• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : مؤلفات الدار ونتاجاتها .
              • القسم الفرعي : مقالات المنتسبين والأعضاء .
                    • الموضوع : العوامل النفسية لارتكاب الذنوب والمعاصي - القسم الأول .

العوامل النفسية لارتكاب الذنوب والمعاصي - القسم الأول

 إعداد: سيّد حكمت الموسوي / القسم الثقافي

كما أنّ الأمراض البدنية لها آثار سيئة على الأبدان، كذلك الأمراض النفسية، فإنّ لها آثاراً كبيرة وعميقة على لوحة النفس الإنسانية، والذنوب التي يرتكبها الإنسان هي من أخطر تلك الأمراض التي تحل في النفس وتميت القلب ولها تبعات كثيرة تعرقل مسيرة الإنسان نحو الكمال المنشود الذي رسمه الله تعالى له المتمثّل باتباع طريق الخير والسير عليه، ونبذ طريق الشر والابتعاد عنه، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [سورة الإنسان، 3].

إنّ كل فعل يصدر من الإنسان ـ خيراً كان أو شراً ـ يترك أثراً واضحاً على تكوين الإنسان النفسي وتشكيله الذاتي وسلوكه الاعتيادي؛ فالذنوب إذا ما تراكمت وتجمّعت، صنعت حاجباً ضبابياً، ومحيطاً ظلامياً، يحول بين النفس وبين رؤية النور، وتلمس طريق الاستقامة، فهناك علاقة طبيعية بين تراكم الذنوب وبين التطبّع والاعتياد على الانحراف، وتشكيل شخصية إنسانية معقّدة ومريضة، فإنّ الإدمان على الجريمة والذنب يمتص كلّ ردود الفعل المعاكسة التي يبديها الضمير والإحساس الإنساني اليقظ، ويسخّر حركة النفس كلّها باتجاه الفعل الشاذ والمنحرف، نتيجة للتكرار والاعتياد. وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه الوضعية الإنسانية المنحرفة، ولخّص تحليلها وأسسها النفسية وأبعادها السلوكية، قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [سورة البقرة، 10]، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة المطففين، 14]، {.. فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة الصف، 5]، {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [سورة غافر، 35]، {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [سورة البقرة، 74]، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [سورة النساء، 155].

فهذا التحليل القرآني، يمنح الإنسان رؤية علمية ويبصره بأثر الذنوب على النفس الإنسانية، ويحذّره من المردودات السلبية التي تنعكس على النفس، وتحوّل الشخص السوي إلى شخص مدمن على الجريمة، معتاد على الذنب، لا يفرق بين المحرّم وبين المباح، ولا يميّز بين أن يعيش على السرقة والغش وبين أن يكسب من عرق جبينه وعصارة جهده، ولا يعنيه أن يبيع كرامته أو يسقط حرمة نفسه لقاء ثمن بخس لا يزيد على ملء بطنه، إنّ مثل هذا الشخص سيوغل في الذنب، ويتمادى في الجريمة، حتى يتحوّل إلى مجرم معتاد يحبّ الجريمة ويتلذّذ باقترافها، ولا تستريح نفسه إلا بممارستها.

فالإنسان إذا ما اعتاد على ارتكاب الجرائم والآثام، أثّر ذلك على قلبه، وتراكمت عليه، وحالت بينه وبين الرؤية السليمة، فلا يبصر الاستقامة، ولا يستسيغ حياة الفضيلة، لذلك وصف القرآن الكريم هذه النفوس المجرمة بأنّها نفوس مريضة، وعليها حجاب أو مطبوع عليها؛ أي: متشكّلة بموجب السلوك الإجرامي وطبيعة الانحراف الذي اختارته تلك القلوب طريقاً لها في التعامل والتصرّفات.

وقد جاء حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في أثر الذنب على الشخصية الإنسانية كاشفاً ومفسّراً لمضمون هذه العبارات القرآنية وموضحاً لها، فقال (عليه السلام): >ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة، إن القلب ليواقع الخطيئة، فما تزال به حتى تغلب عليه، فيصير أعلاه أسفله< [الكافي، ج2، ص268]، لذلك أمر الإنسان المسلم أن لا يستهين بذنب، ولا يستصغر معصية، وأن يحاسب نفسه ويستغفر، كلما أذنب وعصى، لتتّسع المسافات والأبعاد النفسية بينه وبين الذنب، وليبقى يقظ الضمير، حي الإحساس، سليم النفس، مستقيم السلوك.

عوامل وأسباب ارتكاب الذنوب والمعاصي

المذنب لا يقدم على الذنب، والمجرم لا يفعل الجريمة حين يفعلها، إلا وهو واقع تحت تأثير عوامل ودوافع ذاتية، وأخرى خارجية، تقوده إلى تزيين الشرّ والجريمة، وتحبّب له العصيان والانحراف: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة فاطر، 8].

فيقدم العاصي على ارتكاب تلك الحماقة متأثّراً بهذه العوامل أو تلك، وواقعاً تحت تأثيرها، وهو يوهم نفسه أنّ ما يفعله كان ضرورياً ومقبولاً، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [سورة الكهف، 103-104].

لذا فهو يبحث عن المبرّر المعقول لديه، فيقنع نفسه بصحّة فعله، لذلك وضع الإسلام منهجاً متكامل الخطوات، يعمل على أساس الوقاية والعلاج، لاستئصال الذنب، ومكافحة الجريمة، وإنقاذ الإنسان بتتبّع منابع الجريمة وأسباب الذنب، وقلع جذورها، أمّا هذه الأسباب فأهمّها:

1. الجهل

يلعب الجهل دوراً خطيراً في حياة الإنسان، فهو سبب رئيس من أسباب الضلال والضياع، وهو عامل من عوامل الفساد والانحراف، ذلك لأنّ الجاهل لا يدرك خطورة فعله، ولا يعرف نتائج سلوكه المشين. والقرآن يردّ أسباب الكفر والضلال والذنب إلى الجهل؛ لأنّه يحول بين صاحبه وبين رؤية الحق، لذلك أرسل الله سبحانه الأنبياء والرسل، وحثّ على طلب العلم والمعرفة، ليتمكّن الإنسان من تحصيل خيره وسعادته، فيصغي إلى صوت الحق، ويستجيب لدعوة الخير. قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة الزمر، 9].قال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة الرعد، 19]، وقال سبحانه: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة النمل، 80 - 81]، {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [سورة الأحقاف، 23].

2. الانحراف النفسي

والعنصر الثاني من عناصر صنع الذنب والجريمة، هو الانحراف النفسي، والمرض الأخلاقي الذي تصاب به الشخصية، بسبب البيئة أو التربية أو الوراثة.. إلخ؛ لأنّ النفس البشرية، تكون في بداية تكوّنها سليمة ما لم تطرأ عليها عوامل الانحراف، فإنْ هي تعرّضت لتلك العوامل المرضية، أمكن معالجتها، وتطهير أعماقها، وتصحيح مسارها؛ لتتطابق مع قانون الفطرة العام، وتصبح قادرة على الالتزام والاستقامة.

أمّا إذا انحرفت النفس الإنسانية عن خطها الفطري السليم، بسبب اختلال توازنها، واضطراب محفزّاتها وغاياتها، ولم تخضع لعملية معالجة وتطهير، فإنّها تصاب بحالة مرضية مستعصية، فتجنح للانحراف بدل الاستقامة، وللتفريط بدل الاعتدال، فتطغى عليها النوازع الشهوانية، والاندفاعات البهيمية؛ كالأنانية الميتة، والكبرياء، والحقد، والجشع، والحرص، والانتقام، والشعور بالنقص، والنهم الحسّي الذي يقود المريض إلى السقوط تحت وطأة اللّذة الحسية وعدم الشبع منها.. إلخ، فيلجأ المريض المنحرف إلى القتل والسرقة والزنا والكذب والاحتيال والغشّ وشرب الخمر والظلم، ورفض الإيمان بالله والتحلّل من قيم الأخلاق، لذلك حشد الإسلام كل الوسائل الكفيلة لاقتلاع جذور الانحراف النفسي، والشذوذ المرضي، لإصلاح الفرد والعودة به من شقاء الذنوب إلى طمأنينة الطاعة وسعادتها، فاستعرض القرآن كثيراً من شخصيّات المنحرفين، واهتمّ بتحليل تركيبها، وكشف أعماقها السوداء، لكي يعرف الإنسان سبب ضلاله ومعصيته، فقال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [سورة يونس، 75]، {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [سورة البقرة، 10]، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة المطففين، 13 - 14].

وبهذا، يشرح القرآن حقيقة الدوافع المرضية الكامنة وراء الانحراف والجريمة؛ ليؤكّد أنّ هؤلاء المنحرفين هم ذوو قلوب مريضة، ونفوس منحرفة، يطغى عليهم الفساد والكبرياء، لذلك يتنكّرون للحقّ والرشاد، ويتعمّدون الذنب والضلال، تأثّراً بتلك الدوافع المرضية التي غطّت وعيهم وإحساسهم السليم.

3. غياب الوازع الذاتي وعدم الإيمان بالجزاء الأخروي

عندما يموت ضمير الإنسان، ويغيب حسّه الأخلاقي، وعندما يأمن الرقابة، ويطمئنّ إلى عدم وجود المسؤولية والعقاب، عندما تجتمع هذه العوامل كلّها لشخص لا يؤمن بالله، ولا يعتقد بعالم الجزاء والحساب بعد الموت، فإنّه لا يجد حرجاً ولا مانعاً يحول بينه وبين الذنب والجريمة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [سورة هود، 19]؛ بعكس الإنسان المؤمن الذي يربّيه الإسلام ويركّز في نفسه عقيدة الإيمان بالله، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [سورة النازعات، 40-41]، فإنّ مثل هذا الإنسان يشعر برقابة لا تغيب، ويؤمن بأنّ كل عمل أو تفكير يصدر عنه، لا يمكن أن يكون بلا حساب أو مسؤولية؛ لذلك فإنّ هذا الإحساس الأخلاقي والإيمان الروحي، يشكّل وقاية للفرد والمجتمع من السقوط تحت أقدام الجريمة، أو الوقوع في هاوية الذنب وما يترتّب عليها من شقاء.

4. الإحساس بالحاجة

للإنسان حاجة طبيعية، من الغذاء واللّباس والجنس والسكن واللّوازم الحياتية المختلفة، فهو يبذل جهوده لتحصيلها، والاطمئنان على توفّرها، فإن حالت دون توفّرها الحواجز، وعجز عن تحصيلها، قد يلجأ إلى الذنب والجريمة، فيسرق ويقتل ويزني ويكذب ويغشّ ويحتال من أجل أن يشبع حاجته بطرق محرّمة، وبوسائل ملتوية شاذّة.

وقد عالج الإسلام موضوع الحاجة ووضع التشريعات القانونية، وثبّت القيم الأخلاقية التي تتكفّل بسدّ حاجة كلّ فرد من أفراد المجتمع، وتساعد على استئصال جذور الجريمة وتقريب الأفراد من الطاعة والاستقامة، واعتبر الفقر سبباً من أسباب الانحراف، فقد ورد في الحديث الشريف: >نِعْم العون على تقوى الله الغنى< [الكافي، ج5، ص71].

وورد في حديث آخر: >غنىً يحجزك عن الظلم خيرٌ من فقر يحملك على الإثم< [الكافي، ج5، ص72].

ولم يعتبر مخالفة القانون في وقت الاضطرار والضرورات القصوى جريمة ولا معصية، وحسبما هو مقرّر في الفقه الإسلامي؛ لأنّ المقدم عليها لا يحمل نفسية المجرم، ولا يقصد الذنب أو التجرّؤ والخروج على القانون؛ بل تضطرّه الظروف المحيطة به إلى الخروج والتجاوز المؤقّت، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة البقرة، 173].

وبعكس المجتمع الإسلامي، فإنّ المجتمعات غير الإسلامية، التي يقع أفرادها تحت ضغط الحاجة، يجدون أنفسهم مدفوعين إلى مخالفة القانون والنظام، الذي فرض عليهم الجريمة، عندما لا يضمن لهم سبل العيش السوي، ولم يتكفّل ببناء الإنسان وتربيته بعيداً عن أجواء الجريمة والسقوط.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1897
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 02 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24