• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : الثقافة .
              • القسم الفرعي : شرح وصايا الإمام الباقر (ع) .
                    • الموضوع : حلقات في شرح وصايا الإمام الباقر (عليه السلام) - 12 * .

حلقات في شرح وصايا الإمام الباقر (عليه السلام) - 12 *

 الأستاذ آية الله الشيخ مصباح اليزدي


 بسم الله الرحمـٰن الرحيم

الراحة والبركة في ظلّ التفويض

«وَتَخَلَّصْ إِلَى رَاحَةِ النَّفسِ بِصِحَّةِ التَّفوِيضِ»1

لابدّ لتوضيح هذه العبارة من حديث الإمام الباقر (سلام الله عليه) من عرض مقدّمتين:

المقدّمة الاُولى: نظام التكوين ونظام التشريع

لقد وضع الله سبحانه وتعالى لهذا العالم نظاماً خاصّاً فجعل ظواهره تحدث بواسطة أسباب وعلل بحيث لا تخلو أيّ لحظة وأيّ نطاق محدود من تحقّق عدد هائل من الظواهر التي نعجز عن إحصائها. ولقد وضع الله عزّ وجلّ هذه الأسباب تحت تصرّف الإنسان كي يلبّي بها حاجاته ويتمكّن من مواصلة حياته. ومن هذا المنطلق فإنّه يمكننا القول: إنّ للنظام الدنيويّ هدفين: أحدهما متوسّط والآخر نهائيّ. ولقد هيّأ الباري عزّ وجلّ من أجل ارتباط الإنسان بهذه الأسباب والمسبّبات نظامين؛ أو بعبارة اخرى: فقد نظّم الله تعالى هذا الارتباط من خلال نظامين؛ 1. النظام التكوينيّ، 2. النظام التشريعيّ. فالإنسان – مثلاً – يقوم بإشباع بطنه من خلال توفير الطعام؛ وهو بهذه الصورة يعمل - عبر الإفادة من النعم الإلهيّة - على جعل حياته تستمرّ. فالوجه الأوّل للقضيّة هو أنّ على المرء أن يتناول الطعام ليشبع؛ ونحن ضمن هذا النطاق نسعى بشكل طبيعيّ إلى إشباع غرائزنا ولا نفكّر ابتداءً – وفقاً لهذا النظام – بأداء التكليف. فهذا هو أحد الأنظمة التي أعدّها الله تعالى لهذا الغرض، وإنّ أيّ امرئ يكدّ ويسعى فإنّ بوسعه الإفادة من هذه الأسباب. فلا يشترط الإيمان للإفادة من هذا النظام، كما أنّ الكفر لا يُعدّ مانعاً منه أيضاً: «كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاءِ وَهَـٰؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً»2، وقد يقال أحياناً لهذا الإعطاء الإلهيّ: الرحمة الرحمانيّة لله تعالى؛ فإنّ جميع الموجودات تستفيد من هذه الرحمة. غير أنّها ليست الهدف النهائيّ من الخلقة. فمن أجل استغلال هذا النظام لبلوغ أهداف أسمى (مثل تكامل الإنسان) فقد وضع الله عزّ وجلّ نظاماً آخر وهو التكاليف بالنسبة للموجودات المختارة وذوات الشعور، وذلك لكي تكون مؤهّلة عبر أداء تلك التكاليف للظفر برحمة خاصّة. وهذه التكاليف (النظام التشريعيّ) هي في الحقيقة نظام قد رُكِّب على أساس نظام الأسباب والمسبّبات. فهو يُخبر المزارع، على سبيل المثال: إذا نثرت البذور في الأرض واعتنيت بها جيّداً فستنبت وتنمو فتؤمّن لك في نهاية المطاف غذاءك. لكنّه عزّ وجلّ وفي هذه الأثناء يضع في عنقه واجباً فيقول له: هذه البذور يجب أن تكون ملكك، ولابدّ أن لا تكون الأرض مغصوبة، وهكذا. فلا ينبغي أن نخلط بين نظام التكوين ونظام التشريع.

المقدّمة الثانية: المؤثّر المستقلّ هو الله وحده

ما نفهمه نحن ابتداءً من نظام الأسباب والمسبّبات هو استقلال هذه الأسباب في التأثير؛ بمعنى أنّنا نظنّ أنّ الماء الذي نشرب هو الذي يرفع العطش، سواء أكان هناك إلٰه أم لم يكن، والحال أنّ الحقيقة ليست كذلك. فإنّ جميع الأديان السماويّة وكافّة الأنبياء والرسل قد جاءوا لإخبارنا بأنّ ما نراه من حياتنا لا يمثّل إلاّ الطبقة السطحيّة من الحياة وأنّ لهذه الحياة باطناً وحقيقة أيضاً هي أسمى بكثير من هذه الامور؛ «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا»3؛ فلا تخدعنّكم هذه الحياة الدنيا! فالقرآن الكريم يحرص كلّ الحرص على أن ينبّهنا في كلّ الأحداث والوقائع «بأنّ الله هو الذي يفعل ذلك». فهو يحاول أن يفهمنا من خلال هذه التعبيرات بأن لا نلتفت إلى الأسباب الظاهريّة فقط. فهذا هو أحد الأهداف العظيمة التي يسعى إليها الأنبياء؛ إذ يقول القرآن الكريم لنبيّنا (صلّى الله عليه وآله): «فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاّ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا * ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ»4؛ أي: هذا هو مستواهم العلميّ (فهو ضحل جدّاً).

نماذج من النعم الإلهيّة الخاصّة للمتّقين

1. حبّ الإيمان

إنّ الله جلّ وعلا يسبغ على اولئك الذين لا يستعملون هذا النظام الطافح بالنعم الإلهيّة التي لا تحصى ولا تُعدّ إلاّ من خلال النظام التشريعيّ – يسبغ عليهم نعماً اخرى ليست هي من سنخ الآلاء المادّية، بل من جنس نورانيّة القلب، والاُنس بالله، وفتح العيون المعنويّة، ومشاهدة الحقائق، وما إلى ذلك. أمّا نحن فعند مقارنتنا لهذه النعم نفهم على الأقلّ أنّ نور الإيمان لا يساوي ظلمة الكفر. فالإنسان الكافر يُبتلى بشكل من أشكال الظلمة والعتمة، أمّا المؤمن فهو يتمتّع بنورانيّة تتناسب مع مستوى إيمانه. فالقرآن الكريم يقول: «فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ»5؛ وسبب الإضلال هنا هو أعمال المرء القبيحة طبعاً. فالكافر يشعر بالضغوط والضيق في حياته ويحاول دائماً الفرار من شدّة سأمه من الحياة، وكأنّه يريد الصعود إلى ما هو أعلى من السماء.

على أيّة حال فإلى جانب النعم المادّية التي يشترك فيها المؤمن والكافر فقد جعل الله عزّ وجلّ نعماً اُخرى غيرها يمنّ بها على الذين يستخدمون النعم المادّية على النحو الصحيح. يقول الله في محكم كتابه العزيز: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»6؛ و«كفلين» يعني سهمين. فمن النعم العظيمة التي يمنّ بها الله تعالى على عباده المتّقين هي نعمة حبّ الإيمان وبغض الكفر.

2. رزق المرء من حيث لا يحتسب

إذا أحسن المرء الإفادة من أنعم الله جلّ شأنه فسيمنّ الله عليه بلطف آخر وهو أن يسهّل له الإفادة من النعم الدنيويّة. يقول القرآن الكريم: «وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ»7؛ فالله عزّ وجلّ لا يذر المتّقين يواجهون طريقاً مسدوداً؛ بمعنى أنّ الذين يفيدون من نعم الله ضمن اُطر الأحكام الإلهيّة فمضافاً إلى أنّ الله يمتّعهم بنعم الدنيا وبالنعم المعنويّة فإنّهم لا يصلون في الشؤون الدنيويّة إلى طريق مسدود. فالله يرزق أمثال هؤلاء لكن طبق نظام لا يخطر ببالهم. وكذا في البعد الاجتماعيّ فهو يقول: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»8؛ فحتّى بالنسبة للمجتمع الذي أفراده من الأتقياء والذين يراعون أحكام الإسلام ويقيمون لها وزناً فإنّ الله ينزل عليهم البركة؛ أي ينيلهم النعم الدنيويّة بشكل أكثر راحة وأشدّ وفرة بكثير.

الراحة والبركة للمفوِّضين اُمورهم إلى الله

إنّ لله نمطاً آخر من أنماط التعامل أيضاً وهو تدبير الاُمور. فالله عزّ وجلّ يدبّر شؤون عباده المتّقين بطريقة تجعلهم يجنون أفضل النتائج من أعمارهم. وفي المقابل فعلى الرغم ممّا يتجشّمه بعض الناس من سعي حثيث فإنّهم لا يظفرون بمنافع دنيويّة جيّدة ولا يترقّون على الصعيد المعنويّ، وهم دائمو التذمّر - في العادة - من أنّ جميع اُمورهم متوقّفة ولا تسير حسب الاصول. أمّا أعمار أهل التقوى فإنّ فيها من البركة ما يحيّر الألباب. يقول المرحوم آية الله بهجت (رضوان الله تعالى عليه): «كان المرحوم الشيخ محمّد حسين الاصفهانيّ (رضوان الله تعالى عليه) إذا لم يشاهد أحدٌ غير عبادته ظنّ أن لا شغل له سوى العبادة، وإذا لم ينظر أحد إلاّ إلى أعماله العلميّة حَسِب أنّه لا وقت له لأيّ عبادة قطّ. فهو رحمه الله لم يترك قراءة زيارة عاشوراء وصلاة جعفر الطيّار حتّى آخر يوم من عمره المبارك». كما ويقول المرحوم الحاج الشيخ محمّد البروجرديّ: «كان المرحوم الحاج الشيخ محمّد حسين يقيم مجلس عزاء اُسبوعيّاً وكان ملتزماً بصبّ الشاي وتقديمه للضيوف وصفّ أحذيتهم بنفسه. وكنت اُلاحظ حين استقباله للضيوف وإنجازه لبقيّة الأعمال أنّه كان باستمرار يردّد مع نفسه ذكراً معيّناً. فنفد صبري ذات يوم فبادرته بالسؤال: أيّ ذكر هذا الذي تصرّ إصراراً شديداً على ترديده؟ فقال لي بعد تأمّل بسيط: من المستحسن أن يقرأ المرء يوميّاً سورة «إنّا أنزلناه» ألف مرّة»! فهذا هو نموذج العمر المبارك.

كما أنّ لله شكلاً آخر من أشكال التعامل مع المؤمنين وهو أنّه يدبّر اُمورهم طبقاً لهذا التعامل بحيث يجعل الإنسان المتّقي ينفق وقته في أفضل الأعمال. فالسعي وراء الرزق الحلال بالنسبة للإنسان المؤمن عبادة؛ لكن هناك فرق كبير بين هذه العبادة والعبادة الخالصة التي لا يكون فيها إلاّ العلاقة مع الله. فعندما يرى الله تعالى أنّ عبده يعشق العبادة حقّاً ويريد أن يأنس به ولا يرغب في الالتفات إلى غيره، فإنّه يدبّر اُموره على نحو بحيث لا ينفق كثيراً من الوقت في شؤون الدنيا. فهو يعمل طبقاً لتكليفه الشرعيّ ألا وهو السعي لكسب الرزق، ويفتح باب دكّانه، ويمارس البيع والشراء بمقدار كفايته من الرزق لكنّ هذه الأعمال كلّها لا تشكّل عائقاً لعبادته. فهذا التدبير يعجز عقل الإنسان بمفرده عن القيام به. فقد جاء في دعاء عرفة: «إلهي! أَغنِني بتدبيرك لي عن تدبيري وباختيارك عن اختياري»9.

لا ينبغي الخلط خطأً بين التفويض والتقاعس

قد يطلب الإنسان أحياناً مثل هذا الطلب لكنّه بدافع الرغبة في نيل الدنيا بسهولة وعن طريق التقاعس، ومن أجل ذلك فهو يسأل الله العون والمساعدة كي يصل أسرع إلى مبتغاه. فمثل هذا الشخص إنّما يسعى وراء راحته الدنيويّة. أمّا أولياء الله فإنّهم يطلبون من الله مثل هذا الطلب لغرض التفرّغ للعبادة والقيام بالأعمال الأهمّ والأفضل. فأمثال هؤلاء لا يحبّون أن يُحجَبوا عن الأعمال المهمّة. إنّهم يرغبون في أن يكونوا أشدّ انشغالاً بالأعمال التي يحبّها الله أكثر من غيرها. ومن هنا فإنّ الله يتعهّد بتدبير اُمورهم من جهة ويرفع عنهم البلايا من جهة اُخرى ويقيهم تأثير كيد أعدائهم كي لا يكون عائقاً لأعمالهم من جهة ثالثة. هذا المنهج مخصّص لاولئك الذين يتّكلون على الله من أعماق قلوبهم ويفوّضون اُمورهم إليه. ففي مثل هذه الحالة يتولّى الله اُمورهم بنفسه.

لقد ذكرت إحدى الروايات10 خواصّ بعض الآيات؛ فقالت على سبيل المثال إنّ «الذكر اليونسيّ» (لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمينَ11) ينتشل المرء من الهمّ والغمّ؛ ذلك أنّ نبيّ الله يونس (عليه السلام) بعد أن التقمه الحوت وبقي في جوفه تضرّع إلى ربّه بهذا الذكر، فقال القرآن بعد ذلك: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ»12. ثمّ تعرّج نفس هذه الرواية على قول مؤمن آل فرعون حينما قال: «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ»13؛ فيقول القرآن الكريم بعد ذلك: «فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ»14؛ فعندما فوّض أمره إلى الله حفظه الله من مكر الأعداء ومخطّطاتهم الخطيرة التي رسموها له.

نأمل أن نوفّق نحن أيضاً للإفادة من كلام الله هذا والسير على سيرة أوليائه وأن نجني ثمار ذلك في الدنيا والآخرة.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين


1. تحف العقول، ص286.

2. سورة الإسراء، الآية 20.

3. سورة لقمان، الآية 33.

4. سورة النجم، الآيتان 29 و30.

5. سورة الأنعام، الآية 125.

6. سورة الحديد، الآية 28.

7. سورة الطلاق، الآيتان 2 و3.

8. سورة الأعراف، الآية 96.

9. بحار الأنوار، ج95، ص226. 

10. عن الصادق (عليه السلام) قال: «عجبتُ لمن فزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع؛ عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله... وعجبتُ  لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله: «لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» فإنّي سمعت الله عزّ وجلّ يقول بعقبها: «وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ  وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ»، وعجبت لمن مُكر به كيف لا يفزع إلى قوله: «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» فإنّي سمعت الله عزّ وجلّ  يقول بعقبها: «فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا»، وعجبت‏...» (أمالي الصدوق، ص6).  

11. سورة الأنبياء، الآية 87. 

12. سورة الأنبياء، الآية 88. 

13.سورة غافر، الآية 44. 

14. سورة غافر، الآية 45.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1938
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 05 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28