• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المشرف العام .
              • القسم الفرعي : مقالاته .
                    • الموضوع : العمارة الإسلامية التماثل الديني والتعبير التوحيدي .

العمارة الإسلامية التماثل الديني والتعبير التوحيدي

الشيخ عبد الجليل المكراني

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى:

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(1).

إن مفهوم العمارة الإسلامية يقوم علی أساس التماثل الديني والتعبير التوحيدي، الأصل الأعلى الذي يحكم الثقافة الإسلامية .

 فالعمارة الإسلامية قائمة على التماثل الديني في بنيتها وتشكّلها، وعلى التعبير عن التوحيد والمفاهيم والمبادئ الإسلامية، فهی دينية في أصل تكوّنها، ولكن ربّما تستخدم لأغراض سياسية فتكون بين خصوصيتها الثقافية والسلطة القائمة عليها، وتودی شخصيتها، وتعتبر العمارة الإسلامية جزء من نسيج متشابك ينبع من الحضارة الإسلامية الحقيقية، وتعاليم الإسلام، الّتي تهدف إلى حفظ الدين والنفس والعرض والعقل.

العمارة الإسلامية فی المرحلة الأولى ولقد استفادت من جميع المآثر والآثار الحضارية التي كانت إلى جوارها، من قبيل سوريا والروم والبيزنطيين والإيرانيين من دون ترجيح لأحدها على الآخر، فلابدّ من القول بأنها فی الحقيقة تمثل تراث مختلف الملل ، وقد توحّد في بوتقة الإسلام، بعد أن منحه الإسلام وضوحاً عقلياً .

تعريف العمارة الإسلامية

قبل الحديث عن تعريف فن العمارة لابدّ أوّلاً من التفريق بين العمارة وفن العمارة، فالعمارة هی طريقة البنيان التي توقف لخدمة المجتمع عادة، كالسكن والعبادة والدراسة والأمن، ولذا فإنّ علاقتها بالبيئة كانت مرتبطة بخلاف فن العمارة، الذي يتحدث عن المبرز لتلك العمارة والمظهر لها، أي الإبداع التكوينی لتلك العمارة، وعندئذ يمكننا القول بأنّ فن العمارة الإسلامية هو ذلك الإبداع التكوينی والزخرفي، هو الذي ينطلق بتمثّل شخصية الهوية الإسلامية فی فن العمارة، والذي يتجلى في الصورة الخارجية فی زخارفها الهندسية، فی المآذن والقباب والمقرنصات، وكذلك فی تغطية الجدران كالجص والقيشاني.       

رائد فن العمارة الإسلامية         

إنّ الرائد لفن العمارة الإسلامية ـ في بعدها الديني والروحي ـ بحسب القراءة التوحيدية والواقعية الإسلامية هو النبی |، والذی تمثّل فی تلك اليد البسيطة المباركة فی بناء المسجد النبوی الشريف الذی كان فی وسط المدينة، ثم مشقت طرق رئيسية تصل المسجد بالضواحی ـ كما ذكرت ذلك الروايات التاريخية ـ إلى طريق يمتد من المسجد ويتجه غرباً حتى يصل إلى جبل (سلع)، وطريق من المسجد يخترق منازل (بنی عدّی بن النجار) ويصل إلى (قباء) جنوباً. وكان عرض الشارع الرئيسی سبعة أذرع، والذی يتفرع من خمسة أذرع، والأصغر من ثلاثة أذرع، وقد غطيت شوارع المدينة فی حينها بالحصى.

وروی عن (جابر بن أسامة) قال: لقيت رسول الله |بالسوق فی أصحابه فسألتهم أين يريد؟ فقالوا: اتخذ لقومك مسجداً، فرجعت فإذا قومي، فقالوا: خط هنا مسجداً، وغرز فی القبلة خشبة(2).

 وليس كما يقال رائد فن العمارة هو عمر بن العاص . نعم ربّما يقال برزت العمارة الإسلامية فی (مصر) على يد عمر بن العاص عندما فتحت على يديه.

خصوصيات المعمار الإسلامي

إنّ أهم الخصوصيات التي يجب أن تتوافر عليها شخصية المعمار الإسلامي هي الاعتماد على القيم والمبادئ الإسلامية، والتی تعتمد على استخدام حقوق الآخرين فی العيش بسلام آمنين، وعلى المقاصد العامة للشريعة، وقد كان للإسلام أثره الواضح والملموس فی صياغة الفكر لمعتنقيه والمنضوين تحت لوائه وصبغه بالصبغة الإلهية في مختلف المجالات في الحضارة الإسلامية.

وفي مجال العمارة فإنّ هذا الأمر قد جعل الفكر ينطلق ويبدع ويخطو خطوات عظيمة فی مجال الفن المعماری، حيث تفنّن المعماري المسلم في بناء المساجد، إضافة إلى تزيين القلاع والحصون.

هنا تساؤل

ثمة من يری أنّ الحياة فی المدينة تستلزم نوعاً من الحياة اللادينية، وذلك بسبب عصرنة الحياة المدنية، وإذا ما أخذنا هذا الواقع الاجتماعي بعين الاعتبار فهنا يطرح التساؤل: ما هو الحل بالنسبة للمجتمعات الإسلامية؟

 وهل أنّ لهذه الحقيقة الاجتماعية مصاديق فی مجتمعاتنا الحديثة؟

 ثم ما هی الحلول الإسلامية للتعايش الأخلاقي مع هذه الحوادث الطارئة علی مجتمعاتنا النامية؟

 وهل يمكن للتعاليم الإسلامية أن تتكيف مع المجتمعات المدنية الحديثة؟ فهذه وغيرها من التساؤلات التي يمكن أن تطرح في هذا المضمار.

والإجابة عن جميع ذلك :

إنّه يمكن للمجتمعات الإسلامية أن تحافظ على إطارها الأخلاقي والقيمي مع حفظ التعايش مع المجتمعات الحديثة؛  وذلك باعتبار أن التعاليم الإسلامية يمكنها أن تتكيف مع جميع المجتمعات الإنسانية على مختلف مستوياتها الثقافية والدينية والأخلاقية ونحوها، لأنّ الإسلام هو  دين لكلّ البشرية، فهو الدين الشامل لجميع الجوانب الحياتية للإنسان، وليس دين الخصوصية الفردية، ولذلك تجد امتداد الإمبراطورية الإسلامية من الهند وآسيا الوسطى شرقا إلى الأندلس وبلاد المغرب غرباً, ومن جنوب ايطاليا وصقلية شمالاً، حتى بلاد اليمن جنوباً.

 إن هذا الاتساع يمكن أن يمتد بامتداد الأفكار الصحيحة التی اعتمدها الإسلام، حتى فی بناء الغرفة ـ وهی التی تعلو الدور والأراضي، ثم تبرز عنه ـ التي منع منها الإسلام؛ لأنّها سبباً فی الاطلاع على عورات الجيران، وهذا ما حدث لعمر بن العاص حينما أدخل غرفة خارجية فی قصره، فاطلع الخليفة على ذلك، فقال له الخليفة الإسلامي اهدمها وانصب سريراً وأقم عليه رجل ليس بالطويل ولا بالقصير(3)، وذلك حفظاً على خصوصيات الآخرين، فالعمارة الإسلامية جزء من نسيج متشابك ينبع من الثقافة الدينية الإسلامية المبتنية على حفظ الدين والنفس والعرض والعقل.

الإسلام  والحياة المدنية

 إنّ من أبرز خصوصيات الدين الإسلامي، هو أنّه يدعو إلى تسامي الإنسان وتكامله في البعد الروحي والبعد المادي، وهذا ما تطلبه فطرة الإنسان،  فكما نجد أن الإسلام اهتم بطهارة الإنسان الروحية، كذلك نجده قد اهتم بطهارة البدن ونظافته، ولذا نجد أن الدول الإسلامية أحدثت في الجانب العمراني تطوراً  عمرانياً وبنائياً في الحواضر التي انبسطت سلطتها عليها , وقد شهد التاريخ الإسلامي مدنية متقدمة في عهوده الأولى و انطلق الوعي الإسلامي في هذا المجال من  خلال ذم القرآن الكريم للأعراب والحياة البدوية التي يعيشونها، وهنا امتزج البعد الروحي بالبعد المادي والشكلي.

نعم يمكن أن نعبر عن الإسلام بأنه دين المدنية، ويشهد لهذا الاتساع الفنون الإسلامية المختلفة، وكما قلنا سابقاً تارة بالانتشار والاتساع، وتارة بالفنون التی أوجدتها. وأمّا بالنسبة إلى ما ورد في القرآن الكريم من الذم الموجه للأعراب، فهو لا يرتبط ولا يتحدد بالمنطقة الجغرافية التی يستأهلها الأعراب بل تعبر عن منهجية فی التفكير , وهنا تجاوز التعبير التوحيدي المصداق المادي إلى المصداق الفكري والاعتقادي، فإنّ من كان في منأى عن الآداب والسنن التربوية الإسلامية التي تشكل سلوك الإنسان وتصوغ مضمون هذا السلوك فهو من الأعراب، وإن كان من سكان المدن، ويدلّ عليه الحديث المشهور المنقول عن الإمام الصادق (عليه السلام): (من لم يتفقه منكم فی الدين فهو أعرابي)(4)

 وأيضاً ما جاء فی (نهج البلاغة): (واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً)(5)

فتكون التسمية بلحاظ الفكر والمنهج والآداب لا المنطقة الجغرافية المعينة .

الرؤية القرآنية في البناء والتمدن

ليس القرآن الكريم كتابا هندسياً أو  معمارياً، بل أنّه كتاب الهداية والإرشاد، لكن القران الكريم ينطلق من الرؤية التوحيدية، والتي يجب أن تتجسد مختلف جوانب السلوك الإنساني، ولو جئنا إلى مسألة العمران نجد أن القرآن الكريم يتعامل معها من خلال البعد التوحيدي العبادي  فيعتبر العمران  نظام قيم، وعدم اعتباره ركون المال والثروة والتباهي بالقصور، هو المعيار فی التقييم، قال تعالى: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون * وزخرفاً وإن كل ذلك لمتاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين)(6)،  فهذه الزخارف و الأَسرة الفضية والسلالم الكثيرة والنقوش والقصور والبيوت الفخمة، ليست هی المعيار والمقياس لشخصية الإنسان ومقامه.

والبعد الآخر الذي يشكل الرؤية القرآنية في هذا المجال، أن تكون المنازل والبلدة مثالاً للترابط الاجتماعی والاقتصادي؛ مما يحفظ  الوحدة الاجتماعية في إطار التعبير التوحيدي الإلهي، وقد أشار القرآن الكريم  لهذا المضمون فی قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين * وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون)(7) ولقد انطوى هذا الأمر الرباني على مصالح وفوائد وأهداف مهمّة  في حركة الجماعة المؤمنة، التي كانت مع موسى وهارون(عليهما السلام)، وأهم الفوائد المترتبة على ذلك:

1- أنّهم بتملكهم المساكن فی بلاد مصر، سيشعرون برابطة أقوى تدفعهم للدفاع عن أنفسهم.

2- أمرهم موسى(ع) أن يبنوا بيوتهم متقاربة، ويقابل بعضها الآخر، ويؤدي هذا العمل إلى تمركز بنی إسرائيل بشكل فاعل، ويكون سبباً لأداء المراسم الدينية والشعائر الأخرى، وهو ما ربّما يسمى مرحلة البناء من أجل الاستقلالية، ومن أجل الثورة على الظلم والجور.

وكما أنّه هناك آيات أخرى يستفاد منها وصايا القرآن في هندسة العمارة الإسلامية والدينية عموما.

فقه البنيان 

 لقد اعتمد علماء الإسلام فی تناولهم أحكام البنيان على الآيات والأحاديث، وسمّوا ذلك بـ (فقه البنيان)، وعلى بعض الأعمال العمرانية التی قام بها الرسول (صلى الله عليه وآله) وعلى عرف المتشرعة(8) ومن تلك القواعد التی اعتمد عليها، قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)(9).

فالرؤية القرآنية التي تكلّمنا عنها في حفظ الوحدة الاجتماعية، وعدم التعدي على حقوق الآخرين، هي الحاكم في مسألة العمران والبناء في الرؤية الإسلامية، ففي الحديث الوارد عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) في خبر المناهي قال النبي(صلى الله عليه وآله) : ((من بنى بنياناً رياء وسمعة حمله يوم القيامة من الأرض السابعة ، وهو نار تشتعل ، ثم يطوق في عنقه ويلقى في النار ، فلا يحبسه شيء منها دون قعرها إلاّ أن يتوب ، قيل : يا رسول الله كيف يبنى رياء وسمعة ؟ قال : يبنى فضلاً على ما يكفيه ، استطالة منه على جيرانه ، ومباهاة لإخوانه))(10)

 ولا نقول أن الإسلام نهى عن الدار الوسيعة؛ لأنّ النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) يقول: (من سعادة المسلم المسكن الواسع)(11)

إشكال وجواب

لقائل أن يقول: إنّ التراث المعماری الإسلامی قد بنی علی خلفيات فكرية صوفية، أو ثقافات أخلاقية متشددة لا تنتمی إلى الإسلام من قريب ولا بعيد؟

الجواب: إنّ الإسلام اهتم بالثقافة المعمارية كغيرها من القضايا التي تخدم حركة التكامل الإنساني .

لكن العمارة الإسلامية لم تكن كما فی الأديان الأخرى، كالفن المسيحي والفنون القديمة ـ كالمصرية والرافديّة ـ وغيرها والتی اعتمدت على إظهار التقديس من خلال فن العمارة، كالذي حصل فی الفن المسيحی، حيث وصلت الصورة الايقونية إلى درجة عالية من التقديس، بل أصبح البيزنطيون يعبدون الإيقونات فی زمانهم، بخلافه فی الإسلام فإنّها تعتمد على الفكر السليم الحقيقی للعبودية.

لم يكن الحجر أو الصورة يوماً مقدساً بذاته في الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي عموما بقدر ما كان يخدم الهدف الأسمى، وهو توحيد المطلق والمتعالي، وهو الله تعالى.

 نعم ربّما أوجد هذا التوهم أمر ما، نتيجة لتصوير بعض المصورين، الذين يسعون إلى إرضاء السلطات الحاكمة، فتكون فيها بعض الصفات التي يهدف بها الفنان إلى إرضاء السلطة، التی ربّما تعتمد على التصوف، أو على أفكار خاطئة، أو أنّه راجع إلى نظرية مادية باطلة وهی نظرية العوامل الجغرافية القائلة بأن العامل الجغرافي عامل مؤثر فی بناء المحتوى الداخلي للإنسان، ومن ثم تعتبره العامل الأساس لتأريخ الأمم والشعوب.

 مفهوم العمران الإسلامي ديني لا سياسي  

 العمارة الإسلامية قائمة على التماثل الديني والتعبير عن التوحيد، والمفاهيم والمبادئ الإسلامية دينية بهذا المعنى، ولكنّها ربّما تكون سياسية بين البعد الثقافي ومقتضيات السلطة القائمة عليها كما في العصر الأموي والعباسي، لكنّها تحتفظ بمضمونها وشخصيتها.

 ومن الأشياء التی لابدّ الالتفات إليها هنا، أنّ الذي يلحظ الحضارات البشرية، فإنّه يرى انه لا تكاد هناك حضارة من الحضارات وجدت إلا وقد اقتبست من غيرها، قلّ أو كثر، وهو ما يعبر عنه بالتفاعل الحضاري والتواصل المعرفي الإنساني، وهذا ما حصل في الإسلام من اقتباس الفن الإسلامي من العمارة البيزنطية والساسانية، لكنّه لم يكن اقتباساً ساذجاً ولا تقليد حرفياً أعمى، بل أضاف إليه المعمار الإسلامي وعدّل وطوّر في هذا الاقتباس وفق ما يتماشى مع ذوقه الإسلامي النابع من أيديولوجيّته التوحيديّة.

 وأن تكون الهندسة العمرانية فی البلاد الإسلامية مقتبسة من المضمون الديني الإسلامي، فذلك دليل على أنّها مقتبسة من الفكر الإسلامي، كمسألة القباب والمآذن وما تحكيه فی جعلها، لكن هذا لا يمنع التطور من أجل الوصول إلى الهدف التكاملی بما لا يخرجها عن الهوية الحقيقية إلى الهوية المستعارة، وهذه كغيرها من الأمور الأخرى التی تخرج المسلم عن فكره الإسلامي وهويته الحضارية الإسلامية إلى أفكار علمانية، أو غيرها من الأفكار والثقافات البعيدة عن الإسلام.

 نعم هناك مشتركات في الهندسة الإسلامية والهندسة العمرانية للأديان الأخرى، وهذه المشتركات قائمة على التأثر بفكر الدين والإيمان، ولذلك نجد البيوت التی للسكنى أو للعبادة أو مدافن الموتى، فإنّ طابعها العمراني  مستمدّ طابعها العمرانی من الميراث الديني، بل حتى الأديان الأخرى كالفرعونية ـ التي عبد أهلها الشمس ـ نجد أثارهم فی صور الشمس (آمون)، والحضارة الإغريقية ـ فی حضارتها الوثنية فی الأوثان ـ نجد حضارتها الوثنية في الأوثان   المنحوت.

ويبقى أن نشير إلى أن المدن الإسلامية قد اصطبغت في بعض الحقب التأريخية بالثقافة الدخيلة لبعض الشعوب التي جاورها المسلمون، أو شعوب دخلت الإسلام لكنها لم تنصهر فيه وربما قد حصل هذا في العصر الأموي، ففي الوقت الذي أُعيِدَ فيه بناء المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، بطريقة تشير إلى طراز العمارة المسيحية، لكنه أضيفت الكتابة العربية، وأجزاء من القران الكريم والأحاديث الشريفة.

 مقومات مظهر العمران الإسلامي

  رسم لنا ابن خلدون فی مقدمته صورة عن مقومات العمران الإسلامي، وذلك من خلال اعتبار  المسجد، والسوق والحمام هي المقومات العمرانية الأساسية لبناء المدينة، ويمكن قبول هذا التصنيف لان ذلك يمثل  بالنظر إلى أنّ الهندسة قائمة على الفن المبرز للإبداع التكويني لتلك العمارة.

فابن خلدون يعتقد أن للتعاليم الدينيّة ـ بالإضافة إلى العوامل الاقتصاديّة ـ أثر بليغ فی بناء المدن وهناك عدّة  نماذج يمكن أن تذكر من هذا التأثر، ومن تلك النماذج  المغرب العربي الذي حصل فی القرن السادس بسبب الفكر الحقيقی الصحيح أن يكون عمرانه متصلاً من البحر الأحمر إلى بلاد السودان فی طول ما بين السوس الأقصى وبرقة ومصر وغيرها، وبسبب البعد عن الفكر الصحيح، ودخول فكر التحزب والهوية والاستقلالية، أصبحت أكثرها قفار وصحار إلاّ ما هو منها بسيف البحر، أو ما يقاربه من التلول.  

وقد يقال: أن وجود المراقد و المزارات الدينية في مدينة ما بحد ذاته، دليل علی إسلامية الهندسة العمرانية فی تلك المدينة.

لكنا نقول: لا يمكن اعتبار وجود المراقد والمزارات الدينية فی مدينة ما بحد ذاته دليل على إسلامية المدينة وهندستها، ما لم تؤثر أو يؤثر ذلك المزار، ولقد قلنا إنّ العمارة إنّما تحكيها وتبرزها تلك الإبداعات والزخارف، التي تحكی ما هو فی داخلها من مفاهيم اجتماعية ودينية.

 خصائص المجتمع الإسلامي والمدنية المعاصرة

 يقول البعض إنّ الحفاظ على مزايا الخلق والأدب الإسلامي لا يمكن إلاّ بعيداً عن الدينية والحياة المرفهة وذلك ما يكون في القرى والأرياف حفظاً على هوية المسلم وخصائصه الأخلاقية، لكن هذا زعم باطل لأنّ الخصائص الإسلامية الخلقية أو الثقافية يمكن أن تنطبق في جميع البلدان بمعرفة ما تحكيه تلك الخصائص من مقاصد عامة تفيد جميع المجتمع لأنّ الثقافة الإسلامية كالبدن في تعاون أعضائه كلّها تقيم حياة الإنسان.

إن الإسلام هو آخر الأديان السماويّة، الذی جاء مكملاً ومنقحاً للأديان التی قبله، والتی سبقته فيه الخصائص الروحيّة والفضائل، التي تكفي لإسعاد البشرية فی هذا العالم المتمدن ولكن (لو أخذ بتعاليمه حرفياً ) والآن لا توجد قرية أو مدينة، فالعالم أصبح مدينة، أو تربة صغيرة بسبب التطور العلمی. 

ومن هنا فما يقوله البعض  "إن عصرنة الهندسة المدنية وإتباع منهج عالمي موحد فی هندسة بناء المدن هو بمثابة الإجهاز علی العمران الإسلامي ".. غير صحيح ؟!

لأنه لا يمكن إتباع منهج عالمی موحد فی هندسة بناء المدن، حتى يكون سبباً للإجهاز على العمران الإسلامي وذلك بسبب اختلاف المعالم حتى أن الإسلام لم يتخذ طريقة واحدة؛ لأنّه يختلف بسبب اختلاف معالم كل بلدة، فهذا لا يمكن أن يكون سبباً للإجهاز على الحركة العمرانيّة الإسلاميّة

 إن قلة  معرفة المسؤولين فی الدول الإسلامية بالعمارة والنظام الإسلامي، واعتقادهم غالباً بأنّه نظام غير قابل للتطبيق فی العصر الحالی أدّى إلى التخلي عن العمران والهندسة الإسلامية، مما سبب في اختفاء معالم العمران الإسلامي في أكثر البلدان الإسلامية، كما أننا نلاحظ عدم التنسيق بين المسؤولين في الدول الإسلامية مع علماء الدين والاستعانة بهم وبالمعنيين بهندسة عمران المدن فی الوقت الحاضر. كما أنّه لا يمكن الاعتماد على الخلفيات التاريخية لتلك المدن فقط لأنّها لا يمكن وحدها أن تكون عاملاً فی تطوير وهندسة المدينة بل لابدّ من وجود الحضارة بجميع مقاصدها، والتی تتجسد فی إظهار مقاصد تلك الحضارة الإسلامية.

الفوارق والمشتركات بين المدينة الإسلامية والمدينة الفاضلة

لقد حاول الفارابي في مدينته الفاضلة أن يحدد معالم تلك المدينة لتكون خاصّة بالمسلمين، من خلال رؤيته الفلسفية وخلفيته الفكرية لذلك .

لكننا نقول : إنّ المدينة الإسلامية تعتمد على أصول ومقاصد نابعة من الفطرة، بخلاف التی تعتمد عليها المدينة الفاضلة من تشبيهها بالبدن وتجسيد أجزاء البدن للمدينة الفاضلة بقضايا فلسفية، والمدينة التي رسمها الفارابي غير مختصة بالمدينة الإسلامية، ولكن لا يمكن تجسيدها إلاّ بالمقاصد الإسلامية.

اقتبس الفن الإسلامي من العمارة البيزنطينية والساسانية، لم يكن اقتباساً ساذجاً ولا تقليد حرفياً أعمى، بل أضاف إليه المعمار الإسلامی وعدل وطوّر في هذا الاقتباس وفق ما تمليه عليه تعاليم الإسلام ومن هنا نقول : إنّ الإسلام الدين الإلهي الخاتم بإمكانه أن

يؤسس  للمدينة البشرية  الإسلامية المطلوبة والمرجوة والتي  تعمل علی تعالی الفكر البشری و تعمق التأملات الروحية عند قاطنيها؛ لأنّ الإسلام بما يحوية من واقعية مثالية لجدير بأن يكون ديناً وحضارة للإنسانية ، فكما أنّ الإنسان بحاجة إلى الطعام والشراب واللباس والمسكن فهو محتاج إلى الإيمان الذی يعتبر كالطعام و المسكن للروح البشرية، بل أعظم من ذلك لأن الإسلام لم يلحظ العلاقة بين المبانی علاقة جامدة بل دخلت أيضاً في تحديد سلوك الساكنين وتصرفاتهم

 المدن الإسلامية والعمران الإسلامي

لعلّ أقرب المدن الإسلامية فی عصرنا الحاضر وفق المقاييس الهندسية الإسلامية، هي بلاد تركيا والمغرب وبالخصوص مدينة القيروان والأندلس.

كما يمكن جعل مصر نموذجاً للهندسة المعمارية الإسلامية، وذلك بسبب التطوّر الذي حصل فيها عبر العصور والأزمنة المختلفة من بداية دخول الإسلام ووصولاً إلى القرن العشرين، كالعمارة الإسلامية فی بداية عصرها والعصر الفاطمی والأيوبي والمماليك الأتراك البحرية والبرجية والعصر العثماني، وعصر محمد علي باشا.

ـــــــــــ

(1) الروم / 9.

(2) الإصابة لابن حجر، 1: 541

(3) فتوح مصر وأخبارها: 202.

(4) الكافي، الكلبي، 1 : 31.

(5) نهج البلاغة, خطبة القاصعة

(6) الزخرف : 34 ـ 35.

(7) يونس: 87 ـ 89.

(8) جواهر الكلام لمحمد حسن النجفي 38: 36ـ 37.

(9) الأراضي للشيخ الاصفي: 301.

(10) بحار الانوار73: 149.

(11) بحار الأنوار 73: 152.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1056
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 06 / 17
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24