• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : علم التفسير .
                    • الموضوع : مناهج التفسير القرآني .

مناهج التفسير القرآني

بقلم: الميرزا أبوالسعود

مقدمة تمهيدية

بما أن الغاية العليا للقرآن الكريم تتمثّل في هداية الإنسان وإيصاله إلى كماله الذي خلق من أجله وتعريفه بالمنهج الذي يحقّق له ذلك عِلْماً وعملاً، فليس مقصود الأعلام من استعراض الأنحاء الاعجازية بمختلف أنواعها، من البلاغية والعلمية والقصصية وغيرها، وتأليفهم الكتب التفسيرية فيما يرتبط بها قصدها بما هي هي أولاً وبالذات؛ بل المقصود جعلها جسراً تصب في هداية الإنسان وإيصاله إلى كماله الذي خلق من أجله كما يستفاد من قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]، وقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16].

فما يُذكر في بعض الكتب من تدقيقات إنّما هو من أجل التعمّق العلمي ومن باب التدبّر في أعظم كلام لمتكلّم، والتعامل معه مع ما يتناسب مع عظمته بقدر المستطاع، ولكن لا ينبغي الخروج عن الهدف الأسمى، بتطبيق كبريات لعلوم على القرآن بحيث تنعكس القاعدة، فتكون تلك العلوم هي المقصودة أولاً وبالذات، ويكون القرآن في معرض تطبيقها من أجل تأييد مطالبها فحسب، كما هو واقع في جملة من التفاسير، فيكون تفسير القرآن تبعاً لتلك العلوم، وتنقلب القاعدة، فبدلاً من أن يكون القرآن متبَعاً (بالفتح) يكون متبِعاً ( بالكسر) وبدلاً من أن يكون هداية لجميع الناس يكون مورداً لتطبيق العلوم الأخرى لأجل أن يخدم علومهم.

نعم، يمكن الاستفادة من جميع العلوم المرتبطة بالقرآن، ومن كلّياتها، بعد فهم ما يطرحه القرآن أولاً، ثم تقريب المباني المرتبطة بها بما ينسجم مع القرآن، ومع هدفه الأسمى؛ لأن في ذلك بالغ الأثر على أهل الاختصاص في تلك العلوم، إذ يكون تأثيره عليهم أشد، واقناعه لهم أوقع من تأثيره على عامة الناس.

 وقد تحقق ذلك لعلماء البلاغة لما تجلى لهم الإعجاز القرآني البلاغي، فلما وجدوا عظمته البلاغية جعلوه المقياس والميزان للقواعد البلاغية، وتمييز صحيحها من سقيمها، وعاليها من دانيها، ولو تجلى للبشر في بقية العلوم الأخرى بمقدار ما تجلى لهم من الإعجاز القرآني البلاغي التي تعرض لبعض أحكامها القرآن الكريم لجعلوه الأساس والمعيار فيما تعرض له منها كما جعله علماء البلاغة كذلك. باعتبار أن تلك العلوم بشرية، يقع فيها الخطأ، والقرآن الكريم حق لا باطل فيه، ولا يحتمل فيه وقوع الخطأ البتة، كما يشير إليه قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]. فينبغي حين إرادة تطبيق قوانين تلك العلوم أن تُطبق ضمن ضوابط موضوعية وقواعد معتبرة مقطوع بها، بحيث تنسجم مع ظهور وروح القرآن ولا تخالفه.

وقد شاهدنا الكثير من التفاسير تُبتلى بالتركيز على ما يتناسب مع تخصصات أصحابها، مبتعدة كل البعد عن الغرض القرآني الأساسي، فبعض التفاسير القصصية تكتب ويُنزّل فيها القرآن منزلة الكتب القصصية، وبعض التفاسير المسمّاة عند أصحابها بالعرفانية أو الفلسفية يُنزّل فيها القرآن منزلة ما كُتب في هذين العِلْمين، وهكذا، وكأنّ الكتاب العزيز نُزّل طبقاً لمبانيهم واختصّ لسانُه بمخاطبتهم فقط. 

فالقرآن الكريم، بما أنّه الحقّ المطلق فهو يمثّل الواقع مائة بالمائة لا يكتسب درجة من درجات أحقّيته من غيره من المعارف بمختلف علومها؛ بل هو الحجة لتلك المعارف فيما تعرض له من ذكر بعض أحكامها.  بحيث إنها تكتسب شرعيّتها في تلك المعارف؛ لأنّ جميع العلوم البشرية لا تمثّل الواقع مائة بالمائة فكلّها توجب ـ على أكبر تقدير ـ الاطمئنان، أو القطع المشوب باحتمال خطئها؛ فما أكثر ما تبيّن بطلانه منها على مرّ العصور!

مناهج التفسير

من الملاحظ أنّ القرآن الكريم بجميع أنحائه الإعجازية من العِلْمية والقلبية والبلاغية والقصصية والمجموعية والمثلية، يخاطب جميع مُدركات الإنسان، من أجل هداية كل إنسان، من زمانه (صلّى الله عليه وآله) إلى قيام الساعة، ولكي يتحقق هذا الهدف العام، بنحو شمولي، لا بدّ من ملاحظة أن القرآن صادر من علاّم الغيوب المحيط بجميع المُدركات البشرية، والعالِم بما سيحيطون بالبشر من المعارف والعلوم، وبالطرق التي توجب هدايتهم في جميع الأزمنة والأمكنة؛ فهو يخاطب في كل حديث من أحاديثه وفي كل سورة من سوره، نوع الإنسان، بأصلح خطاب له، المشتمل على ما يؤثر فيه بأبلغ الأثر، فكما أنّه في الحديث القرآني الواحد وفي السورة الواحدة، كثيراً ما يظهر أكثر وجه من الأوجه الإعجازية؛ إذ الإعجاز البلاغي محتم الظهور فيه، فكذا أحد الأنحاء الإعجازية الأخرى على الأقل، فكما يقف العامّي على ما يتناسب مع عِلْمه، فكذا يقف المتخصّص مع ما يتناسب مع تخصصه(1).

ولعلّ عنوان التحدّي بالإتيان بحديث مثله الوارد في الكتاب العزيز {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 34] ناظر إلى مفهوم من مفاهيم، التفسير الموضوعي، في قبال ما ورد من التحدّي بالسورة الواحدة، إلا أن الإنسان لقصور مُدركاته، ولجهله بالمنهج الذي يحقق له صلاحه، وللأسلوب الأنفع لهدايته مائة بالمائة، يفضل بعض المناهج، لتناسبها مع تفكيره الخاص بطبقته وأهل تخصصه الذين ينتسب إليهم أو يتناسب مع القضية المبتلاة بها والتي ينتهي أمدها بعد بُرهة زمنية؛ لذا يحاول الفيلسوف أن يجعل من الخطاب القرآني خطاباً فلسفياً، والنحوي يجعله نحوياً ويجعله البلاغي بلاغياً، والطبيب يجعله طبّياً، ويجعله الفقيه فقهياً، وهكذا.

 والخطاب الأصلح في نظر أصحاب مختلف التخصصات هو طرح الأبحاث بالنحو الموضوعي فيتناول البحث مفهوماً مفهوماً، توضّح فيه جميع ما يرتبط به، وهذا ما نلاحظه في المؤلفات البشرية في جميع العلوم والمعارف البشرية، مع أن القرآن الكريم كما يخاطب أهل التخصصات جميعاً يخاطب بنفس خطابه عامة الناس؛ بل ويستعمل أسلوباً نافعاً لهدايتهم جميعاً.

فناسب مع هذا الهدف القرآني العام استعمال القرآن أسلوباً يغاير  جميع أساليب الكتب البشرية تناسباً مع من صدر منه وهو علام الغيوب ومع هداية جميع طبقات البشرية ذات الرسالة الخاتمة الشاملة لجميع الأفراد على نهج القضية الحقيقية، أن يجعل من الحديث الواحد ومن السورة القرآنية الواحدة تأثيراً عامّاً لجميع الطوائف البشرية وتأثيراً خاصّاً لأهل تخصص من التخصصات على الأقل بحسب ما يدركونه.

فكلّ فرد يأخذ من القرآن ما يحتاج إليه؛ فالعامّي يأخذ منه ما يتناسب مع شأنه، وأهل التخصصات يأخذون منه ما يتناسب مع معرفتهم، ومن ثم اشتمل على ما يتميّز به، فهو يناسب أهل التخصصات لاشتماله إمّا على موضوعات بذاتها تقتضي ذلك أو بذكر علة تستوجبها أو بختم الحديث باسم إلهي أو أكثر يكمن في مغزاه نحوُ ارتباط نوعي بالمطلب المبحوث عنه أو بذكر صفةٍ بنحو التبشير أو التحذير، أو بذكر مثال يذيّله بنكتة تفيد مطلباً دقيقاً، إلى غير ذلك من الأساليب القرآنية، كما سينكشف لثامه عند بحثه مفصّلاً.

 فمِثل القرآن الكريم لم تشهد البشرية ولن تشهد كتاباً من الكتب البشرية امتاز بهذه الميزة التي هي من أسباب ديمومة إعجازه، ومن ثم نلاحظ كيف وصف الله تعالى القرآن الكريم بكونه أحسن الحديث مطلقاً كما في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]. وما طرح من أسلوب قرآني، عينه طرح في كلمات من هُم عِدل القرآن؛ الرسول الأعظم وأهل بيته(ص)، فالنصوص الصادرة عنهم من هذا القبيل، وما ذلك إلا لاحاطتهم بالكتاب العزيز {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] المستتبع لاحاطتهم بما يشتمل عليه من مفاهيم سامية مرتبطة بكل شيء {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].

 والإنسان باعتبار محدودية علومه ومعارفه، وتدرّجه في اكتساب المعارف، وعدم معرفته بنفسه معرفة تفصيلية، وعدم احاطته بالخطاب الأصلح والأنفع الذي يلاحظ فيه نوع الإنسان على امتداد وجوده الزماني والمكاني والأطوار التي تعرضه، غالباً ما يبحث عما يناسبه في مرحلة زمانية معينة، فلا يلحظ غيرها ولا يلحظ غيره ممن بزمانه، ومن باب أولى ممن يقيم في غير مكانه، وتشتد الأولوية لمن لم يعاصرهم.  

وباعتبار أن تفسير القرآن يكون من أجل التعليم والتعلّم، فناسب أن تُراعى فيه حال المعلّم والمتعلّم، ولما كان غالب حال المتعلّمين من عوام الناس والمتخصصين عدم الاحاطة بالمفاهيم القرآنية، بسبب عدم العناية المطلوبة به، مع ما أمروا من الاعتناء به أشد عناية حتى ورد أمران إلهيّان بقراءته في آية واحدة {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمّل: 20]، وعدم التفريط فيها لكي لا تنطبق على أصحابها الآية الشريفة {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القرآن مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]؛ لذا حاول الكثير من الأعلام تفسير القرآن تناسباً مع حالهم، إذ لو تنزّل القرآن لحالهم فقط  لما كان صالحاً للاتسام بوصف المعجزة الخالدة الصادرة من علاّم الغيوب. ومن هنا برزت ثلاثة مناهج أساسية لتفسير القرآن الكريم، مع وجود مناهج آخرى، لا مجال لطرحها هاهنا:

المنهج الأول: التفسير التجزيئي: وهو عبارة عن تفسير كلّ آية آية من القرآن الكريم، ومقارنتها مع السورة الواقعة فيها، بجميع الوسائل المتاحة للباحث، أو التي يريد البحث فيها. فينصب البحث فيه عن المدلول اللفظي لمفردات لآية، وقد يتم الاستعانة ببعض الايات الاخرى التي تكشف عنه؛ ولذا قال السيد الصدر (ره) في تعريفه له: "وهو المنهج الذي يتناول المفسر ضمن إطاره القرآن الكريم آية فآية وفقاً لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف، ويفسره بما يؤمن به من أدوات ووسائل للتفسير من الظهور أو المأثور من الأحاديث أو بلحاظ الآيات الأخرى التي تشترك مع تلك الآية في مصطلح أو مفهوم"( 2).

المنهج الثاني: التفسير الموضوعي: وهو ان يركز المفسر دراسته على مفهوم من المفاهيم القرآنية، مستهدفاً تحديد الموقف النظري للقرآن الكريم، وللرسالة الإسلامية"(3).

المنهج الثالث: التفسير الموضوعي المجموعي: وهو أن يلاحظ المفسر العلاقة بين المفاهيم القرآنية، التي بحثها بالتفسير الموضوعي، ويقارن بينها ليقف على التعرّف على نسبة بعضها للبعض الآخر. ويلاحظ ما توصل إليه بالنسبة لروح القرآن الكلي. كما يصنع الفقيه حينما يقرن بين باب فقهي وباب فقهي آخر ثم يلاحظ نسبتها إلى العناوين الأولية. 

المنهج التجزيئي

لقد جرت السيرة العقلائية على أن أهل العرف حينما يلحظون أي نص من النصوص، يلحظون مفرداته أولاً، ثم تركّب مفرداته التي تكوّن جمله ثانياً، ثم يلاحظون الجمل المتكوّنة ويقرنون بعضها مع البعض ثالثاً، ثم تُلاحظ العلاقة بين الجمل والعامل المشترك بينها. فتلحظ جميع مفردات المادة المبحوثة لفظاً ومعنى. فكما طبق هذا المنهج التفسيري على الكتاب العزيز طبق على السنة المطهرة ، ومن مصاديقه ما طبقه الأعلام على أصول الكافي، فجميع الشروح التي تعرضت لتفسير أحاديثه تناولت شرحه رواية رواية، وكذا العديد من الكتب الحديثية فما وقع تطبيقه على القرآن الكريم طبق عليها، فلم يسلط الضوء على أصول الكافي لدراسة موضوعية، بحيث يبحث عن كل مفهوم من المفاهيم الواقعة في رواياته، ومن ثم لم تكن صورة المفاهيم المعرفية واضحة لأصحاب هذا المنهج، بل توجد إشكالات لا يمكن لهم حلها طبقاً للمنهج التجزيئي أو يتعسّر حلّها.

فما يذكر من أسباب نزول لآية من الآيات ، يتناسب مع هذا المنهج، فلا يتعدّى الحكم فيها بيان وجهة النظر عن حكم لقضية خارجية جزئية، مع أن القرآن الكريم لوحظ انطباق آياته على نهج القضية الحقيقية؛ إذ انطباقه على قضية خارجية، لا يعني اختصاصه بها وعدم صحة انطباقه على غيرها إذا توفرت نفس المعايير والملاكات المتوفرة فيها، فيمكن أن تنطبق نفس الآية على مصداق آخر وثالث وهكذا ، بلحاظ ملاك واحد جامع بينها، ومن هنا قالوا إن المورد لا يخصص الوارد، فلا تلحظ خصوصية المورد، بل تلحظ المادة المشتركة بينهما.

وبهذا يصح أن تنطبق آية واحدة على مصاديق متعددة في كل زمان ومكان متى ما صح انطباق المفهوم عليه وتوفرت الشروط في الموضوع الخارجي. فلا ينحصر الموضوع في مصداق معين، وهذا المنهج التعميمي يتناسب مع التفسير الموضوعي الذي لا ينحصر انطباقه على أفراد معيّنة ويقف عند حد محدود، فتنطبق نفس الآية على مصداق غيره، بلحاظ  الاتحاد الملاكي المشترك بينها، وعليه يكون القرآن الكريم هو الأبرز تحقّقاً لقاعدة أن المورد لا يخصص الوارد.

وهذا لا يعني أن المفسّرين العاملين بالمنهج التجزيئي لا يلحظون مادة مشتركة أحياناً، تمثّل قاسماً مشتركاً بين أبحاث معيّنة ، كملاحظتهم لآيات الأحكام أو القصص القرآنية؛ إذ لا يخرج ذلك عن المنهج التجزيئي، وإن كانت دائرته أوسع، لعدم بحث مفهوم كلي في جميع القرآن الكريم، لانها لم تدرس كموضوع مستقل، وإنما درست باعتبار وجود الجامع والخصوصية المشتركة.

ولما كان القرآن الكريم يتمتع بهذ الخصوصية، كان منسجماً مع التفسير الموضوعي أكثر من انسجامه مع التفسير التجزيئي، تمشياً مع كونه يجري مجرى الشمس والقمر، وطبقاً لقاعدة الجري والتطبيق. ومن ثم ندرك السر في عدم جعل سبب النزول بالنظر الدقيق علماً من العلوم المرتبطة بالقرآن الكريم.

سلبيات المنهج التجزيئي

بحسب الاستقراء، يمكن بيان موارد ضعف هذا المنهج بذكر سلبياته، وأهمها:

السلبية الأولى: لا يكشف هذا المنهج عن تمام المعنى القرآني المراد من المفهوم المبحوث عنه، وإنما يكشف عن بعض جهاته أو عن حكم من أحكامه، فلا يصح من خلاله إعطاء نظرة نهائية للشارع المقدّس، ولا يجوز نسبة ما توصل من خلاله له، لعدم ملاحظة القرائن المرتبطة به، سيما المنفصلة، التي تنتجها ملاحظة بقية الآيات التي تتحدث عن نفس المفهوم.

السلبية الثانية: يجعل القرآن محدوداً بحدود معينة من الناحية العلمية والتطبيقية؛ بل لا يمكن تطبيقه في الخارج إلا في مصاديق معينة محدودة، أو ما ذكر من أسباب نزول، مع أن أحكام القرآن عامة صالحة للانطباق "لجريه مجرى الشمس والقمر".

 السلبية الثالثة: ما لم يحط المسلم بالمفاهيم القرآنية إحاطة شمولية تامة، لا يمكنه أن يستفيد من القرآن الكريم كقانون ومنهج كامل يقوده في جميع مجالات حياته الفردية والأسرية والاجتماعية وما ينطوي تحتها من الأحكام الأخلاقية والسياسية والفكرية وغيرها؛ بل لا يمكنه تحديد نظرية قرآنية لكل مجال من مجالات الحياة.

السلبية الرابعة: الابتلاء بإشكالات كثيرة لا حد لإحصائها في جميع المعارف التي تعرّض لها القرآن الكريم؛ إذ لا يخلو الكثير منها من وقوع التعارض غير المستقر، ولا يمكن لهذا المنهج الإجابة عليها جميعها؛ إذ لا يزول تعارضها إلا بعد ضم بعضها إلى البعض الآخر مع ملاحظة السنّة المطهرة المفسرة للآيات القرآنية، سيما التي تمثّل شاهد جمع بينها.

السلبية الخامسة: صار هذا المنهج سبباً من الأسباب التي أوقعت أصحاب المذاهب الفاسدة في المقالات الباطلة، من قبيل نسبة التجسيم للحق تعالى عن ملاحظة بعض الآيات الدالة عليه من قبيل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] مع أنه لو نظر إلى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] لارتفع الإشكال وبان الحق، وهذا الأمر سارٍ في الكثير من الآيات الكريمة.

السلبية السادسة: أبطأ هذا المنهج من الاستفادة من تعاليم القرآن الكريم، علماً وعملاً بالشكل الذي يواكب به حركة المجتمع وحل المشاكل المستجدة فيه.

وحينما لحظ هذه السلبيات الشهيد الصدر(رض) عبر عن دور المتبع لهذا المنهج بالمفسر السلبي؛ لأن دور النص فيها دور المتحدث ودور المفسر هو الإصغاء(4)، وعليه نحتاج إلى تفسير تُسدّ به هذا السلبيات.

يلاحظ عليه:

أولاً: لا ريب بأن فهم النص القرآني من أنفع العلوم وأشرفها، تناسباً مع من صدر منه، وأن المفسر للمنهج التجزيئي يبذل ما في وسعه من الإمكانيات العلمية المرتبطة بالقرآن من أجل الوصول إلى أفضل النتائج، ولا شك أن هذا الدور دور إيجابي، فللمفسر التجزيئي الدور الكبير في الوصول لفهم آية آية للكتاب العزيز؛ لأنه بتفسيره لكل آية واستقرائه لمعاني الألفاظ القرآنية من مصادرها، يكون قد وضع الكثير من مقدمات البحث التي تقود من سيتفيد منها ويصيرها لفهم المفاهيم القرآنية، ويبحثها متبعاً التفسير الموضوعي، ومن جهة ما ذكره يكون دوره دوراً سلبياً، لعدم صلاحيته لإبداء النظرية الإسلامية من جهة، وعدم صلاحيته للتطبيق على الواقع المعاش.

ثانياً: نلاحظ أن التفسير التجزيئي تطوّر عبر القرون السالفة، وقد وصل إلى أعلى المستويات في زماننا الحاضر من حيث الكيف والكم، وهذا عامل إيجابي يرتبط بتطوّره العلمي.

ثالثاً: لا يمكن تطبيق المنهج الموضوعي إلا بعد الوقوف على المنهج التجزيئي، فتوقّفه عليه يستلزم أن يكون له دور إيجابي.

رابعاً: إن الدور الإيجابي الذي ذكره إنما يرتبط بجانب التطبيق العملي، وهي مرحلة متأخّرة رتبة عن التفسير الموضوعي، وما أورده على المنهج التجزيئي هاهنا يرد بعينه على المنهج الموضوعي بلا فارق، وما يقوم به صاحب الموضوعي من دور هو عين ما يقوم به صاحب التجزيئي، إلا إن صاحب الموضوعي يبحث عن مفهوم واحد معيّن والخروج بنظرية قرآنية حول المفهوم المبحوث عنه، وصاحب التجزيئي يبحث عن آية آية، ويخرج بتفسير القرآن كلّه، والوقوف على معنى كل آية آية وقوفاً تفصيلياً.

وأما في عالم التطبيق الواقعي ودراسة الموضوعات الخارجية، فالتفسير التجزيئي لا يمكنه أن يطبق على الخارج لعدم وضوح النظرة القرآنية للمفهوم الذي يراد تطبيقه على الموضوع الخارجي، لعدم الوقوف على ما يرتبط به، لوجود آيات أخرى تشكل قرائن تؤثر في فهم المعنى المقصود، والأحكام المترتبة عليه، إلا أن يكون هذا المفهوم من المفاهيم التي لم يتعرّض له إلا في آية واحدة أو تعرضت له آيات متتابعة في موضع واحد، فحينئذ لا يفترق فيه بين المنهجين(5).

إلا أن هذا الكلام موضع تأمل؛ لأن المفهوم حتى لو لم يتعرّض له إلا في آية واحدة، فلا يكفي ملاحظتها للخروج بالمفهوم القرآني؛ بل لا بد من ملاحظة السنّة المطهرة، والأعم الأغلب في السنّة المطهرة وجود نصوص متعدّدة تتحدث عن المفهوم الواحد.  

وقوله (رض): "كون دور التفسير الموضوعي إيجابياً، باعتبار أن دور المفسر دون المتكلم" إن كان المراد بصلاحية تطبيقه على الخارج من غير احتياج إلى توسط منهم آخر كالتفسير التجزيئي، فالأمر كذلك، إلا أن التطبيق الخارجي يغاير بحسب التحقق التفسير الموضوعي، وجوداً ورتبة، فلا ينبغي الخلط بين الرتبتين.

خامساً: لا ريب أن المفاهيم القرآنية كانت مطبقة عند المسلمين، طيلة القرون السالفة والقدر المتيقن منها عند أتباع أهل بيت العصمة(عليهم السلام) الآخذين بمعارفهم وعلومهم ممن أحاطوا بجميع مفاهيمه إحاطة كلية، والروايات الصادرة عنهم أكبر دليل على ذلك، فهي بلسان الحكومة التفسيرية ناظرة إلى جميع ما يرتبط بالمفاهيم القرآنية، وعدم تسمية ذلك بعنوان التفسير الموضوعي لا يؤثر ما دام المسمى متحققاً؛ بل هو متحقق في أعلى مراتبه معرفة وتطبيقاً.

سادساً: لا يتحقق التفسير الموضوعي، في المنهج الذي يقتصر فيه على تفسير القرآن بالقرآن بنحو تفصيلي لعدم نظره إلى السنة المطهرة بذلك النحو؛ لأنه لا يحقق الجامع بين القرآن والسنة، ومن ثم لا تتضح للباحث الصورة الواضحة للمفاهيم القرآنية، وبحسب الاستقراء إن ما اغترفه الأعلام من المفاهيم القرآنية بتطبيقهم للتفسير الموضوعي، بل ما بذله السيد الشهيد (رض) من جهود عظيمة في هذا التفسير لا تعد كافية ومستوعبة للنصوص الشريفة الصادرة عن أجداده الطيبين الطاهرين (عليهم السلام)؛ لأن المنهج الذي سلكه كما يحتاج إلى أن يتصدى له من كان مقامه العلمي مقاماً رفيعاً من حيث الكيف، يحتاج إلى جهود مضاعفة بل إلى مؤسسات ضخمة ولا يكفي فيها عمل فرد واحد مهما بلغ لاحتياجه علاوة على ذكر إلى استقراء النصوص الشريفة بنحو لا يقل عن استقراء الكتاب العزيز، لكي يتحقق التمسك بهما معاً.

المنهج الموضوعي

وهو أن يختار الباحث مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد(6) ليخرج بمفهوم قرآني سنتي.

ليس المقصود أولاً وبالذات من القرآن الكريم هو الوقوف على مفاهيمه، بل المقصود هو تطبيقها تطبيقاً سلوكياً كما يشير إليه قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155].

مميزات المنهج الموضوعي

 الميزة الأولى: إعطاؤه النظرة القرآنية الشمولية الوافية ، من حيث المعرفة ومن حيث السلوك، والتي يمكن تطبيقها على الخارج تطبيقاً عملياً.

الميزة الثانية: بروزه كقانون متكامل يسد جميع الحاجات البشرية، الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والعبادية؛ بل وبكل ما يتعلق بالإنسان تكليفاً ووضعاً.

 الميزة الثالثة: وضوح قدرة الإسلام على قيادة البشر إلى يوم القيامة وصلاحية الرسالة المحمدية لأن تكون خالدة ما دامت الحياة على الأرض موجودة، وهذا ما لا يمكن تحقيقه بالتفسير التجزيئي.

الميزة الرابعة: عدم وقوع مقدار الخطأ فيه بمقدار النسبة التي يوجبها تطبيق المنهج التجزيئي، بحيث لا تقارن، وهذا واضح لكل من وقف على مجموعة من المفاهيم القرآنية، كالمفاهيم الفقيهة أو العقائدية أو غيرها.

أقسام المنهج الموضوعي

يختلف حال البحث بحسب الغرض المبحوث عنه، فهو على قسمين:

القسم الاول: المنهج الموضوعي العام. وهو ما يبحث فيه عن مادة معيّنة، للتعرّف على نظرة الإسلام فيها، من الناحيتين العلمية والعملية.

القسم الثاني: التفسير الموضوعي المجموعي. وهو أن يجعل التفسير الموضوعي، بعد دراسة جميع المفاهيم القرآنية، مقدمة لفهم النظرة الكلية الشمولية للإسلام، بملاحظة بقية المفاهيم الأخرى، ومدى تأثيرها على هذا المفهوم، كما يصنع في الأبواب الفقهية، فلا يلحظ مفهوم واحد منعزلاً عن بقية المفاهيم الأخرى.

 فمثلاً بعد أن يبحث عن مفهوم الجعالة وأحكامها، يبحث عن علاقتها ببقية الأبواب الفقهية، والأحكام المتعلقة بها. وحينئذ يجعل التفسير الموضوعي مقدمة من مقدمات التفسير الموضوعي المجموعي؛ إذ التفسير الموضوعي وإن ارتفعت به الكثير من الإشكاليات وتلاشت به الكثير من نقاط الضعف، التي أوجدها التفسير التجزيئي، إلا أن بعضها ما يزال عالقاً، فكما أن الفقيه حينما يلحظ باباً من الأبواب الفقهية، ولا يقرنه ببقية الأبواب المرتبطة به يحصل هناك جهات غير واضحة وتعارض بين ذلك الباب وبقية الأبواب، ولا يتم إلا بعد مقارنة أحكامها ببعضها البعض والتعرّف على المقدم منها وبأيّ ملاك قدم، فكذا المسألة هاهنا من هذا القبيل. 

وكما لا يمكن تحقق المنهج الموضوعي، بالمعنى الأول إلا بعد البحث عن كل آية آية من القرآن بصورة تجزيئية وكذا في السنّة المطهرة المفسرة لتلك الآية بنحو المباشرة أو المرتبطة بها بطريق غير مباشر، بحيث يتحقق الاستقراء التام ضمناً لكل مفردة من المفردات القرآنية، كذلك لا يمكن تحقق البحث عن المنهج الموضوعي بالمعنى الثاني إلا بعد البحث عن كل المادة التي هي بصدد البحث، بحيث يتحقق الاستقراء التام لهذه المادة في جميع الكتاب والسنّة.

وطريق تحقق التفسير الموضوعي، بالقسم الأول إما عن طريق حفظ القرآن أو عن طريق حفظ مضامين آياته أو عن طريق البحث في الكمبيوتر عن المادة المبحوث عنها، والمعنى المرادف لها ويتحصل ذلك بكثرة تلاوة القرآن والتأمل والتدبّر فيه، وطريق تحققه بالقسم الثاني، يحتاج إلى بذل جهود استنباطية من قبيل ما يبذله الفقيه الواقف على جميع ما يرتبط بالكتاب والسنّة من أحكام، الناظر فيه بنظرة مجموعية شمولية.

تطبيق المنهج الموضوعي

يختلف الحال عند إرادة تطبيق هذا المنهج بحسب المنطلق فيه. وله صورتان:

الصورة الأولى: العمودية. أن يكون المنطلق فيه، من المفاهيم القرآنية، والنظر فيها إلى الموضوع الخارجي العيني. فيراد تطبيق ما استخرج من المفاهيم القرآنية بعد العلم والاحاطة بها علماً وعملاً.

الصورة الثانية: الأفقية. أن يكون المنطلق فيه، من الموضوع الخارجي العيني، والبحث في انطباق أي مفهوم من المفاهيم القرآنية عليها. فيكون البحث في الأولى في التطبيق، وفي الثانية في الانطباق.

وكلا الصورتين تحتاجان إلى توسعة في مقام البحث والتأمل، ولذا بعد أن اصطلح الشهيد الصدر(رض) على الصورتين باصطلاح الأفقية والعمودية(7) ، بين الحاجة إلى ادخال التوسعة على كلا الصورتين بما يناسبهما بقوله: "ولا بد أن نمدده أفقياً على مستوى ما استجد من أبواب الحياة وعمودي وهو الوصول إلى النظريات الأساسية في الشريعة الإسلامية، عبر دراسة المفاهيم القرآنية"(8). فكما أن الموضوعات الخارجية تحتاج إلى متابعة واستقراء والوقوف على المتغير فيهما، كذلك المفاهيم القرآنية لكي تفي بالغرض تحتاج إلى مزيد تأمل وتدقيق بنحو أكثر مما كانت عليه سابقاً، فإن فيها يكمن العلاج لأن الاحكام الإلهية موضوعة على نهج القضية الحقيقية.  

فلا يُعدّ البحث عن حلّ مشكلة خارجية وتحديد موضوعها وتشخيصه، سواء الشخصية أو الأسرية أو الاجتماعية، المرتبطة بالقضايا الأخلاقية أو السياسية أو الفقهية أو المعرفية وغيرها، من التفسير الموضوعي؛ لأن هذه المسائل ترتبط برتبة متأخرة عنه، ترتبط بعالم التطبيق، إذ بعد استنباط المفاهيم القرآنية ودراستها بالتفسير الموضوعي، يأتي دور تطبيقها على الخارج، ومن البديهي أن مرحلة التفسير الموضوعي، متقدّم رتبة على مرحلة التطبيق على الموضوعات الخارجية. فلا يمكن ان يؤثر المتأخر في المتقدم بحسب القاعدة، نعم الموضوع الخارجي كلما تعقّد وكان عميقاً، وكانت إشكالاته صعبة، يحتاج الأمر إلى دراسة تفسيرية موضوعية بشكل أعمق، فإذا لم تتحقق في الرتبة السابقة، دراسة للمفاهيم القرآنية المرتبطة به بشكل يتناسب مع عمق القضية المطروحة بالفعل، فلا يمكن أن يوجد لها حل كامل وشامل، فمن ثم كانت العلاقة بينهما علاقة طردية، في كلا الصورتين العمودية والأفقية، فكلّما كان المفهوم قد تم دراسته دراسة معمقة كلّما كان تطبيقه بنحو أدق، ولم يحتج إلى دراسة إضافية واكتفي فيه بما سبق من دراسته، وكلّما كان الموضوع المبحوث عنه محدداً تحديداً دقيقاً سهل تطبيق المفهوم القرآني المناسب عليه، ولمّا كان المعصوم (عليه السلام) محيطاً بجميع المفاهيم القرآنية الموضوعية واقفاً عليها بنحو تفصيلي دقيق كما عبر عنه قوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} لا يحتاج إلى تجديد النظر والتدقيق بعد عروض موضوع خارجي جديد مهما كان معقداً، وباعتباره (عليه السلام) مطلعاً على الموضوعات الخارجية اطلاعاً تفصيلياً، بنحو لا يخطأ في علمه وتشخيصه، فلا مجال لأن يعتري الخطأ في تطبيق ما أحاط به على ما شخصه في الواقع الخارجي.

فلا فرق في إحاطة المعصوم (عليه السلام) بين مفهوم قرآني وآخر ولا بين مصداق وآخر، ولا بين تطبيق وآخر. وإنما يحتاج إليها من لم يقف على جميع المفاهيم القرآنية الموضوعية بنحو تفصيلي ولم يقف على معرفة الموضوعات الخارجية بنحو دقيق، بنحو يمكنه تطبيق المفهوم على مصداقه، فيتطوّر عنده التفسير الموضوعي تناسباً مع مقامه العلمي والتطبيقي؛ لأنه لم يصل إلى النتائج التي وصل إليها المعصوم أو على الأقل لم يستوعب المفاهيم القرآنية استيعاباً كلياً، فلم يدقق فيها تدقيقاً كافياً ولم يتأمل فيها تأملاً وافياً، ومن ثم كلّما تغيّر الموضوع الخارجي وتطوّر، بتطوّر العلوم المرتبطة به، ووقف الباحث على معلومات أدق وأعمق كلّما انعكس طردياً على تفسيره الموضوعي، لما يشاهده من الدقّة العظمى للحلول القرآنية للقضايا المستعصية، ومنه ينكشف لنا أن تطوّر علم الفقه من حيث الدقة والجودة في استنباط الأحكام الشرعية، في زماننا عما كان عليه في زمان الفقهاء المتقدمين راجع إليهم وليس إلى المعصوم (عليه السلام) .

ومن أقوى الأسباب التي تعوق عن حل أي مشكلة من المشاكل الفردية أو الاسرية أو الاجتماعية بمختلف أنحائها؛ عدم اطلاع المتصدي على المفاهيم القرآنية تارة وعدم تشخيصه للموضوع الخارجي تارة أخرى، وعدم دقته في تطبيق المفهوم على المصداق ثالثة. وعليه كما لا يحق له نسبة ذلك المفهوم إلى الشارع المقدّس والحكاية عنه لعدم احاطته احاطة كلية، كذلك لا يحق له التصدي لحل قضية إلا بعد إحاطة شمولية كلية، وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، كما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح))، فهو بإطلاقه يشمله.

وكما يحتاج في أخذ المفاهيم القرآنية إلى الاجتهاد فيها أو أخذها من المجتهد، كذلك في دقة التشخيص للموضوعات الخارجية يحتاج للرجوع إلى أهل الخبرة، وأصحاب التخصصات، ومعرفة أي خبير من أهل الخبرة ينبغي الرجوع إليه،  كما هو دأب العقلاء عند التعرّض لحل مشكلة من المشاكل العارضة لهم.

وبهذا تقل عنده نسبة الوقوع في الخطأ علماً وعملاً، وترتقي درجة حجّية ما توصل إليه؛ إذ كما أن العلوم البشرية مبتلاة بوقوع الخطأ فيها وعدم مطابقتها للواقع مائة بالمائة، كما يدل عليه اكتشاف بعض الأخطاء في بعض نظرياتها، والتي  كانت تُعدّ في برهة زمنية من المقطوعات التي لا تقبل النقاش، فلا يخلو الأمر من وقوع الخطأ أثناء تشخيص موضوعها الخارجي، أثناء تطبيقها، فيطبّق عليها ما هو مغاير لها.

فكما أن الأحكام الشرعية للفقيه تارة تكون قد استنبط حكمها من قبل، وتارة لم يستنبط حكمها، فهي من قبيل أن تعرض قضية على القاضي الشرعي، فيبحث لها عن حل فيما أحاط به من قواعد القضاء، فيحاول البحث عن الكبرى التي تنطبق على صغراها التي هي محل الابتلاء، فلا تؤثر الموضوعات الخارجية على ما تقرر من كليات في علم القضاء.

وتارة يكون البحث في القضايا المستحدثة والتي يستدعي حل معضلاتها بإعادة النظر والتأمل في النصوص الشرعية بنحو أدق من السابق، وتلقيح بعض أدلتها مع بعضها البعض، وإيجاد النسبة بينها، والتي لم تكن قد بحثت بهذا الشكل من قبل، لعدم الابتلاء بها، كما هو واضح في علم الفقه، فلا يقال إن أدلتها لم تكن موجودة، بل يقال انه لم يستنبط أحكامها بعد.

فلا يحصل تطور في نفس الادلة، كما لا يحصل تطور في القرآن الكريم، بعد التأمل فيه وعرض القضايا الجديدة عليه واستنطاقه لحلها، فكما ان عملية الاستنباط هي التي تتوسع دائرتها لا ادلتها، فكذلك المفاهيم القرانية.

وعليه فكما ان تطور العلوم البشرية المعرفية والعلمية وغيرها تستوجب اعادة النظر والتأمل في المفاهيم القرآنية بنحو ادق مما كانت عليه سابقا، كذلك الامر يجري في الايات القرانية، وهذا السبب هو الذي جعل تفسير القرآن الكريم في الأزمنة المتأخرة يتفاقم كما وكيفا حتى بلغ إلى ما بلغ، وهذا ما نشاهده بين أعيننا، وإلى الجانب الكيفي يشير النص الشريف الوارد حينما سئل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن التوحيد قال: ((إن الله عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله عز وجل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} والآيات من سورة الحديد - إلى قوله: {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فمن رام ما وراء هنالك هلك)). فهذه السورة والآيات الستة بلغت من عظمتها أنها تشفي همة تعمق المتعمقين في التوحيد، وما ذلك الا لتقدم العلوم، ولذا قال بعض الأعلام: أول ما فسرت من القرآن هذه السورة وهذه الآيات، وكما يقول لم اطلع على هذه الرواية الا بعد تفسيري لهذه السورة ولهدة الآيات فعلمت انني من المتعمقين(9).

ولعل هذا هو مقصود الشهيد الصدر(رض) بقوله: ((فمن هنا كان التفسير الموضوعي قادراً على أن يتطور، لأن التجربة البشرية تثريه من ناحية، ثم الدرس القرآني والتأمل القرآني على ضوء التجربة البشرية يجعل هذا الثراء محوَلاً إلى فهم إسلامي قرآني صحيح(10).

فكما أن لتطور العلوم والمعارف المرتبطة بالتجارب البشرية وبتشخيص الموضوع الخارج، أثراً إيجابياً في تطور الاستنطاق القرآني، والتأمل فيه، في التفسير الموضوعي، كذلك الامر يجري في التفسير التجزيئي، إلا انه لا تحصل صورة واضحة بحسب الأعم الأغلب عن المفهوم المبحوث عنه، بسبب فقدان القرائن الأخرى المرتبطة به، بخلافه في التفسير الموضوعي؛ لأن النظر فيه إلى مفهوم بجميع حيثياته واحكامه، فتكون الصورة فيه واضحة غالباً.  

وهذا ما بيّنه الشهيد الصدر(رض) بقوله: ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائماً بتيار التجربة البشرية، لأنها تمثل المعالم والاتجاهات القرآنية لتحديد النظرية الإسلامية، بشأن موضوع من المواضيع(11)، فما دام القرآن قادراً على معالجة المشاكل الاجتماعية المستجدة، سيبقى معجزة إلى الأبد، ولا يتحقق ذلك إلا بتطبيق المنهج الموضوعي لا سيما المجموعي منه. ومن هنا استحق هذا المنهج ان يطلق عليه بالمنهج التوحيدي؛ لأنه يوحد بين التجربة البشرية وبين القرآن، لا بمعنى انه يخضع القرآن للتجربة البشرية(12).

وينكشف مما سلف سر ما افاده الشهيد الصدر(رض) بقوله: ((ان التفسير الموضوعي يبدأ من الواقع ويعود إلى القرآن، بينما التجزيئي يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن))(13). لأن الذي يمكن ان يكون صالحاً للتطبيق هو المنهج الموضوعي، ومغزى كلامه الحديث عن الصورة الثانية، باعتبار تجدد الموضوعات الخارجية، وعدم استقرارها على وتيرة واحدة، مما يتطلب من الباحث، التدقيق في دراستها وعد الاعتماد على ما ورثه من موضوعات محددة سابقاً، وهذا واقع بحسب الأعم الأغلب، وواضح لمن استقرأ الأحداث، وكما يقول سيدنا قتيل العبرة (عليه السلام) وهو يتحدث عن الدنيا التي تتغير فيها الموضوعات الخارجية غالبا: "متقلبة باهلها حالا بعد حال".

مرجحات الموضوعي(14)

المرجح الأول: تمثيله لحالة من التفاعل مع الواقع الخارجي، فالمفسر يبدأ من الواقع الخارجي ثم ينتقل إلى القرآن الكريم ، ثم يعود إلى الواقع الخارجي مرة أخرى بنتاج بحثه داخل القرآن ، مما يجعل القرآن الكريم ملبياً وبشكل مستمر لكل متطلبات الحالة الإنسانية والاجتماعية التي تفرضها حركة التأريخ والحركة التكاملية لهذا الإنسان.

أورد عليه الحكيم(رحمه الله): هذا موجود في التجزيئي أيضاً، وبمراجعة كتب التفسير لمختلف العصور، نجد أن هذه المعالجة للواقع الموضوعي الخارجي في التفسير قائمة وموجودة، وغاية ما في الأمر أن مستوى هذه المعالجة قد يختلف باختلاف المفسر والاثارات التي يثيرها الواقع الموضوعي وقدرة المفسر على معالجة الموضوعات والقضايا المختلفة، ولا ينبغي للفظة (الموضوع) هنا أن تحدد ارتباط مسألة التفاعل مع الواقع الخارجي وما تصدى له الأعلام من ابداء النظرة القرآنية حول المسائل العقائدية خير دليل على حلهم للمشاكل مع اتباعهم للمنهج التجزيئي.

يرد عليه:

أولاً: حينما تحصل المعالجة  للموضوعات الخارجية من قبل الاعلام، فإنها لا تتم إلا بالموضوعي، كما هو واضح في باب الفقه، فكما ان الفقيه لا يسوّغ لنفسه الافتاء إلا بعد مطالعة جميع النصوص المرتبطة بالقضية الخارجية، كذلك المفسر العالم لا يحق له ابداء مفهوم قرآني إلا بعد مراجعة الكتاب والسنة والوقوف على ما يرتبط بالمفهوم المبحوث وقوفاً تاماً، فهو وإن اتبع المنهج التجزيئي في التفسير إلا انه اتبع المنهج الموضوعي في التطبيق.

ثانياً: معالجة ذلك لا تتم بالتجزيئي، إذ التجزيئي لا يمكنه أن يكشف عن المفاهيم القرآنية؛ لأن كشفه يرتبط ببعض بالبحث عن آية قرآنية واحدة، من غير أن تلاحظ بقية الآيات والروايات. وإلا كان خلاف تعريفه، إذ المفاهيم القرآنية غير واضحة المعالم فيه، فكيف يحصل فكيف يحصل الانتقال منه إلى الواقع ومن الواقع اليه.

ثالثا: لم ينكر الشهيد الصدر(رض) وجود التفسير الموضوعي مطلقاً، كيف وقد استعمله بنفسه في علم الفقه في شرحه القيم لباب الطهارة على متن العروة الوثقى، وإنما ذكر أن الغالب طرحه بحسب التفاسير الموجودة هو المنهج التجزيئي، وقد ذكرنا سابقاً ان المتبع في علم الفقه ككتاب الجواهر وغيره وعلم الأخلاق ككتاب جامع السعادات(15) ، وعلم العقائد ككتاب نهج الحق، حيث كان من أبحاثه الأدلة على إمامة أمير المؤمنين(عليه السلام).

رابعاً: الفارق بين المنهجين يكمن في أن المنهج الموضوعي ، باعتبار وضوح المفاهيم القرآنية فيه كما هو المفروض، لا يحتاج عند عروض مسالة مستحدثة أو قضية جديدة إلا إلى التأمل في أدلته، والتدقيق فيه واستكشاف العلاج المناسب كما يصنعه القاضي عند عروض قضية جديدة عليه، أما المنهج التجزيئي، فيحتاج إلى توسط التفسير الموضوعي من أجل حل أي قضية سواء مستحدثة أو غير مستحدثة لعدم وضوح المفهوم القرآني المراد تطبيقه عليها، ومثله مثل من يتصدى للقضاء وهو مطلع على النصوص من دون معرفة بالنتائج النهاية، فلم يتعرض إلى علاج تعارضها، ولم يقف على نتيجة المعارضة.

خامساً: إن التفسير التجزيئي لا يمكنه أن يتفاعل مع الواقع الخارجي، لكون نتائجه حول المفهوم القرآني غير واضحة، فلا يمكن ملاحظة أي المفاهيم القرآنية التي تنطبق على هذا الموضوع الخارجي المرتبطة بحيثيات معينة، أما التفسير الموضوعي فانه بعد ان يحدد المفهوم القرآني يحاول حين عروض قضية البحث عما يناسبه، أو التأمل،  فيما يناسبه بنحو أدق بعد الوقوف على حيثيات الموضوع الخارجي، وملاحظة المفاهيم القرآنية، وإيجاد التناسب بينها ومن ثم الوقوف على حلها.

سادساً: أن دور المفسر الموضوعي دور الفقيه، فتارة ينطلق من الحكم كما في مرحلة الاستنباط، فيبني حكمه على موضوع مفروض. وتارة ينطلق من الموضوع كما لو أتي إليه باستفتاء يبين فيه موضوع معين، والموضوع تارة قد استنبط حكمه، وتارة لم يستنبط حكمه، ولم يجعل الشهيد الصدر(رض) لفظة الموضوع هي المعيار، وإنما لاحظ اصل المنهج عندهم، مع عدم قدرتهم على التصدي به، وحينما تصدوا كان تصديهم متبعين المنهج الموضوعي، فهم وإن لم يدوّنوه في تفاسيرهم إلا ان احاطتهم بضوابطه في أذهانهم بحكم استحضارهم للآيات والنصوص جعلتهم يتصدّون لحلها، بل حينما أدرك البعض عجزه إما أنه لم يتصد لما يطلبه ببذل الجهد الكبير أو أنه اضطر لأن يبحث القضايا بحثاً موضوعياً مستفيداً من البحث التجزيئي السابق.

المرجح الثاني: الاتجاه التجزيئي أدّى إلى ظهور العديد من التناقضات المذهبية، بخلاف الاتجاه الموضوعي(16).

أورد عليه الحكيم(ره): هذا يشمل المنهج الموضوعي أيضاً، فالكثير من المفسرين في العصور المتأخرة اعتمدوا المنهج الموضوعي ومع ذلك توصلوا إلى نتائج مختلفة ومتناقضة( 17).

يُلاحظ عليه أولاً: كلامنا في المنهج، لا في الجزئيات الحاصلة منه، ولا ريب أن الأعم الأغلب في المنهج التجزيئي ذلك كما أن الأعم الأغلب في المنهج الموضوعي ذلك، وبحسب التتبع. وما يقال إن المنهج التجزيئي حل بعض القضايا، ليس من جهة تطبيقه، بل من جهة اتخاذ المنهج الموضوعي فيه كما أسلفناه مفصلاً، وما يعجز عنه بعض المفسرين ناشئ عن عدم احاطتهم بالمفاهيم القرآنية وعدم فهمهم لها وقدرتهم على تطبيقها، ولذا قد يأتي مفسر آخر يحل ما اختلفوا فيه، فالنقص فيهم لا في أصل المنهج.

وثانياً: وصولهم إلى نتائج مختلفة ناشئ من قدرتهم على الاستنباط، وما توصلوا له من نتائج يكون حجة لكل من كانت له القدرة عليه، وهذا واقع في الفقه، فتالفتاوى مختلفة الا ان هذا لا يمس باصل المنهج الاصولي الذي سلكوه، وحالهم حال الفقيه الذي لا يتمكن من حل التعارض، وياتي فقيه اخر له القدرة على حله.

وثالثاً: التناقضات في المنهج التجزيئي ناتجة منه بسبب عدم وضوح المفاهيم القرآنية، وتمسك البعض ببعض الآيات مع إغفاله عن بعضها الآخر، كما مثّلنا به سابقاً حول القول بالتجسيم.

المنهج الموضوعي للمعصوم (عليه السلام)

باعتبار ان القرآن نزل هداية للجميع، يستفيد منه كلٌّ بحسبه، إما بلا توسّط وسيط كما هو شأن المعصوم (عليه السلام) المحيط بجميع مفاهيمه ومعارفه وظاهره وباطنه، وإما بتوسط وسيط، فالفقيه من أمثال الشيخ الفقيه الصدوق (رض) لا يحتاج في بيان إعطاء مفهوم أن يبحث عنه بحثاً موضوعياً بالطريق التي ينتهجها من يريد البحث في التفسير الموضوعي، لوقوفه على النصوص بنحو الاحاطة، وفي نفس الوقت قدرته على الاستنباط فهو لا يحتاج إلى تأليف كتاب يبين فيه الأحكام الفقهية المرتبطة بالمفاهيم القرآنية والسنتية، لوقوفه على كل رواية رواية ومعرفته التفصيلية بمعتبرها وسقيمها، واحاطته بما يعارضها ووجه حل التعارض فيها، فلا يحتاج إلى تأليف كتاب من لا يحضره الفقيه، بنحو التفسير الموضوعي؛ لأنه وإن طرح المفاهيم القرآنية المرتبطة بالأحكام الشرعية بالتعرّض لذكر النصوص الواردة عنهم (عليهم السلام) إلا انه في عين الحال ناظر إلى الكتاب العزيز بنظر النصوص بلسان الحكومة التفسيرية اليها، واقف على النتيجة النهائية بعد ملاحظة بقية النصوص الأخرى، والذي يحتاج إليه غير الواقف على ذلك، ومن ثم طلب منه ، كما طلب من الخبير بالطب الجسماني تأليف كتاب من لا يحضره الطيب لنفس الغرض.

ولا يختص التفسير الموضوعي بطرح القضايا الاجتماعية أو الأخلاقية أو السياسية، بل يشمل جميع الأحكام المرتبطة بالقرآن من الفقهية والعقائدية، والمعرفية على حد سواء. وأكبر شاهد على ذلك أن هذه النصوص بعد طرحها بالمنهج التجزيئي طرحت بعد ذلك بنحو موضوعي، فعنونت أبوابها التي تعبر عن المفاهيم القرآنية الفقهية لها، وهذا ما صنعه صاحب الوسائل (ره) حينما قطّع الروايات ووزّعها على أبوابها، التي عنونها بالعناوين الموضوعية.

وجرى أتباع المنهج للتفسير الموضوعي بنحو أقل في علم العقائد، تمشياً مع ما حصل في الفقه، وبنحو أقل منه في علم الأخلاق فبحثت بعض الأبحاث المهم في أنظار أصحابها أو التي كانت محل ابتلاء بعناوين موضوعية، من قبيل الأدلة على وجود الحق، وبحث الصفات الإلهية، كالإرادة والحياة والسمع والبصر، وغيرها.

ثم إن منهج التفسير الموضوعي يختلف من علم إلى علم من العلوم القرآنية، وأكثر ما اهتم به الأعلام ما يرتبط بعلم الفقه، فهو يعد أكبر مصداق طرح كمنهج للتفسير الموضوعي، كما اتضح انه لابد من للوقوف على المفاهيم القرآنية من ملاحظة السنة المطهرة.  

وقد  استفاد(رض) من قول أمير المؤمنين(ع): ((ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه. ألا إن فيه علم ما يأتي ، والحديث عن الماضي ، ودواء دائكم ، ونظم ما بينكم(18))). الإشارة إلى التفسير الموضوعي للتعبير بالاستنطاق، بحيث تطرح المشاكل الاجتماعية ويجيب عليها القرآن. وأدرك هذا الشهيد الصدر(رض) مقدار فائدة التفسير الموضوعي بعد تصديه لحل المشاكل الواقعة عند المسلمين.

الأعلام والمنهج الموضوعي

لقد أدرك أعلام المسلمين ضرورة التصدي لطرح هذا المنهج حين تصديهم لحل المشاكل المبتلاة بها عندهم ، ومما يكشف عليه ما هو واقع في علم الفقه والعقائد والأخلاق، فقد تحول البحث فيها من شرح نصوصها بالتجزيئي إلى تسليط المنهج الموضوعي عليها، وكذا عند إرادة تطبيق المفاهيم القرآنية على المجتمع حاولوا تطبيق هذا المنهج العلمي. وأبرز من تصدى لذلك:

العالم الأول: الشهيد الصدر(قده): الذي أدرك أهمية المنهج الموضوعي للقرآن الكريم، فبدأ بكتابة الكليات المرتبطة به، ثم بحث عن بعض مصاديقه من قبيل بحث خلافة الإنسان والحرية وقيمة العمل، فقد استفاد من كلا المنهجين في تفسيره، فقد تدرج فيهما، مبتدئا من المنهج التجزيئي ، ومتخذا للمنهج الموضوعي، معالجا للقضايا الاجتماعية والأسرية والفردية، لكونه الأنسب في نظر اهل الخبرة، عند أرادة اصلاح مشكلة من المشكلات البشرية، لكونه بحسب الظاهر هو الأقرب الى محاكاة أفهامهم.

العالم الثاني: عميد الخطباء العلامة الوائلي(ره): الذي تصدى من خلال اتخاذه المنبر الحسيني لطرح هذا المنهج، من يستقرأ محاضراته القيّمة يجد هذا المنهج يرفرف على قممها. فلأنه يريد أن يبيّن لعامة الناس كون القرآن هداية لهم جميعاً. ويستفاد من ذلك عدم اختصاص المنهج الموضوعي بطبقة المجتهدين وأهل التخصصات، فأن له مرتبة تتناسب مع مخاطبة العوام كما استعملها العلامة الوائلي(ره)، وهناك مرتبة تتناسب مع طبقة أعلى، وهي التي اتخذها الشهيد الصدر(رض) في أبحاثه عن المفاهيم القرآنية التي تصدى لبحثها، ومن المفترض إيجاد مرتبة أعلى تتناسب مع ستوى المجتهدين، بمستوى ما يعلق به على العروة الوثقى.

أهمية المنهج الموضوعي

قد يقال ما الضرورة في أن نفسّر القرآن الكريم تفسيراً موضوعياً ونبحث عن جميع المفاهيم القرآنية للشريعة المقدسة، فإن المعصومين(عليهم السلام) وعلى رأسهم الرسول الاعظم(صلّى الله عليه وآله) وكذا القرآن الكريم، لم يبيّنوا ذلك بالنحو الذي نريد البحث عنه؟ بل بيّنوا المطالب للشريعة بنحو مزجي؟ بل إن البعض أشكل: لماذا لم يستعمل القرآن الأسلوب الموضوعي في تناوله لمفاهيمه بدلاً من استعماله لهذا الاسلوب المزجي في بيان مطالبه.

يجاب عنه: ما ذكره الشهيد الصدر(رض): ان النبي(صلّى الله عليه وآله)-المعصوم(عليه السلام)- كان يعطي هذه النظريات ولكن من خلال التطبيق، من خلال المناخ القرآني العام الذي كان يبينه في الحياة الإسلامية، فكل فرد كان يفهم النظرية ولو فهماً إجمالياً ارتكازياً لأن الجو الاجتماعي والفكري والتطبيقي الذي وضعه المعصومون(عليهم السلام) كان قادراً على أن يعطي النظرة السليمة،على تقويم المواقف( 19)، فكما أن المعصوم كان يبيّن المفاهيم القرآنية، ويبيّن بالحكومة التفسيرية المغزى من الآيات الكريمة بملاحظة بقية الآيات الأخرى لاحاطته الكلية بجميع المفاهيم القرآنية وبمعنى كل آية آية، ومعرفته التفصيلية بالنتائج النهائية عند ملاحظة جميع الآيات القرآنية، كذلك كان يتصدى لحل جميع المشاكل الواقعة خارجاً، سواء القضايا الاجتماعية أو الاشكالات العلمية أو غيرها، فكان مبيناً للحكم-الذي هو عبارة عن المفهوم القرآني-وللموضوع، بخلافه في الغيبة الكبرى، فقد خلّف عدم وجود المعصوم(عليه السلام) بين ظهرانينا عدم الوضوح في المفاهيم القرآنية لعدم احاطتنا بالقرآن الكريم احاطة كلية والوقوف على جميع مفاهيمه، وعدم الدقة في تشخيص الموضوع الخارجي، لما يقع من الخطأ في تشخيص الموضوع وفي تطبيق المفاهيم المناسبة عليه، لذا تعاملنا مع القرآن الكريم كما نتعامل مع العلوم البشرية، باتباع المنهج الموضوعي، ولو وقفنا على الكتاب العزيز كما وقف أمثال الشيخ الجليل الصدوق(رض) على علم الفقه لما احتجنا إلى المنهج الموضوعي كما لم يحتج هو إلى كتابة من لا يحضره الفقيه، وانما احتاجه غيره، من أمثالنا. 

وتناول القرآن بالتفسير الموضوعي بالبحث والدراسة لا يعني المناقشة في المنهج المزجي الذي اتبعه القرآن في القاء معارفه غالباً، وعدم اتباعه للموضوعي، بل نسلّم بصحة المنهج القرآني تسليماً، فهو الأنفع والأصلح لجميع البشر، إلا اننا حينما لاحظنا ضعفنا بالاحاطة بالقرآن كلية انتهجنا هذا المنهج، كما عمل به الفقهاء في الفقه، فاستبدلوا طريقة شرح النصوص التي انتهجها القدماء الذين عاصروا المعصومين(عليهم السلام) أو الذين قاربوا عصرهم، واتبعوا المنهج الموضوعي.

ومن ثم ندرك أن الذي تكون له احاطة بالقرآن الكريم والسنة المطهرة يفضل الأسلوب الذي انتهجه القرآن الكريم لما يعاينه من الأثر البالغ على جميع مداركه القلبية والعقلية، وغيرها، اما غير المحيط، فكثيراً ما يقف وقفة الحيران الذي لا يدري في أي وادي هو وعلى أي مفهوم يقف، وأي ربط لهذه الآية ببقية الآيات الأخرى وهل تمثل هذه الآية النتيجة النهائية أو تحتاج إلى ضمها مع آية أخرى وأي آية تصلح للضم وما هي نتيجة الجمع بينهما، وبأي نسبة؟؟ فيبقى رهين التساؤلات، التي لا تقطع عنها التساؤلات؛ بل الكثير من الاشكالات التي تكاد لا تنقضي، ومن ثم إذا حصلت له الاحاطة التي تتناسب مع مقام غير المعصوم سيتقين بقيمة المنهج الموضوعي، وسيدرك أن ما استعمله القرآن الكريم من منهج هو الأصلح، وإلا فما يذكر من أجوبة للرد على بعض التساؤلات والاشكاليات تبعا للمنهج التجزيئي لا يحل الاشكالات من جذورها بل تبقى في معرك الطرح بين الحين والآخر.

ولم تكن الحاجة إلى التفسير الموضوعي في زمان المعصومين(عليهم السلام) باعتبار أن المعصوم(عليه السلام) كما كان يلقى المفاهيم الإسلامية، كان يطبقها على مصاديقا، انطلاقاً من مقام المرجعية في الإمامة، أما بعد زمانه(عليه السلام) فالمتصدون للتفسير لم يكونوا على طبقة واحدة، إذ البعض منهم كان غرضه لا يتعدى في كفاية التفسير التجزيئي له، لعدم تدخله في حل القضايا الاجتماعية أو الأسرية أو الفردية، لاسيما التفاسير المرتبطة بالعلوم التخصصية كالنحوية الاعرابية والبلاغية والكلامية والفلسفية والعرفانية، وكذا ما يرتبط بالقصصية، وهذا ما نلاحظه عند تسليط الضوء عليها، وهذا لا يعني انكار دورها في توضيح المطالب القرآنية بلغتها العلمية، ورد الشبهات التي يوردها الخصم عليها.

ولعل التفسير الموضوعي بمكانة من الصعوبة يفوق الجهود المبذولة في التفسير التجزيئي ، كيف ولم يوفق لتأليف ما يرتبط بالتفسير التجزيئي إلا ثلة قليلة من الأعلام، ومن باب أولى تدريس هذا المنهج والمرور عليه بدورة كاملة تفسيرية لهذا المنهج، ومن الملاحظ أن الكثير من المفسرين لم يتصدوا لتفسير القرآن الكريم إلا في أواخر عمرهم، أما لإدراكهم أن التصدّي لهذا العمل العظيم يحتاج إلى طاقة علمية عليا لا يحصل عليها الإنسان إلا في سن متأخر أو لأن تفسير القرآن يحتاج لدراسة الكثير من العلوم من قبيل النحو والبلاغة والمنطق والفلسفة والكلام والمعارف والاحاطة بالسنة المطهرة المتوقفة على معرفة علم الرجال وأصول الفقه، ولا تحصل هذه العلوم بنحو الملكة إلا بعد الدراسة والتدريس لاعوام طويلة.

وأما التصدي للتفسير الموضوعي الذي يترتب وحوده غالباً على التفسير التجزيئي ، فمن باب أولى يكون المتصدين له أقل عدداً، سيما إذا كان المقصود تطبيقه على الواقع الخارجي، أو عند دراسة المشاكل الخارجية والبحث عن حل لها في الكتاب والسنة، والتأمل وإعادة النظر فيهما، فالمسألة تحتاج علاوة على الإحاطة بالتفسير التجزيئي ولو بالمفهوم المرتبط بالبحث إن كان المراد التفسير الموضوعي، أما لو أريد به التفسير الموضوعي المجموعي، الذي يكون هو المفيد غالباً لحل القضايا، فمن الواضح يقل عدد المتصدين لمثل هذا التفسير، بنسبة أقل، فأمثال الشهيد الصدر(رض) لا يعدون على الأصابع عند المسلمين قاطبة، ومع ما بذله من جهود عظيمة لم يتعد ما بحثه عشرين بحثاً ونيفاً.

وعليه فالمسألة في زماننا من أكبر المسائل المهمة، ووجوب التصدي لها من أكبر الواجبات على من كانت له القدرة واللياقة لها. 

والأهم في بحثنا دراسة القضايا المعاصرة المبتلاة والتصدي لمعرفة المفاهيم القرآنية والسنتية المنطبقة عليها، والذي يمثل جني الثمرة الطيبة القرانية.

فالتفسير الموضوعي تفسير جامع لجميع التفاسير، لنظره إلى كل ما يبيّن معالم المفاهيم القرآنية السنتية، ولا يكون القرآن الكريم والسنة المطهرة واضح المعالم قابل للتطبيق العملي إلا من خلاله.

وجميع التفاسير من النحوية والبلاغية والروائية والمعرفية والعلمية داخلة تحت التفسير التجزيئي ، إذ التفسير الموضوعي يتعلّق بها جميعها، بعد إجراء التفسير التجزيئي عليها، فليس التفسير الموضوعي مختصا بحل القضايا المرتبطة بالموضوعات الخارجية كالاجتماعية وغيرها، بل المراد به دراسة أي مفهوم قرآني أو سنتي دراسة مستوعبة لجميع جهاته.

"ومن هنا لا نجد البحث الموضوعي النظري يدخل في الشريعة الإسلامية إلا في العصور المتأخرة من تأريخ المسلمين ، لأن المجتمع الاسلامي كان يباشر التطبيق للقانون الإسلامي على أساس أنه تشريع وأحكام من قبل الله سبحانه لا بد من الالتزام بها ضمن نطاقها المعين وفي حدودها الخاصة ، بلا حاجة إلى معرفة النظرية التي يقوم عليها الحكم الشرعي ، وكيفية معالجتها لمشاكل الحياة الاجتماعية(20).

الموضوعي أنفع من التجزيئي

قد ذكر بعض الأعلام ثلاثة-وفي طيات كلامه أربعة- مميزات للتفسير التجزيئي على الموضوعي لا يمكن قبولها، وهي(21): 

الميزة الأولى : يمكن من خلاله معرفة حالة المجتمع في عصر النزول بالدقة والحالات الخاصة بالمجتمعات الأخرى، كحالة النفاق لدى اليهود مثلاً ، من خلال ملاحظة حركة الواقع المعاش وكيفية معالجته في طرح المفاهيم.

توضيحه: باعتبار أن الآيات تعرّضت له بشكل تفصيلي، فأوضحت حال اليهود وكيفية التعامل معهم، وبين النفاق وصفات المنافقين في سورة كاملة، فالتجزيئي أيضاً يتعرض بهه الكيفية لمعالجة المشاكل الاجتماعية.

يلاحظ عليه:

أولاً: لا يكفي ملاحظة القرآن الكريم في ذلك ، وتعرض سورة كاملة لا يغني عن ملاحظة السنة المطهرة، فالتفصيل الموجود في القرآن في هذه المسالة لا يقارن بما ورد في السنة المطهرة، فلا يكفي الاقتصار عليه للخروج بالنظرية القرآنية المتوقف فهمها على النظر في السنة، حتى لو اقتصر في بيان المفهوم في آية واحدة أو سورة واحدة أو في آيات متتابعة.

ثانياً: لو فرضنا أن تعرّض القرآن كان كذلك مع أنه بمكان من النذرة أو القلة، إذ غالباً ما يتعرّض لبيان مفهوم وأحكامه في موارد متعددة متباعدة، وفي هذه الموارد النادرة أو القليلة قد يقال غايته أنه يتحد فيه التفسير التجزيئي مع الموضوعي، إلا أن ذلك ليس بصحيح لوجوب النظر في السنة، وفي الأعم الأغلب أو بصورة دائمة ما تعرض القرآن الكريم لشيء إلا وتعرضت له السنة المطهرة بنحو أكثر تفصيلاً.

ثالثاً: تصدي القرآن الكريم لحل قضية من القضايا لا يكفي لتشكيل منهج يمكن الاعتماد عليه، بل لا يمكن الاعتماد مطلقاً لتغير الموضوع الخارجي غالباً، الذي يستلزم إعادة النظر لفرز الجهات المشتركة عن الجهات المختصة.

رابعاً: لا يكفي لحل المشاكل الاجتماعية تفصي حالة المجتمع والدقة في تشخيصها، بل لا بد من وجود مفاهيم قرآنية مستنبطة في الرتبة السابقة يمكن الرجوع إليها أو التأمل فيها، ومن ثم تطبيقها على ما في الخارج، ولا يكفي الرجوع إلى المنهج التجزيئي لأن المفاهيم فيه لم تبحث بشكل استيعابي لنصل إلى نتائجها النهائية، وإنما بحثت بشكل جزئي مبعثر ، لم تلحظ فيه مفرداتها بنحو استيعابي.  

الميزة الثانية: معرفة طريقة وأسلوب معالجة القرآن الكريم لتلك الظواهر والحالات الاجتماعية الخاطئة ، من خلال دراسة المقطع القرآني الذي تعرض لهذه الحالات واستهدف معالجتها وتغييرها . وهذا لا يمكن أن يتم من خلال دراسة موضوع الأسلوب القرآني إلا إذا كانت دراسة مستوعبة لكل الآيات أو ما يشبه هذا النوع من الاستيعاب.

يلاحظ عليه: من الواضح أنه لا يتم استيعاب أي مفهوم من المفاهيم القرآنية إلا بانتهاج المنهج الموضوعي، إذ التجزيئي عاجز عن ذلك، لاقتصاره على التعرض ببعض الجزيئات المرتبطة بالمفهوم، فلا يمكن من خلاله الوقوف على النظرة الشمولية القرآنية بصورة تامة.

الميزة الثالثة: إن تطبيق تلك الحالة المشخصة وطريقة معالجتها على الواقع المعاش في هذا العصر ، وذلك لأن حركة التاريخ محكومة بسنن تأريخية ثابتة جعلها الله تعالى مسيطرة على حركة الإنسان وحاكمة عليها وعلى طول خط حركة البشرية ، ومع أن التفسير الموضوعي أيضاً يهتم بالواقع الموضوعي ومشاكله ، إلا أنه لا يستطيع أن يقوم بهذا الدور ، وذلك لأن جوابه يكون جوابا تجريدياً ، أي يجرد فيه النص القرآني من خصوصياته بصفته نصا له سياقه الخاص ، وظروفه الخاصة في النزول ، وطريقته المعينة في المعالجة من خلال طرح المفاهيم المتعددة ، وبصورة متداخلة ، ومن مقطع قرآني واحد . ولذا نعتقد أن ( دراسة القرآن الكريم دراسة تجزيئية وعلى أساس هذا المنظور سيكون لها دور في إحداث حالة تغييرية في المجتمع ، من خلال التفاعل مع المفاهيم القرآنية ، ومن خلال معرفة مصاديقها ، ومعرفة تطبيقاتها المعاصرة التي نعيشها الآن).

يلاحظ عليه: أولاً: قوله "لأن جوابه يكون جواباً تجريدياً ، أي يجرد فيه النص القرآني من خصوصياته بصفته نصاً له سياقه الخاص ، وظروفه الخاصة في النزول ، وطريقته المعينة في المعالجة من خلال طرح المفاهيم المتعددة، وبصورة متداخلة ، ومن مقطع قرآني واحد" لا يمكنه قبوله؛ لأن المنهج الموضوعي لأجل الوصول إلى المفهوم القرآني النهائي يقوم أولاً باستقصاء جميع ما يرتبط به، من أجل الاستفادة منه وتطبيقه كقاعدة على مصاديق خارجية متعددة، فليس تجريده من أجل التغاضي عن انطباقه على مورده، بل تجريده ولحاظ الجهات الأخرى المرتبطة به من أجل الاستفادة منه وتطبيقه على ما يصلح الانطباق عليه، وهو من قبيل ما يطرحه علماء الأصول حين تعرّضهم لروايات الاستصحاب، فبعد انطباقه على باب الطهارة والصلاة يبحثونه كمفهوم عام ويطبقون عليه قاعدة أن المورد لا يخصص الوارد، ويعممون تطبيقه على موارد أخرى في أبواب فقيهه متعددة.

ثانياً: لا توجد في المنهج الموضوعي عملية تجريد النص مطلقاً، بل لا تصل النوبة إلى مرحلة التجريد إلا بعد المرور على عملية تجميع كل ما يرتبط بالمفهوم المبحوث عنه ، فالغرض من تجريد النص القرآني من خصوصياته، المتعلقة بالمورد الوارد فيه غرض ايجابي، كما بيناه بالاستصحاب.

الميزة الرابعة: التي استجابت للنص القرآني وفق الطريقة التي كتب وثبت بها - لها ميزتها وفلسفتها ، وذلك باعتبار استجابتها للهدف القرآني الرئيس ، والذي فرض أن تكون طريقة طرح القرآن الكريم للمفاهيم المتعددة بهذا الشكل المتداخل ، وليكون مزيجاً يحقق حالة الشفاء للبشرية: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا }.

يلاحظ عليه: لم يقل أصحاب المنهج الموضوعي وعلى رأسهم الشهيد الصدر(رض) بالاستغناء عن التجزيئي، كيف ولا يمكن الوصول اليه إلا به، ولذا أكّد (رض) على ذلك بقوله "ان التجزيئي لا يمكن الاستغناء عنه، واستبداله بالموضوعي، وإنما نحتاج إلى إضافة اتجاه إلى اتجاه(22). فالمعصوم (عليه السلام) لا يحتاج إلى المنهج الموضوعي، لاحاطته بجميع ما في القرآن، وكذلك أقل القليل من الأعلام الذين وقفوا على ما صدر عنه(عليه السلام)، وتابعوا مفهوماً مفهوماً، وأحاطوا به بما يتناسب مع مقامهم العلمي، إلا أن الأعم الأغلب من الأعلام، محتاجون إليه.

وعليه فسلوك السيد الشهيد(رض) ناتج من تجربته وخبرته العميقة والطويلة بعد توغله في أعماق المفاهيم الفقهيه ومعاينته لما انتهجه الفقهاء في الأبحاث الفقهية، عند تطبيقهم لمنهج التفسير الموضوعي، وكيف بلغ بالفقه إلى ما بلغ، في قبال الأبحاث المعرفية المتعلقة بالأصول العقائدية التي انتهج فيها الأعلام منهج التفسير التجزيئي، فشرحوا أصول الكافي رواية رواية، فعاين عدم تقدم أبحاثها بنحو تتضح فيه الصورة المعرفية، وتحل به المعضلات المطروحة، وحينما انصب اهتمامه بحل القضايا الاجتماعية الفكرية والميدانية، أدرك أيهما الأنسب لحال الناس غير المحيطين بالقرآن الكريم وبمفاهيمه، من الطلبة وغيرهم.

ملاحظة مهمة: إن المنهج الموضوعي لا تختص الاستفادة منه بأهل التخصصات؛ بل هو صالح للعوام أيضاً. نعم، تطبيقه يختص بأهل التخصصات لما يمتلكونه من قواعد علمية تمكنهم من انتهاجه وتطبيق قواعده، أما العوام فيأخذون النتائج التي توصل إليها أهل الخبرة من المجتهدين، ويقلدون فيها كما يقلدون في مباحث الفقه الأصغر. وحينئذ ستكون لهم إحاطة بالمفاهيم القرآنية، عن طريق تقليدهم للأعلام، الا فيما كانت مقدماته بديهية.

وكما انه لا بد من دراسة الموضوعات الخارجية والاستعانة بأهل التخصصات عن المفهوم المبحوث عنه، ينبغي الاستفادة من تجاربهم الميدانية، ووقوفهم على المستجدات المرتبة بالموضوعات الخارجية، جعلنا الله من المتدبرين في كتابه بحق محمد وآله الطاهرين.

ـــــــــــــــــ

(1)وقد اُخذ عنوان المتخصص هنا بنحو الاجمال الشامل لجميع أنحاء التخصصات التي تعرّض القرآن الكريم لذكرها؛ لأن بعض الأحاديث أو السور قد تشتمل على مطلب علمي وبعضها على مطلب قلبي، وهكذا.

(2)المدرسة القرآنية للسيد الشهيد الصدر ( قدس سره) ، المحاضرة الأولى : 9 - 11 ، طبعة بيروت .

(3)المدرسة القرآنية ، المحاضرة الأولى : 12 - 13 . المدرسة القرآنية ، المحاضرة الأولى : 12 - 13 . ، مع اضافة بعض التعديلات.

(4)الاتجاه التجزيئي والموضوعي في التفسير ص29 .

(5) كما ذكره السيد الحكيم(ره) في علوم القرآن.

(6)الاتجاه التجزيئي والموضوعي في التفسير ص36.

(7)الاتجاه التجزيئي والموضوعي في التفسير ص37.

(8)الاتجاه التجزيئي والموضوعي في التفسير ص37.

(9)وهو ملا صدرا الشيرازي(رحمه الله) ، وأول ما طبع له من تفسيره مجلد اشتمل على تفسيرها.

(10)الاتجاه التجزيئي والموضوعي في التفسير ص32.

(11) الاتجاه التجزيئي والموضوعي في التفسير ص29.

(12)الاتجاه التجزيئي والموضوعي في التفسير ص35.

(13)الاتجاه التجزيئي والموضوعي في التفسير ص34.

(14)كما ذكرها الشهيد الصدر رضوان الله عليه.

(15)وإن كانت بعض المباحث لم تستقرأ فيها جميع النصوص القرآنية والسنتية، إلا ان هذا يرتبط بالصغرى ، ولا دخل له في تحقق أصل المنهج.

(16)المدرسة القرآنية-المحاضرة الاولى ص12.

(17) تفسير سورة الحمد - السيد محمد باقر الحكيم - ص 102.

(18)شرح نهج البلاغة ج2ص54.

(19)الاتجاه التجزيئي والموضوعي في التفسير ص40.

(20)علوم القرآن - السيد محمد باقر الحكيم - ص 347.

(21)تفسير سورة الحمد - السيد محمد باقر الحكيم - ص 107 - 115.

(22)الاتجاه التجزيئي والموضوعي في التفسير ص42.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1485
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 03 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19