بقلم: الشيخ أحمد فرج الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمّد وآله المعصومين الطاهرين
ببغدادٍ وإن مُلئت قصورا * قبورٌ أغشت الآفاقَ نورا
ضريحُ السابعِ المعصوم موسى * إمامٍ يحتوي مجداً وخِيرا
بأكنافِ المقابرِ من قريشٍ * له جَدثٌ غدا بَهِجاً نضيرا
وقبرُ محمدٍ في ظهر موسى * يُغشّي نورُ بهجته الحضورا
هما بحرانِ من علمٍ وحلمٍ * تَجاوِزُ في نَفاستِها البحورا
إذا غارت جواهرُ كُلِّ بحرٍ * فجوهرُها يُنزَّهُ أن يغورا
يلوحُ على السواحلِ مَن بغاه * تُحصِّلُ كفُّه الدرَّ الخطيرا
يكتنفُ تأريخَ التشيُّع الكثيرُ من الشخصيات المُثيرةِ للجدل , المتميزةِ بأدوار حياتِها ومراحلِ تجربتها العلميّة والدينيّة والفكريّة , ومنها هذا الشاعرُ الكبير , والمُحدِّثُ البارع أبو الحسن عليُّ بنُ عبد الله بنِ وصيف المُلّقب بالناشئ الصغير , نزيلُ مصر , وربيبُ الحجازِ والعراق , المتنقلُ في مراحلِ حياته بين الارتزاقِ بالمهنة الحُرّة ـ إرثِ أبيهِ وعائلته ـ وبين الانسياقِ وراءَ طلبِ العلم على يَدَي أفذاذِ العلماء , وروايةِ الحديث عن أجلّة المُحدّثين , والدرسِ والتدريس , والتأليفِ في صنوفٍ شتى من العلوم والمهارات , إلى اللُّهاث وراءَ أخيلةِ الشعر وأفانين القول البديع والكلام الجميل , في قصائدَ عُرفت عنه كما عُرف بها شاعراً عالِماً راوياً , مُحدّثاً شيعيّاً , أوقف لسانَه وقلمَه في الكثير من نتاجِه الأدبي على وَلاءِ أهل البيت (عليهم السّلام) والانتصافِ لحقِّهم ومذهبِهم .
والغريب في مثل هذه القصيدة التي يقف فيها على ضريحِ الإمام السابع من أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) وهو الإمامُ الكاظم موسى بنُ جعفر (عليه السّلام) , يقف فيها مُحيِّياً مُسلّماً غيرَ وقوف النادب للطللِ أو الباكي على الأملِ الضائع , بل وقوفَ الواثقِ الآمِل الذي يرى أنَّ مقابرَ قُريشٍ المعطرةَ النضيرة بجَدثِ سيدها الكاظم (عليه السّلام) هي أشمخُ وأبهج وأقرُّ للعين والقلب من قصورِ بغداد , وهذا ما يتجلّى في هذين البيتين من مطلع قصيدته :
ببغدادٍ وإن مُلئت قصورا * قبورٌ أغشت الآفاقَ نورا
ضريحُ السابعِ المعصوم موسى * إمامٍ يحتوي مجداً وخِيرا
ويرى أيضاً أنّ أكنافَ الأئمةِ (عليهم السّلام) في أضرحتهم المقدّسة هي أجلى ظهوراً وشروقاً من أبهاء دُور الخلافةِ وشُرفاتِها المُزوّقة , وما يكتنفُ أهلِيها من النعيمِ الزائف واللذةِ الذاهبة الحائلة إلى الزوال :
بأكنافِ المقابرِ من قريشٍ * له جَدثٌ غدا بَهِجاً نضيرا
وقبرُ محمدٍ في ظهر موسى * يُغشّي نورُ بهجته الحضورا
ففي ضريح الإمام موسى بنِ جعفر , وضريح حفيده محمد بنِ علي (عليهما السّلام) يجد هذا الشاعرُ الصادق رَوحَه وراحتَه , بل يجد جنتَّه وخلودَه ؛ حيثُ هما الطريقُ إلى الله سبحانه وتعالى , والبابُ الأوحد إلى الخلود . أمّا غيرُهم من خصومِهم ومناوئيهم ـ وإن عمُرت دُنياهم بما خرّبوا به آخِرتَهم ـ فهم إلى زوال , ومجدُهم في اضمحلال :
هما بحرانِ من علمٍ وحلمٍ * تَجاوِزُ في نَفاستِها البحورا
إذا غارت جواهرُ كُلِّ بحرٍ * فجوهرُها يُنزَّهُ أن يغورا
يلوحُ على السواحلِ مَن بغاه * تُحصِّلُ كفُّه الدرَّ الخطيرا
إنّ هذه الرؤية الإيمانية الراسخة التي صبّها الشاعرُ العالِم في قالَبٍ من الوجدانِ الخالص , واللغةِ الواضحة الآخذة بالجزالة من طرف , وبالتحدِّي من طرفٍ آخر لَهي واحدةٌ من الأدلة الماثلة طول التأريخ على نُشدان شُعراءِ أهل البيت (عليهم السّلام) وأتباعِهم للحقيقةِ واتّباعِها , والثباتِ عليها والوقوفِ عندَها , وصولاً إلى خلود الاُخرى لمرافقة أوليائهم الطاهرين , أئمتِّهم وكهفِهم الحصين في الدّارَين . |