• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : القرآن والمجتمع .
                    • الموضوع : تحريم الغناء في القرآن الكريم والسنّة الشريفة (*) .

تحريم الغناء في القرآن الكريم والسنّة الشريفة (*)

 آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله)

قال تعالى في كتابه الكريم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة لقمان: 6-9].

قال بعض المفسرين: نزل قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} في النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصي بن كلاب، كان يتجر فيخرج إلى فارس، فيشتري أخبار الأعاجم، ويحدث بها قريشاً، ويقول لهم: إنّ محمّداً يحدّثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم، وإسفنديار، وأخبار الأكاسرة. فيستمعون حديثه، ويتركون استماع القرآن.

وقال البعض الآخر: إنّ هذا المقطع من الآيات نزل في رجل اشترى جارية مغنية، وكانت تغنيه ليل نهار فتشغله عن ذكر الله.

يقول المفسر الكبير الطبرسي (رحمه الله)، بعد ذكر سبب النزول هذا: "ويؤيده ما رواه أبو امامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يحل تعليم المغنيات، ولا بيعهن، وأثمانهن حرام، وقد نزل تصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي} الآية" [تفسير مجمع البيان: ج8، ص76].

الغناء أحد مكائد الشياطين الكبيرة

الكلام في هذه الآيات عن جماعة يقعون تماماً في الطرف المقابل لجماعة المحسنين والمؤمنين الذين ذكروا في الآيات السابقة.

الكلام والحديث هنا عن جماعة يستخدمون طاقاتهم من أجل بث اللا هدفية وإضلال المجتمع، ويشترون شقاء وبؤس دنياهم وآخرتهم! فتقول أوّلاً: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [ضمير "يتخذها " يعود إلى (آيات الكتاب) التي وردت في الآيات السابقة]. ثم تضيف أخيراً: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}.

إنّ شراء لهو الحديث والكلام الأجوف إما أن يتم عن طريق دفع المال في مقابل سماع الخرافات والأساطير، كما قرأنا ذلك في قصة النضر بن الحارث. أو أن يكون عن طريق شراء المغنيات لعقد مجالس اللهو والباطل والغناء. أو صرف المال بأي شكل كان وفي أي طريق للوصول إلى هذا الهدف غير المشروع، أي لهو الحديث والكلام الفارغ.

والعجيب أن عمي القلوب هؤلاء، كانوا يشترون الكلام الباطل واللهو بأغلى القيم والأثمان، ويعرضون عن الآيات الإلهية والحكمة التي منحهم الله إياها مجاناً!

ويحتمل أيضاً أن يكون للشراء هنا معنى كنائي، والمراد منه كل أنواع السعي للوصول إلى هذه الغاية.

وأمّا لهو الحديث فإنّ له معنًى واسعاً يشمل كل نوع من الكلام أو الموسيقى أو الترجيع الذي يؤدي إلى اللهو والغفلة، ويجر الإنسان إلى اللا هدفية أو الضلال، سواء كان من قبيل الغناء والألحان والموسيقى المهيجة المثيرة للشهوة والغرائز والميول الشيطانية، أو الكلام الذي يسوق الإنسان إلى الفساد عن طريق محتواه ومضامينه، وقد يكون عن كلا الطريقين كما هو الحال في أشعار وتأليفات المغنين الغرامية العادية المضللة في محتواها وألحانها.

أو يكون كالقصص الخرافية والأساطير التي تؤدي إلى انحراف الناس عن الصراط المستقيم.

أو يكون كلام الاستهزاء والسخرية الذي يطلق بهدف محو الحق وتضعيف أسس ودعائم الإيمان، كالذي ينقلونه عن أبي جهل أنه كان يقف على قريش ويقول: أتريدون أن أطعمكم من الزقوم الذي يتهدّدنا به محمد؟ ثم يبعث فيحضرون الزبد والتمر، فكان يقول: هذا هو الزقوم! وبهذا الأسلوب كان يستهزئ بآيات الله.

وعلى كل حال، فإنّ للهو الحديث معنًى واسعاً يتضمّن كل هذه المعاني وأمثالها، وإذا أشارت الروايات الإسلامية وكلمات المفسرين إلى إحداها، فإنّ ذلك لا يدلّ مطلقاً على انحصار معنى الآية فيه.

وتلاحظ في الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تعبيرات تبيّن سعة معنى هذه الكلمة، ومن جملتها ما نراه في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): "الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله، وهو مما قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}" [وسائل الشيعة، ج 12، ص 228 باب تحريم الغناء].

والتعبير ب‍ (لهو الحديث) بدلاً من (حديث اللهو) ربما كان إشارة إلى أنّ الهدف الأساس لهؤلاء هو اللهو والعبث، والكلام والحديث وسيلة للوصول إليه. ولجملة ليضل عن سبيل الله مفهوم واسع أيضاً، يشمل الإضلال العقائدي، كما قرأنا ذلك في قصة النضر بن الحارث وأبي جهل، وكذلك يشمل الإفساد الأخلاقي كما جاء في أحاديث الغناء.

والتعبير ب‍ (بغير علم) إشارة إلى أنّ هذه الجماعة الضالّة المنحرفة لا تؤمن حتى بمذهبها الباطل، بل يتبعون الجهل والتقليد الأعمى لا غير، فإنهم جهلاء يورطون ويشغلون الآخرين بجهلهم.

هذا إذا اعتبرنا (بغير علم) وصفاً للمضلّين، إلا أنّ بعض المفسرين اعتبر هذا التعبير وصفاً للضالّين، أي أنهم يجرّون الناس الجهلة إلى وادي الانحراف والباطل دون أن يعلموا بذلك لجهلهم.

إنّ هؤلاء المغفّلين قد يتمادون في غيّهم فلا يقنعون بلهو هذه المسائل، بل إنهم يجعلون كلامهم الأجوف ولهو حديثهم وسيلة للاستهزاء بآيات الله، وهذا هو الذي أشارت إليه نهاية الآية حيث تقول: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا}.

أمّا وصف العذاب ب‍ (المهين) فلأنّ العقوبة متناغمة مع الذنب، فإنّ هؤلاء قد استهزأوا بآيات الله وأهانوها، ولذلك فإنّ الله سبحانه قد أعدّ لهم عذاباً مهيناً، إضافة إلى كونه أليماً.

وأشارت الآية التالية إلى ردّ فعل هذه الفئة أمام آيات الله، وتوحي بالمقارنة بردّ فعلهم تجاه لهو الحديث، فتقول: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} أي: ثقلاً يمنعه من السماع..

ثم تذكر أخيراً عقاب مثل هؤلاء الأفراد الأليم فتقول: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.

إنّ التعبير ب‍ {وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} إشارة إلى أنّ إعراضه لم يكن نابعا من تضرر مصالحه الدنيوية والحد من رغباته وشهواته فحسب، بل إن الأمر أكبر من ذلك، فإن فيه دافع التكبر أمام عظمة الله وآياته، وهو أعظم ذنب فيه.

والرائع في تعبير الآية أنها تقول أوّلاً: إنّه لم يعبأ بآيات الله كأنّه لم يسمعها قط، ويمرّ عليها دون اكتراث بها، ثم تضيف: بل كأنه أصم لا يسمع أي كلام قط! إنّ جزاء مثل هؤلاء الأفراد يناسب أعمالهم، فكما أنّ أعمالهم كانت مؤلمة ومؤذية لأهل الحق، فإنّ الله سبحانه قد جعل عقابهم وعذابهم أليماً أيضاً.

وينبغي الالتفات إلى أنّ تعبير (بشر) في مورد العذاب الإلهي الأليم، يتناسب مع عمل المستكبرين الذين كانوا يتّخذون آيات الله هزواً، والتشبه بصفات أبي جهل، حيث كانوا يفسرون (زقوم جهنم) بالزبد والتمر!

ثمّ تعود الآيات التالية إلى شرح وتبيان حال المؤمنين الحقيقيين، وقد بدأت السورة في مقارنتها هذه بذكر حالهم أوّلاً ثم ختمت به في نهاية هذا المقطع أيضاً، فتقول: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}.

أجل، إنّ هذه الفئة على عكس المستكبرين والضالّين المضلّين الذين لا يرون آثار قدرة الله في عالم الوجود، ولا يصغون إلى كلام أنبياء الله.

إنّ هؤلاء يؤمنون بحكم العقل الواعي، والعين البصيرة، والاذن السامعة التي منحهم الله إياها، يؤمنون بآيات الله ويعملون بها صالحاً، فما أجدر أن يكون لأولئك العذاب الأليم، ولهؤلاء جنات النعيم!

والأهم من ذلك أنّ هذه الجنان الوافرة النعم خالدة لهؤلاء خالدين فيها، وَعْدُ الله حقاً، والله سبحانه لا يَعِدُ كذباً، وليس عاجزاً عن الوفاء بوعوده، وهو العزيز الحكيم.

وثمة مسألة تستحق الدقة، وهي أنه قد ورد العذاب في حق المستكبرين بصيغة المفرد، وفي شأن المؤمنين الذين يعملون الصالحات جاءت (الجنات) بصيغة الجمع، وذلك لأنّ رحمة الله عز وجل وسعت غضبه.

والتأكيد على الخلود ووعد الله الحق، تأكيد أيضاً على سعة هذه الرحمة، وتفوقها على الغضب.

وللنعيم معنى واسع يشمل كل أنواع النعم المادية والمعنوية، وحتى النعم التي لا يمكن أن ندركها، فنحن أسارى شهوات البدن في هذه الدنيا، والراغب في (مفرداته) يقول: النعيم: النعمة الكثيرة.

تحريم الغناء

لا شك في أنّ الغناء بصورة إجمالية حرام على المشهور بين علماء الشيعة، وتصل هذه الشهرة إلى حدّ الإجماع.

وأكّد كثير من علماء أهل السنة على هذه الحرمة، وإن كان بعضهم قد استثنوا بعض الأمور، وربما لا يعد بعضها استثناء في الحقيقة، بل تعتبر خارجة عن موضوع الغناء، أو كما يقال: خارج تخصّصاً.

يقول "القرطبي" في ذيل الآيات مورد البحث في هذا الباب: "وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يحرّك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل، والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه، لأنه اللهو والغناء المذموم بالإتفاق، فاما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة كما كان في حفر الخندق وحد وأنجشة وسلمة بن الأكوع، فاما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام" [تفسير القرطبي، ج 7، ص 5136].

إنّ ما ذكره القرطبي وبيّنه كاستثناء، من قبيل الحداء للإبل، أو الأشعار الخاصة التي كان يقرؤها المسلمون أثناء حفر الخندق، يحتمل قوياً أنّه لم يكن من الغناء أساساً، فهو شبيه بالأشعار التي يقرؤها جماعة بلحن خاص في المسيرات أو مجالس الفرح ومجالس العزاء الدينية.

وفي أيدينا أدلّة كثيرة على تحريم الغناء في المصادر الإسلامية، ومن جملتها الآية أعلاه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} وبعض آيات أخر من القرآن التي تنطبق ـ على الأقل طبق الروايات الواردة في تفسير هذه الآيات ـ على الغناء، أو أنّ الغناء اعتبر من مصاديقها:

ففي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير آية: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج/ 30] قال: "قول الزور الغناء" [وسائل الشيعة، ج 12، ص 225 - 227، 231 باب تحريم الغناء].

وعنه (عليه السلام) في تفسير الآية: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان/ 72] قال: "الغناء" [المصدر السابق].

وقد رويت في تفسير هذه الآية روايات عديدة عن الإمام الباقر والصادق والرضا (عليهم السلام) أوضحوا فيها أنّ أحد مصاديق لهو الحديث الموجب للعذاب المهين هو "الغناء" [المصدر السابق].

إضافة إلى هذا فإنّه تلاحظ في المصادر الإسلامية روايات كثيرة أخرى ـ عدا ما ورد في تفسير الآيات ـ تبيّن تحريم الغناء بصورة مؤكّدة:

ففي حديث مروي عن جابر بن عبد الله، عن النبي (صلى الله عليه وآله): "كان إبليس أول من تغنى" [المصدر السابق].

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): "بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة، ولا تجاب فيه الدعوة، ولا يدخله الملك" [وسائل الشيعة، ج12، ص225-230].

وفي حديث آخر عنه (عليه السلام): "الغناء يورث النفاق، ويعقب الفقر" [المصدر السابق].

وفي حديث آخر عن الصادق (عليه السلام): "المغنية ملعونة، ومن أداها ملعون، وآكل كسبها ملعون" [سفينة البحار، ج2، ص338].

وقد نقلت روايات كثيرة في هذا المجال في كتب أهل السنة المعروفة أيضاً، ومن جملتها الرواية التي نقلها في (الدر المنثور) عن جماعة كثيرة من المحدثين، عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: "لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن، وأثمانهن حرام" [الدر المنثور ذيل الآية مورد البحث].

ونقل نظير هذا المعنى كاتب (التاج) عن الترمذي والإمام أحمد [التاج، المجلد، ج5، ص287].

ويروي ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل" [تفسير روح المعاني، ذيل الآية مورد البحث].

وبالجملة، فإنّ الروايات الواردة في هذا الباب كثيرة جداً بحيث تصل إلى حد التواتر، ولهذا فإن أكثر علماء الإسلام قد أفتوا بالحرمة، علاوة على علماء الشيعة، الذين يتفقون بالرأي في هذا الموضوع تقريباً، وقد نقل تحريمه عن أبي حنيفة أيضاً، وعندما سألوا "أحمد" ـ إمام السنة المعروف ـ عن الغناء قال: ينبت النفاق.

وقال "مالك" ـ إمام أهل السنة المعروف ـ مجيباً عن هذا السؤال: يفعله الفساق.

وصرح "الشافعي" بأنّ شهادة أصحاب الغناء غير مقبولة، وهذا بنفسه دليل على فسق هؤلاء.

ونقل عن أصحاب الشافعي أيضاً أنّهم اعتبروا فتوى الشافعي تحريماً، على خلاف ما اعتقده البعض [تفسير روح المعاني، ذيل الآيات مورد البحث].

ما هو الغناء؟

لا يواجهنا إشكال مهم في حرمة الغناء، إنما الإشكال الصعب هو تشخيص موضوع الغناء، فهل أنّ كل صوت حسن غناء؟

من المسلّم أنّ الأمر ليس كذلك، لأنّه قد ورد في الروايات الإسلامية، وسيرة المسلمين تحكي أيضاً، أن اقرؤوا القرآن وأذّنوا بصوت حسن.

هل أنّ الغناء كل صوت فيه ترجيع ـ وهو تردّد الصوت في الحنجرة ـ ؟ هذا أيضاً غير ثابت.

والذي يمكن استفادته من مجموع كلمات فقهاء وأقوال أهل السنة في هذا المجال، أنّ الغناء هو كل لحن وصوت يطرب، ويشتمل على اللّهو والباطل.

وبعبارة أوضح: الغناء هو الأصوات والألحان التي تناسب مجالس الفسق والفجور، وأهل المعصية والفساد.

وبتعبير آخر: الغناء يقال للصوت الذي يحرّك القوى الشهوانية في الإنسان، بحيث يشعر الإنسان في تلك الحال بأنّه لو كان إلى جانب هذا الصوت خمر ومسكر وإباحة وفساد جنسي، لكان ذلك مناسباً جداً !

وهناك مسألة تستحق الانتباه، وهي أنّ بعض الألحان تعدّ أحياناً غناءً ولهواً باطلاً بذاتها ومحتواها، مثال ذلك أشعار العشق والغرام والأشعار المفسدة التي تقرأ بألحان وموسيقى راقصة.

وقد تكون الألحان بذاتها غناءً أحياناً أخرى، مثال الأشعار الجيدة، أو آيات القرآن والدعاء والمناجاة التي تقرأ بلحن يناسب مجالس الفاسدين والفساق، وهو حرام في كلام الصورتين "فتأمّل".

وثمّة مسألة ينبغي ذكرها، وهي أنّه يذكر للغناء معنيان: معنى عام، ومعنى خاص، والمعنى الخاص هو ما ذكرناه أعلاه، أي: الموسيقى والألحان التي تحرّك الشهوات، وتناسب مجالس الفسق والفجور.

والمعنى العام هو كل صوت حسن، فمَن فسّر الغناء بالمعنى العام قسّمه إلى قسمين: غناء حلال، وغناء حرام.

والمراد من الغناء الحرام: هو ما قيل أعلاه، والمراد من الغناء الحلال: الصوت الحسن الجميل والذي لا يكون باعثاً على الفساد، ولا يناسب مجالس الفسق والفجور.

وبناء على هذا فلا يوجد اختلاف ـ تقريباً ـ في أصل تحريم الغناء، بل الاختلاف في كيفية تفسيره.

ومن الطبيعي أن يكون للغناء موارد شك ـ ككل المفاهيم الأخرى ـ وأنّ الإنسان لا يعلم حقاً هل أنّ الصوت الفلاني يناسب مجالس الفسق والفجور، أم لا؟ وفي هذه الصورة يحكم بالحلّية بحكم أصل البراءة، وهذا ـ طبعاً ـ بعد الإحاطة الكافية بالمفهوم العرفي للغناء طبق التعريف أعلاه.

ومن هنا يتّضح أنّ الأصوات والموسيقى الحماسية التي تناسب ساحات الحرب أو الرياضة وأمثالها لا دليل على حرمتها.

ومن الطبيعي أنّ هناك بحوثاً أخرى في باب الغناء، من قبيل بعض الاستثناءات التي قبلها جماعة وأنكرها آخرون، ومسائل أخرى ينبغي الكلام عنها في الكتب الفقهية.

والكلام الأخير هو أنّ ما ذكر أعلاه يتعلّق بالغناء، وأمّا استعمال الآلات الموسيقية وحرمتها، فهو بحث آخر خارج عن هذا الموضوع.

فلسفة تحريم الغناء

إنّ التدقيق في مفهوم الغناء ـ مع الشروط التي قلناها في شرح هذا المفهوم ـ تجعل الغاية من تحريم الغناء واضحة جداً.

فبنظرة سريعة إلى معطيات الغناء سنواجه المفاسد أدناه:

أولاً: الترغيب والدعوة إلى فساد الأخلاق

لقد بيّنت التجربة ـ والتجربة خير شاهد ـ أنّ كثيراً من الأفراد الواقعين تحت تأثير موسيقى وألحان الغناء قد تركوا طريق التقوى، واتجهوا نحو الشهوات والفساد.

إنّ مجلس الغناء ـ عادة ـ يُعدّ مركزاً لأنواع المفاسد، والدافع على هذه المفاسد هو الغناء.

ونقرأ في بعض التقارير التي وردت في الصحف الأجنبية أنّه كان في مجلسٍ جماعة من الفتيان والفتيات فعزفت فيه موسيقى خاصة وعلى نمط خاص من الغناء، فهيّجت الفتيان والفتيات إلى الحدّ الذي هجم فيه بعضهم على البعض الآخر، وعملوا من الفضائح ما يخجل القلم عن ذكره.

وينقل في تفسير (روح المعاني) حديثاً عن أحد زعماء بني أمية أنّه قال لهم: إيّاكم والغناء فإنّه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنّه ينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر [تفسير روح المعاني، الجزء 21، صفحة 60]. وهذا يبيّن أنّه حتى أولئك كانوا مطّلعين على مفاسده أيضاً.

وعندما نرى في الروايات الإسلامية: أنّ الغناء ينبت النفاق، فإنّه إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ روح النفاق هي روح التلوّث بالفساد والابتعاد عن التقوى.

وإذا جاء في الروايات أنّ الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه غناء، فبسبب التلوّث بالفساد، لأنّ الملائكة طاهرة تطلب الطهارة، وتتأذّى من هذه الأجواء الملوّثة.

ثانياً: الغفلة عن ذكر الله

إنّ التعبير باللّهو الذي فسّر بالغناء في بعض الروايات الإسلامية إشارة إلى حقيقة أنّ الغناء يجعل الإنسان عبداً ثملاً من الشهوات حتى يغفل عن ذكر الله. وفي الآيات أعلاه قرأنا أن "لهو الحديث" أحد عوامل الضلالة عن سبيل الله، وموجب للعذاب الأليم.

في حديث عن علي (عليه السلام): "كل ما ألهى عن ذكر الله (وأوقع الإنسان في وحل الشهوات) فهو من الميسر" [وسائل الشيعة، الجزء 12، صفحة 235] ـ أي: في حكم القمار ـ .

ثالثاً: الإضرار بالأعصاب

إنّ الغناء والموسيقى ـ في الحقيقة ـ أحد العوامل المهمّة في تخدير الأعصاب، وبتعبير آخر: إنّ المواد المخدّرة ترد البدن عن طريق الفم والشرب أحياناً كالخمر، وأحياناً عن طريق الشم وحاسة الشم كالهيروئين، وأحياناً عن طريق التزريق كالمورفين، وأحياناً عن طريق حاسة السمع كالغناء.

ولهذا فإنّ الغناء والموسيقى المطربة قد تجعل الأفراد منتشين أحياناً إلى حدٍّ يشبهون فيه السكارى، وقد لا يصل إلى هذه المرحلة أحياناً، ولكنّه يوجد تخديراً خفيفاً، ولهذا فإنّ كثيراً من مفاسد المخدّرات موجودة في الغناء، سواء كان تخديره خفيفاً أم قوياً.

"إنّ الانتباه بدقّة إلى سيرة مشاهير الموسيقيين يبيّن أنّهم قد واجهوا تدريجياً مصاعب وصدمات نفسيّة خلال مراحل حياتهم حتى فقدوا أعصابهم شيئاً فشيئاً، وابتلي عدد منهم بأمراض نفسيّة، وجماعة فقدوا مشاعرهم وساروا إلى دار المجانين، وبعضهم أصيبوا بالشلل والعجز، وبعضهم أصيب بالسكتة، حيث ارتفع ضغط الدم عندهم أثناء عزف الموسيقى" [تأثير الموسيقى على النفس والأعصاب، صفحة 26].

وقد جاء في بعض الكتب التي كتبت في مجال الآثار المضرّة للموسيقى على أعصاب الإنسان، حالات جمع من الموسيقيّين والمغنّين المعروفين الذين أصيبوا بالسكتة وموت الفجأة أثناء أداء برامجهم، وزهقت أرواحهم في ذلك المجلس [يراجع المصدر السابق صفحة 92 وما بعدها].

وخلاصة القول: إنّ الآثار المضرّة للغناء والموسيقى على الأعصاب تصل إلى حدّ إيجاد الجنون، وتؤثّر على القلب وتؤدّي إلى ارتفاع ضغط الدم وغير ذلك من الآثار المخرّبة.

ويُستفاد من الإحصاءات المعدّة للوفيات في عصرنا الحالي أنّ معدّل موت الفجأة قد ازداد بالمقارنة مع السابق، وقد ذكروا أسباباً مختلفة كان من جملتها: الغناء والموسيقى.

رابعاً: الغناء أحد وسائل الاستعمار

إنّ مستعمري العالم يخافون دائماً من وعي الشعوب، وخاصّة الشباب، ولذلك فإنّ جانباً من برامجهم الواسعة لاستمرار وإدامة الاستعمار هو إغراق المجتمعات بالغفلة والجهل والضلال، وتوسعة وسائل اللّهو المفسدة.

إنّ المخدّرات لا تتّصف اليوم بصفة تجارية فقط، بل هي أحد الوسائل السياسية المهمّة، فإنّ السياسات الاستعمارية تسعى إلى إيجاد مراكز الفحشاء ونوادي القمار ووسائل اللّهو الفاسدة الأخرى، ومن جملتها: توسعة ونشر الغناء والموسيقى، وهي من أهمّ الوسائل التي يصرّ عليها المستعمرون لتخدير أفكار الناس، ولهذا فإنّ الموسيقى تشكّل القسم الأكبر من وقت إذاعات العالم ووسائل الإعلام الأساسية.

ــــــــــــــــ

(*) البحث مستفاد من كتاب (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل): ج13، ص 13 – 26.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1840
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 09 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24