• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : مضامين سورة (الروم) الأخلاقية .

مضامين سورة (الروم) الأخلاقية

تحدّثنا (سورة الروم) عن أهمّ عبادة، والتي أشار إليها الحديث المروي عن زرارة، عن أحدهما (الإمام محمد الباقر أو الإمام جعفر الصادق) عليهما السلام، قال: «ما عُبد الله عزّ وجلّ بشيء مثل البداء». [الكافي للشيخ الكليني: ج1، ص146، باب البداء، ح1] فهي تعني أنّ الله إذا أراد أن ينظر إليك ويهبك ممّا لا تتصوّره فإنّه سبحانه يفعل ذلك بإرادته ومشيئته وليس مهمّاً من تكون أنت، وعندها قد تتحوّل إلى شخصية خيّرة طيّبة مؤمنة متقية مخلصة كشخصية الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، أو شخصية سلمان وعمّار بن ياسر وغيرهما من الصالحين، وليس ذلك على الله بعزيز إن أنت عقدتَ العزم وخضت الغمار في رحاب الله وقدسه، فأعطيت ليلة القدر وكلّ الليالي والأيام حق الله فيها، وسلكت فيها سبل النجاة.

ولا يغيب عنّا إن الشيطان قد يكرّس اليأس في قلب الإنسان بحيث يجعله لا يفكّر في التوبة ولا يمنّي نفسه بها، وبالتالي يمضي في غيّه وضلاله وظلمه لنفسه وللناس، فيرتكب ما يرتكبه من المحرّمات والفجور والخطايا.

فعلى الواحد منّا ـ إن هو ارتكب ظلماً أو إثماً ـ أن لا ييأس من روح الله فيحسب نفسه من أهل النار وأنّه لا مفرّ له منها، وأنّ الله لن يتوب عليه، بل على العكس من ذلك فإنّ الله يحبّ العبد حين يلحّ عليه بالتوبة، فلابدّ أن تحلّ ساعة خشوع وخضوع وانكسار ورقة في القلب متناهية فيسيل على أثرها الدمع مختلطاً بنغم النحيب الذي تغرفه أوتار القلب النادم الذليل المنكسر الخاشع التائب فتطفئ ألسنة النيران في وديان السعير:

«ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين، ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين، ولأنادينّك أين كنت يا وليّ المؤمنين، يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين». [مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي: ص847].

محور سورة الروم

أمّا المحور الذي تدور حولـه سورة الروم بآياتها المباركة؛ فهـو كون الأمور جميعاً بيد الله، يفعل بها ما يشاء: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]، فالله سبحانه هو مقلّب القلوب والأحوال، وهو الذي يقرّب الإنسان منه ويدينه إليه أو يبعده عنه ويقضيه، ولعلّ أحداً منّا لا يجهل قصّة ذلك البطل (الحرّ الرياحي) ومواقفه في كربلاء بين أمسه ويومه، أفليس هو الذي حال بين الحسين (عليه السلام) وبين العودة إلى الحجاز، فأبى إلاّ أن يسلّمه لعبيد الله أو يسلك سبيلاً لا يؤدّي إلى الكوفة أو الحجاز، لقد كان ذلك في أمس كربلاء، حيث لم يصحُ ضميره بعد رغم أنّه قد عرف الحسين (عليه السلام)، وعرف ابن من هو ومن التي ولدته؟

لقد كانت الغشاوة ما تزال تغطّي قلبه، حتّى بدأت الجذوة تتّقد شيئاً فشيئاً في ضميره حين عرف نوايا القوم، واتّضحت له أهدافهم، فقال قولته المشهورة: «إني لاُخيّر نفسي بين الجنّة والنار»، فما أعظم وأحلى وأطيب الإنسان حين يستيقظ منه الضمير والوجدان الخالصان النقيّان، وحين يعود إلى ربّه، وقد جسّد الحرّ الرياحيّ ذلك بقوله: «والله لا أختار على الجنّة شيئاً». فهزّ اللّجام وراح صوب مولاه، ووقف بين يديه قائلاً: «عذراً أبا عبد الله! فأنا الذي فعلت بك كذا وكذا... » إلى آخر ذلك الموقف المشرّف؛ موقف التوبة النصوح.

فالمسافة بين المعسكرين كانت قصية في الحساب المادّي، ولكن هل تعلمون أنّ هذه المسافة في حقيقتها وبقياس المعنويات والقيم الروحيّة هي أكثر وأوسع من ذلك بكثير، ولعل أدقّ تعبير يصف هذه المسافة أن تقول إنها الطريق بين الجنّة والنار.

فكلّ واحد منّا يشعر أن كاهله قد ثقل من الأوزار أن يضع نصب عينيه موقف الحرّ وأمثاله، فلا ييأس من رحمة الله، لأنّ الأمر كلّه بيد الله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]، فليس هناك أمر يصعب عليه سبحانه فهو يفعل ما يريد.

الاستغفار هو البداء

ليس من الصحيح أن نحكم على أحد ما بكونه من أهل جهنّم، فما أدرانا لعلّه أن يتوب ويستغفر فيتوب الله عليه، ويغفر له، وهذا هو البداء، الذي جسّده تعالى بقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}.

والبداء هذا يتّصل بفكرة الحرية الأساسية في الإسلام، ولذلك كان نفحة من نفحات الحضارة الراقية، لأنّه ـ بالشكل الذي عرضناه ـ يدلّنا على انسجام المجتمع، وتماسكه، ووحدته، وخلوصه شيئاً فشيئـاً لله سبحانه، فيصبح عندها مجتمعاً حرّاً كريماً، وهذه هي سمـة التمدّن الحضاري المنشود.

ويعتبر الدعاء من أعظم المظاهر التي يتجلّى فيها البداء، ولذلك كان الدعاء مخّ العبادة، كما جاء عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)؛ رجلان افتتحا الصلاة في ساعة واحدة فتلا هذا من القرآن فكانت تلاوته أكثر من دعائه، ودعا هذا فكان دعاؤه أكثر من تلاوته ثمَّ انصرفا في ساعة واحدة أيهما أفضل؟ فقال: كلٌّ فيه فضل، كلٌّ حسن. قال: قلت قد علمت أنَّ كلاً حسن وأنَّ كلاً فيه فضل. فقال: الدُّعاء أفضل، أما سمعت قول الله تبارك وتعالى {وَقَال رَبّكم ادْعُوني اَسْتَجِبْ لَكُم إنَّ الَّذينَ يَسْتَكْبرونَ عَنْ عِبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهنَّمَ دَاخِِرينَ}. هي والله العبادة، هي والله العبادة. أليست هي العبادة، هي والله العبادة، هي والله العبادة. أليست أشدّهنّ، هي والله أشدّهنَّ، هي والله أشدّهنَّ، هي والله أشدهنَّ. [بحار الأنوار، ج81، ص223].

والقـرآن الكريم يؤكّد على الدعاء في الكثير من آياته كقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقوله: {وَإِذَا سَاَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَاِنِّي قَرِيبٌ اُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقوله: {قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَاً} [الفرقان: 77].

فعلنيا أن نتوجّه إلى الله بكلّ جوارحنا، وبقلوب نقية، وخلوص نيّة، فندعو ربّنا ولا نكون مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

فلنجدّ في الدعاء، ولا نيأس ولا نتكبّر ولا نكن غافلين عنه، فهذا هو الله سبحانه معنا أينما كنّا، ولا شيء يفصل بيننا وبينه إلاّ الذنوب، ولذلك كان الوصول إليه واجتيازها عبر جسر التوبة النصوح، وطلب المغفرة، والدعاء، فلنقف بين يدي الجليل سويعات بقلوب منكسرة وعيون تفيض بالدمع، ولنعرض ونعترف بذنوبنا وخطايانا وظلمنا أمام الله، ولنتُب إليه، ونعاهده على أن نردّ مظلمة كلّ من ظلمناه، وحقّ كلّ من بخسناه حقّه فأكلناه بالحرام، ثمّ لنسأله سبحانه أن يغفر لنا، ويتوب علينا، فهو التوّاب الرحيم ذو المغفرة.

أسأل الله سبحانه أن يجعل في هذا الدعاء بركة لنفسي ولإخواني، وأن يعرّفنا فضيلة ليلة القدر، وشرفها، ويعيننا على أنفسنا، وينصرنا على عدوّنا وعدوّه الشيطان الرجيم، انّه ولي التوفيق.

من كتاب: ليلة القدر معراج الصالحين، لسماحة آية الله السيد محمد تقي المدرسي


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1614
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 12 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24