• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : علاقة النفس بالعبادة .

علاقة النفس بالعبادة

آية الله السيد منير الخباز

بسم الله الرحمن الرحيم

  (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (1)

 خلق الإنسان لكي يكون متصلاً بربه اتصالاً وجدانياً فهو في تمام اوقاته وفي تمام آناء حياته يشهد الله في قلبه و يعيش اتصالا نفسيا بربه و هذا لاتصال النفسي هو المعبر عنه بالعبادة.

 (وَاعْبُدْ رَبَّكَ) أي اجعل بينك و بين ربك صلة نفسانية تستغرق أوقات حياتك و تستوعب عمرك (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) و اليقين له معنيان:

 

 المعنى الأول: أن المراد به الموت أي حتى تختتم حياتك و أنت متصلا بخالقك كما ورد في آية أخرى قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) (2) أي لا تختتمون حياتكم إلا و انتم متصلون بربكم اتصالا قلبيا نفسانيا و المعنى الثاني لليقين أن المراد به الوصول إلى درجة الشهود كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (3) العبادة جهاد و طريق لعروج النفس إلى خالقها و عروج النفس إلى خالقها يوصلها إلى مرحلة الشهود وهي شهود ملكوت الله تبارك و تعالى كما ورد في قضية إبراهيم عليه و على نبينا و اله أفضل الصلاة و السلام قال تعالى : (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (4) بمعنى أن إبراهيم عندما حصل له شهود عالم الملكوت نتيجة عبادته و جهاده لنفسه أصبح من أهل اليقين و يكون من الموقنين.

 

العبادة:من الطبيعي أن الإنسان يمل من العبادة و يسام من العبادة الإنسان لا يكون على نسق واحد, و على وتيرة واحدة في علاقته مع العبادة, أحيانا يتفاعل الإنسان مع العبادة و ينصهر فيها, و أحيانا يفتر و تبرد علاقته مع العبادة, فكيف يتعامل الإنسان مع نفسه من اجل ربطها بالعبادة و من اجل أن لا تبتعد عن أجواء العبادة و لا تنفر منها.

 

هناك عدة عوامل ركزت عليها النصوص الشريفة في معالجة علاقة النفس بالعبادة:

العامل الأول: تجديد الأوقات

 

ما هو المقصود بتجديد الأوقات؟

النفس تعيش أطوار مختلفة القرآن الكريم يقول : (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً (14) ) (5) النفس بطبيعتها تعيش حركة تعيش تنقلا من طور إلى طور, ومن حالة إلى حالة تارة تكون النفس أمارة قال تعالى : (وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ) (6) , وتارة تنقلب و تكون لوامة قال تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) ) (7) ,و تارة تكون منظرة و مخططة و هي الآية التي عبرت عنها بأنها النفس المطمئنة قال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) ) (8) ,فالنفس لها حالات لها أطوار لها تقلبات مختلفة بما أن النفس تعيش أطوار مختلفة, و تقلبات مختلفة, نرى أن الحكمة الإلهية اقتضت أن تعيش النفس في ظروف مختلفة أيضا, هذه الفصول التي تمر علينا ,الإنسان يمر عليه فصل الشتاء, و فصل الربيع ,و فصل الصيف و فصل الخريف لماذا؟ لماذا تمر هذه الفصول الأربعة على الإنسان لماذا لا يعيش الإنسان في فصل واحد؟ لماذا تمر على الإنسان أوقات متباينة يمر عليه الليل ثم يمر عليه النهار و النهار ينقسم إلى ضحى و إلى ظهر ٍ و إلى عصر هذه الأوقات المختلفة و الفصول المختلفة؟ جعلها الله لكي تعيش النفس حركتها بما أن النفس متقلبة من طور إلى طور, ومن حالة إلى حالة ,فتحتاج أيضا إلى ظروف مختلفة تحتاج إلى أزمنة مختلفة, تحتاج إلى أوقات متغيرة ,لو عاشت النفس فصلا واحدا أو وقتا واحدا أو طريقة واحدة لانقرضت هذه النفس و ماتت هذه النفس من اجل أن تبقى حية متجددة مستمرة في عطائها و في فعاليتها جعلها الله في ظروف مختلفة جعلها الله في أوقات مختلفة كي يتجدد نشاطها, و تتجدد حركتها, و فعاليتها ,كما أن الله تعالى جعل للنفس ظروف مختلفة فتنتقل من صيف إلى شتاء من ربيع إلى خريف, من ليل إلى نهار, من شباب إلى كهولة ,و هكذا كي تبقى على فعاليتها و نشاطها ,كذلك الله جعل للعبادة أوقات مختلفة حتى تتجدد علاقة النفس بالعبادة لو أن الله جعل الوقت كله عبادة بطريقة واحدة لماتت النفس و ماتت علاقة النفس بالعبادة لكن الله حتى يجدد نشاط النفس و إقبالها على العبادة جعل للعبادة أوقات و جعل العبادة بأشكال مختلفة يأتي شهر رمضان له نوع من العبادة تأتي ليلة القدر لها نوع من العبادة ,يأتي يوم العيد له نوع آخر من العبادة ,يأتي يوم الغدير له نوع رابع من العبادة, أوقات مختلفة و أنواع مختلفة و طرق مختلفة للعبادة هذا التنويع في الأوقات, و التنويع في الطرق إنما هو لمعالجة هذه النفس و لكي تبقى النفس مقبلة متجددة متفاعلة مع العبادة التي خلقت لأجلها و التي هي الهدف من وجودها إذا العامل الأول من عوامل تغيير و تجديد العلاقة مع العبادة اختيار الأوقات المختلفة الإنسان يعبد الله هذا اليوم لأنه يوم جمعة بعبادة بنوع معين يأتي يوم الاثنين يستحب فيه الصوم يعبد الله بنوع آخر و هو عبادة الصوم يأتي شهر رمضان فيعبد الله بنوع ثالث يأتي أيام الحج فيعبد الله بنوع رابع و هو العبادة المتمثلة في مناسك الحج إذا اختيار الأوقات المختلفة عامل من عوامل نشاط النفس و تجديد علاقتها و رغبتها نحو العبادة هذا هو العامل الأول.

 

العامل الثاني: من عوامل تجديد علاقة النفس مع العبادة المراوحة كما يعبر عنها علماء العرفان المراوحة بمعنى أن الإنسان يراقب نفسه فإذا راقب نفسه يجد نفسه تارة معرضة و تارة مقبلة إذا رأى النفس مقبلة فليستثمر الوقت فليستثمر الفرصة إذا وجد نفسه راغبة مشتاقة مقبلة نحو العبادة فليستثمر هذه الفرصة فليستثمر هذا الوقت في أن يغرق النفس بالعبادة و بألوان العبادة حتى تتزود زاداً وفيرا ينير لها قبرها و ينير لها مضجعها و يفرش طريق أخرتها بالرغد و الهناء , و إذا رأى النفس مدبرة و معرضة عن العبادة اقتصر على المقدار الواجب حتى لا تنفر النفس من العبادة نفورا كليا حتى لا تعرض النفس عن العبادة إعراضا تاما و هذا ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام علي عن النبي محمد : (للقلوب إقبال و إدبار فإذا أقبلت فاحملوها على الفرائض و النوافل و إذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض) ما سمي القلب إلى من تقلبه القلب أحيانا يفرح أحيانا يحزن أحيانا يحب أحيانا يبغض أحيانا يشتاق أحيانا ينفر,ما سمي القلب إلى من تقلبه فاحذر من القلب من قلب و تحويل ؛ فالقلب تحتاج تقلباته إلى مراقبة تحتاج تقلباته إلى معالجة ليس من الحسن أن يسترسل الإنسان إذا اقبل القلب لا يسال عن إقباله ولا يستثمر الفرصة و إذا أدبر القلب حمله فوق طاقته فان هذا يؤدي إلى نفور النفس من العبادة, لا اقصد أنا أن يعرض الإنسان عن العبادة بالكلية؛لا, بمعنى أن ينتقل من عبادة إلى عبادة أخرى, لاحظوا هذا الحديث الوارد عن الإمام الكاظم :كان الإمام الكاظم إذا اغتم ترك النافلة وهو إمام معصوم ؛ قد يتساءل الإنسان ما معنى ذلك الأئمة معصومون , الأئمة قلوبهم متجهة نحو الله عز و جل , الأئمة في تمام أوقاتهم و آناتهم لا يرون إلا الله , لا يشهدون إلا الله , يعيشون حب الله , متغلغلا نافذا في أعماقهم , فكيف يعرضون عن الله , كيف يقال عن الإمام إذا اغتم ترك النافلة ! الإمام الكاظم لم تقل الرواية بان الإمام الكاظم إذا اغتم ترك العبادة قالت ترك النافلة , يعني ترك عبادة و اتجه لنوع آخر من العبادة, كان إذا اغتم ترك النافلة ولم تقل ترك العبادة يعني يتجه من عبادة لعبادة , إذا رأى نفسه غير مقبلة على العبادة يوجه نفسه نحو عبادة أخرى , صلة الرحم عبادة , الصدقة عبادة , تعليم الناس الأحكام الشرعية و المعارف الدينية عبادة, إماطة الأذى عن الطريق عبادة , إذا رأى النفس معرضة عن نوع من العبادة ؛ إذا المراوحة هي عبارة عن مراقبة تقلبات النفس مراقبة تنقلات القلب فالإنسان دائما في حال دراسة لنفسه في حال مراقبة و مسائلة لنفسه ليرى أين تتجه تدبر عن ماذا؟ و تعرض عن ماذا ؟ فإذا رآها معرضة عن نوع من العبادة وجهه لنوع آخر من العبادة كان يحفظ لهذه النفس توازن العلاقة و الاتجاه و الانصهار بالعبادة.

نأتي للعامل الثالث من عوامل معالجة علاقة النفس مع العبادة.

 

العامل الثالث من هذه العوامل : أن الإنسان يختار الأنواع المختلفة لهذه العبادة في طريق علاقته مع الله تبارك و تعالى , هنا نظرية يطرحها علماء الاجتماع و هي نظرية تأثير العقل الجمعي ما معنى تأثير العقل الجمعي انتم تلاحظون أن الإنسان بطبيعته يتأثر بالمشهورات الشائعات يتأثر بها الإنسان , إذا انطلقت شائعة في المجتمع بان فلان مرض أو فلان سافر أو فلان فيه كذا , أو فلان ارتكب جريمة كذا, الإنسان بطبعه يتأثر بالشائعات يصدقها يتفاعل معها , الإنسان بطبعه هذا , هذا ماذا يعني هذا يعني تأثير العقل الجمعي في ثقافة الإنسان , تأثير العقل الجمعي في موروثات و مكتسبات الإنسان العقل الجمعي يؤثر على ثقافة و معلومات و مكتسبات الإنسان.

 

و لذلك تجد الإنسان يتأثر بالعادات و التقاليد العادات قهارات الإنسان إذا عاش مجتمعا له تقاليد و له عادات و تقاليد معينة يتأثر بعاداته يتأثر بتقاليده بل ربما تتحول العادات إلى وظيفة يمارسها و إلى دور يمارسه من دون أن يلتفت إلى أنها مجرد عادات و تقاليد اجتماعية ليست إلا، مثلاً: بعض المجتمعات من عاداتها إلا تختتم الفواتح ليلة السبت يستنكرون يستثقلون أن يختموا الفاتحة ليلة السبت لان ختام فاتحة الميت أو مأتم الميت ليلة السبت يظنون انه يكرر الموت , و كان اسرافيل ينتظر الناس متى يختمون الفاتحة ليلة السبت فيكرر عمله وهو إماتت شخص آخر مثلا في يوم آخر كأنهم ختموا ليلة السبت يعني كان اسرافيل ليس له شان إلا بهذه الأمور وكأنه لا يسير وفق أمر الله بل يسير وفق عادات المجتمع و تقاليد المجتمع أو انه مثلا ما رفع حجر يوم السبت إلا و رجع إلى محله هذا حديث موجود (ما رفع حجر يوم السبت إلا و رجع إلى محله) لكن هذا الحديث كناية عن استحباب السفر يوم السبت, بمعنى أن السفر يوم السبت مستحب , الإمام حتى يعبر عن استحباب السفر يوم السبت يقول (ما رفع حجر يوم السبت إلا و رجع إلى محله) هذا تعبير كنائي يعني كناية عن استحباب السفر يوم السبت , لا أن كل شي يبدأ يوم السبت يرجع مرة أخرى لما كان, يعني إذا الدراسة تبدأ يوم السبت منذ الابتدائية حتى انتهى من الثانوية فالجامعة تبدأ دائما يوم السبت فهل بعد أن ينتهي من الجامعة يعود من الصفر؟ لأنه بدا يوم السبت و لأنه ما رفع حجر .....) ما معنى هذا الكلام , أو أن الإنسان إذا قرأ كتابا بدا قراءته يوم السبت فانتهى من قراءته يرجع للبداية؟ لم يفهم شي لأنه ما رفع حجر....) و هكذا من الأمور. إذا كان الإنسان يبني بيته و بدا البناء يوم السبت عندما ينتهي سيتهدم البيت لأنه ما رفع حجر ........) و أمثال ذلك من الأمور الصغيرة.

إذا بالنتيجة المقصود ما رفع حجر إلا و رجع إلى محله يعني أن السفر مستحب يوم السبت لا أن يوم السبت هو يوم مشئوم بل انه يوم مبارك ورد في الحديث عن النبي محمد : (بورك في سبتها و خميسها) إذا يوم السبت يوم مبارك لا انه يوم مشئوم فلذلك لا مانع من أن تبدأ به الأعمال أو تختتم به الأعمال. فإنما لتأثر الإنسان بالعقل الجمعي يعني بالعادات و التقاليد التي يعيش فيها لتأثر الإنسان بالعقل الجمعي يعتقد أحيانا بان هذا العمل وظيفة و انه قانون لا محيص عن الالتزام به مع انه ناشئ عن العادات و التقاليد, تؤثر الإنسان بالعادات و التقاليد معناه تأثير العقل الجمعي في ثقافة الإنسان, تأثير العقل الجمعي حتى في صياغة شخصية الإنسان, وفي صياغة معلومات الإنسان لذلك يتأثر الإنسان بالشائعات تأثير العقل الجمعي راجع إلى أن الإنسان يرى الكم دليلا على اليقين و الحال بان الكم ليس دليلا عن اليقين , إذا تراجع كتاب الأسس المنطقية للاستقراء للسيد الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر في (كتابه الأسس المنطقية للاستقراء) يذكر دليل احتساب الاحتمالات الذي هو من أوضح الأدلة في الرياضيات و يذكر أن هناك عاملان عامل كمي و عامل لفظي ليس العامل الكمي كافيا وحده في وصول الإنسان إلى اليقين الإنسان يحتاج إلى عاملين عامل كمي و عامل كيفي إذا اجتمعا وصل الإنسان إلى اليقين أما مجرد العمل الكمي وحده لا يوصل الإنسان إلى اليقين , لو أنا مثلا اخبرني مئة شخص بان فلان ارتكب الجريمة الكذائية مجرد هذا العامل الكمي وهو أن المخبر مئة شخص ليس كافيا في أن أصل إلى اليقين لابد أن ألاحظ العامل الكيفي أيضا, ما هو العامل الكيفي؟ المائة شخص إذا كانوا من أقوام مختلفة ومن طرق مختلفة ومن مصادر مختلفة حينئذ ينضم العامل الكمي إلى العامل الكيفي فيؤدي إلى الوصول إلى اليقين أما لو كان المائة شخص كلهم من عائلة واحدة ’ بحيث يتأثر الواحد منهم بالأخر, إخبار مئة شخص من عائلة واحدة بان فلان ارتكب جريمة معينة لا يؤدي إلى اليقين إذ لعل هؤلاء المائة شخص تواطئوا على الكذب لعلهم اتفقوا على الكذب , لعلهم اتفقوا على الزور و البهتان إذا مجرد العامل الكمي لا يكفي وحده في الوصول إلى اليقين , لابد من انضمام عامل كيفي وهو أن المائة شخص من طرق مختلفة من مصادر مختلفة حتى تؤدي إلى الوصول إلى اليقين , لذلك تجد أن القرآن الكريم يذم على الاعتماد على العامل الكمي وحده ماذا يقول القرآن : (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (9) أنت لا تهتم بالكثرة لا تعتمد على العامل الكمي فقط, تقول أكثر الناس ليسوا بمؤمنين إذا أنا لن أصبح مؤمن اغلب الناس مثلا يأتون بالفرق الموسيقية اللهوية في أيام الأعراس إذا أنا مع الناس , اغلب الناس مثلا يجعلون أعراسهم في الفنادق و يمارسون بعض الأعمال المحرمة إذا نحن مع الناس. لــا العامل الكمي ليس دليلا على الصواب و ليس دليلا على الحقيقة (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وقال تعالى : (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) (10) إذا بعد أن عرفنا تأثير العقل الجمعي في معلومات الإنسان وفي ثقافة الإنسان وفي مكتسبات الإنسان , نعرف أن من الطرق التي يعتمد عليها الإنسان في معالجة علاقته بالعبادة وفي معالجة قربه بالعبادة أن يعتمد الإنسان أحيانا و في بعض الأوقات على حساب العقل الجمعي في ناحية عبادته وفي ناحية علاقته مع الله , كيف ذلك؟ أنا الآن لو صليت فرادة في البيت قد لا أتفاعل مع الصلاة ولكن إذا حضرت المسجد و رأيت الأجواء الروحية من خلال المسجد , و رأيت غيري يعبد الله و يبكي و يبتهل إلى الله و يتضرع , هذا العقل الجمعي يشكل لي دافعا نحو العبادة , أحيانا أنا اعبد الله بتأثير العقل الجمعي , العقل الجمعي من خلال المسجد ’ المسجد يشكل عقلا جمعيا و دافعا داخليا نحو ممارسة العبادة .

الدعاء لو قرأت الدعاء وحدي قد لا أتفاعل مع الدعاء و لكن إذا قرأت الدعاء مع جماعة وهم يرددون كلمات الدعاء و يرفعون أصواتهم و يتفاعلون مع الدعاء , يشكل هذا عقلا جمعيا دافعا لي نحو ممارسة الدعاء و الانصهار بالدعاء.

 

إذا من طرق معالجة النفس و تجديد علاقتها بالعبادة الاعتماد على العقل الجمعي فان العقل الجمعي مؤثر في بعض الأحيان في دفع الإنسان نحو العبادة و في انطلاق الإنسان نحو العبادة لذلك جاءت النصوص المتضافرة الدالة على استحباب صلاة الجماعة و أن صلاة الجماعة تَفضُل صلاة المفرد بسبع و عشرين درجة , وان الجماعة إذا زاد عددهم عن عشرة فلا يحصي ثوابها إلا الله و انه إذا قبلت صلاة احد الجماعة لنفترض الجماعة عشرة .. عشرين .. خمسين ... مئة و واحد منهم من المأمومين تقبل صلاته تقبل صلاة الجميع بقبول صلاة احد المأمومين . الإنسان إذا لاحظ هذا الفضل و هذا الثواب الكبير لصلاة الجماعة يشكل ذلك دافعاً ذاتياً له نحو العبادة هذا من طرق تجديد العلاقة مع العبادة.

 

الطريق الأخير أو العامل الأخير : اختيار الخلوة و الظلمة. الإنسان ربما مع الأضواء و صخب الأضواء لا يتفاعل مع العبادة , الأضواء تشتت ذهنه صخب الأضواء يشتت باله , لكن الإنسان إذا جلس في ظلام الليل وخلا بنفسه, الخلوة و الظلمة عاملان يسبغان على النفس هدوءا يسبغان على النفس سكينة (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً (12) ) (11) الليل لباس تلبسه النفس فيسبغ عليها حالة من الهدوء و السكينة و الاطمئنان و إذا سكنت النفس , هدوء لا أصوات لا شجار لا أضواء مختلفة لا مثيرات فالأضواء تثير الإحساس الأضواء تحرك الإحساس تثير الإحساس تحرك الأحاسيس .. لا الأضواء خافتة الأنوار باهتة إذا حل الظلام أسبغ على النفس سكينة و هدوء و استقرار هنا تكون الظلمة و الخلوة عاملين في تشويق النفس للعبادة , في تشويق النفس نحو الإقبال إلى الله إذا اختار الإنسان ذلك و جلس مع ربه حتى لو صلى ركعتين فقط ليس بالضروري أن يصلي عشرين ركعة أو صلاة الليل حتى لو صلى ركعتين. صلاة ركعتين مع الظلمة و الخلوة مع الاستقرار و الهدوء , مع الاعتراف لله بالذنوب , مع الإقرار بالمعاصي , مع انحدار الدمعة , و ارتفاع الألم , و ارتفاع الحسرة و الندم و الآهة , كل ذلك عامل يقرب الإنسان نحو الله تبارك و تعالى النبي محمد يقول : (يا أبا ذر ركعتان بتفهم خيرٌ من ألف ركعة و القلب لاهي) أنت لا تصلي ألف ركعة و القلب لاهي , صلي ركعتين بخشوع بدمعة باعتراف بالذنب , هذا عامل يجدد علاقتك بالعبادة و يشوقك نحو العبادة و القرب من الله – تبارك و تعالى- . يقول ضرار عندما دخل على معاوية بن أبي سفيان قال : يا ضرار صف لي عليا. قال: أعفني. قال: أبيت عليك إلا أن تصف لي علياً. قال: أن أبيت إلا ذلك فهو كذلك , كان والله بعيد المدى , شديد القوى , يقول عدلا و يحكم فصلا , كان والله كثير الدمعة , طويل الفكرة , يحاسب نفسه إذا خلا و يقلب كفيه على ما مضى , كان يستأنس بالليل و وحشته , و يستوحش الدنيا و زهرتها , كان يعظم أهل الدين , و يتحبب إلى المساكين , يعجبه من اللباس ما خشن , ومن الطعام ما جشب , لا يطمع القوي في ظلمه , و لا ييأس الضعيف من عدله , كان يجيبنا إذا سألناه ¸و يدنينا منه إذا أتيناه , و كان مع قربه منا و حنوه علينا , لا نكلمه هيبة له , فإذا تبسم ثعم مثل اللؤلؤ المنظوم , و قد رايته ذات ليلة , أنظر لعلاقة علي بالليل بالعبادة , و قد رايته ذات ليلة من لياليه وقد أرخى الليل سدوله و هو ماثل في محرابه , قابض على شيبته , يتململ تململ السليم و يقول: إليك يا دنيا غري غيري , إلي تطلعتي , أم إلي تشوفتي , لقد بنتك ثلاثا لا رجعة لي بعدها فعمرك قصير, و عيشك حقير , و خطرك كبير , آه من قلة الزاد .. آه من قلة الزاد و بعد السفر و وحشة الطريق. هذا علي و هذا شبله علي بن الحسين يقول احد أصحابه: جئت ذات ليلة إلى الكعبة المشرفة و إذا برجل متعلق بأستار الكعبة و دموعه تنهمر على خديه وهو يئن أنينا كأنين الثكلى فالتفت إليه فإذا هو يقول : الهي ما عصيتك إذ عصيتك و أنا بك شاك و لا بنكالك جاهل ولا لعقوبتك متعرض و لا بأمرك مستخف و لكن سولت لي نفسي و أعانني عليها شقوتي و أغرني بذلك سترك المرخى علي فانا الآن من عذابك من يستنقذني و بحبل من اتصل أن قطعت حبلك عني , فوا سوأتاه غدا من الوقوف بين يديك , إذا قيل للمخفين جوزوا و للمثقلين حطوا , أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط , ويحي كلما طال عمري كثرت خطاياي , أما آن لي أن استحي من ربي . فلما فرغ و نظرته فإذا هو زين العابدين قلت : سيدي أنت تقول هكذا و أنت ابن رسول الله قال : يا هذا دع عنك حديث أبي و جدي , خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدا حبشيا و خلق النار لمن عصاه ولو كان سيدا قرشيا . فالإنسان عليه أن يراقب نفسه في طريقة علاقتها مع الله وفي اتجاهها في عبادة الله – تبارك و تعالى – كي يزن هذه العلاقة و يجعلها منسجمة مع أوقات و آنات حياته ومع الهدف الذي خلقت من اجله.

 و الحمدلله رب العالمين

 ــــــــــــ

 (1) سورة الحجر آية99.

 (2) سورة آل عمران آية102.

 (3) سورة العنكبوت آية69.

 (4) سورة الأنعام آية 75.

 (5) سورة نوح آية13-14.

 (6) سورة يوسف آية53.

 (7) سورة القيامة آية 1-2.

 (8) سورة الفجر آية27-28.

 (9) سورة يوسف آية103.

 (10) سورة الأنعام آية116.

 (11) سورة النبأ آية11-12.

منقول من شبكة المنير


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1113
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 08 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24