• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : النبي (ص) وأهل البيت (ع) .
                    • الموضوع : الإمام الصادق(ع) ودوره في نشر الفكر الإسلامي .

الإمام الصادق(ع) ودوره في نشر الفكر الإسلامي

تمهيد

خلقت مرحلة سقوط الحكومة الأموية فراغاً سياسياً تمكن دعاة التغيير والإصلاح من استثماره واستغلاله، وقد اعتبرت تلك المرحلة أشبه بالفرصة الذهبية للإمام الصادق (ع) لاستلام الأمر وقيادة الأمة الإسلامية، في الوقت الذي كان واحد من أسباب سقوط الحكومة آنذاك هو الدعوة إلى قيام الحكومة الحقّة مكانها والمتمثلة بإمامة أهل البيت (ع)، وقد عبّر الشهيد محمد باقر الصدر (رحمه الله) عن طبيعة هذا القيام بقوله: «قامت على أساس دعوة كانت تتبنى زعامة الصادق من آل محمد (صلى الله عليه وآله). الحركة السلمية التي على أساسها نشأت الخلافة العباسية كانت تأخذ البيعة للصالح، للإمام الصادق من آل محمد (ص)، يعني هذه الحركة استغلت عظمة الإسلام، عظمة هذا الاتجاه، وتجمع المسلمون حول هذا الاتجاه، ولم يكن هؤلاء مسلمين شيعة، أكثر هؤلاء لم يكونوا شيعة، لكن كانوا يعرفون أنّ الاتجاه الصالح، الاتجاه الحقيقي، الاتجاه الصلب العنيف كان يمثله علي بن أبي طالب (ع)، والواعون من أصحاب علي (ع) والواعون من أبناء علي (ع). ولهذا كثير من أبناء العامة، ومن أئمة العامة، من أكابر أصحاب الأمام الصادق (ع) كانوا ناساً عامين يعني كانوا أناساً سنة، ولم يكونوا شيعة.

دائماً كان الأئمة (ع) يفكرون، في أن يقدموا الإسلام لمجموع الأمة الإسلامية، أن يكونوا مناراً، أن يكونوا أطروحة، أن يكونوا مثلاً أعلى.

كانوا يعملون على خطين، خط بناء المسلمين الصالحين، وخط ضرب مثل أعلى لهؤلاء المسلمين، بقطع النظر عن كونهم شيعة أو سنة.

هناك علماء من أكابر علماء السنة، أفتوا بوجوب الجهاد، وبوجوب القتال بين يدي ثوار آل محمد (ص)، وأبو حنيفة قبل أن ينحرف، قبل أن يرشيه السلطان ويصبح من فقهاء عمّال السلطان، أبو حنيفة نفسه الذي كان من نواب السنة، ومن زعماء السنة، هو نفسه خرج مقاتلاً ومجاهداً مع راية من رايات آل محمد وآل علي (عليه السلام)، وأفتى بوجوب الجهاد مع راية من رايات علي (ع)، مع راية تحمل شعار علي بن أبي طالب، قبل أن يتعامل أبو حنيفة مع السلاطين»(1).

ولكننا نجد أنّ الإمام الصادق (ع) قد عزف عن ذلك؛ لما يراه أهم في حفظ الإسلام وبقائه، حيث قام بمهمة التوعية الدينية وتربية الأمة، وقد يرجع هذا العزوف عن استلام زمام الحكم والنهوض بأمارة الأمة لعدة أسباب:

منها: إنّ الأمة الإسلامية نتيجة للظروف التي مرّت بها طوال حكومة بني أمية الجائرة تحتاج إلى دعوة إعادة صياغة ذهنيتها وصقلها من مجموعة الأوهام والأخطاء الفكرية التي خالطتها إثر السياسة الخاطئة التي اتبعتها تلك الحكومة، والتي تولد عنها احتكار فكر المسلم وتسييره وفق منهجها المنحرف، وبذلك انحرفت الأمة معها عن مسيرتها الصحيحة، فظهرت المجبّرة والمفوّضة وغير ذلك من الفرق التي ما أنـزل الله بها من سلطان.

ومنها: قد يكون الإمام أدرك حقيقة مهمة كانت الأمة في أمس الحاجة إليها، وهي العمل وفق الرؤية الدينية الصحيحة والتي تنعكس على مسار وسلوك الأمة بعد ذلك في اختيار الطريق الحق ونبذ الباطل وترك العمل به، ومثل هذا الأمر قد لا يتحقق عندما ينشغل الإمام الصادق (ع) في إدارة الأمة سياسياً، فنتيجة لعلم الإمام (ع) في استفادة الأمّة مما يتمتع به من العلم والمعرفة الدينية، والذي ينعكس أثره وتأثيره على الأمّة آنذاك، في الوقت الذي قد لا يتحقق مثل هذا التأثير عند استلام الإمام السلطة وقيادة الأمّة سياسياً.

وغيرها من الأسباب التي قد نستعرض بعضها في ثنايا البحث إن شاء الله تعالى.

فكانت المصلحة تدعو إلى القيام بمهمة التوعية والإرشاد الفكري الذي بات المجتمع الإسلامي محروماً منه فترة طويلة، فكان دور الإمام الصادق (ع) الدور المكمّل لما قام به آباؤه (ع) لغرض تحقق هدف واحد وهو الصد والمنع من أن يدب الانحراف في جسد الأمّة الإسلامية، وهو بنفسه الدور الذي قام به النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأصحابه ومن كان موجوداً من أهل بيته عليهم السلام، على أن لا تشذ الأمّة عن طريق الحق والهدى لتسلك سبل الضلال والانحراف، فقد عبّر الشهيد الصدر عن ممارسة ذلك من قبل أهل البيت عليهم السلام، بقوله: «إنّ الدور المشترك الذي كان الأئمة (ع) يمارسونه في الحياة الإسلامية كدور لإيقاف المزيد من الانحراف، وإمساك المقياس عن التردي إلى الحضيض، والهبوط إلى الهاوية غير أنّ هذا في الحقيقة، يعبر عن بعض ملامح الدور المشترك»(2)، وكان هذا نتيجة للظروف التي عصفت بالأمة الإسلامية منذ اللحظة الأولى لرحيل نبيها وزعيمها الرباني نبي الرحمة محمد (صلى الله عليه وآله) عنها، وقد مثلت مرحلة فقد وغيبة الإمام الأعلم علي بن أبي طالب (ع) بعد غيبة النبي (ص) مرحلة الفقر والحرمان المعرفي للدين؛ باعتبار تحقق المرجعية الدينية العليا بهما آنذاك (ع)، حتى في زمان عدم تسلم السلطة من قبل الإمام علي (ع)، كما شهد بذلك نفس الخلفاء الذين ما برحوا يوماً عن حاجتهم لأمير المؤمنين علي (ع)، حتى قال ثانيهم مقولته المشهورة: «لولا علي لهلك عمر»(3) و«ما من معضلة إلا ولها أبو الحسن»(4)، فأصبحت بعد الوحدة بعد رحيلهما فرقاً ومللاً وأحزاباً مختلفة في مبادئها وأهدافها، وهذا نتيجة طبيعية لابتعاد الأمة عن قادتها الحقيقيين، وهو ما لم نكن نجده في عصر الرسول الأكرم (ص)؛ حيث كان هو المرجع الوحيد لهم في جميع الأمور، وكان أمير المؤمنين (ع) نعم العون للخلفاء عند مواجهتهم الأسئلة الدينية التي كان تطرح عليهم من قبل أصحاب الديانات السماوية الأخرى، أو من قبل بعض المسلمين، أو عند إفتائهم وقضائهم.

بنو أُمية وانحراف الأمة:

كان من نتائج الخلاف الذي حصل بين أبناء الأمة تسلط بني أمية بالقهر والغلبة على رقاب المسلمين(5)، فوضع ما وضع في الدين، فكان حال الإسلام كما وصفه الإمام الحسين (ع) بمقولته المشهورة ـ التي كانت تحدّد نقطة انطلاقه (ع) للقيام بوجه المستبدين والفاسقين، بما جاء عنه (ع)، حيث أنّه (ع) كان يرى كما كانت رؤية رسول الله (صلى الله على محمد وآله) ـ : «على الإسلام السلام إذا ابتليت الأمة براعٍ مثل يزيد»(6)، وقال أيضاً: «فيزيد شارب الخمر قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله»(7)، ولكن شاءت الأقدار أن ترى الحسين صريعاً على رمضاء كربلاء ليروي شجرة الإسلام بدمه الطاهر، وأنّ يزيد وأحفاده وطرداء رسول الله ينـزون نزوة القردة على منبر الإسلام (منبر رسول الله)، وقد أشار القرآن الكريم إلى بني أمية بوصفهم بالشجرة الملعونة بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ)(8).

وإليك جملة من الروايات التي ذكرت إنّ هذه الآية نزلت في بني أمية:

قال السيوطي في الدر المنثور: أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عمر أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «رأيت ولد الحكم بن أبى العاص على المنابر كأنهم القردة وأنزل الله في ذلك (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) يعني الحكم وولده»(9).

وقال أيضاً: «وأخرج ابن أبى حاتم عن يعلى بن مرّة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «رأيت بنى أمية على منابر الأرض وسيتملّكونكم فتجدونهم أرباب سوء واهتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لذلك، فأنزل الله وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس»(10).

وذكر أيضاً عن ابن أبى حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد بن المسيّب رضي الله عنه قال: «رأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بني أمية على المنابر فساءه ذلك فأوحى الله إليه إنّما هي دنيا أعطوها فقرّت عينه وهى قوله: (مَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ).

وأخرج ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول لأبيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن»(11).

وبعدما ابتليت الأمة الإسلامية بسلاطين الجور، كحكام بني أمية كاد الإسلام أن يلفظ آخر أنفاسه، وبات المسلمون(12) يعيشون الحرمان نتيجة محاربة السلطة لخط أهل البيت (ع)، وخصوصاً أئمتهم (ع)، حتى فشا العمل بالتقية وصار ديدن طلاب المعرفة الذين يرومون أن يأخذوا من منبعها الصافي الذي تمثل بالإمام الصادق (ع) في عصره، وبعدما ساد الجهل، والأعراف الجاهلية والقبلية محل الأعراف والأحكام الإلهية. فأضحى المحبّون لأهل البيت (ع) والمشغوفون بمعارف الدين يتخطفهم الطير هنا وهناك.

رؤية الإمام الصادق عليه السلام لمستقبل الأمة:

رأى الإمام الصادق (ع) بحسب تشخيصه للمصلحة أنّه يفتح باب العلم والمعرفة الدينية وغيرها على مصراعيه لمن يريد أن ينهل منهما، حرصاً منه (ع) على شيوع الفكر الإسلامي الأصيل، وصداً ومنعاً وعلاجاً للانحراف الذي لحقه بني أمية، فهبّ المسلمون يدفعهم الشغف والعطش الفكري والفراغ المعرفي لأنّ يشدوا الرحال من كل حدب وصوب إلى حيث يتواجد الإمام الصادق (ع)، فتوافد عليه طلاب العلم من أماكن مختلفة قريبة وبعيدة، حتى غصّت بهم مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) - والتي هي بمثابة جامعة عالمية من حيث العدّة والعدد - فبلغ طلابها أربعة آلاف طالب(13)، وكان من بين طلابها أئمة المذاهب الفقهية، كأبي حنيفة ومالك وغيرهم(14)، فذاع صيتها وانتشر خبرها في مختلف البلدان، فكان من ثمارها ازدهار الحضارة الإسلامية، وكأنّه في وقتها لا خلاف بين المسلمين، وقد بعث هذا الأمر في قلوب حسّادها بغضاً لرائدها، فخاف بنو العباس من عاقبة أمرها، حيث كانوا يرون سعتها وزيادة طلابها يوماً بعد يوم، فأخذوا يتحيّنون الفُرص للانتقام من قائدها ورائدها، إلا أنّ الإمام الصادق (ع) أظهر للحاكم آنذاك عزوفه عن طلب السلطان والأمرة السياسية؛ لما يريد تحقيقه من حركته الفكرية والإرشادية التوعوية، وها هي الأيام شاهدة على صدق فعله وحسن اختياره، ورجاحة عقله وحسن تدبيره.

فالأمة باتت حيّة بحياة علمه، ونبوغ فكره، وثمرة عمله، فطلاب العلم أحياء وإن ماتوا، وطلاب الدنيا أموات وإن حيوا وعاشوا.

من ميزات مدرسة الإمام الصادق عليه السلام:

إن ّ أهم ميزة امتازت بها هذه المدرسة العلمية هي طابعها الاستقلالي والروحي والفكري والعقائدي والثقافي، ...، وعدم خضوعها لنظام السلطة، إذ إنها لم تفسح المجال أمام ولاة الجور أن يتدخّلوا في إدارة شؤونها وتغيير أمورها، وهذا ما لم نلمسه في المدارس الأخرى التي ظهرت قبل وبعد مدرسة الإمام الصادق (ع)، حيث كانت تسيّرها السلطات وفق الرؤى التعسفية، والمصالح الشخصية، والمطامح السياسية لأصحابها، وكاد أن يكون روّادها عمال خاضعين لإرادة تلك الحكومات آنذاك، حتى ظهرت عقيدة الجبر في زمن الأمويين(15)، والقول بقدم القرآن وغير ذلك من القضايا التي نلمس منها تدخل يد السلطة بشكل واضح.

فمنهج الاستقلال والابتعاد عن التأثير السلطوي زاد في تقدمها وتألقها، وصار باعث حق لطلابها، في وقت طمع الحكماء في الاقتراب منها لأجل الاستفادة من ذلك لأغراضهم السياسية، عن طريق إظهار التعاطف والتودد لزعيمها ولطلابها، ولكن رائدها من لا ينخدع بذلك.

ومن جملة الشواهد الدالة على استقلاليتها، أجوبة الإمام الصادق لمراسلات المنصور العباسي إليه، والتي جاء فيها:

«لِمَ لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس ؟ فأجابه الإمام (ع): ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّئك، ولا تراها نقمة فنعزيك بها، فما نصنع عندك ؟ فكتب إليه، تصحبنا لتنصحنا، فأجابه الإمام (ع): من أراد الدنيا لا ينصحك ومن أراد الآخرة لا يصحبك»(16).

فهذا الموقف وغيره أكسبها شهرة عظيمة في مختلف أرجاء البلاد الإسلامية، فصار باعثاً قوياً لشد الرحال إليها والتزود من عطائها، حتى تخرّج منها أربعة آلاف طالبٍ كلهم يقولون حدثنا الإمام الصادق (ع).

مدرسة الإمام الصادق عليه السلام ثورة ثقافية عارمة:

 لقد جاء في وصفها على لسان عبد الرسول اللاري، قوله:

«كانت ثورة الإمام الثقافية، المناضلة الوحيدة التي دخلت معركة الدفاع عن الإسلام في وقت تآمرت عليه كل قوى الإلحاد، وجنّدت كل طاقاتها لإعادة الرجعية المادية التي نسفها الإسلام، وقد اعترفت بذلك الجبهة الملحدة العدوة، حيث كان يصرّح أقطابها ما كلمني بهذا غيرك»(17).

وأضاف قائلاً: «ومن هنا نعرف إن كل الملايين المسلمة التي عاشت بعد ثورة الإمام الثقافية، وكل الملايين التي تعيش اليوم.. والتي ستعيش غداً.. وبعد غد. كلها مدينة لثورة الإمام الصادق (ع) الثقافية العظيمة العملاقة»(18).

لما كان من نتائجها تخليص الأمّة من منعطف جارف منحرف يأخذ بها إلى الهاوية نتيجة الظروف الاجتماعية والسياسية من جهة، وتغلغل أولئك الزنادقة والملحدين بين صفوف المسلمين من جهة ثانية، وتواجد زمرة المنافقين الذين لم يخلُ زمان منهم من جهة ثالثة، وكل ذلك يشكل خطر كبير على الأمة لا يمكن درؤه بواسطة الانشغال عنه بالسلطة وتولي الأمور السياسية.

من أسباب تركه للسلطة والإنشغال بتعليمه للأمة :

قد يقال:

إنّ الفرصة قد أتيحت للإمام الصادق (ع) بعد سقوط الدولة الأموية لاستلام الحكم، مع رغبة الناس الشديدة إلى قيادة الأئمة العلويين من أهل بيت محمد (صلّى الله عليه وآله)، فلماذا ترك الأمر؟

الجواب:

نعم، إنّ الفرصة كانت متاحة لأن يستلم الإمام الصادق (ع) الحكم لو أراد ذلك، ولكن توجد عدّة أسباب دعت بالإمام (ع) أن يترك هذا الأمر، لينشغل بما هو أهم منه ـ بحسب علمه (ع) في تشخيص المصلحة - ومن جملة هذه الأسباب - بالإضافة إلى ما ذكرناه في بداية البحث(19) ـ أنّ الإمام الصادق (ع) يرى أنّ الأمّة الإسلامية قد عاشت ثلاثاً وعشرين سنة تحت قيادة ربانية وزعامة إلهية ونَفْس نبوية، ولكن ما إن رحل عنها عادت فيها الخلافات والاختلافات، وأخذت تزداد يوماً بعد يوم، حتى انتهت بقتل خلفائها وخيرة رجالها، بل بلغ الحال فيها إلى درجة كادت الأمة أن تلفظ آخر أنفاسها؛ لكثرة قتالها وانتشار المنافقين بين صفوفها، فاحتاجت إلى من يقوم بإعادة رشدها ووعيها، لأنّ ذلك أنفع لها، وأدوم لبقائها واستمرار حضارتها.

حركة الإمام الصادق (ع) نقطة الانطلاق لتجديد الصحوة الإسلامية، وهي تتطلب التوعية الرشيدة، والمعرفة الحقيقية، بحيث تصبح المعارف إلهية، والإحكام إسلامية (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ)(20)، والأخلاق محمدية، كما وصفها الحق تبارك وتعالى بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(21)، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)(22)، حتى يخسأ الإلحاد، ويخرس الشيطان، وينكس المنافق على عقبيه.

فاستحقت مدرسته أن تكون مرجع صدق وحق يرجع إليها كبار الأمة وعلماؤها، وطلاب المعرفة، حتى أنّ التاريخ لم يكتب جملة واحدة في صفحاته كما كتبها عن الإمام الصادق (ع)، إنّ الإمام (ع) ما سئل عن شيء وأجاب لا أدري، إذ أنّ ذلك هو مقتضى علمهم ومعرفتهم بالأشياء وحقائق الدين، حيث اختارهم الله قرناء لكتابه العزيز كما جاء في حديث الثقلين، وحديث جابر عن رسول الله حينما سأله الإمام محمد بن علي الباقر (ع) عن شيء، فأجابه: «والله لا دخلت في نهي رسول الله (ص)، لقد أخبرني أنكم الأئمة الهداة من أهل بيته، أحكم الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً، فقال: لا تعلِّموهم فإنهم أعلم منكم، فقال الإمام أبو جعفر (ع): صدق جدّي (ص)، إني أعلم منك بما سألتك عنه، ولقد أوتيت الحكم صبياً كل ذلك بفضل الله علينا ورحمته لنا أهل البيت»(23)، أو أنّ مناظراً قد أقحمه قط، بل تحداهم بقوله: «سلوني فإنه لا يحدثكم أحد بمثل حديثي»(24).

عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيره، قالوا: سمعنا أبا عبد الله عليه السلام يقول: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ»(25).

توافد طلاب العلم على مدرسة الإمام الصادق (ع):

لم تشهد مدرسة علمية من مدارس العلوم الإسلامية كما شهدته مدرسة الإمام الصادق (ع) من الإقبال والحضور الفعّال فيها، ولم يعرف لأحد من أئمة المذاهب الدينية مثلما عرف عن الإمام الصادق (ع)، فقد كانت تتوالى عليه الوفود من أقطار البلدان الإسلامية النائية والدانية، فكان من بين طلابه ممن جاء من مصر العربية وخراسان وحضرموت وغيرها، علماً أن أكبر عدد يشكله هؤلاء الطلبة، هم من أهل العراق ومن الكوفة بالخصوص، حيث كانت محط رحال طلاب العلم منذ أن أقامها أمير المؤمنين (ع) عاصمة للدولة الإسلامية.

وكما ذكرنا سابقاً من أنّ عدد طلاب هذه المدرسة العلمية وصل إلى (4000) طالب(26)، كلّ يقول حدثني الإمام الصادق (ع)، وهذا إن دلَّ على شيء فإنّما يدل على مدى ازدهار، وفعالية ودور الإمام الصادق (ع) في إنجاح العمل والإرشاد الديني آنذاك، ومدى مطابقة قوله لقول جده (صلّى الله عليه وآله)، حتى أنّه وقف بشكل حازم وجدّي موقف الطود الشامخ في وجه العواصف العاتية والتيارات الإلحادية والأفكار المنحرفة، فكان نعم العون ونعم الأب الروحي والمدافع الديني عن الإسلام، فقد صدقهم في القول والفعل، وكان مثلاً رائعاً، وقدوة حسنة، ومثلاً مطابقاً لمثل جده المصطفى (صلّى الله عليه وآله).

ولم يكن هذا مختصاً بالإمام الصادق (ع) من سائر أهل البيت (ع)، فقد كان لكل واحد منهم دور مكمل للآخر في استمرار وبقاء الشريعة الإسلامية على مرّ الأيام والقرون، نعم قد يختلف الدور الذي يمارسه الإمام من حيث المنحى والأسلوب المتبع في نجاحه وممارسته باختلاف الظروف التي تقتضيه، ولكن النتيجة والهدف - الذي من أجلها وأجله قام به - يصب في مصب باقي الأدوار الأخرى، والتي في النهاية تصبّ في مصب حفظ الشريعة من الضياع والدفاع عنها، ورد الشبهات والترهات والتشكيكات التي تلقيها الأقلام المأجورة من هنا وهناك، فكان أهل البيت المنهل الصافي من الكدورات التي ينهل منها طلاب العلم والمعرفة.

من أهداف حركة الإمام الصادق (ع) العلمية:

تعدّ ثورة الإمام الفكرية الثقافية التوعوية بمثابة انقلاب تاريخي للفكر الإسلامي، يراد منه صقل العلوم والمعارف الإلهية مما لحق بها من آثار الانحراف والنفاق، نتيجة مجموعة الانتكاسات السياسية التي مرّت بها الأمّة الإسلامية، ويمكن أن نجمل هذه الأهداف بعدة نقاط، وهي:

1- العمل على توعية الأمة عن طريق الاتصال الدائم بها بشكل مباشر ومنظم.

2- العمل على إرساء الفكر الإسلامي الأصيل، وتخريج القياديين الصالحين من الفقهاء والرواة والمحدثين والمفسرين ليكونوا مرجعاً للأمة في مجموعة أفكارها.

3- الدفاع عن الدين وحفظه عن طريق تفنيد المزاعم الإلحادية التي تثيرها الزنادقة وجماعة الوضّاعين في الحديث ومجموعة المنافقين وغيرهم.

وقد رافقتها مجموعة من الأعمال في شتى ميادين العلم والمعرفة الإنسانية، منها العمل على نشر الثقافة الإسلامية، والدعوة إلى التحلي بالقيم والأخلاق الإسلامية الفاضلة، ونبذ الأخلاق الرذيلة وحسن المعاشرة، والتعاون على البر والتقوى والصبر على المكاره، والعمل لخدمة الناس أجمعين حفظاً لمبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وتطبيقاً لمقولة مولى الموحدين أمير المؤمنين (ع): «... وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم والعطف بهم، ولا تكونن عليهم سُبعا ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان إمّا أخ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق»(27).

ــــــــــــــ

(1) أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف، الشيد محمد باقر الصدر، ص 69-70.

(2) أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف، الشيد محمد باقر الصدر، ص 148.

(3) نظم درر السمطين، ص132، تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، ص152، شرح نهج البلاغة، ج1 ص18.

(4) نظم درر السمطين، الحنفي،ص132، فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي، ج4 ص470، أُسد الغابة، ابن الأثير، ج4 ص23، تهذيب التهذيب، ابن حجر، ج7 ص296، نهج الإيمان، ابن جبر، ص147، وغيرها.

(5) راجع: تاريخ ابن خلدون، ابن خلدون، ج1 ص43.

(6) راجع: مثير الأحزان، ابن نما الحلي، ص15، اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس الحسني، ص40، بحار الأنوار، المجلسي، ج44 ص226، لواعج الأشجان، السيد محسن الأمين، ص26.

(7) راجع: مقتل الحسين (ع) للخوارزمي، ج1 ص148 اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس الحسني، ص40، بحار الأنوار، المجلسي، ج44 ص325، لواعج الأشجان، السيد محسن الأمين، ص25.

(8) الإسراء: 60.

(9) الدر المنثور: ج4 ص191.

(10) المصدر نفسه، ج4 ص191.

(11) الدر المنثور: ج4 ص191، تاريخ دمشق: ج60 ص425

(12) ونقصد بذلك الطبقة الواعية من المسلمين، المتحمسون للإسلام، والمدافعون عنه بأنفسهم وأموالهم، الساعون لنشر تعاليمه بين الناس آنذاك.

(13) انظر: إعلام الورى بأعلام الهدي، الشيخ الطبرسي، ج1 ص535، حصر الاجتهاد، أغا بزر? الطهراني، ص41. الأنوار البهية، عباس القمي، ص153،

(14) انظر: الإمام الصادق (ع)، محمد أبو زهرة، ص3.

(15) انظر : فجر الإسلام، أحمد أمين، ص284،

(16) انظر تذكرة الخواص ص342.

(17) الامام الصادق (ع)، عبدالرسول اللاري، ص37.

(18) المصدر نفسه، ص37.

(19) راجع: ما كتباه في التمهيد عن ذلك.

(20) سورة هود: آية 112.

(21) سورة القلم: آية 4.

(22) سورة: آية 21.

(23) كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص253، طبعة محرم/ 1405 ق، مؤسسة النشر الإسلامي.

(24) تهذيب الكمال، المزي، ج5 ص79، ط4 / 1413ق، نشر مؤسسة الرسالة ـ بيروت، تذكرة الحفاظ، الذهبي، ج1 ص166، نشر مكتبة الحرم المكي، سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج6 ص257، ط9 / 1413، مؤسسة الرسالة، معرفة علوم الحديث، الحاكم النيسابوري، ص55.

(25) الكافي، الشيخ الكليني، ج 1 ص 53، إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي، ج1 ص536.

(26) إعلام الورى بأعلام الهدي، الشيخ الطبرسي، ج1 ص535، حصر الاجتهاد، أغا بزر? الطهراني، ص41. الأنوار البهية، عباس القمي، ص153.

(27) نهج البلاغة، محمد عبده، ج3 ص84، فيما أوصى به مالك الأشتر، نشر دار المعرفة / بيروت

منقول عن موقع زاد المعاد الموقع الرسمي لسماحة الشيخ علي الدهنين


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1568
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 09 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24