• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : عوامل الانحراف والضلال .

عوامل الانحراف والضلال

سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ جعفر السبحاني

تحدّث القرآن الكريم وبمناسبات مختلفة  عن مجموعة من العوامل التي لا تكون نتيجتها إلاّ الضلال والانحراف والغواية، وممّا لا شكّ فيه أنّ معرفة تلك العوامل والاطّلاع عليها من قبل عباد الله الذين تتوق نفوسهم نحو الخير والصلاح والسعادة تعدُّ سبباً أساسياً وجوهرياً في تكامل الإنسان ورقيّه الروحي والمعنوي والأخلاقي، لأنّ هذه العوامل المضرّة والمفسدة تكون سبباً لتعاسة وسوء خاتمة بعض الناس الذين تركوا زمام اُمورهم ـ وباختيارهم وإرادتهم ـ تحت تصرّف هذه العوامل بحيث تسوقهم إلى حيث تشاء ومتى تشاء، ولكن في نفس الوقت تكون تلك العوامل والأسباب بالنسبة إلى الأفراد المؤمنين والعقلاء والذين يحتاطون لأنفسهم، سبباً لتكاملهم وثباتهم ورسوخهم في العقيدة الدينية والقيم الأخلاقية. وهذه العوامل عبارة عن:

الشيطان

لقد اعتبر القرآن الكريم في الآيات التي تحدّثت عن عوامل الضلال انّ أحد هذه العوامل هو (الشيطان) الذي يكون سبباً للانحراف، والضلال، قال سبحانه: {كُتِبَ عَليهِ أَنّهُ مَنْ تَوَلاّهُ فَأَنَّهُ يُضِلّهُ وَيَهْديهِ إِلى عَذابِ السَّعيرِ}. [سورة الحج: 4]

كما أشار القرآن إلى قول الشيطان بعد أن طرد من مقامه حينما تمرّد على الأمر الإلهي ولم يسجد لآدم (عليه السلام): {... لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * وَلأُضِلنَّهُمْ...}. [سورة النساء:118ـ 119]

وفي آية أُخرى يخبر الله سبحانه عن الذين أغواهم الشيطان وأزلّهم عن الطريق حيث قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبلاًّ كَثِيراً  أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}. [سورة يس: 62]

الهوى وخفة العقل

إنّ للغرائز والميول والأهواء والأحاسيس تأثيراً مهماً في بقاء واستمرار الحياة الإنسانية وديمومة النسل البشري، وإذا ما سلبت من الإنسان غرائزه وأحاسيسه فإنّه سيفنى ويندثر لا محالة، ولكن بالرغم من أهميّة تلك الغرائز فإنّها إذا ما لم تعدّل وتوزن ويرسم لها حدودها ومدار حركتها بنحو لا يقع الإنسان أُلعوبة ووسيلة في قبضة الغرائز والميول الجامحة، فإنّ النتيجة تكون فناء الإنسان والقضاء عليه وإبادته، يقول سبحانه: {... وَلا تَتَّبِِعِ الهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبيلِ اللّهِ...}. [سورة ص: 26]

إذاً ووفقاً للنظرية القرآنية انّ الّذين يضعون زمام أُمورهم في قبضة النفس والغرائز غير المهذبة وغير المتّزنة هم عبدة الهوى وأتباع الميول والغرائز حيث يقول سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ...}. [سورة الجاثية: 23]

وفي الواقع انّ الهوى هنا هو عين الغرائز والميول الحيوانية الجامحة والتي لا تعرف الحدود أبداً، وإذا ما رأينا الإسلام يحاول تنظيم تلك الغرائز وتعديلها ورسم الحدود لها ووضع الخطوط الحمراء التي لا يحق لأي إنسان تجاوزها انسياقاً مع الغرائز والميول، فهذا لا يعني انّ الإسلام يريد القضاء على تلك الميول والغرائز، بل هو في الواقع سعي جاد من قبل الإسلام للحفاظ على النسل البشري وبقاء وديمومة النوع الإنساني واستمرار الحياة من خلال عملية الموازنة والتعديل والتنظيم.

رفيق السوء

من الأُمور الفطرية للإنسان أن يبحث عن مصاحب ورفيق له يناسبه في السن والفكر والنوع، وهذا الأمر لا يمكن الردع عنه أو الوقوف أمامه بأيّ حال من الأحوال، لأنّ مواجهة الأمر الغريزي في الواقع كالسير عكس التيار الذي لا تكون نتيجته إلاّ الاندحار والهزيمة، ولكن في نفس الوقت لابدّ من الإذعان أمام حقيقة واضحة وجلية، وهي أنّه ليس كلّ إنسان يليق أن يتّخذ صاحباً ورفيقاً في الحياة، لأنّ الإنسان الذي تكون صحبته سبباً للانفلات الشرعي والأخلاقي والخروج عن حدود الإنسانية ليس جديراً بمقام الصحبة والصداقة، ولذلك نجد القرآن الكريم يصرح بهذه الحقيقة ويشير إلى شدة الحسرة والندم اللّذين يملآن نفس الإنسان حينما يواجه مصيره المشؤوم، ويتذكّر أنّ سبب تعاسته وسوء عاقبته ما هو إلاّ اختياره للصديق المنحرف، يقول سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَني اتَّخَذتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبيلاً * يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّني عَنِ الذِّكْرِ بَعدَ  إِذْ جاءَني...}. [سورة الفرقان: 27ـ 29]

ونحن إذا راجعنا التاريخ نعثر على الكثير من القصص التي تتحدّث عن صديق السوء وآثاره ودوره السلبي في حياة رفيقه، لأنّنا نعلم جيداً أنّه كثيراً ما انفرط عقد الحياة الأُسرية وتشتّتت عوائل وتمزّقت أُسر كانت مستحكمة وقوية ومنسجمة بسبب هذه الصحبة السيّئة.

الاقتداء والتأسّي غير المتّزن بالقادة

يعتبر القرآن الكريم من عوامل الانحراف والضلال الاقتداء والتأسّي برؤساء وقادة القبائل والعشائر، وقد أشار  إلى اعتراف هؤلاء المضلّلين والمنحرفين بأنّ سبب انحرافهم وضلالهم هو الاقتداء والتأسّي غير المدروس وغير المتّزن برؤسائهم وشيوخهم: {... يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللّهَ وَأَطعنَا الرَّسولا * وَقالُوا رَبّنا انّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبرائَنا فَأَضَلُّونَا السَّبيلا} [سورة الأحزاب: 66ـ 67].

وفي آية  أُخرى يشير سبحانه وتعالى إلى هذا العامل وإلى حالة التنافر واللعن التي يعيشها أصحاب الجحيم، لأنّهم يرون أنّ كلّ أُمّة هي ضحية الأُمّة السابقة والتي أطاعتها بلا وعي ولا إدراك فأوردتها الجحيم، يقول سبحانه: {...كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ  لَعَنَتْْ أُخْتَها حَتّى إِذَا ادّاركوا فيِها جَميعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنا هؤلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النّارِ...}. [سورة الأعراف: 38] ففي هذه الآية عبّر عن الرؤساء والشيوخ والقادة بلفظ (أُولاهم) بمعنى طليعتهم ومقدّمة الركب وقادة القافلة.

الاقتداء والتأسّي بالآباء بلا وعي ولا اتّزان

لقد أولى الإسلام أهمية خاصة للآباء والأجداد والأسلاف وجعل لهم احتراماً ومنزلة كبيرين في التشريع والتقنين الإسلامي، سواء على مستوى الأفراد أو الأُسر أو المجتمع، ولكنّه في نفس الوقت حذّر من أن تصبح تلك العلاقة الباطنية والنفسية سبباً لتعطيل آلة الفكر لدى الإنسان بنحو يضع نفسه ومن دون أيّ قيد أو شرط تحت تصرف أسلافه مهما شاءوا وكيفما شاءوا. ولذلك نرى القرآن الكريم في الوقت الذي يحثّ الإنسان على احترام أبويه وتبجيلهم وتقديرهم يذكّره أنّ لهذا الاحترام وهذه الطاعة حدوداً لا يمكن تخطّيها وتجاوزها، وهذه الحدود هي ألاّ يدعوانه إلى الشرك بالله أو العصيان أو اقتراف الذنوب، يقول سبحانه: {وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما...}. [سورة لقمان: 15]

كما اعتبر القرآن وفي بعض الآيات الانقياد الأعمى والتأسّي اللاّموزون بالآباء والأجداد سبباً للانحراف والضلال، ولذلك نراه سبحانه يحكي لنا حال أُولئك الأبناء الذين أطاعوا آباءهم بغير حق وتمسّكوا بركب الآباء والأجداد وعطّلوا آلة التفكير والتعقّل عندهم بقوله سبحانه: {... إنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّة وَإنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ في قَرْيَة مِنْ نَذِير إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمّة وَانِّا  عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ}. [سورة الزخرف: 22ـ 23]

ولذلك انتقد القرآن الكريم هذا النوع من التفكير، بل هذا التعصّب الأعمى بقوله: {...أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُون}. [سورة المائدة: 104]

إنّ الإنسان الحرّ هو الإنسان الذي يمزّق كلّ حجاب يحول بينه وبين الوصول إلى الحقيقة، وإنّه يسعى نحو الوصول إلى الحقيقة التي يفضّلها على كلّ شيء ويحبّها أكثر من كلّ شيء، وإن كان يحترم ويبجّل والديه ويكنّ لهم وافر الاحترام والاعتزاز، ولكن الحقيقة والحق عنده أكثر تبجيلاً واعتزازاً واحتراماً وأحرى أن تقدّم على غيرها.

زمرة من الجن والإنس

ينسب القرآن الانحراف والضلال إلى زمرة من الجن والإنس ويعتبرهما من أسباب ضلال الإنسان وانحرافه، قال تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضّلانا مِنَ الجِنّ والإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا...}. [سورة فصلت: 29]

ويحتمل أن يكون المراد من هذه الزمرة وهذه الطائفة الشياطين والرؤساء والقادة ورفاق السوء الذين يكون وجودهم سبباً لانحراف وضلال الإنسان، وحينئذ يكون المراد من هذا النوع من التبعية هو التعصّب الأعمى والطاعة العمياء التي تحدّث عنها القرآن الكريم، ولذلك حصر القرآن الكريم طاعة الوالدين في حدود خاصة بنحو لا تكون سبباً للعصيان والتمرّد على الله حيث قال سبحانه: {وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما}. [سورة لقمان: 15]

المجرمون

يعتبر المجرمون من عوامل الضلال والانحراف التي تميل بالإنسان من جادة الصواب والطريق المستقيم، ولقد أفصح القرآن عن هذا العامل وعلى لسان المذنبين يوم القيامة بقوله تعالى: {وَما أَضَلّنا إِلاَّ المُجْرِمُونَ}. [سورة الشعراء: 99] ومن الممكن أن يكون المراد من هذه الطائفة هم ساسة القبائل ورؤساء العشائر أو رفاق السوء، أو شخص آخر والذين تحدّثنا عنهم في الفقرات السابقة، وقلنا إنّها جميعاً تُعدّ من عوامل انحراف الإنسان وضلاله.

الأصنام والأوثان

من عوامل الضلال والانحراف، الأوثان والأصنام، يقول سبحانه في هذا الخصوص: {ربِّ انَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثيراً مِنَ النّاسِ...}. [سورة إبراهيم: 36]

الشعور بالغنى

في الوقت الذي يكون للمال والثروة والرفاه الاقتصادي دورها الواضح والبارز في تحقيق سعادة الإنسان واستقراره، في نفس الوقت يكون وجود المال والثروة عاملاً في انحراف الإنسان وضلاله، وذلك فيما إذا شعر الإنسان أو اعتقد أنّه غني عن الله سبحانه ولا حاجة له بالمدد الإلهي، بل هو إنسان مستقل يعتمد على كفاءاته الذاتية وقدراته الشخصية ممّا يجعل الغنى وسيلة للطغيان ونسيان الذكر الإلهي، يقول سبحانه: {... وَلكِنْ  مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوماً بُوراً}. [سورة الفرقان: 18]

وفي آية أُخرى يشير إلى تلك الحقيقة بصورة أُخرى حيث يقول سبحانه: {...إِنَّ الإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى}. [سورة العلق: 6ـ 7]

اقتفاء أثر الأكثرية الجاهلة

اعتبر القرآن الكريم اقتفاء أثر الأكثرية الجاهلة سبباً من أسباب انحراف الإنسان وضياعه وضلاله، حيث قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبيلِ اللّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ}. [سورة الأنعام: 116]

يستفاد من المقطع الأخير من الآية المباركة انّه ليس كلّ تبعية للأكثرية وليس كلّ اقتفاء بالأكثرية يُعدّ سبباً للضلال، بل الذي يُعدّ كذلك هو اقتفاء أثر الأكثرية التي هي مصداق لقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ}.

هذه مجموعة من العوامل التي تكون سبباً لانحراف الإنسان وضلاله وبالطبع توجد عوامل وأسباب أُخرى تؤدّي إلى نفس النتيجة لم نذكرها هنا روماً للاختصار، فعلى سبيل المثال وجود شخصية مثل (السامري) في بني إسرائيل كانت عاملاً من عوامل الانحراف لبني إسرائيل كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم بقوله: {...وَأَضلَّهُمُ السّامِري}. [سورة طه: 85]

منقول من موقع مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام) على شبكة الانترنت، بتصرّف


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1761
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 03 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24