• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المشرف العام .
              • القسم الفرعي : مقالاته .
                    • الموضوع : مقامات أهل البيت .

مقامات أهل البيت

الشيخ عبد الجليل المكراني

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمْ الله شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً}(1).

في ظلال هذه الآيات المباركات من سورة الإنسان التي أجمع المسلمون على نزولها في حقّ أهل بيت العصمة والطهارة، نريد أن نتحدث عن مسألة عقائدية ودينية مهمّة عند المسلمين عامّة وشيعة أهل البيت خاصّة، وهذه المسألة هي مقامات أهل البيت(عليهم السلام)، والدرجات التي كتبها لهم الله جلّ وعلا، والمنزلة العظيمة التي اختصهم بها دون سائر خلقه.

وقبل الحديث في الموضوع الذي نريد أن نبيّنه لابد من ذكر ملاحظتين مهمتين في الموضوع.

الملاحظة الأولى: أنّ الكثير من أتباع مدرسة الصحابة وأهل السنة لا يعرفون من أهل البيت(عليهم السلام)إلاّ مفهوم القرابة والارتباط النسبي برسول الله(صلى الله عليه وآله)، لكن هذا الانتماء النسبي ليس هو العنصر الأساس في اصطفائهم(عليهم السلام) ووصولهم إلى درجة الإمامة والولاية.

ولا شكّ عندنا أنّ مسألة مودّة أهل البيت(عليهم السلام) ـ وهي من المسائل العقائدية المهمّة في حياة كل مسلم ـ قد تمّ تشويهها نظرياً وفكرياً، كما تمّ حذفها من الواقع العملي للمسلمين، ومن هنا فإنّ الآية الشريفة التي تتحدث عن محبّة أهل البيت(عليهم السلام) ومودّتهم: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(2) ليس لها وجود في حياة الأغلب من المسلمين.

الملاحظة الثانية: البعض من أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) عندما يتحدث عن منزلة أهل البيت(عليهم السلام) العظيمة أو يتطرق لذكر فضائلهم، فإنّه لا يراعي أحوال عموم المسلمين ولا درجة تقبل عقول عموم الناس، وهذا خطأ فادح في مسألة التثقيف الديني والتبليغ لمدرسة أهل البيت(عليهم السلام)؛ لأنّهم(عليهم السلام) كانوا يقولون: (أمرنا أن نحدِّث الناس على قدر عقولهم). ونحن مأمورون باتباعهم في ذلك، لذا ليس من الصحيح الحديث بأشياء يصعب على الطرف الآخر تقبّلها أو التصديق بها, ليس لأنّها باطلة أو غير صحيحة والعياذ بالله، بل لأنّ الطرف الآخر لم يرتّب على الاستماع لهذه الأمور المهمّة التي يختص بها أهل البيت(عليهم السلام) أي أثر، ولا ازداد بذلك معرفة؛ لأنّه لم يتقبلها بالطريقة التي تناسب حجم فهمه كي يستوعب مضامينها.

وبعد هذه المقدمة القصيرة نقول: إنّه من غير الممكن حصر الحديث في فضائل أهل البيت ومقاماتهم الشريفة ودرجاتهم العليا التي وهبهم الله جلّ علا في مقالة أو كتاب، لكنّنا سوف نركّز على مقامين عظيمين من أهم مقامات أهل البيت(عليهم السلام)، وهما:

المقام الأول: الكمال الإنساني

إنّ إغفال الحديث عن البعد الإنساني في شخصيات أهل البيت(عليهم السلام) والاقتصار فيه على فضائلهم ومقاماتهم من الأخطاء المنهجية في استعراض شخصياتهم المقدسة وإبراز دورهم الإلهي العظيم. فأهل البيت(عليهم السلام) ليسوا من عالم الملائكة، وليسوا من عالم آخر، بل هم من عالم الإنسان، ممّا يعني أنّهم بشر، خلقوا بنفس الطريقة التي خلق بها سائر الناس، وعواطفهم عواطف بشرية، وأحاسيسهم إنسانية، ويعيشون حالة الفرح والسرور, كما يعيشون حالة الحزن والألم، وتجري عليهم من المصائب وتقف أمامهم العقبات.

لكنّهم(عليهم السلام) استطاعوا أن يحققوا في دواخلهم اسمى مراتب الإنسانية، وأن يجسّدوا مكارم الأخلاق والفضائل، وهذا غاية الفخر والشرف، فالكمال البشري والإنساني هو نهاية الكمال بالنسبة للإنسان؛ لأنّ الله تعالى عندما خلق الإنسان بهذه الطريقة أراده أن يصل إلى كماله التام في وجوده وخلقه، ولعظمة الإنسان بين المخلوقات الإلهية فقد نفخ فيه من روحه {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}(3)، فهذه النفخة الإلهية هي درجة الكمال الإنساني العليا.

من هنا نجد أنّ الصفات الإنسانية والكمالات البشرية التي تحققت لأهل البيت(عليهم السلام) لم تتحقق لأحد غيرهم، فقد ورثوا هذا المقام السامي من جدّهم المصطفى(صلى الله عليه وآله): {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(4).

فإنسانية أهل البيت(عليهم السلام) مشحونة بالوفاء، والمحبّة، والتواضع، والإكرام، والصفح عن المسيء، والصدق مع الآخرين، والشجاعة في جميع المواطن، و... وأنّ هذه الصفات بهذه المنزلة عند أهل البيت(عليهم السلام) لم يصل إليها أحد غيرهم.

المقام الثاني : التضحية في سبيل الله

إنّ أهل البيت(عليهم السلام)إنّما وصلوا إلى مرتبة الإمامة بالعطاء والإخلاص والتنافي في ذات الله، فإنّهم(عليهم السلام) قد بذلوا جهوداً جبارة قرباناً لوجهه تعالى، وذلك من خلال ما قدّموه من خدمات اجتماعية تدفع بالمجتمعات المسلمة إلى الارتقاء نحو الكمال. والجهود الجبارة التي قدموها إلى الله وإلى المجتمع.

فالقرب الإلهي، والرفعة الإلهية للإنسان إنّما يكونان بقدر تضحيات الإنسان وتفانيه من أجل الصالح العام والمجتمع والأمّة التي ينتمي إليها، ومن أجل الإنسانية التي شعار كل الناس.

ونحن نؤمن بأنّ أهل البيت(عليهم السلام) كانوا يقدّمون كل التضحيات من أجل مصلحة الناس، ومن أجل الارتقاء بالمجتمع والأمّة إلى مستوى الصلاح والخير العامّ، فأهل البيت(عليهم السلام) مصدر خير وعطاء لكل الناس لا للشيعة فقط؛ لأنّهم أئمّة الناس أجمع وليس أئمّة الشيعة فقط.

وبالقدر الذي يقدّم فيه أهل البيت(عليهم السلام) من التضحيات في سبيل الله من بذل النفس والمال والجاه والتضحية بالأولاد والمنصب السياسي السامي وغيره، فإنّهم يسعون بتلك التضحية نفسها لإقرار الإصلاح والسعادة في المجتمع.

والآيات الشريفة التي تلونها في بداية البحث تشير لنا بوضوح إلى هذين المقامين العظيمين لأهل البيت(عليهم السلام)، فإنّ بيت الزهراء ـ سلام الله عليها ـ كان يضمّ بين جدرانه كلّ الإنسانية بقيمها وسمّوها ورقّيها،أبى إلاّ أن يعيش الجوع والألم، ويعيش التضحية بكل ما يملكه، وهي أقراص شعير يبذلها لغيره في سبيل الله، وفي سبيل تلك الأفواه الجائعة والأكباد الغرثى، فكان الإمام علي والزهراء والحسن والحسين ـ وهما طفلان ـ يضربون لسائر البشرية أروع الدروس، فاليوم الأول يطعمون المسكين ويفطرون على ماء قراح، واليوم الثاني يطعمون اليتيم ويفطرون على الماء. ولأنّ أهل البيت(عليهم السلام) كانوا يحملون الإنسانية بأعظم تجلّيتها فلم يفرّقوا بين المسلم وغيره ما دام إنساناً، ففي يومهم الثالث اطعموا الأسير, لذا أنزل الله بحقّهم أعظم آيات المجد والثناء بإنسانيتهم وتضحيتهم هدية للمصطفى محمد(صلى الله عليه وآله)، وتخليداً لهذه الروح العظيمة: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاً وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً * إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}(5).

أخلاق كريم آل محمد

ونحن الليلة في ذكرى الولادة الميمونة لكريم أهل البيت الإمام الحسن السبط المجتبى سلام الله عليه، وفي رحاب هذا الثناء الإلهي العظيم في حقّ أهل البيت(عليهم السلام) وفي حقّ الإمام الحسن، فإنّ اللسان لكليل، وأنّ البيان والكلام لعليل عن وصف مناقبه الكريمة وفضائله العظيمة، فقد كان قبلة الجود والكرم والسخاء والرحمة والرأفة.

كرمه(عليه السلام)

ممّا يروى في كرمه وسخائه الذي اشتهر به أنّ أعرابياً جاءه برقعة لحاجة قد كتب عليها:

لم يبق عندي ما يباع بدرهم*** تكفيك رؤية منظري عن مخبري

إلاّ بقايا ماء وجه صنته*** أفلا أبيع وقد وجدتك مشتري

فأعطاه مالاً جزيلاً وأجابه:

عاجلتنا فأتاك وابل برّنا*** طلاً ولو أمهلتنا لم نقصر

فخذ القليل وكن كأنّك لم*** تبع ما صنته وكأننا لم نشتر

رأفته بالحيوان

في بعض كتب المناقب المعتبرة بإسناده عن نجيح، قال: رأيت الحسن بن علي ـ عليهما السلام ـ يأكل وبين يديه كلب كلّما أكل لقمة طرح للكلب مثلها، فقلت له: يابن رسول الله، ألا أرجم هذا الكلب عن طعامك؟ قال: (دعه إنّي لأستحيي من الله عزّ وجل أن يكون ذو روح ينظر في وجهي وأنا آكل ثم لا أطعمه)(6).

حلمه(عليه السلام)

وروي: أنّ مروان بن الحكم شتم الحسن بن علي عليهما السلام، فلمّا فرغ قال الحسن(عليه السلام): (إنّي والله لا أمحو عنك شيئاً، ولكن مهدك الله فلئن كنت صادقاً فجزاك الله بصدقك، ولئن كنت كاذباً فجزاك الله بكذبك، والله أشدّ نقمة منّي)(7).

وروي أنّ غلاماً له(عليه السلام) جنى جناية توجب العقاب، فأمر به أن يضرب، فقال: يا مولاي: {وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ}(8). قال: (عفوت عنك). قال: يا مولاي: {وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(9). قال: (أنت حرّ لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك)(10).

مع الشامي

روى المبرّد وابن عائشة أنّ شامياً رآه راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يرد، فلمّا فرغ أقبل الحسن(عليه السلام) فسلّم عليه وضحك، فقال: (أيّها الشيخ، أظنك غريباً، ولعلك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك؛ لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً).

فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبتهم(11).

خوفه من الله

عن سلم بن أبي حبة، حدثني جعفر بن محمد، عن أبيه(عليه السلام): قال: (لمّا حضر الحسن بن علي ـ عليهما السلام ـ الموت بكى بكاءً شديداً، فقال له الحسين: ما يبكيك يا أخي؟ إنّما تقدم على رسول الله وعلي وفاطمة وخديجة(عليهم السلام) فهم ولدوك، وقد أخبرك الله على لسان نبيه(صلى الله عليه وآله) أنّك سيد شباب أهل الجنّة، وقد قاسمت الله مالك ثلاث مرات، ومشيت إلى بيت الله على قدميك خمس عشرة مرة حاجّاً. وإنّما أراد أن يطيب نفسه. قال: فو الله ما زاد إلاّ بكاء وانتهاباً، وقال: يا أخي، إنّي أقدم على أمر عظيم، وهل لم يقدم على مثله قط)(12).

وهذا غيض من فيض من مكارمه وفضائله(عليه السلام).

والحمد لله أولا وآخراً.

ــــــــــ

(1) الإنسان: 9ـ 12.

(2) الشورى: 23.

(3) الحجر: 29.

(4) القلم: 4.

(5) الإنسان: 2ـ 10.

(6) بحار الأنوار 43: 352.

(7) بحار الأنوار 43: 352.

(8) آل عمران: 134.

(9) آل عمران: 134.

(10) بحار الأنوار 43: 352.

(11) بحار الأنوار 43: 344.

(12) شرح إحقاق الحق 11: 111.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1550
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 08 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29