• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : الثقافة .
              • القسم الفرعي : شرح وصايا الإمام الباقر (ع) .
                    • الموضوع : حلقات في شرح وصايا الإمام الباقر (عليه السلام) - 2 * .

حلقات في شرح وصايا الإمام الباقر (عليه السلام) - 2 *

 الأستاذ آية الله الشيخ مصباح اليزدي

الحلقة الثانية:

«يَا جَابِرُ... أُوصِيكَ بِخَمْسٍ: إِنْ ظُلِمْتَ فَلا تَظْلِمْ، وَإِنْ خَانُوكَ فَلا تَخُنْ، وَإِنْ كُذِّبْتَ فَلا تَغْضَبْ، وَإِنْ مُدِحْتَ فَلا تَفْرَحْ، وَإِنْ ذُمِمْتَ فَلا تَجْزَعْ أو فَلا تَحْزَنْ»1.

لقد تأمّلنا في الحلقة السابقة في الحديث المرويّ عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) والذي يخاطب به جابر بن يزيد الجعفيّ وهو من أصحاب سرّ الإمام (سلام الله عليه)، حيث يقول في مطلعه: «إِنْ ظُلِمْتَ فَلا تَظْلِمْ». وقد ذكرنا أنّ الملاحظة التي تتضمّنها هذه الرواية هي أنّه مضافاً إلى الدوافع العاديّة التي تدفع الإنسان للتعدّي على حقوق الآخرين فقد تطرأ بعض الحالات الاستثنائيّة التي تقوّي في نفس المرء الدافع إلى ممارسة الظلم وهي عندما يتعرّض هو للظلم، حيث سيحاول إنزال الظلم بالآخرين بصور مختلفة. فهنا نرى أنّ الإمام (عليه السلام) ينبّه جابر ويحذّره من ممارسة الظلم في مواقف من هذا القبيل.

تنفيذ القيم الأخلاقيّة

ذكرنا في ختام المحاضرة الماضية أنّ الأصل الذي مفاده: أنّ الإنسان يستطيع استيفاء حقّه إذا سُلب منه، هو أصل صحيح تماماً، وليس ثمّة شكّ أو ريب على الإطلاق في صحّته من الناحية الحقوقيّة. بَيد أنّ هناك قيماً أخلاقيّة تُطرح إلى جانب هذا الأصل تستحقّ منّا التأمّل ولابدّ من التمعّن في تشخيص مواردها.

لقد عيّن الإسلام للناس سلسلة من الحقوق ووضع في مقابلها مجموعة من التكاليف، وأعطى لكلّ امرئ الحقّ لاستيفاء حقوقه، وكلّف الآخرين بمراعاة تلك الحقوق، وأوجب عليهم الرجوع إلى المحاكم الشرعيّة عند النزاع، وكلّف القضاة باستيفاء حقّ المظلوم وإعطائه له. وهذه القوانين إنّما سُنّت من أجل تنظيم العلاقات الاجتماعيّة كي يُحال دون التعدّي والظلم ما وُجِد إلى ذلك سبيل، وينعم أفراد المجتمع بعيش رغيد وهادئ نسبيّاً ليستطيعوا المضيّ في مسيرة تكاملهم. وإلى جانب تلك الأحكام الحقوقيّة يطرح الإسلام طائفة من المسائل الأخلاقيّة التي لها مقتضيات اُخرى.

وفي الكتب التي يصنّفها بنو البشر يتمّ في العادة طرح المسائل الحقوقيّة في كتب الحقوق والمسائل الأخلاقيّة في كتب الأخلاق، أمّا القرآن الكريم فنجد أنّه يتناول كلتا الطائفتين من المسائل جبنا إلى جنب؛ ذلك أنّ القرآن هو كتاب تربويّ يعتني بكافّة الأبعاد الوجوديّة للبشر. فنلاحظ أنّه في نفس الوقت الذي يطرح فيه القرآن الكريم قضيّة حقوقيّة فهو ينوّه ببُعد أخلاقيّ لا يخلو التنويه به من تأثير حتّى على تنظيم العلاقات الحقوقيّة نفسها. فعلى سبيل المثال حينما يتناول القرآن الكريم أحكام الطلاق فهو يقول بين طيّات تلك الأحكام الحقوقيّة: «وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»2؛ أي إنّ الله خبير بما تضمرونه في قلوبكم، فلا تحاولوا سلب الآخرين حقّهم؛ ذلك أنّه إذا انصبّ اهتمام المرء على القانون الحقوقيّ فقط فستفوته الكثير من القيم الأخلاقيّة.

وكذا بالنسبة للأحكام المتعلّقة بالمال والعِرض فإنّه إذا تمّ التجاوز على حقّ أحد فستثبت له حقوق من جملتها حقّ القصاص، لكن هناك سلسلة من القيم الأخلاقيّة قد وُضعت في نفس هذه الموارد ينبغي لهذا الشخص أن لا يغفل عنها. ومن هذا المنطلق يقول عزّ وجلّ في كتابه العزيز: «وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ»3؛ أي: صحيح أنّ حقّكم في القصاص ممّن ظلمكم محفوظ، لكنّكم إن عفوتم فهو أفضل لكم وأعظم ثواباً.

لكنّ تنفيذ القيم الأخلاقيّة وتطبيقها على أرض الواقع في موارد من هذا القبيل قد يصبح أمراً مبهماً أحياناً؛ فقد يُطرح هنا السؤال التالي: عندما يتمتّع المرء بحقّ من الناحية الحقوقيّة فهل يُفَضّل له - من الناحية الأخلاقيّة - أن يتجاوز عن خصمه ويتنازل عن حقّه أم لا؟ والحقيقة هي أنّ الحكم في هذه القضيّة يختلف باختلاف الموارد.

ولنبدأ بحثنا من هذه القضيّة وهي: ما هو تكليفنا تجاه الشخص الذي يحاول سرقة مالٍ لنا بالقوّة؟ ممّا لا شكّ فيه أن لنا الحقّ بدايةً في مقاومة السارق وأن لا ندعه يسرق مالنا. فإذا كان الاستسلام والخنوع أمامه علامة على التقاعس وعدم الكفاءة فالإسلام يرفض هذه الروح، لأنّه يريد من المسلم أن يكون شجاعاً وصلباً وأن لا يستسلم أمام العدوّ بسرعة. بل لقد جاء في الخبر: «مَن قُتِل دون مظلَمَتِه فهو شهيد»4؛ أي: إذا قاوم المرء ما وقع عليه من ظلم فقُتل فهو بحكم الشهيد. فالإسلام لا يرضى لنا الخضوع والخنوع أمام الظلم، لأنّ الركون إلى الراحة والدعة والتقاعس والاتّصاف بعدم الأهليّة والكفاءة ليست من شأن المؤمن. لكنّه قد تشغل الإنسان أحياناً أعمال أكثر أهمّية بحيث إنّ انهماكه بقضيّة استيفاء حقّه الحقوقيّ وتضييع وقته في التردّد على المحاكم سيشغله عن الاهتمام بتكاليفه الأكثر أهمّية. إذن فمن العقلانيّة - في مثل هذه المواطن - أن يتغاضى المرء عن حقّه إذا علم أنّ في السعي وراءه ضرراً فادحاً. لكنّه إذا استطاع استرجاع حقّه في مجلس واحد من دون بذل المزيد من المؤونة فينبغي له القيام بذلك؛ ذلك أنّ الركون إلى التقاعس والدعة مرفوض شرعاً في الأخلاق الإسلاميّة. فالبعض ومن أجل تبرير تقاعسهم وميلهم إلى الراحة يقول: «أسلمته إلى الله»! فلا قيمة لعمل كهذا وهو لا يعدو كونه تبريراً محضاً للتقاعس وعدم الأهليّة.

وقد يكون المرء - أحياناً اُخرى - قادراً على استرجاع ماله من خصمه لكن عندما يتبيّن له أنّه إنسان محتاج يعيش عيشة ضنكاً فإنّه يتنازل عن حقّه لهذا السبب. فصورة العمل هي واحدة في الظاهر في جميع الموارد التي يتنازل فيها الإنسان عن حقّه؛ لكنّ هذه الصورة الواحدة يمكن أن تتحقّق بنيّات ودوافع مختلفة. فتارةً قد يشكّل هذا العمل عبادة عظيمة جدّاً؛ وهو - مثلاً - عندما يرى المرء أنّ خصمه يعيش حياة فقر ومسكنة حقيقيّة وأنّ فقره ومسكنته هما اللذان ساقاه إلى هذا المآل، فهو بتجاوزه عنه ومساعدته إيّاه سينتشله من وادي السرقة من جهة وسيُصلح حياته من جهة اُخرى، وهي لعمري من أعظم العبادات ومن مصاديق قوله جلّ وعلا: «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً»5.

وقد يشعر المرء - تارة اُخرى - أنّ تنازله عن حقّه سيسهم في تأديب الخصم لاسيّما إذا علم الأخير بأنّ الشخص قادر على انتزاع حقّه منه لكنّه لا يفعل ذلك مراعاةً لحاله ووضعه. فإن كان القصد من التنازل هو تأديب الطرف المقابل فسيكون مصداقاً للآية الشريفة: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ»6، أو مصداقاً لقوله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ»7. وأمثال هذا النمط من الصفح والتجاوز يلاحَظ بوفرة في سيرة أئمّتنا الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين). فهذا شكل من أشكال الأعمال التربويّة وهو ليس من منطلق التقاعس وعدم الكفاءة، بل يُعَدّ أيضاً عبادة قيّمة جدّاً.

لكنّ المرء – تارةً ثالثة - إذا تجاوز عن خصمه وصفح عنه فسيجعله أكثر جرأةً وتعدّياً من ذي قبل الأمر الذي سيجرّه تدريجيّاً إلى ارتكاب جرائم أكبر وأبشع. فالعفو والتسامح غير محبّذين في مثل هذه الحالات، بل لابدّ هنا من المعاقبة، أو جرّه إلى المحاكم وتسليمه لحكم المحكمة إذا لزم الأمر كي يتأدّب هو من ناحية، ويشاهد الآخرون عاقبة السلوك الفاسد والمشين من ناحية اخرى.

إذن فالعفو والصفح ليسا مطلوبين دائماً، بل إنّهما يكونان محبّذين في الحالات التالية: أوّلاً: عندما يكون الحقّ متعلّقاً بالشخص نفسه وليس بغيره؛ فلا يحقّ لرئيس المصرف مثلاً أن يعفو عن موظّف مختلس. ثانياً: أن لا يكون العفو سبباً في التجرّؤ على ارتكاب الجرم وتفشّيه. ومن هنا فقد تحدّثت روايات عديدة عن أنّ البركة في تنفيذ حدّ واحد من حدود الله يفوق بركة هطول المطر لأربعين يوماً بلياليها: «حدّ يُقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين ليلة وأيّامه»8. فلولا المصالح المذكورة في تنفيذ الحدود لم يكن الله عزّ وجلّ ليسنّ قوانين الجزاء. كما أنّ تنفيذ القوانين الجزائيّة ليست بحاجة إلى مُدَّع خاصّ، بل إنّ المدّعي العامّ كاف ليدّعي على المجرم ويدينه بالإخلال بأمن المجتمع، أو تخطّي حدود الله؟

إذن على المرء إجمالاً أن يقيس أيّهما أكثر نفعاً لنفس الشخص الخاطئ ولسائر المسلمين؛ هل هو العفو عنه أم تنفيذ العقوبة بحقّه؟ بالطبع هذا القياس لا يكون دقيقاً دائماً، وهو ليس من اختصاص أيّ أحد، لكن لابدّ من تحقّقه على أيّة حال.

الوصيّة الثانية: لا تخن!

الوصية الثانية التي يوصي بها الإمام الباقر (عليه السلام) جابر هي: «وَإِنْ خَانُوكَ فَلا تَخُنْ»؛ أي: إذا خانك الناس فلا تبادرهم بالخيانة. والخيانة بالطبع هي إحدى مصاديق الظلم، لكنّ ذكرها بالخصوص هو من باب الاهتمام ببعض مصاديق الظلم التي قد لا تتبادر إلى الذهن.

معنى الخيانة ومفهومها

يُستخدم مصطلح الخيانة في الأصل في موارد خيانة الأمانة. فالله عزّ وجلّ يقول في كتابه الكريم: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا»9، لكنّه يوجد من يخون الأمانة على الرغم من هذا الأمر الإلهيّ؛ أي عوضاً عن أداء الأمانة إلى أصحابها فهو ينكرها أو ينقص منها أو يقصّر في حفظها وصيانتها، وهذا من مصاديق الخيانة. فأكثر الأمثلة شيوعاً للخيانة هي خيانة الأمانة، وبناء عليه يكون معنى الرواية: «إذا خانك الآخرون بعدم أداء المال الذي ائتمنته عندهم أو بتضييعه فلا تقابلهم بنفس الاُسلوب».

لكن قد يتّسع مفهوم الخيانة ليشمل الخيانة لكلّ تعهّد والتزام. فقد يتعهّد شخصان أو فريقان ببعض الاُمور فلا يفي أحد الطرفين بهذا التعهّد ويخون العهد. وهذا لا يُعَدّ اصطلاحاً خيانةً للأمانة، بل هو خيانة للتعهّد المبرَم مع الآخرين.

وهذان المفهومان (وهما: أداء الأمانة، والوفاء بالعهد) هما من أكثر القيم التي تشكّل قوام الحياة الاجتماعيّة عموميّةً. فحتّى لو لم يكن لجماعة من الناس أيّ دين تدين به أو مذهب عقائديّ خاصّ، ولم يكونوا أصحاب أيّ مدرسة أخلاقيّة، أو تابعين لأيّ حكيم أو شخصيّة عظيمة لكنّهم يريدون أن يهنأوا بحياة اجتماعيّة مريحة مع بعضهم فإنّه يتحتّم عليهم مراعاة هذين الأمرين. فالذين وقّعوا صلح الحديبيّة مع النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) كانوا عبَدة أوثان، لكنّ جلوسهم مع النبيّ واستعدادهم لأن يوقّعوا وثيقة صلح معه (صلّى الله عليه وآله) يعني أنّهم يقولون في قرارة أنفسهم: إنّنا ملتزمون بهذا العقد. يقول القرآن الكريم في هذا المجال: «فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ»10، فطالما التزم الذين أبرمتم معهم عهداً بهذا العهد فلا تنكثوه أنتم. فإذا نكثوا هم العهد من جانبهم فمن حقّكم حينئذ أن تنكثوه أنتم ولا تلتزموا به؛ لكن ما داموا أوفياء به فأنتم أولى منهم بالوفاء به.

القيمة الثانية التي تقوم الحياة الاجتماعيّة عليها هي أداء الأمانة. يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): «لو أنّ قاتل أبي الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهما السلام) ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته إليه»11. بالطبع إنّ للمرء أن يرفض قبول الأمانة ابتداءً، لكنّه إذا قبلها فعلَيه أن يبذل قصارى جهده في الحفاظ عليها وردّها إلى صاحبها. فهذان العاملان هما من أكثر الاُصول الأخلاقيّة عموميّةً واستحكاماً في حياة البشر الاجتماعيّة. فمصداق الخيانة يتحقّق في مثل هذه الموارد وهي تعني هنا سحق هذين الأصلين اللذّين يتمسّك بهما جميع العقلاء من البشر.

موضوع وصيّة الإمام الباقر (عليه السلام)

قلنا إنّ الخيانة تتعلّق بالعقد المبرَم بين طرفين وعندما لا يراعي أحد الطرفين ما تعاقدا عليه فإنّه سيحتفظ الطرف الآخر بحقّ المقابلة بالمثل. والسؤال الوارد هنا هو: هل إنّ الإمام الباقر (عليه السلام) أشار إلى هذه الاُمور في وصيّته: «وَإِنْ خَانُوكَ فَلا تَخُنْ»؟ على الأقوى أنّه (عليه السلام) لم يُرد هذا المعنى؛ ذلك أنّه عندما ينقض أحد الطرفين العقد فإنّه لا يعود هناك في ذمّة الطرف الآخر عقدٌ كي يُعدّ عدم الالتزام به خيانة. بل إنّ مراده هو عين ما ذكرنا بالنسبة للوصيّة الاُولى: «إِنْ ظُلِمْتَ فَلا تَظْلِمْ»، وهو أنّه عندما يقع على المرء ظلم فسيتولّد في نفسه دافع أكبر لمقابلة الطرف المقابل بما يزيد عن المِثْل، فيكون قد ظلم. فهذه الوصيّة تتضمّن تحذيراً للإنسان في المواطن التي يجد في نفسه حافزاً أكبر للظلم. وكذا الأمر في الخيانة، فعندما يتعرّض المرء لخيانة فإنّه يتولّد في داخله دافع لتخطّي حدود الحقّ. إذن فإنّ عبارة: «وَإِنْ خَانُوكَ فَلا تَخُنْ» تمثّل هي الاخرى إنذاراً للإنسان بأن لا يتعدّى على حدود الحقّ في مثل هذه المواقف. في حين أنّه ليس ثمّة ما يوجب الالتزام والتمّسك بذلك العقد الذي اُلغي بخيانة الطرف المقابل. بالطبع قد يبقى الإنسان ملتزماً بعهده حتّى في مثل هذه المواطن رعايةً منه لأمر أخلاقيّ أو تربويّ وهو أن يلقّن الطرف المقابل درساً وينبّهه لخطئه، كما مرّ بيانه في مسألة العفو والصفح. فإن طُرحت أمثال هذه الاُمور فستشكّل موارد استثنائيّة قد تكون مطلوبة بعناوين اُخرى.

الوصيّة الثالثة: «إِنْ كُذِّبْتَ فَلا تَغْضَبْ»

الوصيّتان الاُولَيان ترتبطان بالمسائل العمليّة والسلوكيّة أكثر من غيرها. لكن قد تقع أحياناً بعض الامور التي تثير غضب الإنسان وتمهّد الأرضيّة لارتكابه المعصية. والمثال على هذه الامور هو عندما يقول المرء لأحد شيئاً خدمةً له، أو لأجل إصلاحه أو إرشاده لا يحدوه لذلك سوى الخير والحرص على مصالح ذلك الشخص، لكنّ ذلك الشخص يردّ طالب الخير هذا باتّهامه بالكذب قائلاً له: «إنّك تكذب، وتضمر نيّات سيّئة»! وأوضح مثال على هذا السلوك هو ما صنعه الكفّار مع الأنبياء. فالكلام الذي أتى به أنبياء الله (صلوات الله عليهم أجمعين) للبشر هو الأكثر صدقاً والأوفر فائدة والأعظم أثراً من بين كلّ ما يمكن أن يقدّمه بشر لبشر طلباً لنجاته نجاةً أبديّة. لكنّنا نجد أنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّه ما من نبيّ أرسلناه إلاّ وكذّبه قومه، بل واستهزأوا به أيضاً. فالناس العاديّون يستاءون كثيراً في مواطن كهذه وتُثار حفيظتهم بل وقد ينجرّون إلى الدخول في مشاجرات ويبدر منهم سلوك مشين أيضاً. إذن فمن المناسب هنا أن يبادر مَن هم مِن أمثال الإمام الباقر (عليه السلام) لنصيحة جابر بالقول: «إِنْ كُذِّبْتَ فَلا تَغْضَبْ»، فعندما لا يكون ثمّة قصد غير طلب الخير للآخرين وإنّ الطرف الآخر لا يقدر ذلك حقّ قدره فيتعيّن على الذين ينتهجون نهج الأنبياء أن يستعدّوا للسيطرة على أنفسهم ومشاعرهم عندما يواجَهون بتكذيب المعارضين وأن لا يغضبوا. فإذا لم يُعِدّ المرء نفسه مسبقاً لمواجهة مثل هذه السلوكيّات فسوف لن يتمالك نفسه ويخرج عن حالته السويّة، لكنّه إذا لقّن نفسه قبل الولوج في هذا الميدان فسوف لن يشقّ عليه كثيراً تكذيب المكذّبين ومعارضة المعارضين. فإذا أحبّ المرء نصيحة الآخرين طلباً لخيرهم فليحدّث نفسه قائلاً: «إذا كُذِّبتُ فعليّ أن لا أعبأ بكلامهم. فإنّ على عاتقي مهمّة وقد أدّيتها؛ وإنّ على الطرف المقابل تكليفاً وهو مخيّر بين أن يعمل أو لا يعمل به، فهو الذي يتحمّل في النهاية مسؤوليّة فعله، ولا أتحمّل أنا أيّ مسؤوليّة»، وعندها لن يغضب في مقابل إساءة الآخرين له. وهذه هي الوصيّة الثالثة التي وجّهها الإمام (عليه السلام) إلى جابر.

وفّقنا الله وإيّاكم للعمل بها إن شاء الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. تحف العقول، ص284.

2. سورة المائدة، الآية 8.

3. سورة البقرة، الآية 237.

4. وسائل الشيعة، ج15، ص121.

5. سورة المائدة، الآية 32.

6. سورة «المؤمنون»، الآية 96.

7. سورة فصّلت، الآية 34.

8. الكافي، ج7، ص174.

9. سورة النساء، الآية 58.

10. سورة التوبة، الآية 7.

11. الأمالي للصدوق، ص246.

* المصدر: الموقع الإعلامي لسماحة آية الله مصباح اليزدي 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1921
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 04 / 19
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24