيف وناولينه وجاء بي إلى بيت بابه مغلق ففتحه، فإذا فيه بئر في وسطه وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة ففتح باب بيت منها فإذا فيه عشرون نفسا عليهم الشعور والذوائب شيوخ وكهول وشبان مقيدون فقال لي إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء وكانوا كلهم علوية من ولد علي وفاطمة فجعل يخرج إلي واحدا بعد واحد فأضرب عنقه حتى اتيت على آخرهم ثم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر...وبقي شيخ منهم عليه شعر فقال لي تبا لك يا مشوم أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمت على جدنا رسول الله صلى الله عليه واله وقد قتلت من أولاده ستين نفسا قد ولدهم علي وفاطمة عليهم السلام..."".

واللافت أن هناك شباهة قوية بين ذلك العصر القافل وهذا العصر الماثل فقد بدأنا نرى انتشارا وتوسعا في علاقة الناس بأهل البيت عليهم السلام مع التقدم العلمي والإعلامي، وهذا يفسر لنا أن سلاح ذرية الرسول وعترته ليس إلا  العلم وحده .

 

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1943
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 05 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24