• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : إضاءات قرآنية (2) - التقويم الطبيعي .

إضاءات قرآنية (2) - التقويم الطبيعي

  

الآية الكريمة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة البقرة، 189]

في التهذيب عن الصادق (ع) في قوله عزّ وجلّ: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} قال: >لصومهم وفطرهم وحجهم< [ج4، ص166].

وفي محاسن البرقي عن الباقر (ع) في قول الله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} قال: >يعني ان يأتي الامر من وجهه أي الأمور كان< [ج1، ص224].

سبب النزول

روي أن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله إن اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلة، فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إن اليهود سألوا رسول الله: لم خلقت هذه الأهلة؟ فنزلت هذه الآية. [مجمع البيان، ج2، ص27]  لتقول إن للأهلة فوائد مادية ومعنوية في نظام الحياة الإنسانية.

التقويم الطبيعي (*)

كما اتضح من سبب نزول هذه الآية الشريفة من أنّ جماعة سألوا رسول الله (ص) عن الهلال وما يحصل عليه من تغييرات متدرّجة وعن أسبابها ونتائجها،  فيجيب القرآن الكريم على سؤالهم بقوله يسألونك عن الأهلة.

(أهلة) جمع (هلال) ويعني القمر في اللّيلة الأولى والثانية من الشهر. وقال بعضهم إنّ التسمية تطلق عليه لثلاث ليالي من أوّل الشهر وبعد ذلك يُسمّى (قمراً)، وذهب بعضهم إلى أكثر من هذا المقدار. ويرى المرحوم (الطبرسي) في مجمع البيان وآخرون من المفسّرين أنّ مفردة (الهلال) هي في الأصل من (استهلال الصبي) ويعني بكاء الطفل من بداية تولده، ثمّ استعمل للقمر في بداية الشهر، وكذلك استعمل أيضاً في قول الحجاج في بداية مناسكهم: >لبّيك لبّيك< بصوت عال، فيقال: (أهلّ القوم بالحج).

ولكن يستفاد من كلمات الراغب في المفردات عكس هذا المطلب، وأنّ أصل هذه المفردة هو الهلال في بداية الشهر وقد استفيد منه (استهلال الصبي)؛ أي: بكائه عند ولادته. وعلى كل حال، يُستفاد من جملة (يسألونك) التي هي فعل مضارع يدلّ على التكرار، أنّ هذا السؤال قد تكرّر مرّات عديدة على رسول الله (ص). ثمّ تقول الآية: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}. فما يحصل عليها من تغييرات منتظمة تدريجية، يجعل منها تقويماً طبيعياً يساعد الناس على تنظيم أمورهم الحياتية القائمة على التوقيت وتحديد الزمن، وكذلك على تنظيم أمور عباداتهم المحدَّدة بزمان معيّن كالحجّ والصوم، والهلال هو المرجع في تعيين هذا الزمان، وبالاستهلال ينظّم الناس أمور عبادتهم وشؤون دنياهم.

هذا التقويم الطبيعي ميسور لجميع البشر؛ متعلّمهم وأمّيّهم، في جميع بقاع الأرض، وبموجبه يمكن تعيين أوّل الشهر ووسطه وآخره، بل كل يوم من أيّامه بدقّة. وواضح أنّ نظام الحياة الاجتماعية يحتاج إلى تقويم؛ أي: إلى وسيلة تُعيّن التاريخ الدقيق. ومن هنا وضع الله سبحانه هذا التقويم الطبيعي للناس في كل زمان ومكان.

من امتيازات قوانين الإسلام أنّ أحكامه قائمة ـ عادةً ـ على المقاييس الطبيعية؛ لأنّ هذه المقاييس متوفّرة لدى جميع الناس، ولا يؤثّر عليها مرور الزمان شيئاً. أمّا المقاييس غير الطبيعية، فليست في متناول يد الجميع ولم يستطع جميع البشر حتى في زماننا هذا أن يستفيدوا من مقاييس عالمية موحَّدة. لذلك نرى أنّ المقياس في الأحكام الإسلامية يقوم في الأطوال على أساس الشبر والخطوة والذراع والقامة، وفي الزمان على غروب الشمس وطلوع الفجر وزوال الشمس ورؤية الهلال. وهنا يتّضح امتياز الأشهر القمرية عن الشمسية، فالبرغم من أنّ كلاً منهما يترتّب على حركات الكواكب السماوية، ولكن الأشهر القمرية قابلة للمشاهدة من الجميع، في حين أنّ الأشهر الشمسية لا يمكن تشخيصها إلا بواسطة المنجّمين وبالوسائل الخاصة لديهم، فيعرفون مثلاً أنّ الشمس في هذا الشهر سوف تقع في مقابل أيّ صورة فلكية وأيّ برج سماوي.

وهنا يطرح هذا السؤال: هل كان هدف الأشخاص الذين سألوا عن الأهلّة، هو الاستفسار عن فائدة هذه التغيّرات، أو السؤال عن كيفية ظهور الهلال وتكامله إلى مرحلة البدر الكامل؟ ذهب بعض المفسّرين إلى الاحتمال الأوّل، والبعض الآخر ذهب إلى الثاني وأضاف: بما أنّ السؤال عن الأسباب وعلل التغييرات ليست ذات فائدة لهم، ولعل فهم الجواب أيضاً سيكون عسيراً على أذهانهم، فلهذا بيّن القرآن النتائج المترتّبة على تغييرات الهلال لكي يتعلّم الناس أن يتوجّهوا دوماً صوب النتائج. ثمّ إنّ القرآن أشار في ذيل هذه الآية وبمناسبة الحديث عن الحج وتعيين موسمه بواسطة الهلال الذي ورد في أوّل الآية إلى إحدى عادات الجاهليّين الخرافية في مورد الحج، ونهت الآية الناس عن ذلك حيث تقول: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

ذهب كثير من المفسّرين إلى أنّ الناس كانوا في زمن الجاهلية يمتنعون لدى لبسهم ثياب الإحرام من الدخول في بيوتهم من أبوابها ويعتقدون بحرمة هذا العمل، ولهذا كانوا يفتحون كوّةً وثقباً خلف البيوت لكي يدخلوا بيوتهم منها عند إحرامهم، وكانوا يعتقدون أنّ هذا العمل صحيح وجيّد؛ لأنّه بمعنى ترك العادة(1)

والإحرام يعني مجموعة من تروك العادات فيكتمل كذلك بترك هذه العادة. ويرى بعضهم أنّ هذا العمل كان بسبب أنهم لا يستظلون بسقف في حال الإحرام، ولذلك فإنّ المرور من خلال ثقب الحائط بالقياس مع دخول الدار من الباب يكون أفضل، ولكن القرآن يصرّح لهم أنّ الخير والبرّ في التقوى لا في العادات والرسوم الخرافية، ويأمر بعد ذلك فوراً بأنّ يدخلوا بيوتهم من أبوابها.

وهذه الآية لها معنى أوسع وأشمل، وذلك أنّ الإنسان لابدّ له ـ حينما يقدم على أيّ عمل من الأعمال سواءً كان دينياً أو دنيوياً ـ لابدّ له من أن يرده من طريق الصحيح لا من الطرق المنحرفة، كما ورد هذا المعنى في رواية جابر عندما سأل الإمام الباقر (ع) عن ذلك(2).

وهكذا يكون بإمكاننا العثور على ارتباط جديد بين بداية الآية ونهايتها، وذلك أنّ كل عمل لابدّ أن يردّه الإنسان من الطريق الصحيح، فالعبادة في الحج أيضاً لابدّ أن يبتدئ الإنسان بها في الوقت المقرّر وتعيينه بواسطة الهلال.

التفسير الثالث المذكور لهذه الآية: هو أنّ الإنسان عندما يبحث عن الخيرات والبر لابدّ أن يتوجّه صوب أهله ولا يطلبه من غير أهله، ولكن هذا التفسير يمكن إدراجه في التفسير الثاني حيث ورد في روايات أهل البيت (ع) عن الإمام الباقر (ع): >آل محمد أبواب الله وسبله، والدعاة إلى الجنة، والقادة إليها، والأدلاء عليها إلى يوم القيامة<(3).

هذا الحديث قد يُشير إلى أحد مصاديق المفهوم الكلّي للآية؛ لأنّه يقول إنّ عليكم أن تردوا في جميع أموركم الدينية عن الطريق الصحيح لها، يعني أهل بيت النبوّة الذين هم طبقاً لحديث الثقلين قرين القرآن، ولذلك يمكنكم أن تأخذوا معارفكم الدينية منهم؛ لأنّ الوحي الإلهي نزل في بيوتهم، فهم أهل بيت الوحي وصنائع القرآن وثمار تربيته.

جملة {لَيْسَ الْبِرُّ} يمكنها أن تكون إشارة إلى نكتة لطيفة أخرى أيضاً، وهي أنّ سؤالكم عن الأهلّة بدل سؤالكم عن المعارف الدينية بمثابة من يترك الدخول إلى داره من الباب الأصلي، ثمّ يرده من ظهر البيت، فهو عمل مستقبح ومستهجن.

ويجب الالتفات في الضمن إلى هذه النكتة في قوله تعالى {لَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} أنّ وجود المتّقين بمثابة الينابيع المستفيضة بالخيرات، بحيث أنهم قد يطلق عليهم كلمة (البر) نفسه(4).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 2 - ص 10 – 14.

1 - تفسير البيضاوي: ذيل الآية المذكورة.

2 - مجمع البيان، المجلد الأول، ص 284 في تفسير الآية.

3 - مجمع البيان: في تفسير الآية.

4 - وذهب البعض إلى وجود حذف في الجملة وتقديره: لكن البر من اتقى ذلك.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1941
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 05 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24