• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : النبي (ص) وأهل البيت (ع) .
                    • الموضوع : حول شخصيّة الامام الباقر (عليه السلام) .

حول شخصيّة الامام الباقر (عليه السلام)

 عبر محاولتنا لدراسة سيرة الائمّة من أهل البيت (ع)، اعتدنا أنْ نُشيرَ بشكل مطلق إلى أنّ الائمّة لا يختلف الواحد منهم عن الآخر في نمط تفكيره، وطراز حياته، واُسلوب تعامله مع قومه، إلاّ من حيث المصاديق، حيث اختلاف المشاكل الاجتماعية وتعدّدها، وتباين الظروف النفسية والفكرية والسياسية في زمانهم.

وظاهرةُ عدم الاختلاف في معالم شخصيّات الائمّة (ع)  إلاّ من حيث المصاديق العملية  أمرٌ تُحتِّمُهُ وحدة القاعدة الفكرية الّتي تحدِّد مفاهيمهم وسلوكهم وأنشطتهم كافّة، تلك الّتي تكون مُحَصِّلةً للإعداد الخاص الّذي يحدِّد الوجهةَ والمسارَ والطابعَ العامّ لشخصيّاتهم الكريمة، وهي حقيقة ضمّنها حديث رسول الله (ص) لولده الحسين (ع)، وهو بصدد تبيان خطّ الامامة العظيم : (إنّ الله اختارَ مِن صُلبِكَ يا حسينُ تسعةَ أئمّة، تاسعهم قائمهم، وكلّهم في الفضل والمنزلة عند الله سواء)(1).

وجرياً على عادتنا في إلقاء الضوء على بعض معالم شخصيّة الامام (ع) الّذي نتناول سيرته بالدراسة، ينصبُّ حديثنا في هذا الفصل على إبراز بعض المصاديق العملية في معالم شخصيّة الامام محمّد بن عليّ الباقر (ع)، تبياناً لسموِّها الشّاهق، وتدبُّراً فيها، من أجل العظة العملية، علّها تُعينُنا على سلوكِ دربِ الّذين أنعم الله تعالى عليهم، فرفعوا رايةَ الهُدى خَفّاقةً على ظهرِ هذا الكوكب، والباقر منهم في الصّميم.

أوّلاً : مصاديق البُعْد الرّوحي من شخصيّة الامام (عليه السلام):

إذا كان أهل البيت (ع) قد تعرّضوا لشتى المحن الّتي صبّتها عليهم عهود الانحراف عن الخط الرِّسالي، فإنّ تلك المحن كانت تستهدفُ رسالتَهُم بالذات ابتداءً، وحتّى عمليّات تصفيتهم جسدياً قد جاءت بسبب ما يحملون من رسالة ومنهج، وإمعاناً في استكمال الانحراف، لمحو آثارهم فكرياً وفقهياً وسيرة، وحتّى قبورهم جرت محاولات عديدة لمحو وجودها.

ومن هنا فلسنا نغالي إذا قطعنا بأنّ الّذي بين أيدينا من سيرة الأئمّة من أهل البيت (ع)، إنّما هو شذرات يسيرة لا تعكس إلاّ جزءاً صغيراً من واقعهم المشرق.

كل ذلك بسبب الملاحقة لهم، ولاتباعهم من بعدهم، وبسبب النكبات الّتي حلّت بالمؤسسات العلمية الّتي حفظت آثارهم، عبر مراحل عديدة من تاريخنا المشرق الدامي، القديم والحديث.

ومن هنا فإنّ الباحثَ في حياتهم، يجد صعوبةً إذا شاءَ تكوينَ فكرة ناضجة عن كلِّ إمام، لقلّة الآثار الّتي دوّنت سيرتَهم، نظراً لمطاردتهم وملاحقتهم، بيد أنّه على الرّغم من ذلك فإنّ الروايات المتناثرة الّتي تعكس الوجهَ العمليّ لشخصيات الأئمّة (ع)، تشكِّل أساساً متيناً لرسم صورة حيّة  وإنْ لم تكن متكاملة  لسيرتهم العطرة.

وحيث إنّنا نتناولُ دراسةَ البُعْد الرّوحي من شخصيّة الامام الباقر (ع)، فإنّ بعض النشاطات العباديّة الّتي حفظتها لنا سيرته (ع)، على الرّغم من محدوديّتها، تصلح مادّة حيّة لخلق تصوّر عميق للبُعْد الشّاهق لروحيّة الامام (ع) وعُمق تعلّقه بربِّه الأعلى سبحانه وتعالى :

1  عن الامام الصادق (ع)، قال :

(كان أبي كثير الذِّكر، لقد كنتُ أمشي معه وإنّه لَيَذكُرُ اللهَ، وآكل معه الطعام وإنّه لَيَذكُرُ الله، ولقد كان يُحدِّث القوم وما يشغله عن ذكر الله، وكنت أرى لسانَهُ لازقاً بحنكه يقول :

لا إله إلاّ الله، وكان يَجمَعُنا فيأمُرُنا بالذِّكْر حتّى تطلُعَ الشمس، ويأمر بالقراءة مَنْ كانَ يقرأُ منّا، ومَنْ كانَ لا يقرأُ مِنّا أمرَهُ بالذِّكر) (2).

2  عن أفلح مولاه، قال :

(خرجتُ مع محمّد بن عليّ حاجّاً فلمّا دخل المسجد نظر إلى البيت فبكى حتّى علا صوته، فقلت : بأبي أنت واُمّي، إنّ الناسَ ينظرونَ إليك، فلو رفعتَ بصوتِكَ قليلاً، فقال لي : (ويحك يا أفلح ولِمَ لا أبكي ؟ لعلّ الله تعالى ينظر إليَّ منه برحمة فأفوزَ بها عنده غداً). قال : ثمّ طافَ بالبيت، ثمّ جاء حتّى ركعَ عندَ المقام فرفع رأسه من سجوده وإذا بموضع سجوده مبتل من كثرة دموع عينيه) (3).

3  وعن ضراعته لله تعالى في جوف اللّيل، روى الامام الصادق (ع):

(كان أبي في جوف اللّيل يقول في تضرّعه : (أَمَرْتَني فلم أَأْتَمِر، ونَهَيْتَني فلم أنْزَجِر، فها أناذا عبدُكَ بينَ يَدَيْكَ ولا أعتَذِر)) (4).

4  وفي دعائه عندما يأوي إلى فراش النوم :

(بسم الله، اللّهمّ إنِّي أسلمتُ نفسي إليكَ، ووجّهتُ وجهي إليكَ، وفوّضْتُ أمري إليكَ، فتوكّلتُ عليكَ، رهبةً منكَ، ورغبةً إليكَ، لا مَنْجى ولا مَلْجأ منكَ إلاّ إليكَ، آمنتُ بكتابِكَ الّذي أنْزَلتَ، وبرسولِكَ الّذي أرْسَلْت). ثمّ يُسبِّح تسبيح الزّهراء (ع)) (5).

فهذه الرّوايات الّتي تجسِّد عمق تعلُّق الامام الباقر (ع) بربِّه الاعلى سبحانه، تعبِّر في ذات الوقت عن نفس اندكّتْ في حُبِّ الله، وطلب الزُّلفى لديه، واستشعار رحمته في كلِّ آن، والتوجّه إليه في الروح والقلب والجوارح كلّها معاً، الامر الّذي لا يتوفّر أبداً إلاّ للمقرّبين من أولياء الله تعالى دون سواهم.

ولقد بلغَ مِن تعلُّق الامام محمّد الباقر (ع) بالله تعالى أن أصبحتِ الدارُ الآخرة، ولقاءُ الله تعالى فيها، كُلَّ همِّهِ وتفكيرِهِ، حتّى ملأتْ آفاقَ عقلِهِ وقلبِهِ، فممّا رُوِيَ عنه (ع) أنّه خاطبَ جابر بن يزيد الجعفي (عليه الرحمة) بقوله: (أصبحتُ والله يا جابرُ محزوناً مشغولَ القلب)، فأجابه جابر (ره): جُعِلتُ فداك ما حزنكَ وشغلَ قلبَكَ ؟ فقال (ع): (يا جابرُ ! إنّه حزنُ همِّ الآخرة، يا جابرُ ! مَن دخلَ قلبَهُ خالصُ حقيقةِ الايمان شُغِلَ عمّا في الدُّنيا مِن زينَتِها، إنّ زينةَ زهرة الدُّنيا إنّما هو لعبٌ ولهوٌ، وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان، وإنّ المؤمنَ لا ينبغي له أن يركنَ ويطمئنّ إلى زهرة الحياة الدنيا، واعلم أنّ أبناءَ أهل الدُّنيا هم أهلُ غفلة وغرور وجهالة، وأنّ أبناء الآخرة هم المؤمنون العاملون الزّاهدون، أهلُ العلم والفقه وأهلُ فِكرة واعتبار لا يملّون مِن ذكر الله.

واعلم يا جابر ! أنّ أهل التقوى هم الاغنياء، أغناهُمُ القليلُ مِنَ الدُّنيا، فمؤونَتُهُم يسيرة، إنْ نَسيتَ الخيرَ ذكّروك، وإنْ عَملتَ به أعانوك، أخّروا شهواتِهِم ولذّاتِهِم خَلْفَهُم، وقدّموا طاعةَ ربّهم أمامَهُم، ونظروا إلى سبيلِ الخيرِ وإلى ولايةِ أحبّاءِ الله، فأحبّوهم وتَوَلّوهم واتّبِعوهم)) (6).

هكذا تتكشّف روحيّة الامام الباقر (ع) عن انفتاح في أعلى مستويات الوعي على الآخرة ليس له نظير إلاّ عند الانبياء وأوصياء الانبياء (ع) بشكل جعله يترجم ذلك توجيهاً سامياً إلى تلميذه جابر (ره) والسّالكين لدرب الهُدى من غيره كي يسلكوا سبيل المتّقين الصّادقين في إدراك الآخرة والعمل لها ما وَسِعتُهُم قُدراتُهُم الذاتيّة.

ثانياً : البُعد الاجتماعي في شخصيته (عليه السلام):

ونريد بها أساليب التعامل وكيفية التفاعل الّتي سلكها الامام الباقر (ع) مع الاُمّة في عصره. فلقد ألمحنا مراراً إلى أنّ الائمّة من أهل البيت (ع) نسخة مكرّرة في الفكر والعمل، بيدَ أنّ المصاديق والمضامين تختلف لاختلاف الحوادث والاوضاع والتحدِّيات.

وها نحن أوّلاً نطرح بعض الانشطة الاجتماعية الّتي تفاعل الامام (ع) من خلالها مع الجماهير الّتي عاش بينها :

أ  عن الامام الصادق (ع)، قال :

(دخلتُ على أبي يوماً وهو يتصدّق على فقراء المدينة بثمانيةِ آلاف دينار، وأعْتَقَ أهلَ بيت بلغوا أحدَ عشرَ مملوكاً) (7).

ب  عن الحسن بن كثير، قال :

(شكوتُ إلى أبي جعفر محمّد بن عليّ (ع) الحاجةَ وجَفاءَ الاخوان، فقال : (بِئْسَ الاخُ أخٌ يَرعاكَ غَنِيّاً ويَقْطَعُكَ فقيراً)، ثمّ أمر غلامه فأخرج كيساً فيه سبعمائةُ دِرهم فقال : (استنفِقْ هذا فإذا نَفَدَتْ فأعلِمْني)) (8).

ج  عن عمرو بن دينار وعبد الله بن عبيد، قالا : (ما لقينا أبا جعفر محمّد بن عليّ (ع) إلاّ وحمل إلينا النّفقة والصِّلة والكسوة فقال: (هذه مُعدّة لكم قبلَ أنْ تَلْقَوْني)) (9).

د  عن سليمان بن قرم، قال : (كان أبو جعفر محمّد بن عليّ (ع) يُجيزنا بالخمسمائة إلى الستمائة إلى الألف درهم وكان لا يملّ مِن صلةِ إخوانِهِ وقاصِديهِ ومُؤمِّليه وراجيه) (10).

ه  قالت سلمى مولاته : (كان يدخل عليه إخوانُهُ فلا يخرجونَ من عندِهِ حتّى يُطعِمَهُمُ الطّعامَ الطّيِّب ويكسوهم الثِّياب الحسنة، ويَهَبَ لهم الدراهِمَ، فأقول له في ذلك ليقلَّ منه، فيقول : (يا سلمى ! ما حسنةُ الدُّنيا إلاّ صِلَةُ الاخوان والمعارف)، وكان يجيز بالخمسمائة والستمائة إلى الألف.

وكان لا يملّ من مجالسته إخوانه، وقال : (إعرفِ المودّةَ لك في قلب أخيك بما لَهُ في قلبك). وكان لا يُسمع من داره : يا سائل ! بورك فيك، ولا يا سائل : خذ هذا، وكان يقول : (سمُّوهم بأحسنِ أسمائهم)) (11).

هذه بعض مظاهر تعامله (ع) مع قطاعات الاُمّة الواسعة، على أنّ القيمة الموضوعية لممارسته تلك قد لا تتجسّد بشكل جلي أمام القارئ الكريم، إلاّ إذا أعدنا إلى الاذهان، أنّ الامام (ع) لم يكن في موضع اقتصادي يُحسد عليه، فقد كان كما وصفه الامام الصادق (ع): (كان أبي أقلَّ أهلِ بيتِهِ مالاً وأعظمَهُم مؤونةً) (12).

فهو إنّما يمارِس تلك المسؤوليات، ويتحمّل تلك التبعات لا من مركز مالي مرتفع، وإنّما من مركز متواضع، ولكنّه مع ذلك لا ينكُصُ عن تحمّل الاعباء الاجتماعية أبداً وإنّما يمارِسُ دورَهُ من أجلِ التخفيف عن كاهل الاُمّة الّتي يرهَقُها الظلمُ الاجتماعي الّذي تصبّه السياسة المنحرفة يوم ذاك، لا سيما على أتباع أهل البيت (ع).

وما أعظم الشعار الّذي كان يرفعه (ع) بهذا الصدد، نقلاً عن جدِّه رسول الله(ص): (أشدّ الاعمال ثلاثة: مواساةُ الاخوان في المال، وإنصافُ الناس من نفسك، وذكرُ الله على كلِّ حال)(13).

ولقد كان (ع) حريصاً على تعليم أتباعه من المؤمنين أرقى نماذج التعامل مع الناس، وهذه بعض مفاهيمه بهذا الصدد :

(ثلاثةٌ من مكارم الدُّنيا والآخرة : أنْ تعفوَ عمّن ظلمك، وتَصِلَ مَنْ قَطعَكَ، وتحلمَ إذا جُهِلَ عليك) (14).

(ما مِن عبد يمتنعُ مِن معونةِ أخيهِ المسلم والسّعي لهُ في حاجته، قُضِيَتْ أو لَم تُقْضَ إلاّ ابتُلي بالسّعي في حاجَةِ مَنْ يأثم عليه ولا يُؤجَر، وما مِن عبد يبخلُ بنفقة يُنفقُها فيما يُرضي الله إلاّ ابتُلي بأنْ يُنفِقَ أضعافَها فيما أسخطَ الله)(15). ومن أسمى معاني أخلاقه (ع) أنّ نصرانياً اعتدى عليه بأفحشِ القول، حيث خاطبه :

(أنتَ بَقَرٌ، قال الامام : (أنا باقِرٌ)، قالَ : أنتَ ابنُ الطبّاخة، قالَ : (ذاكً حِرْفَتُها)، قالَ :

أنتَ ابنُ السّوداء الزنجية البذية، قالَ (ع): (إن كُنتَ صَدَقتَ غفرَ اللهُ لها وإنْ كُنتَ كَذبتَ غفرَ اللهُ لك).

فلم يكن من النصراني إلاّ أنْ يثوبَ إلى رُشدِهِ بعدَ إدراك فضل الامام (ع) وسموّ شخصيّته، وعظمة الرِّسالة الّتي يتبنّاها، فيعلنُ إسلامَهُ بين يَدي الامام (ع))(16).

ثالثاً : من العطاء الفكري للإمام (عليه السلام):

بسبب الاعداد الخاص لكل إمام من أئمّة أهل البيت (ع)، لتحديد معالم شخصيته وطابعها المبدئي في الفكر والعمل، فإنّ الائمّة قد تسنّموا قمة التسلسل في درجات الشخصيّة الاسلامية، حتّى عُدّوا في النشاط الفكري والممارسات العملية الممثلين الحقيقيين لرسالة الله تعالى ومتطلباتها.

وقد سبق أن أشرنا إلى طبيعة التلقي والاعداد اللّذين يخضع لهما كل إمام من خلال إشراف الرسول (ص) على تشكيل شخصيته كما في حالة عليّ بن أبي طالب (ع)، أو إشراف إمام سابق على تشكيل شخصية الّذي يليه، كما في سائر الائمّة (ع)، بيد أنّ الجانب الفكري عند الائمّة (ع) وإن كان نقياً بسبب ذلك الاعداد الخاص، إلاّ أنّ مفاهيمهم ومعالجاتهم لما يستجدّ من أحداث في حياتهم، وحياة المعاصرين لهم، تأتي من خلال ما يملكون من مدد علمي لا ينضب في هذا المضمار.

وقد تجسّد ذلك عمليّاً في حياة الائمّة (ع) حيث أشارت العديدُ من الاحاديث الكريمة لهذه الحقيقة، إذ لم تتعذّر عليهم الاجابةُ عن سؤال أو إشكال في أمر فكري أم تشريعي أو علمي أو نحوه، ولم يُخطِئوا في تحديد مفهوم أو تصوّر أو فكرة طوال حياتهم.

وحيث نحاول الآن دراسة سيرة الامام الباقر (ع) فسوف نطلُّ على البُعْد الفكري الشاهق من شخصيته الكريمة. وقبل أنْ نطرح بعض النماذج الحيّة من أفكاره الرائدة، نودّ أنْ نشير إلى عمق تفكيره (ع) وسموّ مكانته العلمية، على مَن سواه في عصره، في العقائد والفقه والتفسير والحديث وسواها من حقول معرفته، ممّا كان مثار إعجاب القمم الفكرية في زمنه وما بعده.

فعبد الله بن عمر بن الخطاب يُسأل عن مسألة، فيعجز عن الاجابة عنها، فيرشد سائلها إلى الامام الباقر (ع): إذهب إلى ذلك الغلام، فسله وأعلمني بما يجيبك، فيأتي السائل إلى الباقر (ع)، فيرى الاجابة حاضرة لديه، ثمّ يعود إلى ابن عمر ليخبره بما جنى من ثَمَر، فيعلِّق ابن عمر على ذلك بقوله : (إنّهم أهلُ بيت مُفَهَّمون) (17).

وعبد الله بن عطاء المكّي يقول :

(ما رأيتُ العلماءَ عند أحد قَطُّ أصغرَ منهم عند أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين (ع). ولقد رأيتُ الحكمَ بن عتيبة مع جلالته في القوم بين يديه كأنّه صبيٌّ بين يَدي معلِّمه) (18).

ولقد سبق أن أوردنا بعض آراء المفكّرين، ورجال العلم في سموّ مكانة الامام (ع) في دنيا المسلمين فكراً وفضلاً.

وهذه نماذج من المعطيات الرائدة الّتي خلفها (ع)، فكراً نابضاً بالحياة نطرحها من أجل التأمّل، والعِظَةِ العملية علّها تُعينُنا على صوغ ذِهنيّاتِنا، وبناء المجتمع الفاضل الكريم :

1  وفد عمرو بن عبيد  وهو مِن أئمّة الاعتزال ومُفكِّريهم(19)  على محمّد بن عليّ الباقر (ع) لامتحانه بالسؤال، فقال له :

(جُعِلتُ فداك ما معنى قوله تعالى: {أَولَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّموَاتِ وَالاَْرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا}، ما هذا الرّتق وما هذا الفتق ؟ قال أبو جعفر (ع): (كانت السّماء رتقاً لا تنزل المطر، وكانت الارض رتقاً لا تخرج النبات، فَفَتَقَ الله السّماء بالقَطْر، وفَتَقَ الارضَ بالنّبات). فانقطع عمرو ولم يعترض بشيء. وعاد إليه مرّة اُخرى وقال : خبِّرني جُعِلتُ فداك عن قوله تعالى : {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى}، ما ذلك الغضب ؟ قال (ع): (العذاب يا عمرو ! وإنّما يغضب المخلوق الّذي يأتيه الشيء فيستفزّه، ويغيّره عن الحال الّتي هو بها إلى غيرها، فمن زعم أنّ الله يغيِّره الغضبُ والرِّضا ويزولُ عن هذا، فقد وصفَهُ بصفةِ المخلوق)) (20).

2  قال محمّد بن المنكدر  زعيم صوفي  :

(ما كنتُ أرى أنّ مثل عليّ بن الحسين يَدَعُ خلقاً يقارِنُهُ في الفضل حتّى رأيتُ ابنه محمّد بن عليّ وذلك أنِّي أردتُ أنْ أعِظَهُ فَوَعَظَني، فقالَ أصحابه بأي شيء وَعَظَكَ ؟ قال : خرجتُ إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة فلقيتُ محمّد بن عليّ، وكان رجلاً بَديناً وهو مُتّكِئ على غلامين له، فقلت في نفسي شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدُّنيا، والله لاعِظَنَّهُ، فدنوتُ منه، فسلَّمتُ عليه، فسلَّمَ عَلَيَّ بِبَهر،(21) وقد تصبَّبَ عرقاً، فقلت : أصلَحَكَ اللهُ، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدُّنيا ! لو جاء الموتُ وأنت على هذه الحال ؟ قال : فخلّى عَنِ الغلامين مِن يَدِهِ، ثمّ تسانَدَ وقال : (لو جاءني والله الموتُ وأنا في هذه الحال جاءني وأنا في طاعة مِن طاعات الله، أكفُّ بها نفسي عنك، وعن الناس، وإنّما كنتُ أخافُ الموتَ لو جاءني وأنا على معصية مِن معاصي الله). فقلتُ : يرحمُكَ اللهُ أردتُ أنْ أعِظَكَ فوعَظْتَني)(22).

وتبدو أهميّة حديث الامام الباقر (ع) مع ابن المنكدر إذا أعدنا إلى الاذهان أنّ هذا الاخير يدين بالتصوّف والعزلة عن الحياة الدُّنيا، والاتّجاه الاتكالي في اُموره المعاشية على سواه من الناس، مُتذرِّعاً بالانصراف للعبادة فحسب، الامر الّذي لا يقرّه الاسلام الحنيف، وهو ما أشار إليه رسول الله (ص) عندما قال : (مَلعونٌ مَن ألقى كلَّه على الناس)(23).

ولقد وجد الامام الباقر (ع) الفرصة ملائمة لتفنيد مذهب التصوّف عمليّاً، فوضع ابن المنكدر أمام الامر الواقع، وذكّره بأنّ الموتَ في ساعة كسبِ الرِّزقِ، إنّما يكون في طاعة من طاعات الله عزّ وجلّ، فلم يَرَ ابن المنكدر بُدّاً من الاعتراف بسلامةِ خطِّ الامام (ع) فترجمَ قناعَتَهُ بقوله : (أردتُ أنْ أعِظَكَ فَوَعَظْتَني).

3  قال أبو يوسف الانصاري :

(قلت لابي حنيفة: لقيتَ محمّدَ بن عليّ الباقر(ع)؟ فقال: نعم، وسألتُهُ يوماً، فقلتُ له: أرادَ اللهُ المعاصي؟ فقال: (أفَيُعْصى قهراً؟)، قال أبو حنيفة : فما رأيتُ جواباً أفحَمَ منه)(24).

ومن الضروري أنْ نشير إلى أنّ أبا حنيفة فقيه مدرسة الرأي المعروف، كان له كلّ الحق حين يصف جواب الامام (ع) لوجازته، لانّ الرّجل قد أدرك أهميّةَ جوابِ الامام (ع) بدقّة تحديه العلمي الصارم لفلسفة الجبر والتفويض الّتي مزّقت وحدةَ المفكِّرين والفقهاء زمناً طويلاً، حيثُ إنّ الامام (ع) يحدِّدُ مَسارها الموضوعي بكلمتين اثنتين (أفَيُعْصى قهراً ؟) أي هل يعقل أنّ الله يجبر عباده على معصيته، فيعصونه بالقهر ؟ ممّا يثير إعجاب أبي حنيفة.

4  عن أبي حمزة الثمالي قال :

(قدم قتادة بن دعامة البصري على أبي جعفر (ع) فقال له الامام (ع): (أنت فقيه أهل البصرة ؟) قال : نعم، فقال أبو جعفر(ع): (وَيْحَكَ يا قتادةُ إنّ الله عزّ وجلّ خَلَقَ خَلْقاً فجعلهم حُجَجاً على خلقه، فهم أوتادٌ في أرضه، قُوَّامٌ بأمره، نجباءُ في علمه، اصطفاهم قبلَ خلقِهِ، أظلّةٌ عن يمين عرشه)، فسكت قتادة طويلاً ثمّ قال : أصلحكَ الله، والله لقد جلستُ بين يَدي الفقهاء وقدّام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قُدّامَ أحد منهم ما اضطربَ قُدّامَكَ. فقال أبو جعفر(ع): (أتدري أينَ أنتَ ؟ أنتَ بينَ يدي بيوت أذِنَ اللهُ أن تُرفَعَ ويُذكَرَ فيها اسمُهُ، يسبِّحُ له فيها بالغدوّ والاصال، رِجالٌ لا تُلهيهمْ تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر اللهِ، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، فأنت ثمّ ونحن اُولئك)، فقال قتادة :

صَدَقْتَ والله، جعلني اللهُ فداك، واللهِ ما هيَ بيوتُ حجارة ولا طين) (25).

5  ومن نماذج هديه الرائد قوله (ع):

(إيّاكَ والكسلَ والضّجرَ فانّهما مفتاحٌ لكلِّ شَرٍّ، إنّك إنْ كسلت لم تؤدِّ حقّاً وإنْ ضجرتَ لم تصبرْ على حقٍّ).

وقوله(ع): (ما مِن شيء أحَبّ إلى الله مِنْ أنْ يُسألَ، وما يدفعُ القضاءَ إلاّ الدُّعاءُ، وإنّ أسرعَ الخير ثواباً البِرُّ والعدلُ، وأسرعَ الشرّ عقوبةً البغي، وكفى بالمرءِ عَيْباً أن يبصُرَ مِنَ الناسِ ما يَعمى عنه مِن نفسه، وأنْ يأمرَهُم بما لا يستطيع التحوّلَ عنه، وأنْ يؤذِيَ جليسَه بما لا يَعنيه)(26).

6  وفي تحديد مفهوم الشيعي يقول (ع):

(ما شيعتُنا إلاّ مَنِ اتّقى اللهَ وأطاعَهُ، وما كانوا يُعرفونَ إلاّ بالتواضُعِ، والتّخَشُّعِ، وأداءِ الامانة، وكثرةِ ذكر الله، والصّومِ والصّلاةِ، والبِرِّ بالوالدينِ، وتعهُّدِ الجيران مِنَ الفُقراء، وذوي المسكنة والغارِمينَ والايتام، وصدقِ الحديث، وتلاوةِ القرآن، وكَفِّ الالسنِ عن الناس إلاّ مِن خير، وكانوا أمناءَ عشائِرِهم في الاشياء) (27).

7  ومن روائع توصياته السياسية وصيّته لعمر بن عبد العزيز الحاكم الاموي المعروف :

(أوصيكَ أنْ تَتَّخِذَ صغيرَ المسلمين ولداً، وأوسطَهُم أخاً، وأكبرَهُم أباً، فارْحَم وَلَدَكَ، وصِلْ أخاكَ، وبِرْ والدَكَ، وإذا صنعتَ معروفاً فرَبِّهِ) (28).

هذه أمثلة من فكر الامام الباقر (ع) الّذي يحتلّ مركز الرِّيادة في دنيا الفكر الاسلامي في الماضي والحاضر وفي مستقبل الاجيال، وتتجلى مكانته العلمية إذا ما عرفنا أنّ الرِّحال كانت تشدّ إليه من أقطار العالم الاسلامي كافّة ويقصده رجالات الفكر الاسلامي وأصحاب المدارس الفقهية يوم ذاك، ولقد رأينا نماذج من وصاياه ومناظراته العلمية الشامخة مع بعض منهم، كما في مثال ابن المنكدر الزعيم الصوفي، وعمرو بن عبيد أحد زعماء المعتزلة، وأبي حنيفة زعيم مدرسة الرأي، وقتادة فقيه البصرة والمفسِّر المعروف، وغيرهم ممّن لم تتسعْ محاولَتُنا لاستعراض وصايا الامام (ع) ومناقشاته معهم، كالحسنِ البصريّ، وطاووسِ اليمانيّ، ونافعِ بن الازرق، وعبد الله بن نافع وغيرهم.

على أنّ فكره (ع) ليس وقفاً على المناظرات، وإنّما هو متعدِّدُ الاغراض والمضامين والابواب، ويجسِّدُ ذلك تزعّمُهُ لمدرسة أهل البيت (ع) بعد أبيه (ع)، وقطعُهُ أشواطاً بعيدة في دفع عجلتها باتّجاه النضج والكمال.

ـــــــــــــــ

1  البلخي/ القندوزي/ ينابيع المودّة. ويشبهه ما ورد من أحاديث في الكليني/ الكافي/ج1/ ص275.

2  المجلسي / بحار الانوار / ج 46 / ص 297. ابن الصبّاغ المالكي / الفصول المهمّة.

3  المجلسي / بحار الانوار / ج 46 / ص 290، عن كشف الغمّة.

4  المالكي / الفصول المهمّة / ص 212. الاربلي / كشف الغمّة / ج 3 / في فضائله. المجلسي / البحار / ج 46 / ص 290، عن كشف الغمّة.

5 مفتاح السائل. وتسبيح سيِّدة نساء العالمين الزّهراء (ع)، هو قول (الله أكبر) 34 مرّة، و (الحمد لله) 33 مرّة، و (سبحان الله) 33 مرّة. وقد وردت روايات تؤكّد على استحبابه وعظيم الاجر في قراءته عقب كلّ فرض صلاة.

6 الحرّاني / تحف العقول / ص 286 / ط مؤسّسة النشر الاسلامي.

7  المجلسي / بحار الانوار / ج 46 / ص 302، نقلاً عن فلاح السائل.

8  المفيد / الارشاد / ص 266.

9  المفيد / الارشاد / ص 266. ابن شهرآشوب / المناقب / ج 4 / ص 207.

10  المصدران السّابقان.

11  المجلسي / البحار / ج 46 / ص 290، نقلاً عن كشف الغمّة. الاربلي / كشف الغمّة.

لمالكي / الفصول المهمّة، مع اختلاف في التفاصيل والالفاظ.

12  محسن الامين / أعيان الشيعة / ج 1 / ص 653 / ط 1983 دار التعارف (بيروت).

المجلسي / البحار / ج 46 / ص 294.

13  المفيد / الارشاد / ص 266.

14  الحرّاني / تحف العقول / ص 293.

15  المصدر السّابق.

16  ابن شهرآشوب / المناقب / ج 4 / ص 207. الامين / أعيان الشيعة.

17  ابن شهرآشوب / المناقب / ج 4 / ص 197. الامين / أعيان الشيعة، نقلاً عن حلية الاولياء.

18  المفيد / الارشاد / ص 263. الامين / أعيان الشيعة، نقلاً عن الحلية وتذكرة الخواص مع اختلاف يسير في الالفاظ.

19  ابن خلّكان / وفيات الاعيان / ج 3 / ص 460 / ط 1971 (بيروت).

20  الطبرسي / الاحتجاج / ج 2 / ص 323 و 326.

21  سلّم عليَّ ببهر : سلّم عليَّ بنفس متقطِّع.

22  المفيد / الارشاد / ص 264.

23  الكليني / الكافي / ج 4 / ص 12.

24  سبط ابن الجوزي / تذكرة الخواص / ص 337.

25  المجلسي / البحار / ج 46 / ص 357.

26  الامين / أعيان الشيعة / ج 1 / ص 656، نقلاً عن حلية الاولياء.

27  الحرّاني / تحف العقول / ص 295.

28  أسد حيدر/ الامام الصادق والمذاهب الاربعة / ج2 / ص455. وربّه : أي أدمه، واستمرّ عليه.

منقول من موقع زاد المعاد  لسماحة الشيخ علي الدهنين، بتصرّف

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1587
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 10 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28