• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : ألفاظ الهندسة المدنية في القرآن الكريم(*) .

ألفاظ الهندسة المدنية في القرآن الكريم(*)

بقلم: المهندس منذر كاظم آل هريبد

استطاع الإنسان عبر المراحل الزمنية المتعاقبة أن يسخّر العلوم المختلفة لتطوير حياته وتلبية متطلباتها حتى وصلنا إلى مستوى عالٍ من ذلك.

ومن هذه العلوم التي أسهمت في صنع الحضارة (علم الهندسة المدنية) الذي يتندر الكثير من الاخوة حين سماع اسمه، ويجهل آخرون سبب التسمية، لذلك سنذكر شيئاً عن ذلك، فنقول:

نظراً لغلبة الحكومات المتسلّطة على رقاب البشر في معظم الأزمان، وعدم الاهتمام بحاجات الناس العاديين فإن قسطاً كبيراً من الطاقة الموجودة في العلم والعلماء قد سخرت لخدمة تلك الحكومات وحروبها فلم يكن مشهوراً ما يسمى الآن بالهندسة المدنية بل كان السائد هو الهندسة العسكرية التي كانت تعنى بكل ما يسهل تحركات الجيوش في حالتي الهجوم والدفاع والتقدم والانسحاب من التخريب والبناء للحصون والقلاع والطرق والجسور والموانئ وغيرها.

فروع الهندسة المدنية في القرآن الكريم

أوّلاً: المباني السكنية

ونقصد بها المنشآت المعدّة بالدرجة الأساس لسكن الإنسان.

وقد تعددت الألفاظ القرآنية التي تعبر عن هذه المباني، إلا أن أكثرها وروداً ألفاظ (البيت)، (المسكن) و(الدار).

وملاحظة الآيات الحاوية على ألفاظ هذه الأبنية تفرز أشياءً مشتركة بين تلك الألفاظ، وأشياءً غير مشتركة يتميز بها لفظ دون غيره.

ومن الأشياء المشتركة اللافتة للانتباه استعمال القرآن الكريم لألفاظ البيت والدار والمسكن، للتعبير عن محل إقامة المسلم والكافر على حد سواء، فالآيات مثل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة النساء: 100] و{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [سورة الممتحنة: 8] و{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [سورة  الطلاق: 6] تتحدث عن مبانٍ يشغلها أناس مسلمون.

أما الآيات مثل: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [سورة النمل: 52] و{سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ} [سورة الأعراف:145] و{ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} [سورة القصص:58]، فتتحدّث عن مبانٍ كان يقطنها الكفار.

ولعل في هذا الضرب من المساواة بغض النظر عن العقيدة إشارة إلى حق من حقوق الإنسان وهو: أنّ لكل إنسان الحق في امتلاك الوطن الصغير الذي يضمه وعائلته.

ومن الأشياء غير المشتركة بين الآيات الحاوية على تلك الألفاظ اختصاص لفظ الدار بالإنسان دون غيره بخلاف لفظ البيت والمسكن اللذين تعدّت ملكيتهما إلى مخلوقات أخرى كالنحل {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا} [سورة النحل:68]، والنمل {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [سورة النمل:18].

ولعل السر في ذلك اشتراط وجود الحائط الذي يدور حولها حتى تدعى بالدار، بينما لا يشترط ذلك في البيت والمسكن.

ثانياً: الأبنية ذات الأغراض الخاصة

وهي أبنية شيدت، وليس المقصد الأول من إنشائها السكن الإنساني بالرغم من مكوث بعض الناس فيها فترات من حياتهم طالت أو قصرت. ومن هذا النوع ذكرت الأبنية التالية:

1- الحصون

جمع حصن، وهو بناء مشيد لأغراض عسكرية ولصد الغزوات الخارجية، وقد وردت الحصون بلفظها المعروف في الآية {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ} [سورة الحشر:2] وبلفظ آخر كما في قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [سورة الأحزاب:26] وصياصيهم معناها حصونهم [تفسير القرآن الكريم، السيد عبد الله شبر].

2- السجون

كما في الآية: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} [سورة يوسف:33]، و{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [سورة يوسف:36].

3- أماكن العبادة

وشملت أماكن العبادة للمسلمين وغير المسلمين، وقد جمعت معابد الديانات الرئيسية الثلاث في آية واحدة وهي قوله تعالى: {... لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [سورة الحج:40].

باعتبار أنّ البيع جمع بيعة بمعنى معبد النصارى، والصلوات جمع صلاة بمعنى معبد اليهود، والمساجد جمع مسجد وهو موضع عبادة المسلمين، أما الصوامع فهي جمع صومعة، وهي عادة مكان خارج المدينة بعيد عن أعين الناس مخصص لمن ترك الدنيا من الزهاد والعبّاد [الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ مكارم الشيرازي: ج8، ص416].

بالإضافة إلى ما سبق فقد ذُكرت في القرآن مساجد معروفة بعينها كالمسجد الحرام في مكة المكرمة {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ} [سورة الحج:29]، وذكر هذا المسجد المبارك موصوفاً بالعتيق فيه دلالة تاريخية على قدم إنشائه.

ثالثاً: أجزاء الأبنية (**)

وقد ذُكرت في القرآن الكريم ألفاظٌ تدل على أجزاء من الأبنية وهي:

1- السُّقُف والسلالم: والسُّقُف جمع سقف، وتحدثنا الآية (33) من سورة الزخرف {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [سورة الزخرف:33] والمراد ـ والله أعلم ـ : لولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ولجعلنا لهم بيوتاً لها عدة طوابق ولها سلالم جميلة {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [سورة الزخرف:33]، و(المعارج جمع معراج وهو الوسيلة التي يستخدمها الإنسان للصعود إلى الطبقات العليا) [الأمثل ج12، هامش ص376].

2- الأرضيات: وقد وردت بلفظ (صرح) في قصة النبي سليمان (عليه السلام) ومجيء ملكة سبأ، فقد أمر سليمان (عليه السلام) أن تصنع احدى ساحات قصوره من قوارير وأن يجري الماء من تحتها فلما وصلت ملكة سبأ إلى ذلك المكان {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} [سورة النمل: 44] فلما رأته ظننته نهراً جارياً فرفعت ثوبها لتمر وسط الماء وهي متعجبة من سبب وجود هذا الماء الجاري، وكما يقول القرآن {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [سورة النمل: 44] إلا أن سليمان (عليه السلام) التفت إليها وقال: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} [سورة النمل: 44].

والصرح معناه الفضاء الواسع وقد يأتي بمعنى البناء العالي والقصر وفي الآية المشار إليها آنفاً معناه ساحة القصر، أي فضاؤه الواسع ظاهراً، و(الممرد) معناه الصافي، والقوارير جمع قارورة وهي الزجاجة [الأمثل: ج9، هامش ص455].

وفي هذه الآية الكريمة إشارة لاستعمال الزجاج كمادة بنائية لتبليط الأرضيات، كما تؤكد روعة التصميم الهندسي ودقة التنفيذ إلى الحد الذي جعل الملكة تراه نهراً جارياً فوق سطح الأرض.

3- الباب: الباب يقال لمدخل الشيء وأصل ذلك مداخل الأمكنة كباب المدينة والدار والبيت [مفردات ألفاظ القرآن: ص150]، وقد ذكر بمعناه المعروف في عالم البناء في آيات عديدة منها {وَاسْتَبَقَا البَابَ} [سورة يوسف:25]، و{وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} [سورة يوسف: 23]، أما الآيات التي ذكر فيها ولم يقصد منه ذلك فمنها: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنعام: 44].

الأسس

قد وردت بلفظ (القواعد) في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ} [سورة البقرة:127]، والقواعد جمع قاعدة، أي الأساس، ورفعها البناء عليها [تفسير القرآن الكريم، السيد عبد الله شبر: ص20]. وللزجاج رأي آخر في معنى القواعد، إذ قال: (القواعد: أساطين البناء التي تعمده) [لسان العرب: ص361، مادة (قعد)]، وعلى هذا المعنى فإن القواعد تدل على جزء إنشائي آخر هو  الأعمدة.

وهناك من الباحثين من يُدخل الآية {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [سورة التوبة:109]، وهي تحكي قصة مسجد ضرار في موضوع بحثنا، ويعتبرها تعطي إشارات هندسية عن نوعية الأسس وأسباب فشلها، حيث يقول الباحث يوسف غريب: (تناولت الآية عدة عوامل ذات تأثير فعال ومباشر في تأسيس أساسات المنشآت، فلفظة (أساس) معناها في اللغة أصل كل شيء، وأساس البناء مبتدؤه، وفي الهندسة: التأسيس والأساس هو العنصر الإنشائي الذي يستخدم لنقل الأحمال المؤثرة من البنيان إلى التربة أو الأرض [شبكة الانترنت العالمية، موقع الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة ـ مكة المكرمة، مقالة (من صور الإعجاز الهندسي في القرآن الكريم)].

وعند ذكر التأسيس والأساس: (.. أسس بنيانه..) لا بد أن تكون هناك أحمال ناشئة من البنيان تستلزم إنشاء أساسات لها، وتستلزم اختيار نوع مادة الأساسات طبقاً لذلك. فعامل الأحمال المؤثر مأخوذ في الاعتبار أيضاً.

ولفظة (على) في قوله: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [سورة التوبة:109] لها معنيان هندسيان [هذا استنتاج من الباحث يوسف محمد غريب]: (أحدهما يفيد أن نوع الأساس المختار هو الأساسات السطحية وليس الأساسات العميقة لأنه لو كانت الأساسات عميقة لكان التعبير المناسب هو (في شفا) وليس (على شفا) فعامل نوع التأسيس ملحوظ ومأخوذ في الاعتبار. وهذا المفهوم الهندسي يتطابق مع معنى الآية الكريمة حيث يكون الانهيار مؤكداً عندما يكون الأساس سطحياً وليس عميقاً).

ويمضي الباحث في تقصيه لمفردات الآية الكريمة حتى يخلص إلى قوله: (لقد تضمنت هذه الآية الكريمة الإشارة إلى ثمانية عوامل، تمثل معايير أساسية في تأسيس الأساسات وهي:

        نوع الأحمال المؤثرة.

        نوع مادة الأساسات.

        نوع التأسيس (سطحي / عميق).

        عمق التأسيس عن سطح الأرض.

        بُعد التأسيس عن الحافة.

        تأثير المياه على تربة التأسيس، وعلى الأساسات نفسها.

        زاوية ميل التربة.

        نوع تربة التأسيس) [المصدر نفسه].

4- الأعمدة: حيث يعبر القرآن عن رمزية رفع السماوات كما في سورة لقمان {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [سورة لقمان:10]، أو يجعل الأعمدة صفة لمدينة ارم كما في سورة الفجر {إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ} [سورة الفجر:7].

رابعاً: منشآت أخرى

من المعلوم اشتمال الهندسة المدنية على فروع أخرى غير الأبنية كالطرق والجسور والسدود والأنفاق وغير ذلك.

وقد وفقنا الله عز وجل لملاحظة ورود ثلاثة أنواع من تلك المنشآت الهندسية هي:

1- السدود

قد ذُكرت في الآيات الكريمات التي تتحدّث عن بعض محطّات رحلة ذي القرنين في سورة الكهف {قَالُوا يَا ذَا القَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [سورة الكهف:94] إلى قوله تعالى شأنه {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [سورة الكهف:98].

حيث تشير إلى قصة بناء سد أشرف عليه ذو القرنين، وهذا السدّ يختلف قليلاً عن السدود في وقتنا الحاضر في أنه لا يحتجز الماء، لكنه يحجز بين المفسدين (يأجوج ومأجوج) وبين من تعرض لظلمهم وطغيانهم، ويكاد ذلك السد أن يقترب في مادته ووظيفته من الركائز اللوحية التي تستعمل في مشاريعنا الحالية لعدة أغراض منها مثلاً أنها تحجز وتمنع وصول الماء إلى موقع العمل.

ويكاد ذلك السد أيضاً أن يلبس وجه الشبه ببناء جدار عظيم من المواد المعدنية، والغريب ما في تلك المواد المعدنية من صفات جعلت من تشكيلها بناءً صامداً في وجه محاولات الاختراق وكما يشهد القرآن العظيم بذلك {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [سورة الكهف:97].

2- الأنفاق

وقد وردت بشكل يختلف في تطوره عن الأنفاق الحديثة المعاصرة لكنها لا تختلف في فكرتها كثيراً وكان ورود الأنفاق بلفظ المدّخل في قوله تعالى: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا} [سورة التوبة:57] و (المدّخل هو الطريق الخفي تحت الأرض) [الأمثل: ج5، ص263].

3- الطرق

وجاءت بلفظ السُّبُل، وهي جمع سبيل، كما في الآية {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} [سورة الأنبياء:31].

الفوائد المحصلة

خرجنا ولله الحمد، بفوائد كثيرة نتيجة تتبع ألفاظ الهندسة المدنية في القرآن الكريم وسنقسم هذه الفوائد على أنواع عدة كما سترى، وبدايتنا ستكون بالفوائد الهندسية قبل غيرها نظراً لارتباط الفوائد الهندسية بموضوع بحثنا هذا:

أولاً: الفوائد الهندسية

1- في مجال التنفيذ الهندسي يعطينا القرآن الكريم تصويراً رائعاً لإنجاز مشروع سد يأجوج ومأجوج الذي صممه ذو القرنين وأشرف على مراحل تنفيذه لتخليص أولئك الناس من شر المفسدين يأجوج ومأجوج.

ففي أولى مراحل الإنشاء، قال لهم: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [سورة الكهف:95] والردم معناه في اللغة سد الثلمة بالحجر [مفردات ألفاظ القرآن: ص350].

ثم قال لهم ذو القرنين {آَتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ} [سورة الكهف:96] أي الكتل الكبيرة والقطع الضخمة من الحديد التي سيتكون منها السد، وعندما تهيأت قطع الحديد أعطى أمراً بوضع بعضها فوق البعض الآخر استعداداً لربطها حتى تعمل سوياً، فلما أكمل تغطية المنطقة الواقعة بين الجبلين بشكل كامل {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [سورة الكهف:96] هيأهم للأمر الثالث، والصدف تعني هنا حافة الجبل، ويتضح من هذا التعبير أنّ هناك شقاً بين حافتي الجبل حيث كان يأجوج ومأجوج يدخلان منه.

والأمر الثالث لذي القرنين هو طلبه منهم أن يجلبوا الوقود من الحطب وما شابهه ووضعه على جانبي هذا السد، وأشعل فيه النار ثمّ أمرهم بالنفخ فيه حتى احمرّ الحديد من شدة النار {قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} [سورة الكهف:96]، لقد قام ذو القرنين بربط قطع الحديد بعضها ببعض، تماماً كما نفعل في عصرنا الحالي عبر عملية اللحام المعروفة ليصنع من القطع المتعددة قطعة واحدة تمثل جسد السد.

أخيراً صدر لهم الأمر الأخير وهو تغطية ذلك السد الحديدي بطبقة واقية من النحاس تعزل بينه وبين الهواء وتحفظه من التعرض للتآكل بسبب الصدأ فقال: اجلبوا لي النحاس المذاب حتى أضعه فوق هذا السد {قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [سورة الكهف:96].

2- في مجال التخطيط الهندسي: كما يظهر من قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [سورة يونس:87]، فإن موسى وأخاه هارون (عليهما السلام) قد تلقوا مهمة وضع برنامج من عدة نقاط من أجل تطهير مجتمع بني إسرائيل من خلال:

- الاهتمام بتخطيط واختيار الموقع المناسب لبناء المساكن التي سيقطنها بنو إسرائيل وعزل مساكنهم عن الفراعنة، وهذا التخطيط المتضمن فصلهم عن مؤثرات السكن قريباً من الفراعنة، سيشعرهم برابطة أقوى تدفعهم للدفاع عن أنفسهم، وعما انفردوا به من مساكن.

- أن يبنوا بيوتهم متقاربة ويقابل بعضها الآخر، كما هي الحال في مدننا الحالية وهذا واضح من الآية الكريمة السابقة، لأن القبلة في الأصل بمعنى حالة التقابل وإطلاق كلمة القبلة على ما هو معروف اليوم إنّما هو معنى ثانوي لهذه الكلمة، وأدى هذا العمل إلى تجمع وتمركز بني إسرائيل بشكل فاعل واستطاعوا بذلك وضع المسائل الاجتماعية بعامة قيد البحث والتحقيق، والتجمع بعضهم مع بعض في مكان واحد، لأداء المراسم الدينية، والشعائر المذهبية وسهل عليهم أيضاً رسم الخطط اللازمة من أجل الحرية والخلاص من الظلم [انظر: الأمثل: ج5، ص532-533].

3- في مجال الاختراع الهندسي: حيث كان وما زال القرآن الكريم مصدر إلهام للباحثين عن اختراعات هندسية جديدة، ومن الأمثلة المعاصرة على ذلك الباحثة المصرية المهندسة ليلى عبد المنعم الخبيرة بإحدى المؤسسات الأمريكية التي قادها تأملها للآيتين الكريمتين اللتين تحكيان قصة سد ذي القرنين إلى التوصل لتركيبة جديدة من الخرسانة المسلحة لها قدرة على مقاومة الزلازل وعوامل التعرية وغيرها من القوى التي تؤثر على المباني مهما بلغت شدتها حيث تقول: (جاءتني فكرة الاختراع عندما علمت أن مجموعة من العلماء الأمريكيين يجرون محاولات تصميم مبان تتحمل الهجمات الإرهابية، خاصة بعد الهجوم الذي تعرضت له الولايات المتحدة في سبتمبر 2001، كما شاهدت في الوقت نفسه برنامجاً تليفزيونياً علمياً تحدث فيه مقدمة عن قيام اليابان بتشييد حائط يقاوم الزلازل بقوة 6 . 4 ريختر بسمك حوالي متر فأكثر، ومن ثَم لمست الحاجة لهذا الاختراع فبدأت في البحث على الفور بعد تذكري للآية القرآنية {آَتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [سورة الكهف:97] وبحثت في كتب التفسير، وبدأت أتعرف على مكونات هذا الحائط الذي يصمد لأعتى الزلازل ولا تؤثر فيه الأسلحة الثقيلة أو الصواريخ، وهو عبارة عن خليط منصهر من الحديد والنحاس والبوتاس) [شبكة الانترنت العالمية، موقع محاورات المصريين، مقالة (ليلى عبد المنعم .. أم المخترعين ..].

وهناك من المهندسين من يقف مشدوداً بالآية 68 من سورة النحل {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [سورة النحل:68]، وأمله تصميم منشأ يتحمل الزلازل نتيجة التفكر في بيوت النحل ويقول: (إن اهتزاز أجنحة آلاف النحل التي تقطن بيتها يولد اهتزازات كبيرة جداً أكبر بكثير من أعلى مقياس للزلازل يعرفه البشر وبالرغم من ذلك نجد بأن بيت النحل يبقى متزناً ومعلقاً على غصن شجرة. فإذا صمم الإنسان المؤمن المنشآت بنفس تصميم بيوت النحل فأنه بذلك يضمن منشأ يتحمل أي زلزال على أعلى مقياس يعرفه البشر) [شبكة الانترنت العالمية، موقع منتدى جامعة العلوم التطبيقية، مقالة (كيفية تعلم الهندسة المدنية من كتاب الله سبحانه وتعالى) - بتصرّف].

ثانياً: فوائد تاريخية

باعتبار القرآن الكريم وثيقة تاريخية يمكن الاحتجاج بها على أمور متنوعة مثل:

1- أقدمية المسجد الحرام في مكة المكرمة على سائر دور العبادة ويشهد لذلك قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [سورة آل عمران:96]، وبكة هي اسم من أسماء مدينة مكة المكرمة.

وفي موضوع تحديد زمان بناء الكعبة الشريفة، يستدل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (دام ظله) في تفسيره الأمثل [ج1، ص320-321]، من خلال الربط بين الآية المتقدمة، والآية 37 من سورة إبراهيم عن لسان إبراهيم {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ} [سورة إبراهيم:37]، على أن بيت الله الحرام كان له نوع وجود حين جاء النبي إبراهيم (عليه السلام) بأسرته المكونة من زوجته وابنه الرضيع إلى مكة، وتحدثنا المصادر التاريخية والإسلامية بأن عبادة الله (تعالى شأنه)، وإقامة الأماكن المخصصة لعبادته لم تبدأ في زمن إبراهيم (عليه السلام) بل كانت على عهد أبي البشر النبي آدم (عليه السلام). وبما أنها أول بيت وضع للعبادة ـ كما يعبر القرآن الكريم ـ فالناتج أنها بنيت في عهد آدم (عليه السلام)، ثم تهدمت بسبب الطوفان الذي وقع في عهد النبي نوح (عليه السلام)، ثم جاء دور خليل الله إبراهيم (عليه السلام)، لإعادة بنائها بمساعدة ولده إسماعيل (عليه السلام) حيث رفعا قواعد البيت التي كانت موجودة.

ومن الدلائل المضافة التي يوردها (دام ظله) على قدم الكعبة المشرفة، خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة تسمى بالقاصعة يقول فيها: (ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار ... فجعلها بيته الحرام ... ثم أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه ...) [الخطبة: 192].

وهذه الأوليّة لبيت الله الحرام تنتج قدم ديانة التوحيد عموماً والإسلام خصوصاً، على سائر الاعتقادات.

2- استعمال الإنسان منذ عصور قديمة مواد إنشائية كالحديد والنحاس في بناء السدود، والزجاج في تبليط الأرضيات في عهد سليمان (عليه السلام)، والجص بحسب تفسير (مشيد) في الآية الكريمة {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [سورة الحج:45] حيث تعني على بعض الآراء، قصراً مبنياً بمادة الجص [انظر: الأمثل: ج8، ص422].

3- قدم معرفة الإنسان بصناعة الطابوق الطيني المفخور {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} [سورة القصص:38] على الرغم من أن استخدام الطين المفخور في البناء قد ظهر قبل ذلك بفترة طويلة حيث يعتقد أنه ظهر في عصر الوركاء في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد [تركز صناعة الطابوق في محافظة بغداد دراسة في الجغرافيا الصناعية، عباس علي التميمي: ص15].

ثالثاً: فوائد عقائدية

ومن هذه الفوائد تأكيد الغنى العلمي الذي يحمله القرآن الكريم في الجوانب المعرفية الذي يثبت بالإضافة للأدلة الكثيرة كونه كتاباً سماوياً معجزاً أنزله الله سبحانه وتعالى على أعظم أنبيائه محمّد (صلّى الله عليه وآله)، ولم يأت به بشر لتفوقه على معارف معاصريه وغيرهم، وبهذا يضاف دليل آخر على نبوة سيد المرسلين (صلّى الله عليه وآله).

ويثبت أيضاً أن الدين الإسلامي دين للحياة الدنيا والآخرة، ولم يهمل جانباً يحتاجه الإنسان.

وهناك فائدة عقائدية أخرى من الآية الكريمة التي تحكي النزاع حول تعظيم قبور أهل الكهف المضطهدين في سبيل التوحيد {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [سورة الكهف:21] تتمثل في جواز البناء على القبور [انظر: كتاب في ظلال التوحيد، الشيخ جعفر السبحاني: ص339-346].

رابعاً: فائدة معنوية

هي الرفع من شأن العمل والعاملين في جميع المجالات ومنها العمل في فرع الهندسة المدنية حيث كان النبي إبراهيم خليل الله (عليه السلام) يبني بيده، ويعاونه في ذلك ذبيح الله إسماعيل، كما كان العبد الصالح ذو القرنين مديراً لمشروع سدّ يأجوج ومأجوج، وأيضاً الخضر (عليه السلام) ذو العلم اللدني وصاحب موسى في رحلته المذكورة في القرآن وقيامه بترميم الجدار الذي كان تحته كنز ليتيمين {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [سورة الكهف:77]، وهكذا يؤكد القرآن الكريم، ويحث على العمل، ويقدم أعاظم العباد قدوة صالحة لنا، ويرسم في ذلك العصر مفاهيم تنبهت لها مؤخّراً بعض الحركات السياسية فجعلتها شعاراً لها.

ـــــــــــــــــــــــــ

(*) المقال مختصر من مجلة المصباح، العدد 16 ـ شتاء (2014 م ـ 1435 هـ )، ص 166-181.

(**) قد يلاحظ القارئ العزيز وجود مسامحة في التقسيم حيث وردت أجزاء الأبنية قسيماً للأبنية. لكن الغرض من التعداد هو البيان لا أكثر.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1768
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 04 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24