• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المشرف العام .
              • القسم الفرعي : مقالاته .
                    • الموضوع : دور التعاليم القرآنية في تشييد الحضارة المهدوية .

دور التعاليم القرآنية في تشييد الحضارة المهدوية

 الشيخ عبدالجليل أحمد المكراني

ما هي الحضارة المهدوية؟

لا بدّ لنا ونحن نتكلّم عن معالم وخصوصيات الحضارة المهدوية وأبعادها العالمية أن نتناول مفهوم الحضارة وأهمّ الخصائص التي تكوّن هذا المفهوم؛ الأمر الذي يصحّح لنا إطلاقه على الحركة المهدوية المباركة.

ولا شكّ عندنا أنّ الحضارة البشرية وإن كانت تظهر بطابعها البشري والإنساني، إلاّ أننّا نعتقد بتدخل اليد الإلهية في صناعة الحضارة البشرية بما يتوافق مع الأهداف العليا لخلق الكون والحياة الإنسانية بشكل عامّ.

تعريف الحضارة

وردت كلمة الحضارة في اللغة العربية مشتقةً من جذر الحضر، قال في (القاموس المحيط): (حضر، كنصر وعلم، حضوراً وحضارةً: ضدّ غاب... والحَضَر ـ محركة ـ والحضرة والحاضرة والحضارة، ويفتح: خلاف البادية. والحضارة: الإقامة في الحضر) (1).

وقال الزبيدي: (والحَاضرةُ والحَضَارَة، بالكسر عن أبي زيْد، ويُفْتَح عن الأصمَعِيّ: خِلافُ البَادِية والبَدَاوَة والبَدْوِ.

والحِضارَةُ ـ بالكسر ـ الإقامَةُ في الحَضَرِ... وكان الأَصمعِيُّ يقول: الحَضَارة بالفَتْح. قالَ القُطامِيُّ:

فَمَنْ تَكُنِ الحَضَارَةُ أعْجَبَتْه
  

فأَيَّ رِجَالِ بَاديَةٍ تَرَانَا

والحاضِرَة والحَضْرَةُ والحَضَرُ، هي المُدُنُ والقُرَى والرِّيفُ، سُمِّيَتْ بذلك لأَنَّ أَهلَها حَضَروا الأَمْصَارَ ومَسَاكِنَ الدِّيَارِ الّتي يَكُونُ لهم بِها قَرَارٌ.

والبادِيةُ يمكن أن يَكُونَ اشتقاقُها من بَدَا يَبْدُو، أي بَرَزَ وظَهَرَ) (2).

وممّا تقدّم يمكن القول بأنّ الحضارة مأخوذ فيها التواجد في المناطق الحضرية بعيداً عن البادية،كما أنّه قد أخذ في تحقّقها الحضور ضدّ الغَيبة، وهذا يعني الفاعلية والتأثير في المحيط البشري، وبدونهما لا يتحقق معنى الحضارة.

ومنه نعرف أيضاً أنّ الحضارة ـ أيّة حضارة ـ يحكم عليها بالموت عندما ينتهي تأثيرها وفاعليتها في الحياة الإنسانية.

 أمّا الحضارة في الاصطلاح فهي: (النظام الاجتماعي الذي يُعين الإنسان على فعله وحركته الثقافية)(3).

وبطول الفعل الإنتاجي الثقافي تأتي بقية الأغراض التي تنتجها الحضارة المعيّنة في بقعة ما.

 وقد ذكر الباحثون أنّ الحضارة تتألف من أربع أركان:

أولاً: الموارد الاقتصادية.

ثانياً: النظم السياسية.

ثالثاً: التقاليد الخلقية.

رابعاً: متابعة العلوم والفنون.

والحضارة تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، فإنّه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف تحرّرت في نفسه دوافع التطلّع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذٍ لا تنفكّ الحوافز الطبيعية عن استنهاضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة والعمل على ازدهارها.

وترتكز الحضارة على البحث العلمي والإنتاج المعرفي، كما يعتبر الإنتاج الثقافي ـ من الفنون المختلفة ـ من أهمّ ما تقوم عليه الحضارات، لاسيّما الحضارات التي قامت في فجر التاريخ وما بعده.

فهذان العنصران في الحقيقة يمثّلان جانباً مهمّاً في تشكيل الحضارات؛ لأنّ الجانب العلمي يتمثّل في الابتكارات التكنولوجيا وعلم الاجتماع و...

أمّا الجانب الفنّي التشكيلي فيتمثّل في الفنون المعمارية والمنحوتات، وبعض الفنون التي تساهم في رقي الدول وتطوّرها. فلو قمنا بنظرة فاحصة إلى أكبر الحضارات في العالم مثل الحضارة الرومانية نجد أنّها كانت تحتضن العلماء والفنانيين والعظماء.

وتستخدم لفظة (الحضارة) في الدلالة على المجتمع المعقّد الذي يعيش أكثر أفراده في المدن ويمارسون الزراعة، على خلاف المجتمعات البدوية ذات البنية القبلية التي تتنقل بطبيعتها وتعتاش بأساليب لا تقيّدها بقعة جغرافية محدّدة، كانتقالهم طلباً للصيد أو الكلأ والعشب أو الماء مثلاً. أمّا المجتمع الصناعي الحديث فيعتبر شكلاً من أشكال الحضارة.

إنّ لفظة (حضارة) من المفردات المثيرة للجدل والقابلة للتأويل والقراءات المتعدّدة، واستخدامها يوحي بقيم إيجابية تارةً وسلبية أخرى.

ومن تلك القيم التفوّق والرفعة، فإنّ الواقع يرينا أنّ المنتمين إلى حضارة بشرية معيّنة يرون أنفسهم على درجة عالية من التميّز والتعالي عن أفراد الحضارات الأخرى، وقد تتحكم بهم ـ لهذا السبب ـ نظرة الاستخفاف والدونية أو الهمجية تجاه الآخرين المنتمين إلى غير حضارتهم.

ويذهب البعض إلى اعتبار الحضارة أسلوباً معيشياً يعتاد عليه الفرد من تفاصيل صغيرة إلى تفاصيل أكبر يعيشها في مجتمعه، ولا يقصد من هذا استخدامه أحدث وسائل المعيشة، بل تعامله هو كإنسان مع الأشياء المادية والمعنوية التي تحيط به وشعوره الإنساني تجاهها.

ومن الممكن تعريف الحضارة بأنّها؛ الفنون والتقاليد، والميراث الثقافي والتاريخي، ومقدار التقدّم العلمي والتقني الذي يتمتّع به شعب معيّن في حقبة من التاريخ.

والحضارة بمفهوم شامل تعني: كلّ ما يميّز أمّة عن أخرى من حيث العادات والتقاليد وأسلوب المعيشة والملابس والتمسّك بالقيم الدينية والأخلاقية، ومقدرة الإنسان في كلّ حضارة على الإبداع في الفنون والآداب والعلوم.

وللتعرّف على حضارات الشعوب تُدرس مجموعة من العناصر لها الأثر البالغ في الإحاطة بتفاصيل نشوء الحضارات عند الشعوب، وهي: طرق العيش والظروف الطبيعية. الوضع الاقتصادي. العلاقات الاجتماعية بين فئات المجتمع. أنظمة الحكم السائدة. الإنجازات العلمية والثقافية والعمرانية.

تساؤلان مهمّان

وبعد هذه النظرة التعريفية السريعة للحضارة ومفهومها نطرح تساؤلين مهمين:

الأول: هل يصح تسمية الحركة المهدوية بالحضارة المهدوية؟

الثاني: ما هي ملامح الحضارة التي تقوم الحضارة المهدوية على إنقاضها؟

لا شكّ عندنا أنّ الدولة المهدوية المباركة إنّما تقوم وتسود في الأرض نتيجة الفشل والسقوط الذي تمنى به الحضارة الإنسانية بشكل عامّ، المطبوعة بطابع المادية والنفعية، وسيادة منطق اللذة والمبادئ الحسّية الهابطة فيها، فتقوم الدولة الإلهية على إنقاض الحضارة الكافرة تسبب الشقاء والدمار الإنساني الرهيب، بعد أن كان التطوّر العلمي والتكنولوجي قد سببّ كثيراً من الأوبئة والكوارث البشرية والمفاسد البيئية، بدلاً من أن تستخدم وسائله في إنعاش الإنسان وتقدّمه وجعله يسير في طريق النور والرشاد، وتقديم الصالح من الأعمال والمشاريع تجاه البشرية، فأصبح الإنسان يحفر نهايته وقبره بيده، وهكذا تحوّلت أمنيات الإنسان المادية إلى شرور ومصائد للهلاك والدمار والتشرذم الروحي والنفسي والمادي.

وبعد البرهان الواضح الذي نشاهده من التدهور الأخلاقي والقيمي، وحتى التدهور الحضاري الذي تنتجه الحضارة المعاصرة، فلا مناص لنا من تصوّر ضرورة قيام حضارة جديدة تتكفّل بناء الإنسانية وتشييد كيانها من جديد.

وهنا تبرز أهمية هذا التساؤل الكبير الذي حيّر الفلاسفة وأقطاب الفكر الأوربي الحديث، الذين أدركوا نهاية التاريخ بسقوط حضارة كبيرة قامت على نبذ الدين وإغماض العين عن كلّ ما يتعلّق بالمواريث البشرية الأخلاقية.

إنّ الغرب المتطوّر والغارق في أتون البهرجة المادية وشيوع الحياة الجنسية المبتذلة قد آمن بتفرّده بعد سقوط الحضارات والأمم الأخرى في الجهل والتخلّف بفكرة السيطرة على قيادة العالم بأسره؛ فإنّ العنصر البشري الوحيد المؤهّل لقيادة الإنسانية والسيادة في الكوكب الأرضي ـ حسب زعمهم ـ هم الأوربيون الذين اكتشفوا العلم وآمنوا بالعقل.

ما هي الحضارة الجديدة؟

إنّ الحضارة الجديدة التي نتكلّم عنها هي الحضارة التي ضربت بجذروها عمق التاريخ وتكونت في الماضي، فهي تحمل صورة قديمة مشرقة من التاريخ، وهي الصورة التي رسمها الدين الإسلامي وضاربة في أعماق البشرية. وتلك الحضارة هي التي ساهمت بشكل منظور على خلق أعظم فصل من فصول طور الإنسانية في الجانب العلمي والمعرفي، وذلك عندما أخذ المسلمون زمام المبادرات العلمية العظيمة فأنشؤوا الصرح الإنساني العظيم حتى انصهرت كلّ الثقافات والتعدديات القومية والعرقية وتوحّدت في مفهوم ثقافي إنساني واحد تقوده العقيدة الإلهية الحقّة، فنشأ في ظلّ ذلك الدين العلمُ والمعرفةُ وتطوّرت البشرية باتجاه تشييد الحضارة وترسيخ قيم العدل والتآخي الإنساني.

وقد يعترض على هذا الطرح بالقول: إنّكم الشيعة عندما وصفتم تلك الحركة المهدوية بالحضارة المهدوية الجديدة فهل هذا معناه إنّكم تؤمنون بحضارة تختلف عن الحضارة الإسلامية التي جاء بها النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أم أنّكم تؤمنون بحضارة جديدة تقوم على أسس دينية مختلفة ومبادئ أيدلوجية وفكرية مغايرة للحضارة التي بناها المسلون وأقاموا بها الدنيا حيناً من الزمن ولم يقعدوها، أم أنّكم تؤمنون بشيء غير ذلك؟

والجواب: إنّنا في مدرسة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ نؤمن بانبعاث الحضارة الإسلامية العظيمة في آخر الزمان، لتكون هي الحضارة الإلهية المنقذة والمنجية للبشر جميعاً، وذلك أنّها قد تعرضت خلال الحقبات الزمنية المتعاقبة للوأد والتشويه والتحريف والتضليل، وتكالب عليها أعداء الداخل والخارج يرمونها بالتخلّف والانحطاط والهشاشة الفكرية والنهضوية، وهكذا أحيطت هذه الحضارة الإسلامية الرائدة بمجموعة من العوامل السلبية المقيتة، ممّا جعلها حضارة انتفضت مضيئة في عصر النبوّة وما لبثت أن خبت بعد ذلك، دون أن تكون بدرجة الاندثار والخروج من التاريخ، لكنّها بقيت حضارة مهزوزة ضعيفة لا تأخذ بيدها زمام المبادرة.

والعامل الرئيس في ذلك باعتقادنا أنّ الأمّة الإسلامية تنازلت عن وعي وقصد في أكثر الظروف عن القيادة الشرعية الربّانية المتمثّلة بأهل البيت ـ عليهم السلام ـ وأعطت زمام القيادة والزعامة إلى مجموعة من الشخصيات المتخلّفة فكرياً وعلمياً قاصرة عن إدراك المضامين الإلهية السامية التي جاء بها القرآن الكريم وبلّغها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله سلم، فكانت نتيجة ذلك أن اضمحلت هذه الحضارة وضعف نورها وبقيت تنتظر من يحييها ويجدد لها ضياءها ويعيد فيها الحيوية من جديد.

كان النبيّ الأكرم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد خطط لبناء هذه الحضارة الإلهية من خلال تعيينه اثنا عشر نائباً له، وهم الأئمّة الهداة المعصومون لقيادة الدنيا والأخذ بيد البشرية لجادة الصواب والتطوّر البشري بمستوياته المختلفة؛ فالتطوّر الإيماني من خلال حركة الطاعة نحو الله، والتطور العمراني من خلال إعمار الأرض الذي نادى به القرآن الكريم، والتطوّر الكوني العامّ من خلال إشارة القرآن إلى قدرة البشر للوصول إلى الكونيات الأخرى من الكواكب والمخلوقات الإلهية المنتثرة في رحاب الكون وذلك بقوله تعالى: {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ}(4).

وقد عالج الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ في واحد من أحاديثه المباركة هذه الإشكالية من خلال بيان منزلة الإمام ودوره في إحياء الإسلام والبلوغ بالمسلمين الى الدرجة العليا والعظيمة من التكامل. يقول عليه السلام: >إنّ الإمامة أسّ الإسلام النامي وفرعه السامي<(5).

إنّ وصف الإسلام بالنمو والسمو في كلام الإمام ـ عليه السلام ـ فيه إشارة إلى أنّ الإسلام قد يكون حيّاً حركياً في المجتمع الإسلامي حيناً، وقد يكون ميتاً جامداً حيناً آخر. وآية حياته وحركيّته تأسيس الحكومة الإسلامية بإمامة وقيادة إمام الحقّ والعدل، كما أنّ علامة موته وجموده تسلط حكّام الباطل والجور رافعين شعاره وعنوانه.

وذلك لأنّ الإمامة هي قاعدة الحركة وأساس حركية الإسلام في المجتمع، وبدونها يصبح الإسلام ديناً واهياً جامداً لا أساس له ولا حركة فيه، وهو في هذا السكون والجمود يصبح غير قادر على مناهضة الشرك والكفر ومصالح المشركين والمستكبرين، بل يمسي أداة لتوجيهها وتسويغها.

ولعلك تتساءل: كيف وصف الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ الإمامة بأنّها أسُّ الإسلام النامي وفرعه السامي؟

والجواب: أنّ الإمامة أصل الإسلام وجذره في معنى، وفرعه وغصنه في معنى آخر. ولنا أن نلاحظ كلا المعنيين في القرآن الكريم؛ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}(6).

فقد جاء في تفسير (العياشي) عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) في تفسير هذه الآية الكريمة: >يعني النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ والأئمة من بعده هم الأصل الثابت، والفرع الولاية لمن دخل فيها<(7).

وفي ضوء هذا التفسير جاءت الإمامة بمعنى قيادة الأمّة وهداية الناس إلى الكمال المطلوب، وأصل شجرة التوحيد الطيبة والإسلام المحمّدي الأصيل الذي يمثّل قادته الربانيون تجسيداً للإمامة بهذا المفهوم(8).

الإعراض عن الوحي سبب الآلام البشرية

إنّ المصائب والكوارث الإنسانية والحوادث المفجعة التي وصمت تاريخ البشرية بشكل عام بوصمة سوداء ما هي إلاّ نتيجة الانحراف عن الوحي الإلهي والعصيان العلني لأوامر السماء. فقد تمادى الإنسان في عصيانه وتجاهله للنعمة الإلهية، وهي نعمة التكريم والتفضيل الإلهيين على سائر المخلوقات، فحاول التصرّف باستقلال متجاهلاً الحكم الإلهي ومسخفّاً به ومعارضاً له، ذلك الحكم السماوي الربّاني والدستور الإلهي الحاكم لجميع البشر الذي بلّغه الأنبياء طيلة القرون المتمادية وصولاً لما جاء به سيد المرسلين نبي الرحمة والإنسانية.

ولهذا فإنّ القرآن الكريم لم يترك الأمر سدىً، ولا أغفل ذكر المستقبل المأساوي والصور القاتمة التي تنتظر أبناء آدم في كوكب الأرض بتركهم التمسّك بهذا القانون والعمل على طبقه.

1ـ قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}(9).

ثم بيّن سبحانه وتعالى طريق الحلّ، وهو: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أن يَأْتِيَ يَوْمٌ لامَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ * مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}(10)

2ـ قال تعالى: {إِنَّ هَذَا القرآن يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أنّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}(11).

الآية الشريفة الأخيرة تشير بشكل لا لبسَ فيه أنّ الطريقة المثلى للعيش هي في اتّباع القرآن الكريم والالتزام بتعاليمه وأحكامه الإلهية.

وفي هذا القرآن البشارة للمؤمنين بتكفّل الجانب النفسي والروحي للمجتمع المؤمن الذي يتبنّى القيم الدينية والإلهية.

كما لا يخفى أنّه بدون القرآن الكريم لا يمكن الحصول على المنهج المتكامل الصحيح الذي يقوّم حياة الإنسان بالصورة الصحيحة، وكذا لا يمكن حصول الأمن الفردي الروحي والمعنوي الذي هو أساس الأمن الاجتماعي والإنساني بشكل عامّ.

وهذا المعنى نستلهمه من قضية البشارة في القرآن الكريم، فإنّها كما تتعلّق بالجانب الأخروي وما يحصل عليه المؤمنون المتديّنون بالدين الإلهي وتعاليمه من نعيم وسعادة أخروية، فإنها أيضاً تكون في الحياة الدينا وذلك من خلال الحثّ على العمل الصالح والترغيب إليه، وإعطاء الحياة صورة مقبولة وفاعلة من خلالها يتغلّب المؤمنون على الصعاب والابتلاءات المختلفة.

وبعد بيان القرآن الكريم لهذه الحقيقة يبين في الوقت نفسه مصير المجموعة التي تدير ظهرها تاركةً كتاب الله وتعاليمه: {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}(12)

وهذا العذاب الإلهي الأليم لا يقتصر على البعد الأخروي وما يتحقق في يوم الحساب فقط، بل يأخذ طابع الجزاء والسنة الإلهية الحاكمة على التاريخ الإنساني وما يحدث فيه من التحولات في الحياة الدنيا، فالكافرون بالسنن الإلهية والقوانيين الربّانية رغم الإعداد الإلهي لعذابهم الأخروي فإنّهم يرون آثار السخط الإلهي في الحياة الدينا أيضاً، وذلك من خلال البشارة من الله تعالى بأنّ أمور الحياة والمجتمع تصير إلى أفضل وأحسن ممّا عليه في الحاضر.

ولكن هذه البشارة لا تتحقق بطريقة إعجازية محضة، وإنّما تتم بالوفاء بالوعد الإلهي؛ فإنّ فيها عنصراً غيبياً غير تجريبي، ولكن تحقيقها مشروط بالعمل البشري: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً}(13)، {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى الله لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي}(14).

وفي ضوء منطق القرآن الكريم في البشارة الإلهية للمؤمنين بوعده تعالى نرى أنّ أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ ترجموا هذا الأمل وهذه البشارة الإلهية القرآنية عملياً على الواقع؛ كلّ ذلك دفعاً للزخم النفسي والروحي للجماعة الصالحة نحو التكامل.

فمن هذا المنطلق الثابت في الفكر الإسلامي، ومن البشائر الحتمية في الكتاب الكريم والسنّة النبوية بمجيء فرج شامل في النهاية إذ نؤمن بحادث مستقبلي إلهي مرتقب الظهور يملأ الأرض عدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.

ومن هذا المنطلق، ومن هذه البشائر كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ يرى نور الأمل في المستقبل، وكان يبشر بأن فرجاً آتياً لا ريب فيه يقضي به وعد الله حركة التاريخ وأنّ الله لا يخلف الميعاد.

إنّ رؤية الإمام ـ عليه السلام ـ لحركة التاريخ في المستقبل لا تقتصر على رؤية النكبات والكوارث فقط، وإنّما تشمل البشائر أيضاً؛ لأنّها رؤية دقيقة مضيئة، واضحة المعالم في نطاق الخطوط الكبرى والتيارات الأساسية لحركة التاريخ وإن لم تشتمل على التفاصيل. ومن ذلك هذا الشاهد على رؤيته لحركة الثورة العادلة التي لا تنطفئ مهما تكالبت عليها الرياح العاتية، فقد قال له بعض أصحابه لما أظفره الله بأصحاب الجمل: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.

فقال له الإمام عليه السلام: >أهو أخيك معنا

 فقال: نعم.

قال: >فقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان<(15).

هذا الأمل الكبير الآتي الذي يبشّر به الإمام ـ عليه السلام ـ يتمثّل في قيام ثورة كبيرة عالمية تصحّح وضع عالم الإسلام، ومن ثمّ وضع العالم كلّه، يقودها رجل من أهل البيت هو الإمام المهدي، فمن ذلك قوله عليه السلام: >حتى يطلع الله لكم من يجمعكم، ويضم نشركم<(16)،(17).

3ـ قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ أن قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القرآن مَهْجُورًا* وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}(18).

كلّ ذلك بمعنى هجر القرآن وتركه جانباً، ومخالفة أوامره ونواهيه وتحريف معاني آياته وحملها على غير ما أراد الله، وهذا النوع من التحريف موجود منذ صدر الإسلام وإلى الآن، كما أنّه باقٍ بعد هذا كما في حديث ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: >يأتي على الناس زمان يكون عامّتهم يقرؤون القرآن... يأكلون الدنيا بالدين، هم أتباع الدجال الأعور<.

قلت: يا رسول الله، كيف ذلك وعندهم القرآن؟

قال: يحرّفون تفسير القرآن على ما يريدون كما فعلت اليهود والنصارى...<(19).

غربة الأمّة الإسلامية وتداعي أمرها

وكما أنّ الكتاب العزيز يعيش الغربة وعدم التطبيق لمبادئه المقدسة والنبيلة؛ وذلك بإعراض الناس عنه وهجره، فإنّ الأمّة الإسلامية تعيش نوعاً من العزلة والغربة في المجتمع الإنساني؛ وذلك لضعفها وعدم توحّدها على نهج القرآن، وابتعادها عن سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله، وإعراضها عن الانقياد للأئمّة والقادة الهداة الذين نصبهم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ هداةً وقادةً للأمّة من بعده،

ورد في (مسند أحمد) عن رسول الله صلى الله عليه وآله: >يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كلّ أفق، كما تداعى الأكلة على قصعتها<

 قال: قلنا: يا رسول الله، أمن قلّة بنا يومئذٍ؟

قال:>أنتم يومئذٍ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن<.

قال: قلنا: وما الوهن؟

قال: >حبّ الحياة وكراهية الموت<(20).

وبعد تفرّق الأمّة وتشتت أمرها وضياع حقوقها وابتعادها عن التعاليم القرآنية والإلهية الحقّة، تأتي الحركة المهدوية المباركة فتقوم على إحياء تعاليم القرآن والسنن الإلهية والرّبانية التي جاء بها القرآن الكريم والرسول الله صلى الله عليه وآله.

ونحن نؤمن بأنّ المبادئ المنتجة للعدالة المطلقة والحكم بالسوية إنّما نزل بها القرآن الكريم في زمان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في العصر الجاهلي المظلم، وهو في ذلك الوقت بالرغم من بدائية الحياة وبساطتها قد فرض قوانين تحكم النظام العالمي والإنساني الشامل لجميع أبناء البشر في الكوكب الأرضي، والذي من خلاله تطبّق العدالة الاجتماعية المطلقة بلا فرق بين أمّة وأخرى، وبين قبيلة وقبيلة ، وبين بلاد وبلاد أخرى.

ولهذا فإنّ السعي لتطبيق إقامة العدل الإلهي قد بدأت في عصر النبي الأكرم والرسول الخاتم الذي وضع أسسها الفكرية والعقدية والإنسانية بشكل عامّ.

وبقي من بعده الأئمّة الهداة يصارعون الطغاة والمستبدين والمحرّفين لكتاب الله؛ من أجل حفظ هذا الدين، والجهاد في سبيل إحياء معالم القرآن وبيان علومه ومعارفه إلى مَن يملكون الأهلية والقابلية لنيل الإفاضة المعنوية والفكرية والثقافية من أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام.

 

قتل الإسلام بقتل العترة الطاهرة

يشير الإمام صاحب العصر والزمان ـ عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ إلى دور الأمّة الخطير بعد أن استسلمت للذّاتها وأمّرت مَن ليس أهلاً للقيادة والزعامة، فقامت بمحاربة دينها والاعتداء على قيمه وتعاليمه وهجر القرآن الكريم مصدر العزّة والكرامة والتطوّر والنجاح في حياة الأمّة الإسلامية. يقول ـ عجل الله فرجه الشريف ـ في زيارته لجدّه الحسين عليه السلام: >فالويل للعصاة الفسّاق؛ لقد قتلوا بقتلك الإسلام، وعطلوا الصلاة والصيام، ونقضوا السنن والأحكام، وهدموا قواعد الإيمان، وحرموا آيات القرآن، وهملجوا في البغي والعدوان.

لقد أصبح رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ موتوراً وعاد كتاب الله عزّ وجلّ مهجوراً، وغودر الحق إذ قهرت مقهوراً، وفُقدَ بفقدك التكبير والتهليل، والتحريم والتحليل، والتنزيل والتأويل، وظهر بعدك التغيير والتبديل، والإلحاد والتعطيل، والأهواء والأضاليل، والفتن والأباطيل<(21).

ونعرف من خلال قراءتنا لهذا الخطاب أنّ الاعتداء على القرآن الكريم وهجره والتلاعب بتشريعاته يُعدّ قتلاً للإسلام، بمعنى القضاء على تأثيره المباشر على الأمّة الإسلامية والإنسانية، وذلك بقتل العترة وهضمها حقّها لأنّها عدل القرآن وترجمانه.

وهذا دليل على أنّ المهمة الكبرى لبقية الله الأعظم ـ عجّل تعالى فرجه ـ إنّما تكون بإعادة البوصلة نحو القرآن الكريم ونشر ثقافته وتعاليمه الواعدة بالخير والسعادة لكلّ البشرية.

وعليه فإنّنا نستطيع أن نجمل الحركة المهدوية المباركة بأنّها اليوم الموعود لتطبيق البرنامج الإلهي الذي جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.

أسس الحضارة المهدوية

الأساس الأول: العدل ورفع الظلم

 من المتواتر في الأخبار أنّ الذي ساعد على خلق ثقافة عامّة عند المنتظرين من أتباع مدرسة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ بل وعند عامّة المسلمين هو أنّ الهدف الأسمى للحركة المهدوية المباركة تحقيق العدالة الربّانية، ونشر الحقوق، والدفاع عن المحرومين، والانتصار لكلّ المستضعفين والمعذّبين والمضطهدين في مختلف أرجاء المعمورة.

فالعدل الإلهي الموعود لا يقتصر على طائفة أو فئة من الناس، والأمّة الإسلامية المنتظر لقائدها لا تطمح بالخلاص لها فقط، بل لكلّ البشرية.

فـ(حينما يدعم الدين هذا الشعور النفسي العامّ، ويؤكّد أنّ الأرض في نهاية المطاف ستمتلئ قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً، يعطي لذلك الشعور قيمته الموضوعية ويحوّله إلى إيمان حاسم بمستقبل المسيرة الإنسانية، وهذا الإيمان ليس مجرّد مصدر للسلوة والعزاء فحسب، بل مصدر عطاء وقوّة.

فهو مصدر عطاء؛ لأنّ الإيمان بالمهدي إيمان برفض الظلم والجور حتى وهو يسود الدنيا كلّها، وهو مصدر قوّة ودفع لا تنضب؛ لأنّه بصيص نور يقاوم اليأس في نفس الإنسان، ويحافظ على الأمل المشتعل في صدره مهما ادلهمت الخطوب وتعملق الظلم؛ لأنّ اليوم الموعود يثبت أنّ بإمكان العدل أن يواجه عالماً مليئاً بالظلم والجور، فيزعزع ما فيه من أركان الظلم، ويقيم بناءه من جديد.

وأنّ الظلم مهما تجبّر وامتد في أرجاء العالم وسيطر على مقدراته، فهو حالة غير طبيعية، ولا بد أن ينهزم، وتلك الهزيمة الكبرى المحتومة للظلم ـ وهو في قمّة مجده ـ تضع الأمل كبيراً أمام كلّ فرد مظلوم، وكل أمّة مظلومة في القدرة على تغيير الميزان وإعادة البناء)(22).

لقد أعلن القرآن الكريم هذه البشارة لكلّ البشرية بانتصار الإسلام في آخر الزمان، وزَرَع الآمال في دربها بقيام دولة العدل الإلهي لتمتلئ الدنيا منه بعدما ملئت ظلماً وجوراً، على يدي إنسان معصوم من العترة الطاهرة، لتتجلّى معيّة القرآن والعترة اللذين أمرنا بالتمسّك بهما معاً دون غيرهما في هذه الدنيا؛ حيث إنّهما صنوان لا يفترقان أبداً حتّى يردا حوض الكوثر، ويرد معهما كلّ المؤمنين بهما، حيث السعادة والهناء، والارتواء الذي لا ظمأ بعده.

قال تعالى: {وَنُرِيدُ أن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}(23).

وقال الإمام عليّ عليه السلام: >لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسِها عَطْفَ الضروس على ولدها<. وتلا ـ عليه السلام ـ عقيب ذلك: {وَنُرِيدُ أن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض}(24).

وقال عليه السلام: >المستضعفون في الأرض، المذكورون في الكتاب، الذين يجعلهم الله أئمة نحن أهل البيت، يَبعث الله مهديَّهم فيعزُّهم ويذلُّ عدوهم<(25).

وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(26) 

وبعد هذه المقدمة الموجزة في الأساس الأول نحاول أن نقرأ هذا الأصل المحوري في النهضة الحضارية المهدوية من خلال القرآن الكريم الكتاب الإلهي المقدّس:

قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ أنّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}(27).

أشارت الآية الشريفة إلى الهدف من بعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام، والهدف المقصود هو إقامة القسط والعدل.

وتكفّلت الآية الشريفة بيان المقدّمات الموصلة الى تطبيق هذا الهدف المحوري والأساس في ربوع المعمورة وتعميمه من خلال:

أـ إرسال الرسل وبعثة الأنبياء، وهذا من أعظم النعم الإلهية على البشرية كافّة.

ب ـ إنزال الكتب السماوية الإلهية معهم لتمثيل المنهاج التشريعي والقانوني لتطبيق العدالة وإقرار القسط والانتصاف والانتصار للمظلومين والمحرومين والمستضعفين.

ج ـ إنزال الحديد، وهو القوّة المادية المساعدة على تحقيق ذلك الهدف بما تتطلبه حياة الإنسان.

نفهم من هذه الصورة أنّ الأنبياء كانوا مسلّحين بثلاث وسائل، وهي: الدلائل الواضحة، والكتب السماوية، ومعيار قياس الحقّ من الباطل والجيد من الردئ.

وفي الحقيقة أنّ هذه الآية تشير إلى أحد الأهداف العديدة لإرسال الرسل؛ لأنّ بعث الأنبياء وسعيهم كان من أجل عدّة أهداف، منها:

أولاً: التربية والتعليم، كما جاء في الآية: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(28).

ثانياً: كسر الأغلال والقيود التي أسرت الإنسان، قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ }(29).

ثالثاً: إكمال القيم الأخلاقية، كما جاء في الحديث المشهور: >بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق<(30).

رابعاً: إقامة القسط والعدل، وهذا ما أشارت إليه في الآية مورد البحث.

وبهذا الاستعراض نستطيع تلخيص بعثة الأنبياء في الأهداف التالية: (الثقافية، الأخلاقية، السياسية، الاجتماعية).

ومن الواضح أنّ المقصود من الرسل في الآية مورد البحث، وبقرينة إنزال الكتب هم أولي العزم من الأنبياء ومَن يمثلّهم.

وممّا يجدر ذكره أنّ المقصود من التعبير القرآني: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} تحرّك الناس أنفسهم لتحقيق القسط، لا أن يلزمهم الأنبياء على إقامته. ولهذا يمكن القول بأنّ المراد من الآية هو أن يتحرك الناس نحو العمل على تحقيق القسط وتطبيق مفاهيمه. والهدف هو تربيتهم على العدل بحيث يصبحون واعين له داعين إليه، منفذين لبرامجه، سائرين في هذا الاتجاه بأنفسهم.

ثم إنّ أيّ مجتمع إنساني مهما كان مستواه الأخلاقي والاجتماعي والعقدي والروحي عالياً، فإنّ ذلك لا يمنع من وجود أشخاص يسلكون طريق العتو والطغيان، ويقفون عقبة في طريق تحقيق القسط والعدل ونشرهما.

واستمراراً لمنهج الآية وتعزيزاً للأنبياء بالأسلحة يقول سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، أي أنّ هذه الأسلحة الثلاثة إنّما وضعت تحت تصرّف الأنبياء بهدف أن تكون الأفكار والمفاهيم التي جاء بها الأنبياء فاعلة ومؤثرة كي تحقق أهدافها المنشودة، فقد وضع الحديد والبأس الشديد في خدمة رسل الله(31).

بناء العدل المهدوي في ضوء الروايات الإسلامية

أمّا في الروايات والأحاديث الإسلامية فقد اعتبرت عنوان العدل وتطبيق العدالة على وجهها الصحيح هو الهدف الأساس لتشييد تلك الحضارة المهدوية المباركة.

فقد أطبقت الروايات على أنّ حكومة الإمام المهدي هي حكومة العدل الإلهي الذي طالما انتظرته البشرية المعذّبة في طول التاريخ المملوء بالظلم والإجحاف والتطاول على أعز شيء في حياة الإنسان ألا وهو إنسانيته وكرامته، فالله تعالى يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(32).

وهذا التفضيل الإلهي والهبة الربانية العظيمة لبني البشر هو ما افتقده الإنسان في ظلّ الأنظمة الطاغوتية والفرعونية التي حاولت إذلاله وإخضاعه لأهوائها ومصالحها الضيقة التي لا تمتد إلاّ لتلك الفئة المتسلطة أو لذلك الفرد الحاكم الذي يعيش أسوا العقد والحالات المرضية الأخلاقية والنفسية والإنسانية.

نعم في ظلّ هذه الدولة العظيمة التي تقوم على أساس العدالة الذي هو أهمّ الأسس في إقرار الكرامة والعزّة بشكل متساوٍ، ونظام لا يعرف المحاباة أو الظلم، سوف يسعد الإنسان مادام هو عبد من عبيد الله وراغب في الخير للجميع.

 

أولاً: الأخبار الواردة في مصادر جمهور المسلمين

1 - روى ابن عباس: أنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: >إنّ خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي لاثنا عشر، أولهم أخي، وآخرهم ولدي<.

قيل: يا رسول الله، مَن أخوك؟

قال: >علي بن أبي طالب<.

قيل: فمَن ولدك؟

قال: >المهدي، الذي يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. والذي بعثني بالحقّ بشيراً، لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي، فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلّي خلفه، وتشرق الأرض بنور ربّها، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب< (33).

2 - روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنّه قال: >المهدى منّي، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يملك سبع سنين<(34).

3 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أيضاً: أنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: >يخرج في آخر أمّتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطى المال صحاحاً، وتكثر الماشية وتعظم الأمّة، يعيش سبعاً أو ثمانياً، يعني حججاً<(35).

ثانياً: الأخبار الواردة في مصادر مدرسة أهل البيت عليهم السلام

وهي أخبار متواترة، وفيها تفاصيل كثيرة حول تطبيق العدالة الإلهية في عصر الظهور المقدس، وبناء الدولة الإلهية، وتشييد الحضارة المهدوية المباركة، ولا نستطيع في المقام أن نستقرأ كلّ الأحاديث الواردة في هذا المضمون وذكر الروايات المبيّنة لهذا الأصل ودوره في بناء الحضارة المهدوية المباركة، ولكن نكتفي بذكر بعض الأحاديث بهذا الشأن:

1ـ عن الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ قال: >إذا قام قائم أهل البيت قسم بالسوية، وعدل في الرعية. فمَن أطاعه فقد أطاع الله، ومَن عصاه فقد عصى الله، ويستخرج التوراة وسائر كتب الله عزّ وجلّ من غار بأنطاكية، ويحكم بين أهل التوراة بالتوراة، وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، وبين أهل الزبور بالزبور، وبين أهل القرآن بالقرآن.

وتجمع إليه أموال الدنيا من بطن الأرض وظهرها، فيقول للناس: تعالوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام، وسفكتم فيه الدماء الحرام، وركبتم فيه ما حرّم الله عزّ وجلّ. فيعطي شيئاً لم يعطِهِ أحد قبله، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً، كما ملئت ظلماً وجوراً وشرّاً<(36).

2ـ روى علي بن عقبة، عن أبيه، قال: (إذا قام القائم ـ عليه السلام ـ حكم بالعدل، وارتفع في أيامه الجور، وأمنت به السبل، وأخرجت الأرض بركاتها، وردّ كلّ حقّ إلى أهله، ولم يبقَ أهل دين حتى يظهروا الإسلام ويعترفوا بالإيمان، أما سمعت الله تعالى يقول: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (37)، وحكم بين الناس بحكم داود وحكم محمد عليهما السلام، فحينئذٍ تظهر الأرض كنوزها، وتبدي بركاتها، فلا يجد الرجل منكم يومئذٍ موضعاً لصدقته ولا لبرّه؛ لشمول الغنى جميع المؤمنين.

ثم قال: إنّ دولتنا آخر الدول، ولم يبقَ أهل بيت لهم دولة إلاّ ملكوا قبلنا، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(38) (39).

وقد تضافرت الأحاديث عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأوصيائه ـ عليهم السلام ـ بأنّ الإمام المنتظر يملك الدنيا بأسرها، وتدين بإمامته جميع شعوب العالم وأمم الأرض.

 الأساس الثاني: التكامل المعرفي والعلمي

احترام الطاقات العلمية

يعتبر الإسلام أنّ الطاقات البشرية المتنوّعة والمتعدّدة هي طاقات محترمة ومقدّرة؛ والسبب في ذلك أنّ الله تعالى هو الذي أودع في الإنسان تلك الطاقات وهي إذا ما تكاملت وتنامت في ظروفها وأجوائها المناسبة سوف توصل الإنسان إلى مبتغاه وما يطمح إليه حتى يحقق أهدافه.

ومن أهمّ تلك الطاقات والقدرات الطاقة الفكرية والعلمية عند الإنسان، فقد حرص النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في انطلاقة الإسلام الأولى في عصر الانحطاط والجاهلية التي كانت تسود المجتمع آنذاك، وفي خطوة معبّرة وإشارة واضحة إلى بيان قيمة العلم والعلماء وأهمّيتهما في نشر الدين ومبادئه الحقّة، فقد أمر بإطلاق الأسارى وتحريرهم بشرط أن يقوم كلّ أسير بتعليم عشرة من المسلمين.

ولأهمية العلم ودوره في حياة الإنسان وبناء الحضارة البشرية في بعدها البشري، يؤكّد القرآن الكريم ـ وهو أهمّ الكتب السماوية ـ على دور المعرفة والعلم والعلماء والسلطان العقلي في التحكّم بعالم الطبيعة والكون الكبير على عظمته؛ كلّ ذلك تكريماً للإنسان على غيره.

1ـ قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ}(40).

2ـ وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(41).

3ـ وقال عزّ وجلّ: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ أن اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}(42).

4ـ وقال تعالى في شأن تنظيم الخلق ودور العلم في فهم الحكمة الإلهية: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(43).

5ـ حثّ القرآن الكريم على العلم والتعلّم منذ رسالة السماء الأولى للنبي الخاتم للبشرية، فابتدأ برسالة العلم والقراءة والثقافة مخاطباً النبي صلى الله عليه وآله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ}(44).

6ـ التسخير الإلهي للكون وإعطاء الصلاحية للإنسان في ممارسة العلم والمعرفة واستخدام سلطان العقل لاكتشاف عجائب الخلق والتكوين وتطويعها لصالحه، كلّ ذلك وفق محورية العبادة لله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلَالٌ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا أن الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(45).

7ـ دعوة الإنسان للسير والتفحّص في الأرض واستخدام طاقته العقلية للاستفادة من التجارب، قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ الله يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(46).

وغير ذلك من الآيات القرآنية التي تنصّ على أهمّية العلم ودور العلماء ودعوة المجتمع المؤمن الى التطوّر العلمي والمعرفي.

ولكنّ المسلمين بتركهم تلك التعاليم القرآنية والربّانية أصيبوا بنكسة حضارية ومعرفية كبيرة أوجبت تخلّفهم وسقوطهم من الركب الحضاري والعلمي.

وقد أوصى الرسول الكريم أمّته بالعلم والمعرفة والسير قدماً في تطوير القدرات العقلية والإنسانية بشتّى الوسائل والسبل، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: >اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد<(47).

وَعنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ـ عليه السلام ـ قال: >قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله: طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، أَلا أنّ اللَّه يُحِبُّ بُغَاةَ الْعِلْمِ<(48).

وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: >اطلبوا العلم ولو بالصين<(49).

تقييم القدرة الدينية

قبل الدخول في صلب موضوع النمو العلمي والمعرفي الذي تقوم عليه الحضارة الإسلامية في آخر الزمان أو المهدوية في مرحلة الظهور المقدس، نتكلّم في مقدمة ضروية، ألا وهي قدرة الدين على الخلاقية والإبداع، وبالتالي سوق الإنسان نحو التطوّر والرقي المادي والدنيوي.

فهل الدين بتعاليمه الروحية والوجدانية وإصراراته الغيبة التي تعالج قضايا الإنسان غير المحسوسة، وتتكلم عن عالم آخر وهو عالم الموت والآخرة و الحساب والجزاء بعيداً عن الدنيا وعالمها المحسوس الذي يعيشه الإنسان ويتفاعل معه، قادر على ذلك الإبداع والرقي والتطوّر؟

الدين وصياغة الهوية الإنسانية

من المعلوم والمقطوع به أنّ الدين يمتلك القدرة الكبيرة على صياغة الذات الإنسانية وتمكينها من عملية التغيير والظهور بصفات وسمات تأخذ الطابع الأخلاقي والاجتماعي والثقافي.

ولا تقف قدرة الدين على صناعة الطاقة الشخصية في بعدها الفردي والذاتي، بل تتعدى إلى القدرة الأكبر، وهي صياغة النظام الاجتماعي وتنظيم علاقات الإنسان مع نظائره وترسيخ بناها التحتانية في أفق الوجدان والعاطفة والسلوك والفعل الخارجي.

ويتمثّل ذلك في التمحور حول نقطة مركزية تمثّل مجمع القيم والانطلاقة في إيجاد المعنى الحقيقي للحياة وفلسفة وجود الإنسان، وتلك النقطة هي الإيمان بالله الواحد الأحد حسب الأديان الإلهية الحقة.

نتائج حركة العولمة واستبعاد الإرث الديني

أزمة المعنوية

فقدان الحياة المعنوية والقيمة الإنسانية واحدة من أهمّ إفرازات العصر العولمي والفكرة العولمية الجديدة.

فمع بروز الأزمة الثقافية والأخلاقية، واضمحلال القيم الإنسانية التي تمخضت عن النمو الاقتصادي والتوسع في المعروضات والانفتاح المادي للحضارة الغربية المعاصرة. وبسبب ابتعاد الإنسان الغربي الحضاري عن المعنوية والمذهب، أدى ذلك إلى تعرّضه لأنواع المخاطر كسلب الأمن، واليأس، والإحساس باللاهوية والعزلة، والفراغ المعنوي والأخلاقي.

وقد أدى انتشار النزعة التجديدية، ونقض الأسس الثقافية والبنى الأخلاقية إلى تفتت الأسرة وزوال العلاقات العاطفية؛ الأمر الذي انتج مشاكل روحية ومعنوية وهموماً نفسية ساهمت كلّها في خلق الأرضية لابتعاد الأفراد وتفكّك المجتمعات والانغماس في حياة الشخصنة والتفكير في البعد النفعي والمادي فقط.

والمتتبع لتطوّر البنى الروحية والمعنوية في مسيرة الغرب المتطوّر يجد أنّ الفرد في مجتمع الحضارة والمدن المنغمس باللذائذ والزينة قد انفصم وانفصل عن كلّ الموروثات الدينية والمجتمعية والأسرية.

ورغم ثراء ذلك الفرد الغربي بالغنى المادي وامتلاكه لكل الوسائل والحسّية التي توفّر له حياة المتعة والرفاه في المأكل والمشرب والملبس، إلاّ أنّه أصيب بالفقر المعنوي، والإحساس بالعجز والاندثار والظلمة الداخلية التي جعلت الحياة بعينه شيئاً تافهاً أو مجرّد ممارسة لبعض اللذائد من السهل التفريط والتضحية بها إمّا بالانتحار من شاهق، أو ابتلاع كمية كبيرة من الأقراص تؤدي إلى الهلاك(50).

فالأزمة الراهنة ليست أزمة علم أو منهج، وإنّما هي أزمة قيم ومعنوية أخذت تتسع لتطبّع العالم بطابعها.

أزمة العدمية

لقد ابتلي الإنسان بالابتعاد عن الفضيلة والدخول في دوامة الانحطاط والتدنّي الأخلاقي عندما فصل العقل عن نور الوحي، وأغمض عينه عن النظر إلى السماء، والإخلاد إلى الأرض والانغماس في مسائل الجسد والحياة الدنيوية البحتة.

وفي الوقت الذي كان فيه تاريخ الأديان بأجمعها يتحدّث عن محورية الله جلّ وعلا في كلّ خطاب في حياة الإنسان، قرر الإنسان المعاصر والمتطوّر القطيعة مع كلّ ما يرمز لتلك اللغة المتصلة بالآفاق الرحبة للإيمان بالله والخضوع لسلطانه وتحقيق حياة العبودية في السلوك الإنساني. فاستبدلت المحورية الإلهية بالمحورية البشرية، وأعلن في حينها انتصار العقل على صوت الإيمان.

وسبّب ذلك أن يُعلن المفكّرون والفلاسفة الماديون عن موت الإله وموت الدين في الحياة الإنسانية وانخفاض الدور الروحي والأخلاقي.

وعبر ذلك الخطاب المتصاعد مع اكتشافات العلم والتطوّر الحديث برزت مشاكل تشير إلى النتاجات العكسية لعصر العلم والتطوّر والتكنلوجيا المتسارعة.

وقد وصف عالم الاجتماع الفرنسي (جاك لوي) مسار الفكر الغربي نحو العدمية والإفلاس الروحي بخطوات:

تقنية الفكر: أنّ الانسلاخ عن البصيرة الشهودية باتجاه الفكر التقني هو عملية تحجيم الطبيعة بشيئية الأشياء.

الغرائزية: أنّ الانسلاخ عن الجوهر الروحاني باتجاه المسوغات النفسانية هو انتزاع لجميع الصفات الربانيّة والملكوتية من الإنسان.

المادية: أنّ الانسلاخ عن الصور الجوهرية باتجاه المفهوم الميكانيكي يسبب انتزاع الكيفيات الرمزية والصفات الساحرة عن الطبيعة(51).

فقدان المعنى والهدف

بعد إيمان الإنسان بالحياة المادّية والحسّية، ودورانه في أفق ما يصنعه بيده وما يقوم بإيجاده من وسائل الراحة وتحقيق مبتغياته وأهدافه المنشودة في ظلّ الفكر المقصور على الحياة الآلية التطوّرية التي لا مجال فيها للتفكير والتأني واتخاذ المواقف التصحيحية، فقد ابتلي بمرض فقدان الهدفية والمعنى من الحياة.

وبالرغم ممّا ناله وحصله الأوائل المكتشفون للعلم والتطوّر والحياة المدنية والتقنية الحديثة، واعتباره انتصاراً للإنسان على الطبيعة المهيمنة عليه طيلة القرون المتمادية، إلاّ أنّ إنسان اليوم قد فَقَد كلَّ ما يشدّه إلى هذه الحركة وهذا السيلان المتمادي من الاكتشافات والفتوحات العلمية والمعرفية، والسبب في هذا الفقدان أنّ الحياة لا تعني له أي معنى، ولا تشكّل له أيّة قيمة أو معياراً ليقوم الإنسان بكلّ هذا الجهد.

وفقدان الهدف في حياة الإنسان يعني تحوله الى آلة أو حيوان يعيش ليأكل ويشرب ويمارس لذّته الحسّية، بل إنّ فقدان الهدف يعني فقدان الهوية الإنسانية وتحوّل الإنسان إلى مفسد وشرير وبائس في الوقت نفسه.

وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(52).

وعند الحديث عن الحضارة المهدوية الموعودة نجد التركيز في النصوص الدينية الشريفة على العلم والمعرفة والتطوّر الملفت في إقرار المبادئ الدينية المقدسة، وأهمّها رسم طريقة العبودية الحقّة نحو الله جلّ وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}(53).

روايات العلم والتطور في الدولة المهدوية

هناك جملة وافرة من الروايات الشريفة تبيّن بوضوح تطوّر العلم وازدهار المعرفة على يدي الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، وتلك الروايات تُنبئ عن عاملين رئيسين:

1ـ العامل المادي والعلمي: وهذا ما لا يمانعه العلم واكتشافات عصرنا المتتابعة بشكل مذهل، فإنّه على رغم التطوّر الموجود الذي تصل إليه البشرية في عصر ذروتها، فإنّ الإمام المهدي ـ عليه السلام ـ سوف يفتح آفاقاً علمية وتطورية جديدة تذهل أرباب العقول ورواد العلم والصناعات.

2ـ العامل الغيبي: لا شكّ عندنا بأنّ الإمام ـ عليه السلام ـ هو سيّد العلماء ومطوّر العقل البشري في عصره، إلاّ أنّ مسألة الإيمان وتقوية الحجّة وغلبة الحقّ تحتاج إلى التسديد الإلهي، وهذا ما يحصل من خلال بعض الغيبيات والكرامات والمعجزات الإلهية التي يجريها الله تعالى على يد الحجّة؛ إتماماً لسلطانه وبياناً لفضله ومنزلته عنده جلّ وعلا.

وفي ما يلي جملة من الأحاديث التي تشير إلى المضمون العلمي والمعرفي وأثره في الحضارة المهدوية المنتظرة:

1ـ عن ابن مسكان، قال: سمعت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ يقول: >إنّ المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي في المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي في المشرق<(54).

نعم، إنّ الصورة التي يحدّث بها النصّ الشريف أصبحت واضحة ومقبولة ومتعارفة الآن؛ فإنّه بالإمكان رؤية أصحاب المشرق أخوانهم المتواجدين في المغرب عبر شاشات التلفاز والأجهزة الحديثة.

2ـ قال أبو عبد الله عليه السلام: >كأنّني بالقائم عليه السلام، على ظهر النجف، لابساً درع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيتقلّص عليه، ثم ينتفض بها فيستدير عليه، ثم يغشي الدرع بثوب إستبرق، ثمّ يركب فرساً له أبلق بين عينيه شمراخ، ينتفض به، لا يبقى أهل بلد إلاّ أتاهم نور ذلك الشمراخ حتى يكون آيةً له، ثم ينشر راية رسول الله؛ إذا نشرها أضاء لها ما بين المشرق والمغرب<(55).

فهذه الراية الشريفة تضيئ لأهل المشرق والمغرب، وهو أمر كبير ومهم جداً يصعب تحقيقه إلاّ بتطوّر علمي وأسلوب تكنلوجي عظيم، ولا يتوقع في ذلك النور أن يكون عبر وسائل البث والاتصال والأجهزة الإلتكرونية الحديثة، بل إنّه نور واقعي وحقيقي يضيئ لأهل الدنيا، لذلك يمكن حمله على العامل الغيبي.

واحتمل السيد الصدر ـ رضوان الله عليه ـ أن يكون هذا النور معنوياً، بمعنى الإذعان والتصديق بحقيقة الدعوة المهدوية المباركة، وهو معنى مقبول إلاّ أنّه خلاف الظاهر(56).

3ـ وقال الإمام أبو عبدالله عليه السلام: >العلم سبعة وعشرون جزءاً، فجميع ما جاءت به الرسل جزءان، فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الجزأين، فإذا قام القائم أخرج الخمسة والعشرين جزءاً، فبثها في الناس وضمّ إليها الجزأين، حتى يبثّها سبعة وعشرين جزءاً<(57).

وهذا الحديث وإن كان ناظراً إلى علوم الأنبياء والرسل ـ عليهم السلام ـ وهي علوم الدين كالعلم بالله سبحانه ورسالته والآخرة، لكنّها تشمل العلوم الطبيعية التي ورد أنّ الأنبياء ـ عليهم السلام ـ علّموا الناس أصولها وفتحوا لهم بعض أبوابها، فقد ورد أنّ إدريس ـ عليه السلام ـ علَّم الناس الخياطة، وعلمهم نوح ـ عليه السلام ـ النجارة وصناعة السفن، وداود وسليمان صناعة الدروع. فالمقصود بالعلم في الحديث أعمّ من علوم الدين والطبيعة.

وهذا معناه أنّ نسبة ما يكون في أيدي الناس من العلوم إلى ما يعلّمهم إيّاه الإمام ـ عليه السلام ـ نسبة اثنين إلى خمس وعشرين، ولنا أن نتصوّر إذا تطوّر علم الطب وعلوم الاتصالات والفضاء خمساً وعشرين ضعفاً كيف ستكون الحياة(58)؟

الإيمان والولاء مفتاح العلم والتطوّر

تشير الأحاديث الشريفة إلى الدور المهم الذي تلعبه الجماعة الموالية والمؤمنة بمشروع أهل البيت ـ عليهم السلام ـ إضافة لدورها في عملية التمهيد والإعداد للنهضة المهدوية الإلهية، فإنّ لهذه المجموعة دوراً علمياً ومعرفياً كبيراً عند قيام الدولة المهدوية.

1ـ عن الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ قال: >كأنّي بأصحاب القائم وقد أحاطوا بما بين الخافقين، ليس شيء إلاّ وهو مطيع لهم، حتى سباع الأرض وسباع الطير تطلب رضاهم وكلّ شيء، حتى تفخر الأرض على الأرض وتقول: مرَّ بي اليوم رجل من أصحاب القائم<(59).

2ـ عن أبي الربيع الشامي قال: سمعت أبا عبدالله ـ عليه السلام ـ يقول: >إنّ قائمنا إذا قام مدّ الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لا يكون بينهم وبينه بريد يكلمهم فيسمعونه وينظرون إليه وهو في مكانه<(60).

الأساس الثالث: الحضارة المهدوية حضارة الأمم والشعوب بأجمعها

صراع الهويات

لعلّ من أهمّ الأسس في بناء الدول والأنظمة السياسية المحكمة هو الإيمان بثقافة التسامح الفكري والعملي، وهذا إنّما يتحقق من خلال النظر إلى الاختلاف على أنّه سنّة من سُنن الله الخالق الحكيم في بناء الإنسانية وتقدّمها وتطوّرها معنويا وقيمياً لصالح الأهداف الدينية والإنسانية العليا.

وهذا النهج لم يلقَ استحساناً أو قبولاً عند أغلب المدارس السياسية، بل حتى المذاهب الفلسفية والمدارس الدينية والاجتماعية ، كما هو واضح من خلال رؤيتنا بأنّ الإيمان بتوحيد الأجناس البشرية أو سحقها لصالح جنس بشري بعينه هو المتعارف في كلّ الخطابات والأدبيات المختلفة للأيدلوجيات الدينية والفلسفية والسياسية.

والشاهد على ذلك ما يتحدّث به التاريخ القديم والمعاصر من أنّ أغلب الحضارات إنّما قامت بسبب الاتكاء على تمجيد عنصر بشري واحد، والتهاون والتغافل لأي عنصر بشري آخر غيره، وإنكار أيّة ميزة إنسانية أو علمية أو سياسية لباقي أقوام البشرية.

وهذا ما يصدق على الحضارات السابقة، كالحضارة المصرية الفرعونية القديمة، والحضارة الفارسية، والحضارة الرومانية، والحضارة اليونانية وغيرها.

أمّا الأديان فقد ركّزت اليهودية في بناء هويتها وحقيقتها الدينية التأكيد على العنصر العبراني وبني إسرائيل دون غيرهم، أي التأكيد على عنصر الدم والقرابة.

فرسالة نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ رغم كونها رسالة إلهية عالمية في تعاليمها، إلاّ أنّها رسالة إلى القومية اليهودية. وكلّ الخطابات التشريعية والأخلاقية والتنظيمية الحياتية التي وردت فيها كانت موجهة نحو بناء كيان تلك الأسرة والقبيلة ذات البطون الكثيرة.

ونلمس ذلك في الخطاب الكلامي والعقائدي في التوراة الكتاب المقدّس للديانة اليهودية.

وأنّ أهم مسألة في ذلك هي التوحيد وبناء المفهوم الفلسفي والديني حول خالق الوجود، فإنّ من الملاحظ أنّ هناك ترابطاً بين ذلك البناء العقائدي والبناء القبلي والبشري لبني إسرائيل، ممّا يعني أنّ خلق الهوية الدينية يبتني بشكل أساس على مكونات الهوية القبلية ومحيط الدعوة.

ويرى السيد الشهيد الصدر أنّ حركة النبوّات الإلهية تسير من خلال التطوّر في ثلاثة خطوط:

الخط الأول: وعي التوحيد.

الخط الثاني: خطّ المسؤولية الأخلاقية للدعوة الإلهية الدينية.

الخط الثالث: خطّ السيطرة على الكون والطبيعة.

ولا شكّ أنّ المحور في تلك الخطوط هو خطّ التوحيد، لكنّنا نلاحظ اختلافاً في وعي عقيدة التوحيد، (فبينما التوحيد في الكتاب الأول (التوراة) يقوم على أساس إعطاء إله، وهذا الإله لا يستطيع هذا الكتاب أن ينزع عنه الطابع القومي المحدود، فيشدّ هذا الإله جماعة معينة إلى شعب معيّن، هذا الشعب المعين الذي قدر أن تنزل الرسالة فيه، أن يكون النبيّ منه.

فكانت التوراة باستمرار تقدّم الإله في إطار قومي كأنّه إله هولاء في مقابل الأصنام والأوثان التي هي آلهة الشعوب والقبائل، فلم تقل التوراة بشكل صريح عميق لهولاء أنّ هناك إلهاً واحداً للجميع، وأنّ هذه الأصنام والأوثان يجب أن ترفضها البشرية، وإنّما عوّضت هولاء بالخصوص عن صنم ووثن معيّن بإله يعبدونه بدلاً عن هذا الصنم. هذا الشيء الذي يوجد في نفوس هولاء القوم تاريخياً الشعور بالاعتزاز والشعور بالزهو والخيلاء على بقية الشعوب الأخرى، هذا الشعور الذي لم يوجد في شعوب متأخرة نزلت فيها نبوّات التوحيد على أساس أنّ الإله الذي أعطي إليهم كان إلهاً مشوباً بشيء من المحدودية والطابع الذري، فخيّل لهم على مرّ الزمن أنّهم يحتكرون الله لأنفسهم، بينما الشعوب والقبائل الأخرى هي ذات آلهة شتى وأصنام شتى، ويشير القرآن الكريم إلى فكرة الاحتكار التي كان يعتقدها اليهود بالنسبة إلى الله تعالى)(61).

فالقرآن الكريم يقول في حقّ هؤلاء: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير}(62)

وكذا يقول حول هذا الادعاء الباطل والالتحام والقرب بالله الذي يصوّره بنو إسرائيل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}(63).

الهوية الإسلامية

جاء الإسلام بهوية وبفلسفة حياة جديدتين للإنسان. وأحدث من أجل استيعاب هذه الهوية أمّة جديدة لم يكن لها مثيل بين الأمم من قبل، إذ لم تقم هذه الأمّة على أسس عرقية أو لونية أو حضارية، وإنّما قامت على أساس الاعتراف بالإنسان كما هو في فطرته وحقيقته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا أن أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ أن اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(64).

وكذا قامت على أساس الاعتراف للإنسان بكفائته في التوصّل إلى التوحيد إلى نظام الحياة الذي يقوم عليه، فصارت الأمّة فاتحة أبوابها لكلّ إنسان رأى نفسه كما يراها الإسلام، واستخدم ما جعل الله فيه من قدرات عقلية وإرادة أخلاقية في خدمة الإنسانية بحيث تحرّر من هيمنة البشر وهيمنة العقائد المتوارثة وتوجّه بالحقّ.

وبعد أن عرفنا أنّ الإسلام آمن بالتعددية الثقافية، بمعنى تعددية الأعراق والعادات المنبثقة من القوميات المختلفة المتعددة، يتضح لنا هنا شكل من أشكال هذا التعدد والتنوّع الذي استوعبته بجميع أبعاده الدولة الإلهية العالمية.

إنّ البناء الحضاري للدولة المهدوية المباركة سوف يسقط كلّ الاعتبارات القانوينية والاجتماعية التي تعارفت عليها المجتمعات، فالجنسية لا وجود لها في النظام المهدوي، والعرقية والقومية لا تشكلان أية قيمة في موازيين هذه الدولة التي تقوم على معايير الإيمان والصلاح والتقوى والطاعة والولاء للقيادة التي تمثّل النموذج العالمي الرشيد.

وقد عرفنا سابقاً أنّ القرآن الكريم حاول أن يبني هوية الأمّة الجديدة على هذا الأساس من التوحّد والاندماج والصيرورة الإنسانية الواحدة، وليس ذلك على أساس إلغاء القوميات والأمم المختلفة والاستخفاف بموروثها الإنساني والثقافي الذي لا يتقاطع مع مبدأ التوحيد.

فالمجموعة الحاكمة في النهضة الحضارية المهدوية لا يشكّلون انتماءً قومياً ولا انتماءً مناطقياً ولا فئوياً ، بل هم مجموعة أشخاص لا يربطهم شيء محدّد، بل حتى المعرفة الشخصية لبعضهم البعض في الأعمّ الأغلب. لكن يربطهم الإخلاص للتخطيط الإلهي والنجاح في التمحيص نجاحاً عالياً موفقاً.

وإنّ الانتماء لهذا الجماعة لا يكون بقرار من الحزب أو بطلب خاصّ وإنّما هو نتيجة لنجاح الفرد في التمحيص الإلهي خلال حياته الاعتيادية.

فإنّ بلوغه درجة عاليةً من النجاح كفيل باندراجه في تلك الجماعة بدون سابق إنذار(65).

وفي زيارة الإمام المهدي ـ عليه السلام ـ وردت العبارة التالية: >السلام على مهدي الأمم وجامع الكلم، السلام على خلف السلف وصاحب الشرف، السلام على حجّة المعبود وكلمة المحمود، السلام على معزّ الأولياء ومذلّ الأعداء، السلام على وارث الأنبياء وخاتم الأوصياء، السلام على الإمام المنتظر والغائب المشتهر، السلام على السيف الشاهر والقمر الزاهر والنور الباهر، السلام على شمس الظلام وبدر التمام، السلام على ربيع الأيتام وفطرة الأنام، السلام على صاحب الصمصام وفلاّق الهام.

السلام على صاحب الدين المأثور والكتاب المسطور، السلام على بقية الله في بلاده وحجّته على عباده، المنتهى إليه مواريث الأنبياء، ولديه موجودة آثار الأصفياء. السلام على المؤتمن على السرّ والولي للأمر، السلام على المهدي الذي وعد الله عزّ وجلّ به الأمم، أن يجمع به الأرض قسطاً وعدلاً، ويمكّن له وينجز به وعد المؤمنين<(66).

فقد أبتدأت هذه الزيارة الشريفة بالإشارة إلى هذا البعد المهم في الحضارة المهدوية الجديدة، وذلك من خلال الإشارة إلى أنّ هذا القائد والمهدي العالمي إنّما هو لكلّ الشعوب والأمم والثقافات والقوميات.

فليس من الصحيح إذن ـ في ضوء هذا النصّ وغيره ـ التأسيس لثقافة تعطي التصوّر المذهبي والطائفي لوظيفة الإمام المهدي ولرسالته العالمية. كما لا ينبغي أن يختصر الحديث حول العالم الإسلامي ومشاكله وهمومه.

والذي يعطيه النظر أنّ الحرب الثقافية الموجودة الآن إنّما هي أصل الحروب التي دارت رحاها في عمر البشرية المديد. فالصراع الحضاري والصراعات الدينية والطائفية والأثنينية إنّما تنطلق من أجل إثبات الهوية الذاتية التي تختزن تاريخ الأمّة القومية أو الأمّة الدينية أو الأمّة الوطنية وغيرها.

لكنّ هذا الصراع الدائم الذي سبب سقوط حضارات وقيام حضارات إنسانية أخرى كبيرة وعملاقة، هو الذي سوف يفتح النافذة نحو أهمّ نور يشع على درب النجاة في مسيرة الإنسانية.

فاليوم بعد أن عجزت التكنلوجيا والعلوم المتطوّرة والأدوات المعرفية عن إقرار النظم الإنسانية العادلة، وتخفيف الآلام وتقريب الهوات بين الأديان والطوائف والمذاهب الدينية والاجتماعية والفكرية المتباعدة، نجد في هذه الأجواء أنّ عالم الثقافة وحركة الفكر الإنساني تتجه نحو إنتاج الهوية الإنسانية العالمية، بعد أن عجزت الأنظمة السياسية في توحيد الأمم والشعوب، سواء من خلال وسائل الاتصال والتي أضحت تمثّل تهديداً على الأمن الشعوبي والأممي؛ لأنّه إداة بأيدي القوى العالمية الفاعلة. أو من خلال العولمة والاختراق الثقافي والهجمة على المكونات الثقافية والآداب والعادات المقدّسة الموروثة للأمم والشعوب.

فالعولمة لم تنتج سوى مزيد من الاحتلال والاستعمار للشعوب المقهورة والمستضعفة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً. لذا تسعى القوى العظمى اليوم ـ وفي مقدّمتها أمريكا ـ لتكون المستعمر الثقافي الأول في الركب الحضاري المادي المعاصر، وبعد ذلك بسط الهيمنة التجارية والاقتصادية والعسكرية وغيرها، فالعولمة هي أمركة العالم كما يعبّر أحد المفكّرين العرب.

وقد كانت حركة ضدّ العولمة، مناهضة العولمة، العولمة الجديدة، هي وصف لمجموعة من المنظمات غير الحكومية وجمعيات وأفراد غير متجانسين سياسياً، يجمعهم نقد النظام الاقتصادي الليبرالي الحالي.

وكان أول ظهور لهذة الحركة عام 1999م في سياتل بمناسبة المؤتمر الاقتصادي لأقوى ثمان دول في العالم(67).

رؤية نحو المستقبل

 لا يختلف اثنان في أنّ التطوّر المتسارع في عالم الاتصالات والمعلوميات يمثل أعظم ثورة إنسانية. فلقد أحدثت هذه الثورة تحوّلاتٍ عميقةً في الثقافة والإعلام والاتصال، وفي مجالات النشاط الفكري والذهني الإنساني المتنوّعة.

وقياساً على الحجم الذي بلغته هذه التحوّلات في الوقت الراهن، وربطاً بينها وبين المتغيّرات الكثيرة التي تعرفها الإنسانية اليوم في ميادين الاقتصاد والتجارة والصناعة والزراعة والطبّ والهندسة الوراثية والفضاء، نستطيع أن نبني توقعاتنا لما ستنتهي إليه ظاهرة العولمة الثقافية في المستقبل على المدَيَيْن القريب والمتوسط، على حساباتٍ لا تبعد كثيراً عن الصحة.

إنّ الأمر المؤكّد أنّ العولمة الثقافية ستبلغ درجةً قصوى من التطوّر يصل بها درجةً من التغلغل والنفوذ غير معهودة، وهذا ما يتطلّب من الحكومات والشعوب الاستعداد على جميع المستويات للتعامل مع الحالة المرتقبة. ولكنّ الأمر المؤكّد أيضاً واستناداً إلى الحسابات نفسها أنّ ظاهرة العولمة الثقافية لابدّ وأن تتراجع أمام مقاومة الشعوب التي تملك رصيداً حضارياً متميّزاً وإرادة لمواجهة السياسة ذات النزعة الاستبدادية والمدفوعة بإرادة الهيمنة والإصرار على إكراه الشعوب، وعلى تبنّي سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية وتعليمية وإعلامية تَتَعَارَضُ مع مصالحها، وتُصَادِمُ خصوصياتها الثقافية والحضارية

ولذلك لم يختلف المفكّرون العرب على أنّ ظاهرة العولمة تشكّل مرحلةً جديدة في التاريخ الإنساني، فالبعض يراها مرحلة طبيعية من مراحل التطوّر الرأسمالي، وآخرون يرونها ظاهرة لم تستكمل بعد دورتها، لذا لم تتضح معالمها بعد، لكن بالتأكيد أنّها ظاهرة القوةُ فيها هي اللاعب الرئيسي.

إنّ السرعة اللامتناهية لظاهرة العولمة لم تترك لأحد الفرصة أن يقف ويفكّر طويلاً؛ لأنّها ستجاوزه، وبالتالي فإنّ مفكّري العالم العربي عليهم الانكباب على دراسة الظاهرة، والخروج بأفضل الطرق والسبل للتعامل معها، منطلقين من الظروف الذاتية والخصوصية الثقافية، وذلك من أجل خلق رؤية إسلامية تقوم على أساس الرجوع للمصدرين الأساسيين في تكوين ثقافة هذه الأمّة وهويتها الحضارية والثقافية.

الآثار الثقافية السلبية للعولمة

لا ينحصر التاثير السلبي للعولمة في إطار معيّن ومسلك واحد، فإنّها لا تكتفي بذلك ما لم تشكّل تهديداً خطيراً لتغيير البنى الثقافية المتمثلة بما يلي:

هيمنة اللغة المستعمرة

ونقصد بذلك اللغة الإنجليزية، فهي لغة القوّة والهيمنة والاستبداد ومصدر للحروب والنكبات البشرية المعاصرة، وبعدها اللغة الفرنسية، فهي لغة الاستعمار الثقافي والغزو الفكري في قارة أفريقيا السوداء. ولازالت تلك البلدان تتحدث بلغة فرنسية وتفكّر بها وتبني اقتصادها وعلاقاتها الاجتماعية في ضوء تفاعلاتها النفسية والمعرفية.

وأمّا اللغة الإنجليزية بشقّيها ـ البريطاني والأمريكي ـ فهي لغة العلم والفنّ العالمي، كما أنّها لغة المجتمع والبيت والأسرة في كثير من المجتمعات العالمية ومنها الإسلامية، وذلك من خلال الهوس والعشق الجنوني لمفردات إنجليزية حتى وإن كان البعض لا يفهم لها معنىً؛ لكونها بحسب نظره نوعاً من التطور.

وقد يصاب البعض ـ بسبب اللاشعور المفعم بحبّ تلك اللغة وما تمثّله من حضارة ــ بداء الجهل المركّب ـ كما يقول المناطقة ـ فيتصوّر بأنّه قد أصبح حداثوياً عندما يتلفظ كلمة (أوكي) أو كلمة (مرسي) الفرنسية الأصل.

 الانحلال الاجتماعي والأخلاقي

يتجلى هذا الانحلال في انتشار سلوكيات العنف والجنس في وسائل الإعلام والسينما والإنترنيت بشكل إباحي يتناقض مع الحشمة والعفّة التي لا تزال تتشبث بها المجتمعات المحافظة.

اختلال منظومة القيم

 كما تظهر نوعية القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية التي يؤمن بها الإنسان في سلوكه الإنساني العامّ، كذلك هي تظهر في سلوكه الفردي والأُسري، فالعولمة لم تغيّر من المجتمعات فكرياً ونظرياً فقط، وإلاّ لما كان فيها خطر. بل إنّها أخذت تتدخل في نوعية المأكل والمشرب وهيئة اللباس، فالمواطنة العالمية أو الفرد العالمي ـ كما يسمّونه ـ هو الذي يدمن بعض الأكلات المصدّرة أو المصنعة أمريكياً أو غربياً ، وهو الذي يلتزم بلباس الفنانين والممثلين العالميين المنتشرين في هوليود وغيرها.

كما أنّ الفرد العالمي هو الذي يتخلّى عن لباسه القومي أو الديني ويتقمّص لباس العولمة، وهو آخر موضات الشركات الأمريكية والأوربية وما يعبّر ذلك اللباس عن رؤىً وأفكار خطرة على السلوك والشرف والكرامة.

وتبعاً لكلّ ذلك فإنّ العلاقات الأسرية يجب أن تدخل ضمن نطاق العولمة وعالم السرعة، من التفكك والتقطّع وضياع العاطفة الإنسانية التي تحفظ حقوق الجميع.

وبين كل هذه الفوضى المعنوية والثقافية والفكرية، فإنّ الملجأ الوحيد للبشرية هو ما تجود به السماء، وما تهبه اليد الربّانية مجسّداً بشخصية العدل المنتظر، والحجّة من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. 

ــــــــــــــــــــــ

(1) القاموس المحيط 2: 10.

(2 ) تاج العروس 6: 286.

(3 ) قصة الحضارة 1: 3.

(4 ) الرحمن: 33.

(5 ) عيون أخبار الرضا 1: 197.

(6 ) إبراهيم: 24.

(7 ) تفسير العياشي 2: 224.

(8 ) انظر: القيادة في الإسلام: 119.

(9 ) الروم: 41 ـ 42.

(10 ) الروم: 43 ـ 44.

(11 ) الاسراء: 9.

(12 ) الإسراء: 10.

(13 ) الإسراء: 9.

(14 ) الزمر: 17 18.

(15 ) نهج البلاغة 1: 44.

(16 ) نهج البلاغة 1: 193، الخطبة 100.

(17 ) التاريخ وحركة التقدّم البشري ونظرة الإسلام إليه: 202.

(18 ) الفرقان: 30 ـ 31.

(19 ) ذم الكلام وأهله للأنصاري الهروي 1: 79.

(20 ) مسند أحمد 5: 278.

(21 ) الصحيفة المهدية: 215.

(22 ) بحث حول المهدي: 55.

(23 ) القصص: 5 ـ 6.

(24 ) خصائص الأئمة: 75.

(25 ) شرح الأخبار للقاضي النعمان 3: 567.

(26 ) النور: 75

(27 ) الحديد: 25.

(28 ) الجمعة: 2.

(29 ) الأعراف: 157.

(30 ) شرح أصول الكافي 8: 32.

(31 ) تفسير الأمثل 18: 73.

(32 ) الإسراء: 70.

(33 ) ينابيع المودة: 447.

(34 ) سنن أبي داوود 2: 310.

(35 ) المستدرك على الصحيحين 4: 558.

(36 ) بحار الأنوار52: 351.

(37 ) آل عمران: 83.

(38 ) الأعراف: 128.

(39 ) الإرشاد 2: 385.

(40 ) الزمر: 9.

(41 ) المجادلة: 11.

(42 ) فاطر: 28.

(43 ) الأنعام: 97.

(44 ) العلق: 1 5.

(45 ) إبرا هيم: 31 ـ 34.

(46 ) العنكبوت: 20.

(47 ) موسوعة العقائد الإسلامية 2: 22.

(48 ) الكافي 1: 30.

(49 ) روضة الواعظين: 11.

(50 ) انظر: الدين وعملية العولمة: 174.

(51 ) الدين وعملية العولمة: 174.

(52 ) طه: 124.

(53 ) الذاريات: 56.

(54 ) بحار الأنوار 52: 391.

(55 ) بحار الأنوار 52: 391.

(56 ) تاريخ ما بعد الظهور: 842.

(57 ) الخرائج والجرائح 2: 841.

(58 ) المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي: 712.

(59 ) إثبات الهداة 3: 494.

(60 ) بحار الأنوار 52: 336.

(61 ) موجز في أصول الدين: 208 ـ 209.

(62 ) المائدة: 18.

(63 ) التوبة: 30.

(64 ) الحجرات: 13.

(65 ) انظر: اليوم الموعود للسيد محمد صادق الصدر: 553 ـ554.

(66 ) المزار (المشهدي): 589.

(67 ) ويكيبيديا الموسوعة الحرة/ تحت عنوان ضدّ العولمة.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1786
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 06 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24