• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المشرف العام .
              • القسم الفرعي : مقالاته .
                    • الموضوع : الحلم العلوي .

الحلم العلوي

الشيخ عبدالجليل أحمد المكراني 

 الحديث عن علي ـ عليه السلام ـ  صعب مستصعب، وأمر تنوء بحمله أولوا القدرة من العلماء والمفكّرين والفلاسفة وغيرهم، وقد أقرّ كلّ مَن تناول شخصيته ـ عليه السلا م ـ بالبحث والدراسة بالقصور؛ لعدم إمكانه الإحاطة الكافية بكل أبعاد شخصية هذا الإنسان العظيم. وليس ذلك إلاّ لعظيم إنسانيته، وعلو ذاته التي استجمعت كلّ الصفات الإنسانية، والقيم البشرية المثلى.

وإنّك أيّها القارئ العزيز لتستنكر على أحد أو تتعجب ـ مثلي ـ أن يكتب حول علي ـ عليه السلام ـ  فلا يعطيه الدرجة العليا، أو يحاول مساواته مع الآخرين. وما ذاك إلاّ للشعور المسيطر على الضمائر الحيّة والنفوس الطاهرة المنصفة بسبق علي في كلّ فضيلة، وعلوّ درجته في كلّ مقام. وليس هذا حكراً على محبيّه وعاشقيه، بل إنّ أعداءه ومبغضيه أذعنوا له بذلك وراحوا يلهجون بثنائه وتعداد فضائله.

ولقد كتب الكثيرون وألفت الأعداد الهائلة من الدراسات والمقالات والموسوعات حول شخصية الإمام عليه السلام،  إلاّ أنّنا نجد في كلّ مرّة حدثاً جديداً، ومادةً غير مطروقة، وفكرة لم يكتشفها الآخرون، وبحثاً نافعاً ذا علاقة بحياتنا وتاريخنا وهمومنا. وما هذا إلاّ لعظم الإيحاءات التي تنبئ وتنطق بها عظمة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ  التي تكتنزها تلك الذات الملهمة.

فعلي ـ عليه السلام ـ  هو ملهم الفكر والمعرفة. وعلي ـ عليه السلام ـ هو ملهم الوجدان والعاطفة. وعلي ـ عليه السلام ـ هو ملهم الأخلاق والمثل الإنسانية.

ومن هذه الأبعاد الثلاثة تكوّنت آفاق التكامل وسرّ العظمة في حياة هذا الإنسان المثالي، الذي بدأ فقيراً، وعاش فقيراً، ومات وهو لا يملك إلاّ تلك المدرعة التي رقعها واستحى من راقعها.

لكنّه ـ عليه السلام ـ أغنى الإنسانيةَ والأجيال تلو الأجيال بالعلم والمعرفة والمثل والأخلاق، فهذا هو ابنه الإمام الحسن ـ عليه السلام ـ  يفصح لنا عن مكنونات شخص أبيه يوم استشهاده ـ عليه السلام ـ قائلاً: ((والله، لقد قبض فيكم الليلة رجل ما سبقه الأولون إلاّ بفضل النبوّة، ولا يدركه الآخرون، وإنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ   كان يبعثه المبعث فيكتنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح الله عليه))([1]).

لقد امتلك علي ـ عليه السلام ـ  قلباً استع للعالم كلّه، رغم كلّ ما لاقاه من مصائب ومحن وتعرّض له من مآسٍ، فهو بين نكبات لاقاها من صحابة رسول الله ورفاق الجهاد الذين سمعوا كلّ شيء من رسول الله ووعوه وعرفوا مقام علي ومنزلته عند الرسول، وبين آخرين التزموا ديارهم وآثروا الراحة والدعة. والأنكى من ذلك تجاهل الكثير منهم؛ لعدم معرفتهم بعظمة مقامه وسعة إدراكه.

فقد عاش ـ عليه السلام ـ في عصر غير عصره، فلم يدرك غوره أو يحيط بمداليل علمه أحد من أولئك الذين صحبوه.

وبعد هذا وذاك، فقد أظهر له رجال بعد موت حبيبه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كلّ الأضغان وكامن الأحقاد، حتى قال متمثلاً:

(شتّان ما يومي على كورها             ويوم حيان أخي جابر)

ويقصد بذلك الفرق بين حاله في زمان رسول الله وحاله بعد رحيله.

فابتلى بعشيرة معادين، وأهل دين متحايلين على الإسلام، وأعداء متلونين حسب المصالح والمطامع، لم يرعوا في الإسلام ذمّةً. وليس هذا بمستبعد على أولئك، فهذا كلام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ  ينبئنا عن ذلك: ((مالي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنّهم مفتونين، وإنّي لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم))([2]).

لماذا حلم علي عليه السلام؟ 

وقبل أن ندخل في صميم البحث ونحاول أن نقترب من تلك النفس العظيمة وبيان عنصر من عناصرها المقدسة ومكوناتها الإنسانية المثلى، لابّد لنا أن نقرأ علياً في سجاياه وفضائله في كلام رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ   وهو الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى.

ولا شكّ عندنا أنّ الرسول الأكرم ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ   عندما يحدّثنا عن شخصية علي عليه السلام، أو عندما يبين خصلة من خصاله الحميدة، أو طبعاً كريماً من طبائعه، فإنّما هو يتكلّم عن ذاته، ويخبر عن شخصه؛ إنّ هذا ما أخبرنا به الله تعالى به بقوله: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ}([3]).

وما اشتهر عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ   في وصف القرابة بينه وبين علي كما جاء في بعض الأدعية: ((وقال: أنا وعلي من شجرة واحدة وسائر الناس من شجر شتى، وأحلّه محلّ هارون من موسى، فقال: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي. وزوجه ابنته سيدة نساء العالمين ... ثم قال: أنت أخي ووصيتي ووارثي، لحمك لحمي ودمك دمي، وسلمك سلمي وحربك حربي، والإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي))([4]).

وهذا الكلام النبوي الشريف هو البيان الجلي لحقيقة العلاقة وعمقها بين النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وعلي عليه السلام.

وبعد هذا فلنقرأ بعض الكلمات الصادرة من المصطفى ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ  في حقّ المرتضى عليه السلام.

1ـ عن أبي هريرة، عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ  في حقّ علي، قال: ((هذا البحر الزاخر، هذا الشمس الطالعة، أسخى من الفرات كّفاً، وأوسع من الدنيا قلباً، فمن أبغضه فعليه لعنة الله))([5]).

2ـ وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ((علي... أحسن الناس خُلقاً))([6]).

وصار المؤرخون وباحثوا السير يطوفون في بيان سمو هذه الذات المقدّسة وبيان خصائصها الروحية والأخلاقية. يقول محمد بن طلحة الشافعي: (وقد بلغ في ذلك إلى الغاية القصوى حتى نُسب من غزارة حسن خلقه إلى الدعابة، وكان مع هذه الغاية في حسن الخلق ولين الجانب يخصّ ذلك بذوي الدين واللين)([7]).

جامع الأضداد

ومن ملامح العظمة الفريدة في علي ـ عليه السلام ـ بالإضافة إلى ما تمتع به من الأخلاق المنحصرة في كيانه النفسي والروحي، أنّه جامع الأضداد، وملتقى الصفات التي يصعب انتظامها في وإنسان واحد.

وهذا ما أشار إليه الصفي الحلّي:

جُمعتْ في صفاتك الأضدادُ
زاهدٌ حاكمٌ حليمٌ شجاعٌ
شيمٌ ما جُمعنْ في بشرٍ قط
خلقٌ يخجل النسيم من اللطفِ
جل معناكَ أن يحيدَ به الشعرُ

فلهذا عزّتْ لك الأندادُ
ناسكٌ فاتكٌ فقيرٌ جوادُ
ولا حازَ مثلهنَ العبادُ
وبأسٌ يذوب منه الجمادُ
ويحصي صفاتَهُ النقّادُ
([8])

ولهذا المعنى أشار الشريف الرضي ـ رضوان الله عليه ـ قائلاً: (ومن عجائبه ـ عليه السلام ـ  التي انفرد بها وأمن المشاركة فيها أنّ كلامه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمّله المتأمّل، وفكّر فيه المفكّر، وخلع من قلبه أنّه كلام مثله ممّن عظم قدره ونفذ أمره، وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشكّ في أنّه كلام من لا حظّ له في غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت، أو انقطع إلى سفح جبل، لا يسمع إلاّ حسّه، ولا يرى إلاّ نفسه، ولا يكاد يوقن بأنّه كلام من ينغمس في الحرب مصلتا سيفه فيقط الرقاب، ويجدّل الأبطال، ويعود به ينطف دماً، ويقطر مهجاً، وهو مع تلك الحال زاهد الزّهاد، وبدل الأبدال. وهذه من فضائله العجيبة، وخصائصه اللطيفة، التي جمع بها بين الأضداد، وألّف بين الأشتات)([9]).

حلم أمير المؤمنين

أخبر رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بأنّ الحلم هو أهمّ العناصر النفسية المشكّلة لشخصية علي ـ عليه السلام ـ وبناء ذاته تربوياً وأخلاقياً، وهذا يعني أنّ علياً ـ عليه السلام ـ  ربّاه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ   على تلك الصفة العظيمة التي كانت معلماً بارزاً لنبي الإسلام؛ الذي كان يمثّل العفو والحلم والتجاوز والتسامح بكلّ معانيها وقيمها الراقية.

1ـ قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ   لفاطمة عليها السلام: ((زوّجتك أقدم أمّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً))([10]).

2ـ وعنه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ  في حديث طويل: ((فعلي... أعلم الناس علماً، وأحلم الناس حلماً))([11]).

3) وعنه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ   أيضاً: ((يا علي، أنت أفضل أمّتي فضلاً، وأقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً، وأوفرهم حلماً))([12]).

هذه الأحاديث الثلاثة وغيرها تشير إلى رسم صورة الإنسان الكامل في الإسلام، بل إلى الشخص الأول الذي يقترب في المعالي والكمالات الإيمانية من شخصية الرسول الأكرم. فالنبيّ الأكرم بيّن للأمّة الإسلامية ملامح شخصية القائد والإمام من بعده بعد أن بيّن فضله على سائر أمّته.

فعلي ـ عليه السلام ـ  هو المسلم الأول الذي صدّق بالنبي الأكرم وأعلن إسلامه وتسليمه لله تعالى. وهو أوسع الأمّة علماً ومعرفة بالإسلام وتعاليمه وتشريعاته وقيمه، وما تحتاج إليه الأمّة بكلّ شؤونها وقضاياها. وهو صاحب الحلم والصبر والأناة.

ولا نريد أن نتكلم هنا في العلم ودوره في تكوين شخصية القائد والرمز فضلاً عن الإمام والقدوة الحسنة للمسلمين بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. ولا أراني ملزماً في بيان علم علي ـ عليه السلام ـ  وأنّه وارث علم النبي وباب مدينة علمه، حتى كان غوث الصحابة ودليل المتحيرين من الخلفاء في ما أشكل عليهم من المسائل الدينية في القرآن والفقه، وغير ذلك من غوامض الأمور ومدلهمات الخطوب، حتى قال الخليفة الثاني: (لا أبقاني الله لمعظلة ليس لها أبو الحسن)([13]).

وأمّا حلم علي ـ عليه السلام ـ فهو صفة وهبها الله تعالى لأنبيائه وربّاهم عليها، بعدما نصبهم أدلاء وعلامات لطريق عبادته وصراط دينه، فكانوا أكثر البشرية عفواً وتسامحاً عن أقسى الناس وأشدّهم جهالة وأذى ومجافاه.

وقد دلّ القرآن على أنّ صفة الحلم هي من أعظم الصفات وأجلّها، وقد وصف الله عزّ وجلّ بها بعض عباده فضلاً عن كونها إحدى صفاته وأسمائه سبحانه وتعالى.

1 ـ قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ }([14]).

2 ـ وقال تعالى في وصف يحيى بن زكريا سلام الله عليه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ}([15]).

3 ـ أمّا ما وصف الله سبحانه وتعالى به نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلقد كان مجمعاً لكلّ فضيلة، ومصدر كلّ خليقة طيبة، فهو سيد الرسل وأعظم الناس خلقاً، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}([16]).

وقال عزّ وجلّ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}([17]).

وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}([18]).

شواهد ودلائل من الحلم العلوي

إنّ الشواهد على الحلم العلوي كثيرة جدّاً، فتجده ـ عليه السلام ـ مسامحاً وعفوّاً وحليماً عن رعيته وأعدائه، في جميع حالاته وأوقاته.

وفيما يلي نماذج من ذلك:

ورد في (المستدرك على الصحيحين): عن أبي يحيى قال: نادى رجل من الغالين علياً ـ عليه السلام ـ  وهو في الصلاه ـ صلاة الفجر ـ فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}([19]).

فأجابه علي ـ عليه السلام ـ  وهو في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ}([20])([21]).

حلمه عن أحد الرعية

وروى ابن أبي الحديد عن زرارة بن أعين، عن أبيه، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام: ((كان علي ـ عليه السلام ـ  إذا صلّى الفجر لم يزل معقّباً إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس، فيعلّمهم الفقه والقرآن. وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك، فقام يوماً فمرّ برجل فرماه بكلمة هجر ـ قال: ولم يسمّهِ محمّد بن علي عليه السلام ـ  فرجع عوده على بدئه حتى صعد المنبر، وأمر فنودي: الصلاة جامعة. فمحد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيّه، ثم قال: أيّها الناس، ليس شيء أحبّ إلى الله ولا أعمّ نفعاً من حلم إمام وفقهه، ولا شيء أبغض إلى الله ولا أعمّ ضرراً من جهل إمام وخرقه. ألا وإنّه من لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من الله حافظ. ألا وأنّه من أنصف من نفسه لم يزده الله إلاّ عزّاً. ألا وإنّ الذلّ في طاعة الله أقرب إلى الله من التعزز في معصيته. ثم قال: أين المتكلّم آنفاً. فلم يستطع الإنكار. فقال: ها أنا ذا يا أمير المؤمنين. فقال: أما أنّي لو أشاء لقلت. فقال: إن تعفُ وتصفح فأنتَ أهل ذلك. قال: قد عفوت وصفحت)).

فقيل لمحمد بن علي: ما أراد أن يقول؟ قال: ((أراد أن ينسبه))([22]).

حلمه وصفحه عن اغتصاب حقه

قد عرفنا أنّ أخلاق علي ـ عليه السلام ـ هي أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولمّا كان الرسول الأكرم ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ   هو سيّد هذه الأمّة بل سيّد الأمم بأجمعها، ومعلّمها فضائل الأخلاق ومكارمها، فهو الأب لكل فضيلة. ولقد أخبر النبي بأنّ هذه الأبوّة بعطفها وحنانها وصبرها الطويل متجسّدة من بعده بشخص ابن عمّه ووارث علمه وخلقه علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: ((يا علي، أنا وأنتَ أبوا هذه الأمّة))([23]).

ولقد فسّر الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ  معنى الأبوّة في هذا الحديث ومقتضياتها وأسبابها بقوله: ((إنّ شفقة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ   على أمّته شفقة الآباء على الأولاد، وأفضل أمّته علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن بعده شفقة علي ـ عليه السلام ـ  كشفقته صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنّه وصيه وخليفته والإمام من بعده... فلذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنا وعلي أبوا هذه الأمّة))([24]).

ولقد كان علي ـ عليه السلام ـ  بمستوى هذه الأبوة بشهادة الأعداء والأصدقاء؛ عفواً وحلماً ومداراة وحفظاً لمصالح أبنائه من أبناء هذه الأمّة،  ولم يكن من هؤلاء الأبناء إلاّ العقوق والمحاربة لأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وسلب حقوقه واغتصاب ما وهبه الله له واختصه به رسول الله.

لكنّه الأحرص على بقاء الإسلام وحفظ كيان الأمّة الإسلامية وتماسك وحدتها.

والأدهى والأمرّ من كلّ ذلك أنّ القوم (صحابة الرسول) رأوا أنّ الصفقة لا تتمّ، والأمر لا يستقيم ما لم يبايع علي ويعلن أمام الملأ رضاه وتأييده للسلطة الجديدة وإصباغ الشرعية عليها. فالقوم هم القوم الذين خبروا علياً وعرفوا مكانته ومنزلته من رسول الله وأهليته هو وحده دون غيره لخلافة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ   بشهادة مواقفه المتكررة لإبراز عنصر القيادة والخلافة،  حتى انتهى ذلك المشهد بمصير مأساوي فيه حيف عظيم جرى على بيت علي وآله آل رسول الله وعترته.

واهتضمت ابنة النبي وبضعته وحبيبته فاطمة الزهراء عليها السلام، وجرى ما جرى عليها حتى استشهدت مظلومة، وذهبت إلى ربّها غاضبة على الخليفة وصاحبه، شاكيةً إليه وإلى أبيها ما جرى عليها من أصحابه وأمّته.

وكان بإمكان الإمام علي ـ عليه السلام ـ  في مثل هذه الأجواء أن يستخدم كلّ الوسائل للإيقاع بالأعداء وإفشال هذه السلطة، وبالتالي إدخال المجتمع المسلم في حرب جديدة وصراع يقضي على الإسلام وأهله؛ انتقاماً لما جرى عليه، واسترجاعاً لحقوقه وأولها حقّه بالحكم والسلطة بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

لكن الأمر ـ مع مرارته ـ يختلف في المنطق والموقف العلوي عن منطق المنافع والانتصار للذات بالحيلة والخديعة والمجازفة بالقيم الأخلاقية والإنسانية، كما فعل غيره. إنّه المنطق المبني على الحفاظ على مصلحة الإسلام والمسلمين، المنطق الذي يؤمن بالعاقبة المحمودة لمن يصبر ويتحمّل.

فقد تجلّت هذه الروح العلوية الكبيرة بصبرها وأبوّيتها وشعورها بالمسؤولية العظيمة بُعيد وفاة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم،  إذ كان من المأمول وحسب وصايا النبي الأكرم أن تلتف الأمّة الإسلامية حول أخي رسول الله ووصيه علي بن أبي طالب، أوّل الناس إسلاماً، وأقدمهم جهاداً، وأخلصهم للإسلام، وأشجعهم ذبّاً ودفاعاً عن حريم الدين، فادي رسول الله بنفسه وماله.

وبعد ما كانت للرسول معه ـ عليه السلام ـ وقفات ووقفات لبيان فضله وعلمه وفقهه وشجاعته ورجاحة عقله، وحلمه الطويل وجهاده القديم، وأنّه أقضى هذه الأمّة وأعلمها وأفضلها، نرى أنّ  الأمر قد انعكس تماماً، فبقي علي وحيداً يتصارع مع هول المصيبة وعظم النازلة التي نزلت بالإسلام والإنسانية بفقد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقام بتجهيز النبي الأكرم وتغسيله والصلاة عليه، وبعد ذلك أخذ يستقبل التعازي مغموراً بالأحزان ومحترق المقلتين بدموعه، والقوم مشتغلون بتدبير أمر السقيفة والاستحواذ على السلطة وممارسة القيادة، مصادرين أية حركة تنوي الاقتراب والوصول لمنصب الرئاسة، فكان التخطيط لذلك ورسم صورة المشهد أن يُبعد علي ـ عليه السلام ـ  عن الواقع التنفيذي والقيادي الأول في الأمّة، بل يجبر على الالتزام به والإذعان لصاحبه والرضوخ للأمر الواقع.

فلا وصية بالأمر، ولا نصّ نبوي، ولا تاريخ جهادي، ولا سابقة في الإسلام، ولا قرابة من رسول الله تشفع له في ذلك.

ولكنّه منطق علي ـ عليه السلام ـ الحليم المتسامح الذي هو منطق القرآن الكريم الذي يخاطب رسول الله: {فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}([25]).

نعم ليس لأحد طاقة ولا قدرة على تحمل هذا الحلم والعفو والصبر إلاّ علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو العالم بما يسبّبه مثل هذا الصراع واشتعال نار الحرب بين المسلمين في مثل هذا الموقف من التصدّع في الأمّة وضياع الدين بعد استقامة أمره وعلو شأنه.

وها هي آهات علي وحسراته أبرزتها نبرات الأسى وأصداء الحزن على ما حلّ في الأمّة، كما تظهرها لنا خطبه وكلماته عليه السلام.

ولعلّ أوسعها بياناً وأجلّها صورة هي خطبته الشقشقية التي يقول فيها عليه السلام: ((أما والله، لقد تقمّصها فلان، وأنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى، ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه)).

وبعد هذه المقدّمات التي عرضها أمير المؤمنين، وهي ممّا تدفع الإنسان للتحرّك وإعلان المواجهة ضدّ المغتصبين، يرى أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ  طريق الصبر هو الأولى، فيقول: ((فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذىً وفي الحلق شجىً، أرى تراثي نهبا))([26]).

وقد فسّر الإمام علي ـ عليه السلام ـ هذا الموقف التي اتخذه حرصاً على الإسلام وتماسك الأمّة، فأفصح عنه في قوله عليه السلام: ((لقد علمتم أنّي أحقّ الناس بها من غيري، والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلاّ عليَّ خاصّة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه))([27]).

وفي طول حكم عهد دولة الخلفاء الثلاثة كان علي ـ عليه السلام ـ  يمثّل صمام الأمان ومفزع الخلفاء في المشاكل والمسائل الحرجة فيما يتعلق بأمور الدين أو سياسة البلاد أو شؤون العسكر والحرب، ولم يكن يمنعه من ذلك كلّ ما جرى عليه من الظلم والحيف والاستخفاف بالحقوق. وهذا إن دلّ على شيء فهو إنّما يدلّ على عظمة هذا الإنسان وكماله، فقد قدّم بذلك نموذجاً رائعاً في الحلم والتسامح رفعه محبّوه وشيعته مناراً وعلماً خافقاً أمام نظرهم يردعهم كلّما أحسّوا بأنّهم قد ابتعدوا في مسيرتهم عن خطّه ومنهجه.

حلمه عن الخوارج

وفي أثناء دولته وحكومته نهضت مجموعة كبيرة من الاتجاهات والتيارات السياسية والفكرية المعارضة لمنهج إدارة الدولة وقيادة أمير المؤمنين عليه السلام.

ولم يكن ذلك يبرز إلاّ بعد المنهج الذي اتبعه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ  من عطاء الحرية الفكرية والسياسية، فلم يكن ـ عليه السلام ـ  ليكره أحداً أو يجبره على البيعة أو الاعتقاد بإمامته الفكرية والسياسية، فلقد تخلّف عبدالله بن عمر وآخرون عن البيعة لأمير المؤمنين عليه السلام.

وهكذا خالفه غيرهم ومرقوا عن الدين وخرجوا عن حدوده، أولئك هم الخوارج، الذين انحرفوا فكرياً وعقدياً عن منهج الإسلام وطاعة الإمام عليه السلام.

يقول ابن أبي الحديد: ويروى أنّه ـ عليه السلام ـ كان جالساً في أصحابه إذ مرّت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال عليه السلام: ((إنّ أبصار هذه الفحول طوامح، وإنّ ذلك سبب هبابها، فاذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنّما هي أمرأة كامرأته)).

فقال رجل من الخوارج: قالته الله، كافراً ما أفقهه!

قال: فوثب القوم ليقتلوه. فقال عليه السلام: ((رويداً  إنّما هو سبٌّ بسبّ، أو عفو عن ذنب))([28]).

عفوه عن أعدائه وحلمه عنهم

لم يكن لعلي ـ عليه السلام ـ  وهو يمثّل نهج الإسلام بصبغته الإلهية والربّانية من الرحمة والرأفة والإنسانية أن يعيش عقلية الانتقام أو التشفّي أو الاعتداء على الحرمات ومؤاخذة الضعفاء ومَن لا شأن لهم بالحرب والمواجهة، فقد كان هذا ديدنه منذ أن نشأ صبيّاً ويافعاً مدافعاً عن الرسول والرسالة، وحتى وهو فارس الإسلام وبطل المسلمين، فكان عندما يلقي نفسه في لهوات الحرب والنزال يتحلّى باخلاقية الانتصار والفروسية والشجاعة، فقد استمهل في قتل أبي جهل لمّا بصق بوجهه الشريف وأشاح بوجهه عنه، وترك قتل عمرو بن العاص لمّا كشف عن عورته. ولم يكن من شأنه أن يُجهز على جريح أو يلحق مدبراً وهارباً.

وبهذه الأخلاقية النادرة أوصى جنده عندما أراد لقاء العدو بصفين قائلاً: (لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإنّكم بحمد الله على حجّة، وترككم إيّاهم حتى يبدؤوكم حجّة أخرى لكم عليهم. فاذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذىً وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم، فإنّهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول. إن كنّا لنؤمر بالكفّ عنهن وانهن لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر أو الهراوة فيعير بها وعقبه من بعده))([29]).

وفي البصرة تقدّمت إليه امرأة عبدالله بن خلف الخزاعي بعد ظفره وقد مرّ ببابها فقالت: يا علي، يا قاتل الأحبة، لا مرحباً بك. أيتم الله منك ولدك كما أيتمت بني عبدالله بن خلف.

فلم يرد عليها، ولكنّه وقف وأشار إلى ناحية من دارها. ففهمتْ إشارته، فسكتت وانصرفت. وكانت سترت عندها عبدالله بن الزبير ومروان بن الحكم، فأشار إلى الموضع الذي كانا فيه، أي لو شئت أخرجتهما. فلما فهمت انصرفت([30]).


([1]) مروج الذهب 2: 414.

([2]) نهج البلاغة: 61.

([3]) آل عمران: 61. 

([4]) المزار للمشهدي: 576. بحار الأنوار 99: 106.

([5]) النص على أمير المؤمنين: 169.

([6]) موسوعة الإمام علي للريشهري 9: 173.

([7]) مطالب السؤول في مناقب آل الرسول: 162.

([8]) أعيان الشيعة 1: 329.

([9]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 49.

([10]) مناقب الإمام أمير المؤمنين1: 259.

([11]) روضة الواعظين للفتال النيسابوري: 123

([12]) روضة الواعظين للفتال النيسابوري: 102.

([13]) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 17: 105.

([14])  التوبة: 114.

([15])  الصافات: 101.

([16])  القلم: 4.

([17])  آل عمران: 159.

([18]) التوبة: 128.

([19]) الزمر: 65.

([20]) الروم: 60.

([21]) المستدرك للحاكم النيسابوري 3: 146.

([22]) شرح نهج البلاغة 4: 109 ـ 110.

([23]) الأمالي للصدوق: 755.

([24]) معاني الأخبار: 52.

([25]) الحجر: 85.

([26]) نهج البلاغة 1: 30. خطبة رقم 3.

([27]) نهج البلاغة 1: 124، خطبة 74.

([28]) شرح نهج البلاغة 20: 63.

([29]) نهج البلاغة (محمد عبدة): 373.

([30]) شرح نهج البلاغة 15: 105.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1780
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 05 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28