• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : المثل التاسع: أكل الربا .

المثل التاسع: أكل الربا

  يقول الله تعالى في الآية 275 من سورة البقرة:

(الّذِيْنَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبَطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذلك بِأنَّهُم قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأمرهُ إلى اللهِ وَمَنْ عَادَ فأُولئِكَ أصحاب النِّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ) .

 

تصوير البحث

إنّ آكلي الربا على أساس هذه الآية عندما يدخلون المحشر يوم القيامة يدخلون كالسكارى أو المجانين أو المصروعين، لا يتمالكون على أنفسهم ولا يستطيعون حفظ تعادلهم فيقعون ويقومون بين الحين والآخر. وهذا المنظر المرعب يلفت أنظار أهل المحشر ويجعلهم يدركون أنَّ هؤلاء هم آكلو الربا.

 

علاقة الآية بما قبلها

الآيات السابقة تحدثت عن الصدقة والإنفاق في سبيل الله، وهذه الآية ترتبط بشكل وآخر بالصدقة; وذلك لأن الصدقة على قسمين:

1- الصدقة دون عوض وهو الإنفاق والبذل للمحتاجين.

2- الصدقة مع العوض وهو الدين أو القرض الحسن.

إنّ الدين إذا لم يكن مع عوض وربح كان قرضاً حسناً والا عُدَّ رباً وحراماً. وقد جاء في الروايات أنَّ الصدقة والبذل من دون عوض أجرها عشرة إضعاف، أمّا الإقراض أو الصدقة مع العوض فأجره ثمانية عشر ضعف،(1) وسبب ذلك واضح من حيث أنَّ المقترضين محتاجون حقاً، وهم ذوى اعتبار وماء وجه.

وعلى هذا، فإنَّ شيئين يتوخى من القرض هما: أولا - رفع حاجة المحتاجين. ثانياً - الحفاظ على حيثية واعتبار المحتاج.

وعلى أساس الآية الشريفة: (مَنْ جَاءَ بالحَسَنةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثالهَا)(2) فإنّ كلا منها له عشر حسنات والمجموع هو عشرون، ولكن باعتبار انّ القرض يسترجع بعد فترة من الزمن فتنقص منه حسنتان ليكون المجموع ثمانية عشر.

 

الشرح والتفسير

(الّذينَ يأكُلُونَ الرِّبَا...) أي أنَّ آكلي الربا سيبتلون يوم المحشر بعدم التعادل والتوازن في المشي ويبدون كأنهم مصروعون أو مجانين.

(ذَلك بِأنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) إنّ سبب ابتلاء هؤلاء بهذا المصير هو أنَّهم إضافة إلى أكلهم الربا كانوا يسعون في تبرير عملهم بالقول: إنَّ البيع مثل الربا، كما الأول حلال كذلك الثاني.

(أحَلَّ اللهُ البيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) حلية البيع والمعاملة لأجل وجود مصلحة في ذلك عكس الربا، ففيه مفسدة اضافة إلى أنه يفقد المصلحة. ففي المعاملة تارة يكون ربح وآخرى يكون خسارة إلاّ أنَّ الأمر في الربا يختلف، فآكل الربا يحصل على الربح دائماً ولا يتضرر أبدا والخسارة يتحملها المقترض فقط، ولذلك عدت أمواله حأصلة بلا تعب.

إضافة إلى هذا، فإنَّ أكل الربا سبب في إيجاد الفجوة بين طبقات المجتمع، وذلك لأنَّ ظاهرة الربا إذا تفشت في المجتمع اجتمعت ثروات الناس وأموالهم عند آكلي الربا بعد فترة وجيزة من الزمن، أمّا الآخرون فتتردى اوضاعهم إلى أسوأ ما يمكن.

(فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأمرهُ إلى اللهِ) في بداية الإعلان عن هذا الحكم يصرح الله بشمول العفو والمغفرة لأولئك الذين كانوا يمارسون الربا قبل هذه الآية فلا خوف عليهم.

وعليه، فالذين كانت لهم أموال عند الناس وتعاقدوا معهم على أن يكون لهم فيها ربا، فإنَّ هذه المعاملة تبطل وأصحاب الأموال من الآن فما بعد باتوا لا يملكون إلا رؤوس أموالهم فحسب ولاحق لهم في استلام أكثر من ذلك.

(وَمَنْ عَادَ فأُولئِكَ أصحاب النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ) يهدد الله في هذه الآية أولئك الذين يعاودوا ممارسة هذا العمل بعد هذه الآية ويقول بأنَّهم إذا فعلوا هذا مرة آخرى - وهو عمل عد في بعض الروايات كممارسة الفاحشة مع المحارم(3) ـ فإنَّ جهنم تنتظرهم وسيكونون مخلدين فيها.

سؤال: إنّ الخلود في جهنم خاص بالكفار فما يعني الخلود بالنسبة لآكلي الربا من المسلمين؟

الجواب: من التفاسير التي ذكرت في هذا المجال هو أنَّ آكلي الربا يموتون غير مؤمنين بسبب عملهم القبيح هذا، ومن الواضح أنَّ غير المؤمنين يخلدون في جهنم.(4)

 

خطابات الآية

عقاب آكلي الربا في الدنيا والآخرة

هناك بحث بين المفسرين في هل أنَّ التَشبيه لآكلي الربا في الآية تشبيه لمصيرهم في الدنيا؟ ام أنّ ذلك نوع من العقاب والعذاب الآخروي؟

يستفاد من الروايات أنّ هذا النوع من المصير يتعلق بكلا العالمين. وقد نقلت رواية في تفسير (نور الثقلين) عن الإمام الصادق(عليه السلام) يقول فيها: «آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتى يتخبطه الشيطان»،(5) والعبارة الأخيرة تعني الجنون.

وفي رواية آخرى حكت موضوع المعراج(6) أنَّ الرسول(صلى الله عليه وآله) قال:

«لما أُسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أنْ يقوم ولا يقدر عليه من عظم بطنه، قال: قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا».(7)

 

نسبة الجنون إلى الشيطان

لماذا نسب الجنون إلى الشيطان في آية المثل؟

المستفاد من ظاهر الآية هو أنَّ الشيطان سبب الجنون عند الإنسان.

لكن الأبحاث العلمية أثبتت وجود أسباب آخرى للجنون لا علاقة لها بالشيطان، ومن هنا كانت للمفسرين آراء مختلفة في تفسير الآية، نشير إلى بعضها هنا.

الف - القرآن يخاطب الناس بما يتماشى مع عقائدهم; فإنّ الناس عصر النزول (العرب آنذاك) كانوا يعتقدون أنَّ الجنون من الشيطان، أو أنَّ الشيطان ينفذ في جسم الإنسان فيجن، ولهذا كان هذا التعبير القرآني كناية عن الجنون.

باء - المعنى الحقيقي للجملة هو المراد لا المعنى الكنائي، ونسبة الجنون للشيطان من حيث إنَّ الله جعل عقاب هؤلاء المذنبين تسلط الشيطان عليهم وهذا التسلط هو الذي يسبب القلق والجنون.

 

التناسب بين الجناية والعقاب

يعتقد بعض المفسرين أنَّ العقاب الذي يعينه القرآن لذنب ما يتناسب مع ذلك الذنب، فبين العقاب الذي عُيِّن لآكلي الربا وبين الجنون تناسب، وبين هذا الذنب وذلك العقاب علاقة وارتباط، فبما أنّ آكل الربا يقوم من خلال عمله القبيح بتدمير اقتصاد المجتمع ويخرجه عن حالة التعادل ويحول دون حركة العجلة الاقتصادية كذلك هو ذاته فإنَّه سيبتلي بمصير من هذا القبيل في الآخرة.

في رواية للامام الباقر(عليه السلام) يقول فيها: «الظلم في الدنيا هو الظلمات في الآخرة».(8)

فإنّ العقاب في هذه الرواية يتناسب مع الذنب، ذلك أنَّ الظالم يُظلم الدنيا والعالم في عينيي المظلوم وعلى هذا الأساس تظلم الآخرة في عينيي هذا الظالم.

 

فلسفة تحريم الربا

كما أنَّ الربا وآكله يُوجب مفاسد عديدة فإنَّ تحريمه ينمّ عن فلسفات مختلفة نشير إلى بعضها هنا:

الف - إنَّ الظلم المشار اليه في الآية 279 من سورة البقرة هو فلسفة تحريم الربا.

باء - الفلسفة الآخرى للتحريم هي تثبيت سنة (القرض) في المجتمع، وقد جاء هذا المطلب في روايات عديدة، منها رواية سماعة عن الإمام الصادق(عليه السلام) حيث يسأل فيها: إني رأيت الله تعالى قد ذكر الربا في غير آية وكرره؟ قال(عليه السلام): «أوتدري لم ذلك؟» قلت: لا. قال(عليه السلام): «لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف».(9)

أي أنّ الربا إذا تفشى فسيترك الناس سنة القرض وتموت من جراء ذلك العواطف الإنسانية ليحل محلها الانتهاز والربح. ولهذا كان الربا محرما في الشريعة الإسلامية المقدسة.(10)

 

الارتباط بين الأخلاق والاقتصاد في الإسلام

بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد المادي بون شاسع، واهم مفارقة بينهما هو أنّ الاقتصاد الإسلامي يعد مزيجاً من الأخلاق والأصول والمبادئ الإنسانية، بينما الاقتصاد المادي لا أنه خال من الأخلاق والعاطفة فحسب، بل إنَّ المصلحة المادية تعدّ المبدأ الحاكم على هذا الاقتصاد. وعلى هذا، فكل شيء يتعارض ويتضاد مع ذلك يُضحّى به لأجل المصالح المادية. إنَّ إنتاج المخدرات وعوائدها - الذي يعد أمراً يتمانع مع المبادئ الإنسانية ـ يعد أمراً ليس مهماً عند كثير من الدول وحتى تلك الدول التي تدعي مكافحتها لهذه الظاهرة وتعقد بين الحين والآخر مؤتمرات في هذا المجال، لها نصيب ليس قليلا في تجارة هذه المواد.

إنَّ مؤيدي ودعاة الاقتصاد المادي لا يكترثون من فساد جيل الشباب وتزلزل المبادئ الأخلاقية وتفكك العوائل وما يهمهم هو مصالحهم الذاتية.

إنَّ المتاجرة بالإنسان وبيع الأطفال رغم تمانعه مع جميع المبادئ الإنسانية يعد جائزاً عند دعاة حقوق البشر المزيفين ويعترفون بذلك بشكل غير علني.

مَن الذي وفَّر للعراق أسلحة الدمار الشامل والقنابل الكيمياوية والميكروبية والصواريخ بعيدة المدى والقنابل العنقودية وأمثالها، وذلك ليرتكب بواسطتها أبشع الجرائم في إيران الإسلامية؟ لماذا سكت دعاة حقوق البشر ولم يعترضوا على ذلك؟ لكنّهم رفعوا هتافات الاعتراض بمجرد أنْ هجم العراق على الكويت وحكموا عليه بضرورة نزع السلاح.

إنَّ سرّ هذه الازدواجية واضح؛ فإنَّ مصالح الدول الاستكبارية قد اقتضت يوماً أنْ يتسلح العراق بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً، وهذه المصالح ذاتها اقتضت يوماً أنْ يُنزع العراق أسلحته ليضمنوا بذلك مصالحهم. والملاك في كل ذلك هو مصالحهم المادية، أمّا المبادئ الإنسانية فمغلوب على أمرها.

المبدأ الحاكم على الاقتصاد الإسلامي هو الأخلاق، وينبغي أنْ تتم عملية كسب المصالح المادية تحت ضلّ حفظ القيم الأخلاقية، وعلى هذا الأساس حرّم الإسلام المعاملة التي تعد منشأً للفساد. وعلى سبيل المثال أنّ الإسلام إذا منع تأسيس مراكز للفحشاء أو حرّم بيع الشراب ولعب القمار أو تأسيس مصرف ربوي وغيرها فذلك لأجل أنَّ أموراً من هذا القبيل تعدّ منشأ للفساد الكثير، الأمر الذي لا يتناسب مع الأخلاق الإسلامية.

إنَّ القِيَم الأخلاقية التي تحكم الاقتصاد الإسلامي لها مبادئ عديدة نشير إلى بعض منها هنا:

الف - من المبادئ التي تحكم الاقتصاد الإسلامي هي خطاب الآية الشريفة: (لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) أي أنَّ المُعَامَلاتِ الاقتصادية ينبغي أنْ تنظم بشكل يخلو من الظلم لكلا الجانبين البائع والمشتري.

باء - كسب النفع ودفع الضرر العام; وعلى أساس هذا المبدأ، فإنَّ المصلحة الشخصية تكون ضحية المصلحة العامة. والبتّ بالأعمال التي يحتاجها المجتمع يعد واجباً، فاذا كان المجتمع بحاجة إلى معلمين، فعلى كل من يستطيع أن يبادر بهذا العمل.

ومن جانب آخر، أنّ الأعمال التي تضر المجتمع تعد محرمة في الإسلام رغم ما قد يكون فيها من مصلحة ومنافع شخصية، فبيع المسكر مثلا، وكذا النشاطات المتعلقة بهذا النشاط، محرم وممنوع ولهذا جاء في الروايات أنَّ غرس شجرة العنب لأجل صنع المسكر من ثمارها، وكذا سقيها وقطف ثمارها وحمله و.. هذا كله حرام.(11)

ويذكر هنا أنَّ المبادئ الأخلاقية لا تنحصر في الواجبات والمحرمات، بل تشمل حتى المستحبات والمكروهات. ومن هنا كان (تلقي الركبان) مكروها في الفقه الإسلامي. والمراد من تلقي الركبان هو انتظار القوافل خارج المدينة أو القرية والمباشرة بشراء بضاعة القوافل قبل معرفة أصحابها بقيمها في أسواق القرية أو المدينة.

وقد اعتبر بعض الفقهاء هذا العمل حراماً، إلاَّ أنَّ بعضهم الآخر اعتبره مكروها،(12) كما أنَّ اعمالا مثل بيع الكفن مكروهة، وذلك لأنَّ القائم بها يتطلع إلى موت الآخرين دائماً، وهذا أمر يسبب قسوة في القلب.

جيم - توجيه الرأسمال نحو الآخرة، و هذا المبدأ يستفاد من الآية 77 من سورة القصص، حيث قال الله تعالى: (وابْتَغِ فِيْمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخرةَ وَلا تَنْسَ نَصِيْبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأحْسِنْ كَمَا أحْسَنَ اللهُ إليْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأرْضِ إنّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ) .

وفقاً لهذه الآية، فإنَّ رأس المال يكون قيماً إذا ما صبّ في طريق الآخرة، وبتعبير آخر: المال الذي يسد الحاجة الدنيوية والحاجة الآخروية. وفي النهاية: أنَّ القِيَم الأخلاقية هي الحاكمة على الاقتصاد الإسلامي، بينما يفقد الاقتصاد المادي هذه القيم ويضحِّي أتْبَاع هذا المذهب كلَّ شيء لاجل المصالح الذاتية.

 

الاُسوة في القيم الأخلاقية

يُوصِي الإمام علي(عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر(13) بطبقات المجتمع من العسكريين والقضاة والعلماء والتجار والمزارعين والوزراء والمسئولين الحكوميين وغيرهم إلاّ أنَّه عندما يصل إلى الطبقة المحرومة يستخدم في حقهم تعابير لم يستخدمها في حق غيرهم، حيث يقول: «ثمّ الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى(14) والزّمنى(15) فإنّ في هذه الطبقة قانعاً(16) ومعتراً(17) و احفظ لله ما استحفظك(18) من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلاّت(19) صوافي(20) الإسلام في كل بلد، فان للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وكل قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر(21) فانك لا تعذر بتضييعك التافه(22) لأحكامك الكثير المهم. فلا تشخص همك(23) عنهم ولا تصعر خدك لهم(24) وتفقد امور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال ففرغ لأولئك ثقتك».(25)

ما أحسن هذا. إنَّه حديث جميل حقاً ! فهو كالشمس التي لا زالت تضيء رغم مضي أكثر من ألف سنة على عمره وكل يوم يزداد ضياؤه. أحسن قائل هذا الحديث أحسن وأحسن ألف مرة. إنه حديث أهل لأن يكتبه الحكام بماء الذهب ليجعلونه على رأس قائمة اعمالهم.

المدهش هو أنّ أسوة الأخلاق هذه، شخصية كانت حاكمة، ورغم ذلك توصي بالناس وبخاصة المستضعفين والمحرومين منهم خيراً. إنَّ رِجَال الدول الغربية حالياً يمثلون قدوة أخرى ونوع آخر من الحكام حيث يرتضون مقتل الآلاف من المحرومين لأجل مصالحهم المادية. انظر للمفارقات!

سؤال: قد يتمانع الحفاظ على القيم الأخلاقية مع التنمية الاقتصادية، فكيف يمكن الجمع بين هذه القيم والتنمية المطلوبة؟

الجواب: إنَّ نظامنا نظام قيمي، والمهم عندنا هو حفظ هذه القيم الأخلاقية، ونرى أنَّ الحفاظ على القيم لا يتمانع مع التنمية الاقتصادية، ومزجهما مع بعض سوف لا يؤدي إلى التخلف، بل إن الاقتصاد الذي لم يعتمد القيم الأخلاقية والذي ساد العالم أدّى إلى أضرار لا يمكن جبرانها.

ألم يكن هذا الاقتصاد غير القيمي هو السبب الأساس في نشوب الحرب العالمية الثانية؟ الحرب التي دمرت بعض الدول بالكامل وأنزلت ببعض آخر أضرارا جسيمة وأودت بحياة 30 مليون شخصاً و30 مليون معلولا، هذا بعض ما خلفته هذه الحرب وأودعته في ذاكرتنا. فهل الاقتصاد المتخلف - حسب تعبير اتباع المذهب المادي - أفضل أم الاقتصاد المتطّور؟!

ينبغي العلم أنَّ العالم لا يعمَّر ولا ينمو الا تحت ظل اقتصاد قيمي.

 

علي(عليه السلام) والهدية الليلية

بعد ما يذكر الإمام علي(عليه السلام) قصة أخيه عقيل عندما طلب منه شيئاً من بيت المال يقول في الذي أراد إرشائه لأجل قضية حقوقية ما يلي:

«.. وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة(26) في وعائها ومعجونة شنئتها(27) كأنما عجنت بريق حية أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة، أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت. فقال: لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية، فقلت: هبلتك الهبول!(28) أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط(29)أنت أم ذو جنة(30) أم تهجر،(31) والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أنْ اعصي الله في نملة أسلبها جلب(32) شعيرة ما فعلته وأنَّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها.(33) ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات(34) العقل وقبح الزلل.(35)

هل يُؤمن حالياً على العالم مع وجود زعماء يضحون بكرامة واعتبار بلدهم مقابل أمرأة ملوثة !! يا لها من مفارقات ؟ على كل مسلم أنْ يتعلم القيم ويدركها ويدير عنجلات الاقتصاد مع حفظه على تلك القيم في ذات الوقت.

 

البحوث التكميلية للآية

1- أكل الربا في عصرنا

كان أكل الربا في العصور الماضية محدوداً بأشخاص كانوا يسلفون الناس ويرجعون أموالهم بعد فترة من الزمن مع مقدار من الربح، إلاَّ أنَّ الأمر اختلف في عصرنا، فقد ازداد أكلة الربا، كما أنَّ رقعته اتسعت لتشمل الدول والشعوب ككل، فإنَّ الكثير أصبح يمارس هذا العمل القبيح حالياً.

بعض الدول التي تجيز لنفسها أكل الربا أوقعت بعض الدول الفقيرة في مخالبها بإعطائها بعض الديون، وقد باتت هذه الدول تصرف كل ما تجني من أرباح وعوائد وطنية لعلاج هذا المرض المتفاقم. ولأجل ذلك نرى أنَّ الفجوة بين الدول الفقير والغنية تزداد كل يوم، وإذا ما استمر الوضع هكذا فلا يبعد أنْ تعلن هذه الدول عن إفلاسها. وكمثال على ما نقول في مجال الربا هو الوضع المرتبك لاقتصاد دول جنوب شرق آسيا(36) فهو بسبب قضية أكل الربا.

ان اكلة الربا العالميين بسطوا لنا فخاً بعد الحرب المفروضة على إيران - التي خرج من امتحانها الشعب الإيراني الشجاع مرفوع الرأس - وذلك ببذلهم السخي للأموال والديون. ورغم أنَّهم لوثونا بعض الشيء بهذه الديون إلاَّ أنَّ المسئولين بحمد الله سرعان ما التفتوا إلى خطورة هذا السم الفتاك، وأوقفوا عملية اخذ الديون ودفعوا تدريجياً أقساط الديون لينقذوا بذلك بلدنا من هذا الفخ.

اضافة إلى النوع المذكور من الربا هناك نوع آخر من الربا هو أقبح وأسوأ حالا من سابقه، وهو الذي يعتمد رأس مال الناس، فإنَّ البعض إذا كانوا يبتّون بهذا العمل سابقاً وبأموالهم الشخصية تقوم حالياً البنوك (التي أموالها من الناس) بهذا العمل القبيح وهذا - قطعاً - يستتبع عذاباً اشد وأقسى من سابقه.

 

2- النشاط المصرفي اللاربوي هل هو ممكن؟

يعتقد البعض أنَّ عصرنا يستدعي اقتصاداً ربوياً ولا يمكن فيه أي نشاط من دون ربا، وحذف الربا عن النشاطات المصرفية يؤدي إلى ركود في العمليات المصرفية وركود في الاقتصاد في النهاية، وبعبارة أخرى: أنَّ الربا امتزج بالاقتصاد بشكل لا يمكن تفكيكهما.

هذا النوع من التفكير يطرح من قبل المفكرين المغتربين، باعتبار حاجة الدول الثرية إلى مبلغين لها في الدول الفقيرة; وذلك لأنَّ تفكيراً من هذا النوع يتطابق مع مصالحهم، رغم سقمه.

إنَّ البنوك الإسلامية لو عملت بالقرارات المصوبة في بلدنا ولو اطلعت الناس على محتويات هذه القرارات وكانوا اوفياء تجاهها فسوف تحل قضية الربا وسوف يفيد أصحاب روؤس الأموال من أموالهم، كما أنَّ البنوك نفسها ستستفيد وعجلة الاقتصاد ستتحرك.

من العقود الإسلامية - التي جاءت في قرارات البنوك - هو عقد (المضاربة)، وهو لا يختص بالتجارة(37) بل يشمل الاستثمارات في قطاع الصناعة والبيطرة والزراعة والخدمات وغير ذلك.

على أساس عقد المضاربة يودع الشخص رأس ماله عند البنك، والبنك يعين مستوى الربح على أساس العقد، بالطبع ينبغي ان يكون الربح نسبة من المنفعة لا من رأس المال. والمشتري يمكنه أن يوكل البنك في أن يتصالح على سهمه بنسبة معينة ليقبضه كل شهر. لكن يحسب مجمل الربح بعد انتهاء العقد، ثم يوكل البنك وكالة مطلقة لأنْ يستثمر الأموال في أي مجال أراد، وعلى البنك أنْ يعمل طبقاً للعقد.

وفي هذه الحالة فإنَّ مشكلة الربا منتفية رغم انتفاع صاحب رأس المال وانتفاع البنك اضافة إلى أنَّ عتلة الاقتصاد سوف لا تبقى ساكنة بل تعتمد تجارة سليمة وصحيحة.

ينبغي الالتفات إلى أنّه ينبغي تنفيذ العقود الشرعية. وانزالها على الورق دون العمل بها لا يغير شيئاً من الواقع وتبقى مشكلة الربا معضلة بلا حل.

حذف الربا من المصارف أمر ممكن بدليل أنَّ الربا كان رائجاً في صدر الإسلام وحرم بعد ظهوره رغم ذلك لم يحصل ركود اقتصادي وإشكالات من هذا القبيل.

 

3 - حكم الإيداعات والسلف

هل يحل للناس إيداع أموالهم في البنوك وأخذ الأرباح التي تترتب عليها؟ وما حكم السلف التي يمنحها البنوك لزبائنه ويأخذ عليها أرباحا نسبية؟

من المناسب قبل الإجابة على السؤالين ان نقدم مقدمة نطرح فيها فلسفة هذا النوع من الإيداع والسلف.

كثير من الناس يملك رأس مال وصله عن طريق الإرث أو العمل أو شيء من هذا القبيل، لكن لا يستطيع توظيف رأس المال هذا في المجال الاقتصادي، من جانب آخر هناك الكثير ممن له طاقة على توظيف الأموال ويحضى بقدرة إدارية جيدة مثل خريجي الجامعات من الشباب ذوي الطاقة والحوافز الجيدة.

يأتي هنا دور البنوك حيث يمكنها أنْ تلعب دوراً فاعلا، بأنْ تجمع بين رأس المال والطاقات والكوادر، فتأخذ الأموال من أصحابها وتسلفها للكوادر لتوظيفها في سبيل دفع عجلة الاقتصاد وتطلب من الأخيرين إرجاع الأموال من خلال أقساط. وفي هذا المجال تنال البنوك جزءاً من العوائد والارباح.

من جانب آخر تتمكن البنوك أخذ رؤوس أموال فاقدي القدرة على توظيفها، لتشترك في توظيفها واستثمارها، وترجع مقداراً من أرباحها إلى أصحاب روؤس الأموال.

وعليه، إذا تمت هذه المشاركة على أساس عقود شرعية فلا إشكال في شرعيتها.

ولأجل التحقق من هذا الأمر نوصي بالأمور التالية:

1- تعليم موظفي البنوك الأحكام والعقود الشرعية المتعلقة بالبنوك وإلزامهم بتنفيذ القوانين الخاصة في هذا المجال.

2- أن يقوم العلماء ومن له باع في الأحكام الشرعية الخاصة بالبنوك بتبيين المسائل الشرعية الخاصة بالبنوك وايضاحها إلى الناس بلغة بسيطة ويذكروا أخطار الربا ومواقف الإسلام الشديدة تجاهه.

3 - من المناسب أنْ توازن البنوك بين أرباح الإيداعات والسلف، ولا ينبغي أن تكون ارباح السلف أكثر من أرباح الإيداعات. كما أنّ عليها أن تحيي السنة الحسنة للإقراض وان تخطو في هذا المجال خطوات مؤثرة.

 

4 - آيات أخرى عن الربا

لأجل تكميل البحث نشير هنا إلى ثلاث آيات تعرضت لجزئيات الربا وأحكامه:

ألف - يقول الله في الآية 278 من سورة البقرة:

(يَا أيُّها الَّذينَ آمنُوا اتَّقُوا اللهَ وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إنْ كُنْتُم مُؤْمِنِينَ) .

إنّ بداية الآية خطاب للمؤمنين ونهايتها مشروط بالإيمان، ومعنى حسن المطلع وحسن الختام في الآية هو أنّ أكل الربا لا يتفق وروح الإيمان وأنَّ آكل الربا ليس مؤمناً.

 

شأن نزول الآية

بعض الأغنياء من المسلمين كانت لهم مطالبات ربوية ممن كانوا قد استلفوا منهم، ومن أولئك كان العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد. وعندما نزلت آية تحريم الربا تساءل هؤلاء البعض عن مصير أموالهم وأرباحها، فنزلت الآية محددة الحكم هنا في أنَّ لهم الحق في إرجاع أصل رأس المال دون ربحه ورباه. وقد قال الرسول(صلى الله عليه وآله) عندما نزلت آية تحريم الربا: «ألا أنَّ كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأوّل ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب»،(38) وهذا يكشف عن أنَّ الإسلام لا يرى قيمة للعلاقة السببية والنسبية مقابل القوانين والضوابط.

باء - يقول الله في الآية الأخرى من نفس السورة البقرة (279): (فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فأذنوا بِحَرْب مِنَ اللهِ وَرَسُولِه وإنْ تُبْتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أموالكُم لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظلَمُونَ) . (39)

ينبغي الالتفات هنا إلى أنَّ صدر الآية يشير إلى إعلان الحرب من قبل الله ورسوله لا من قبل آكلي الربا; وذلك لأنَّ (فأذنوا) تعني فاعلموا أو فأيقنوا، إلاَّ أنَّ الكلمة إذا قرئت (فآذنوا) - كما قرأها البعض، وهي قراءة غير معروفة - فانّ إعلان الحرب سيكون من قبل آكلي الربا.

جيم - الآية 280 من سورة البقرة: (وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٌ وأنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُم إنْ كُنْتُم تَعْلَمُونَ) .

أي على أصحاب رؤوس الأموال أن يمهلوا المعسرين والمحتاجين ولا يطالبوا بأموالهم..وإن كان حالهم متأزم فالأفضل أن يعتبروا أموالهم صدقة بذلوها لمستحقها.

من مجموع الآيات المذكورة يستشف أنَّ الربا عند الله إثم عظيم وخطر، وقد استخدم له القرآن تعابير لم يستخدمها في أيٍّ من الذنوب.   

ـــــــــــــ

1. عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) انه قال: ((رأيت مكتوباً على باب الجنة (الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر) فقلت: يا جبرئيل وَلِمَ ذلك والذي يتصدق لا يريد الرجوع والذي يقرض يعطي لان يرجعه ؟ فقال: نعم، هو كذلك ولكن ما كل ما يأخذ الصدقة له بها حاجة والذي يستقرض لا يكون إلا عن حاجة فالصدقة قد تصل إلى غير المستحق والقرض لا يصل إلاّ إلى المستحق، ولذا صار القرض أفضل من الصدقة)).

مستدرك الوسائل 13: 395، أبواب الدين والقرض الباب 6 الحديث 3.

2. الأنعام الآية 160.

3. شبه الربا بالزنا في كثير من الروايات، وللمزيد يمكنك مراجعة وسائل الشيعة ج 12 أبواب الربا، الباب الأول، الروايات 1 و5 و6 و18 و19 و21 و22.

4. والاحتمال الآخر هو أنه يراد من الخلود هنا الزمن الطويل لا معناه المتعارف.

5. نور الثقلين 1: 291.

6. إنَّ مسألة المعراج تعد من عقائد المسلمين، وقد عرج الرسول(صلى الله عليه وآله) إلى السماء عدة مرات، وللمزيد راجع تفسير الأمثل 8: 343 - 354، ومما يذكر هنا أنَّ جهنم والجنة التي شاهدهما الرسول كانتا برزخيتين.

7. وسائل الشيعة ج 12، أبواب الربا، الباب الأول، الحديث 16.

8. ميزان الحكمة، الباب 2448، الحديث 11108، وهناك روايات آخرى في نفس الباب تدل على المضمون ذاته.

9. وسائل الشيعة ج 12، أبواب الربا الباب 1، الحديث 3 والروايات 4و9و01و11 كلها تدل على نفس المضمون، كما أنه قد فسر صنائع المعروف في الحديث (11) من نفس المصدر بالقرض.

10. للمزيد راجع (ربا وبانكداري إسلامي) من سلسلة دروس سماحة آية الله مكارم الشيرازي في مجال البنك الإسلامي (بالفارسية).

11. وسائل الشيعة ج 21، أبواب ما يكتسب به، الباب 55، الحديث 3و4و5.

12. شرح اللمعة 1: 331.

13. الرسالة 53 من نهج البلاغة شرح صبحي الصالح; ويذكر أنَّ هذه الرسالة من أطول العهود، وتعد أوامر جامعة صدرت من الإمام علي(عليه السلام)خطاباً لا لمالك فحسب بل لجميع الرؤساء في الحكومات بلا قيد الزمان والمكان، وذلك لما تحضى به من حكمة وطراوة دائمة.

14. شدة الفقر.

15. جمع زمين وهو المصاب بالزمانة، أي العاهة، يريد أرباب العاهات المانعة لهم عن الاكتساب.

16. السائل.

17. المتعرض للعطاء بلا سؤال.

18. طلب منك حفظه.

19. ثمرات

20. أرض الغنيمة.

21. طغيان بالنعمة.

22. الحقير.

23. أي لا تصرف اهتمامك عن ملاحظة شؤونهم.

24. الإمالة إعجابا وكبراً.

25. تفريغ الثقة يعني جعل أشخاص يتفرغون للبحث عنهم لمعرفة أحوالهم يكونون ممن تثق بهم.

26. نوع من الحلواء أهداها الأشعث بن قيس إلى علي.

27. أي كرهتها.

28. هبلتك: أي ثكلتك، والهبول المرأة لا يعيش لها ولد.

29. أمختل نظام إدراكك؟

30. من اصابه مس من الشيطان.

31. أي تهذي بما لا معنى له في مرض ليس بصرع.

32. قشرة الشعيرة.

33. أي كسرته بأطراف أسنانها.

34. نوم العقل.

35. الزلل هو السقوط في الخطأ.

36. حيث حصلت أزمة شديدة في تلك الدول شلت اقتصادها عام 1418.

37. يختلف العلماء في هذا المجال، فبعض يرى اختصاص هذا العقد بالتجارة والآخر يراه شاملا لجميع القطاعات الاقتصادية.

38. مجمع البيان 2: 392.

39. يبدو من الآية أن آكلي الربا لا يجتنبون عن هذه الممارسة بالإرشاد والتبليغ لذلك كان على الحكومة الإسلامية أن تجبرهم على الامتناع عنها.

منقول من مركز آل البيت عليهم السلام العالمي للمعلومات


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1073
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 07 / 01
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19