• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء التاسع عشر ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة التكوير من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 441 ـ 472 ) .

سورة التكوير من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 441 ـ 472 )

[441]

سُورَة التَّكوِير

مَكيَّة

وعددُ آياتِها تِسع وَعشرُونَ آية

[443]

 

«سورة التكوير»

محتوى السورة:

كثير من القرائن المختلفة في السورة تدل على أنّها مكّية: نسبة الجنون إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل أعداء الإسلام، وهذا ما كان يحدث كثيراً في مكّة، خصوصاً في بداية الدعوة المحمّدية، لتصور الأعداء أنّهم بافتراءتهم تلك سيصرفون أنظار الناس عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته الإلهية.

وعلى أيّة حال، فالسورة تدور حول محورين أساسيين:

المحور الأوّل: هو ما شرعت به السورة من تبيان علائم يوم القيامة، وما يواجه العالم من تغييرات قبيل يوم القيامة.

المحور الثّاني: الحديث عن عظمة القرآن ومَن جاء به، وأثره على النفس الإنسانية، بالإضافة إلى تكرار اليمين والقسم في آيات عدّة لإيقاظ الإنسان من غفلته.

فضيلة السورة:

وردت أحاديث كثيرة تبيّن أهمية السورة وفضل تلاوتها، ومنها: ما روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ سورة: (إذا الشمس كورت) أعاذه اللّه تعالى أن يفضحه حين تنشر صحيفته»(1).

______________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص441.

[444]

وفي حديث آخر، أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «مَنْ أحبّ أنْ ينظر إليّ يوم القيامة فليقرأ: (إذا الشمس كورت)»(1).

وروي الحديث بشكل آخر: «مَنْ سرّه أنْ ينظر إلى يوم القيامة (كأنّه رأي عين) فليقرأ: (إذا الشمس كورت) و(إذا السماء انفطرت) و(إذا السماء انشقت)». (لأنّ هذه السور تعرض علائم يوم القيامة وأحداثه بشكل وكأنّ التالي لها يشاهد يوم القيامة بعينه).(2)

وفي حديث آخر، سُئل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن ظهور آثار كبر السن عليه، فقال: «شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتسائلون وإذا الشمس كورت».(3)

وعن الإمام الصّادق(عليه السلام) أنّه قال: «مَنْ قرأ عَبسَ وتولّى وإذا الشمس كوِّرت كان كان تحت جناح اللّه من الخيانة وفي ظلّ اللّه وكرامته، وفي جنانه، ولا يعظم ذلك على ربّه إنْ شاء اللّه» .

وتلاوة القرزآن المقصودة في الأحاديث أعلاه، ينبغي أن يكون بشروطها من: التاأمل، الإيمان، والعمل.

* * *

______________________________

1 ـ المصدر السابق.

2 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص7017، ويحتمل أن يكون معنى هذا الحديث شامل للحديث السابق.

3 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص513.

[445]

الآيات

إِذَا الشَّمْسُ كُوِرَتْ(1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ(2) وَإِذَا الجِبَالُ سُيِّرَتْ(3) وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ(4) وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ(5) وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ(6) وإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ(7) وَإِذَا المَوْءُدَةُ سُئِلَتْ(8) بِأَىِّ ذَنْب قُتِلَتْ(9)

التّفسير

يوم تطوى الكائنات فيه!

نواجه في بداية السورة، إشارات قصيرة، مثيرة ومرعبة لما سيجري لنهاية العالم المذهلة ـ بداية يوم القيامة ـ، فتنقل الإنسان في فكره وأحاسيسه إلى مفاجآت ذلك اليوم الرهيب، قد تحدثت تلك الإشارات عن ثمانية علائم من ويوم القيامة.

وأول مشهد عرضته عدسة العرض القرآني، هو: (إذا الشمس كورت).

«كورت»: من (التكوير)، بمعنى الطي والجمع واللّف (مثل لف العمامة على الرأس)، وأُخذ هذا المعنى من كتب اللغة والتفسير والمختلفة.

واستعملت كذلك بمعنى: (الرمي) أو (إطفاء شيء).. والمعنيان ـ كما يبدو ـ

[446]

مستمدان من المعنى الأصلي.

وعلى أيّة حال، فالمقصود هو: خمود نور الشمس وذهابه، وتغيّر نظام تكوينها.

وكما بات معلوماً... فالشمس في وضعها الحالي، عبارة عن كرة مشتعلة، على هيئة غازية ملتهبة، وتتفجر الغازات على سطحها بصورة شعلات هائلة محرقة، قد يصل إرتفاعها إلى مئات الآلاف من الكيلو مترات!

ولو قُدّرَ وضع الكرة الأرضية وسط شعلة منها، فإنّها تستحيل فوراً إلى رماد وكتلة من الغازات!!

ولكن... عند حلول وقت نهاية العالم، والإقتراب من يوم القيامة، سيخمد ذلك اللهب المروع، وستجمع تلك الشعلات، فيطفأ نور الشمس، ويصغر حجمها... وهو ما اُشير إليه بالتكوير.

وجاء في (لسان العرب): (كورت الشمس: جمع ضوءها ولف كما تلف العمامة).

وقد أيّد العلم الحديث هذه الحقيقة، من خلال اعتقاده وبعد دراسات علمية كثيرة، بأنّ الشمس تسير تدريجياً نحو الظلام والإنطفاء.

ويأتي المشهد الثّاني: (وإذا النجوم انكدرت).

«انكدرت»: من (الإنكدار)، بمعنى السقوط والتناثر، واشتق من (الكدورة)، وهي السواد والظلام.

ويمكن جمع المعنيين في الآية، لأنّ النجوم في يوم القيامة ستفقد إشعاعها وتتناثر وتسقط في هاوية الفناء، كما تشير إلى ذلك الآية (2) من سورة الإنفطار: (وإذا الكواكب انتثرت)، والآية (8) من سورة المرسلات: (وإذا النجوم طمست).

والمشهد الثّالث: (وإذا الجبال سيّرت).

[447]

وقد ذكرنا مراحل فناء الجبال، إبتداء من السير والحركة وانتهاء بتحولها إلى غبار متناثر (فراجع تفسير الآية (20) من سورة النبأ).

وثمّ يأتي درو المشهد الرّابع: (وإذا العشار عطّلت).

«العشار»: جمع (عشراء)، وهي الناقة التي مرّ على حملها عشرة أشهر، فأضحت على أبواب الولادة، بعدما امتلأت أثداؤها باللبن.

وهي من أحبّ وأثمن النوق لدى العرب زمن نزول الآية المباركة.

«عطلت): تركت لا راعي لها.

فهول ووحشة القيامة، سينسي الإنسان أحبّ وأثمن ما يمتلكه.

وقال العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان: وقيل: العشار، السحاب تعطل فلا تمطر. أي: إنّ الغيوم ستظهر في ذلك اليوم، ولكن لا تمطر (ويمكن أن يكون الغيوم ناشئة من الغازات والمختلفة، أو تكون غيوماً ذرية، أو طبقات من الغبار الناتج من تدمير الجبال.. وكلّ ذلك لا تمطر).

ويضيف الطبرسي قائلاً: قال الأزهري: لا أعرف هذا في اللغة.

وثمّة علاقة بين ما ذهب إلى الشيخ الطريحي في (مجمع البحرين) بقوله: العشار: بمعنى الناقة الحامل ثمّ اُطلق على كلّ حامل، وبين إطلاقها في الآية. فلا غيوم غالباً ما تكون محملة بالأمطار، ولكن الغيوم التي ستظهر في السماء على أعتاب ذلك اليوم سوف لا تكون حاملة بالمطر ـ فتأمل.

وقيل: «العشار»: هي البيوت أو الأراضي الزراعية التي ستتعطل بذلك اليوم، وستخلو من الناس والزراعة.

وأشهر ما فسّرت به الآية هو التفسير الأوّل.

وينتقل المشهد الخامس إلى الوحوش: (وإذا الوحوش حشرت).

فالحيوانات الوحشية التي تراها في الحالات العادية تبتعد الواحدة عن الأُخرى خوفاً من الافتراس والبطش، ستراها وقد جمعت في محفل واحد، وكلّ

[448]

منها  لا يلتفت إلى ما حوله لما سيطاب به من رهبة وأهوال ذلك اليوم الخطير، وكأنّها تقصد من اجتماعها هذا التخفيف عن شدّة خوفها وفزعها!!

ونقول: إذا اضمحلت كلّ خصائص الوحشية للحيوانات غير الأليفة نتيجة لأهوال يوم القيامة، فما سيكون مصير الإنسان حينئذ؟!

ويعتقد كثير من المفسّرين بأنّ الآية تشير إلى حشر الحيوانات الوحشية في عرصة يوم القيامة لمحاسبتها على قدر ما تحمل من إدراك، ويستدلون بالآية (38) من سورة الأنعام على ذلك، والتي تقول: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلاّ اُمم أمثالكم ما فرّطنا في الكتاب من شيء ثمّ إلى ربّهم يحشرون)(1).

وما يمكننا قوله: إنّ الآية تتحدث عن علائم نهاية الدنيا المهولة، وبداية عالم الآخرة، وعليه.. فالتّفسير الأوّل أنسب.

وتُصَوّرُ البحار في المشهد السادس: (وإذا البحار سجّرت).

«سجّرت»: من (التسجير)، بمعنى إضرام النّار.

وإذا خالج القدماء التعجب والإستغراب لهذا الوصف القرآني، فقد بات اليوم من البديهيات الكسبية، لما يتركب منه الماء من عنصري الأوكسجين والهيدروجين، القابلات للإشتعال بسرعة، ولا يستبعد أنْ يوضع الماء ـ في إرهاصات يوم القيامة ـ تحت ضغط شديد ممّا يؤدي إلى تجزئة وتفكيك عناصره، وعندما سيتحول إلى كتلة ملتهبة من النّار.

وقيل: «سجّرت»: بمعنى (امتلاءت)، كما يقال للتنور الممتليء بالنّار (مسجّر)، وعلى ضوء هذا المعنى، يمكننا أنْ نتصور امتلاء البحار ممّا سيتسبب من الزلازل الحادثة وتدمير الجبال في إرهاصات يوم القيامة، أو ستمتليء بما

______________________________

1 ـ بحثنا موضوع حشر وحساب الحيوانات في هذا التفسير ذيل الآية (38) من سورة الأنعام، فراجع.

[449]

يتساقط من أحجار وصخور سماوية، فيفيض ماؤها على اليابسة ليغرق كلّ شيء.

ويأتي درو المشهد السابع: (وإذا النفوس زوجت).

فتبدأ المآلفة بخلاف حال الدنيا... فالصالحون مع الصالحين، والمسيؤون مع المسيئين، وأصحاب اليمين مع أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال مع أصحاب الشمال، فإذا ما جاور المؤمن مشركاً، أو تزوج الصالح من غير الصالحة في الحياة الدنيا، فتصنيف يوم لقيامة غير ذلك، فهو يوم الفصل الحق.

وثمّة احتمالات اُخرى، منها:

ردّ الأرواح إلى أجسادها..

زواج الصالحين بالحور العين..

قرن الضالين بالشياطين...

لحوق الإنسان بحميمه، بعد أنْ فرّق الموت بينهما..

قرن الإنسان بأعماله.

والتفسير الأوّل أقرب، بدلالة الآيات (7 ـ 11) من سورة الواقعة: (وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون اُولئك المقرّبون).

فبعد أنْ تحدثت الآيات السابقة لهذه الآية عن ستة تحولات، كمقدمات يوم القيامة، تأتي الآية أعلاه لتخبر عن اُولى خطوات يوم القيامة، المتمثلة بالتحاق كلّ شخص بقرينه.

ونصل إلى المشهد الثّامن: (وإذا الموءودة سئلت بأىّ ذنب قتلت).

«المؤءودة»: من (الوأد) على وزن (وعد)، بمعنى دفن البنت حيّة بعد ولادتها.

وقيل: الوأد بمعنى الثقل، وتوسع معناه (لما ذُكِر)، لما فيه من دفن البنات في

[450]

القبر وإلقاء التراب عليهن.

وأطلق الأئمّة الأطهار(عليهم السلام) مفهوم الوأد، ليشمل كّل قطع رحم وقطع مودّة... حينما سُئل الإمام الباقر(عليه السلام) عن معنى الآية، قال:«مَنْ قتل في مودّتنا».(1)

وفي رواية اُخرى: إنّ الدليل على ذلك هو آية القربى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى)(2).

ولا شك أنّ التفسير الأوّل ينسجم مع ظاهر الآية، ولكن المفهوم والملاك قابلان للتوسع والشمول.

* * *

ملاحظات

1 ـ وأد البنات

تعتبر عادة (الوأد) ـ والتي أشار إليها القرآن الكريم مراراً ـ من أقبح جرائم وعادات عصر جاهلية ما قبل الإسلام.

وإذا كان البعض قد حصرها في قبيلة (كندة) أو بعض القبائل الصغيرة المتناثرة هنا وهناك دون بقية القبائل العربية الاُخرى، فالمسلم به إنّها كانت من الشيوع بحيث تناول القرآن الكريم ذكرها لأكثر من مرّة وبتأكيد شديد.

ولكنْ، حتى مع افتراضنا لندرة هذا العمل القبيح، فإنّه من القباحة والشناعة ما يدعونا لبحثه ودراسته...

يقول المفسّرون: كانت المرأة في الجاهلية إذا ما حان وقت ولادتها، حفرت حفرة وقعدت على رأسها، فإن ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت غلاماً حبسته، وقال شاعرهم مفتخراً:

______________________________

1 ـ تفسير البرهان، ج4، ص432، ح 11.

2 ـ المصدر السابق، ح7.

[451]

سميتها إذا ولدت (تموت) والقبر صهر ضامن ذميت(1)

وثمّة أسباب كثيرة وراء هذه الجريمة البشعة، منها:

إحتقار المجتمع الجاهلي للمرأة...

وجود الفقر الشديد في تلك الحقبة الزمنية، والمرأة كانت مستهلكة غير منتجة، إضافة لعدم اشتراكها في الغارات التي تقوم بها القبيلة لتوفير لقمة العيش.

الخوف من وقع النساء أسرى في شباك الأعداء، نتيجة للمعارك التي كانت دائرة على الدوام بين القبائل، لأنّ في هكذا أسر جرح للشرف وإذلال شديد.

وتجمعت هذه الأسباب (بالإضافة لأسباب اُخرى) فأدت إلى ظهور عادة (الوأد) الوحشية بين أفراد القبائل في ذلك العصر القابع تحت ظلام الجهل المقيت.

وممّا يؤسف له، إنّ جاهلية القرون الأخيرة قد كررت تلك الممارسات البشعة وبصور اُخرى، حتى وصل ببعض الدول تدّعي التمدن والتحضر لأنّ تقنن وتقرّ (حرية) إشقاط الجنين! نعم، فالحال واحدة.. فإذا كان أهل الجاهلية الاُولى يقتلون البنت، فمتمدني هذا العصر يقتلون الأطفال وهم في بطون اُمهاتهم (بنتاً أو ابناً)!!

وللحصول على تفاصيل هذا الموضوع، راجع ذيل الآية (59) من سورة النحل.

2 ـ أهمية المرأة في الإسلام

بإمكان أنْ نستشف مدى اهتمام الإسلام بالمرأة وبالدم الإنساني (خصوصاً دم الأبرياء)، من خلال اهتمام الباري جلّ شأنه بمسألة وأد البنات، ويكفي

______________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص444.

[452]

القرآن الكريم دلالة على أنْ قدّم ذكر بحث مسألة الوأد في محكمة العدل الإلهي يوم القيامة على مسألة نشر صحف الأعمال وبقية المسائل الاُخرى، لما فيها من قباحة وشناعة في حق المرأة كإنسانة لها حقّ الحياة كما للرجل من حقّ.

3 ـ مَنْ الإنسان.. المؤءودة أمْ الوائد؟

لو أمعنا النظر في اُسلوب كلام الآية، لرأينا أنّ السؤال سيوجه يوم القيامة إلى الموءودة دون الرائد على الذنب الذي قتلت من أجله، وكأنّ القاتل لا قيمة له حتى يسأل عن قباحة جريمته، بالإضافة إلى الإكتفاء بشهادة المؤءودة لإثبات جريمة الوائد عليه... فالموءودة تعامل يوم القيامة باعتبارها إنسان محترم له حقوقه، والرائد مهمل مهان.

* * *

[453]

الآيات

وَإذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ(10) وَإذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ(11) وَإذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ(12) وَإذَا الْجَنَّةُ اُزْلِفَتْ(13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ(14)

التفسير

يوم يرى الانسان ما قدّم!!

فبعد مرحلة الفناء العام، تأتي مرحلة الظهور الجديد للعالم، لتقام محكمة العدل الالهي. ومن خطوط هذه المرحلة: (وإذا الصحف نشرت).

«الصحف»: جمع (صحيفة) بمعنى المبسوط من الشيء، كصحيفة الوجه، والصحيفة التي يكتب عليها.

فستنشر الصحف التي دوّنت فيها أعمال الناس من قبل الملائكة وكلٌّ سيعرف جزاءه بعد الإطلاع على صحيفة أعماله، كما تشير إلى ذلك الآية (14) من سورة الإسراء: (إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً).

وسيكون نشر الصحف أمام الملأ العام لتقرّ عيون المحسنين سروراً، ويقاسي المسيؤون العذاب النفسي.

ثمّ يضيف: (وإذا السماء كشطت).

[454]

«كشطت»: من (الكشط) على وزن (كشف)، بمعنى قلع جلد الناقة، كما قال الراغب في مفرداته، وأمّا في (لسان العرب) فتعني: كشف الغطاء عن الشيء، و«تكشط السحاب» أيْ، تقطع وتفرّق.

وما يراد من «كشطت» في الآية، هو: رفع الحجب الفاصلة بين العالمين الدنيوي والعلوي، التي تمنع رؤية الناس للملائكه أو الجنّة والنّار، فيرى الإنسان حينها عالم الوجود شاخص أمام ناظريه شخوصاً حقيقياً، وكما تصور الآيات التالية ذلك، حيث أنّ الجنّة ستقترب من الإنسان ليرى نعيمها، وتزداد النّار سعيراً لاهبة.

نعم، أو ليس يوم القيامة (يوم البروز).. فلا الحقائق ستخفى، ولا يكون للحجب أثراً.

فالآية وما سبقها وسيلحقا إذنْ (حسب التفسير أعلاه) قد تحدثت عن المرحلة الثّانية للقيامة ـ مرحلة ما بعد البعث ـ فما ذكره كثير من المفسرين، من كون الآية تشير إلى انهيار وتحطم السماوات، والمتعلق بحوادث المرحلة الاُولى للقيامة (مرحلة الفناء العام)، يبدو أنّه بعيد، لإنّه لا ينسجم مع معنى «كشطت» من جهة اُخرى.

ويتأكد ذلك بوضوح من خلال الآية: (وإذا الجحيم سعّرت).

فجهنّم موجودة في كل الأوقات، ولكّن حجب الدنيا هي المانعة من رؤيتها، فالآية على سياق الآية (49) من سورة التوبة: (وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين)، وكما أنّ جهنّم موجودة فالجنّة كذلك بدلالة آيات قرآنية كثيرة(1).

ويبّين البيان القرآني بذات السياق السابق: (وإذا الجنّة أُزلفت).

وهذا المعنى هو تكرار لما جاء في الآية (90) من سورة الشعراء: (وأُزلفت

______________________________

1 ـ آل عمران، الآية 133; و الحديد، الآية 21... الخ.

[455]

الجنّة للمتقين).

«أُزلفت»: من (زلف) على وزن (حرف).. و«زلفى»: على وزن (كُبرى)، بمعنى القرب، فيمكن أنْ يكون المراد هو: القرب المكاني، أو القرب الزماني، أو القرب من حيث الأسباب والمقدمات، ويمكن أيضاً أنْ تحمل الكلمة جميع ما ذكر من معان.

فستكون الجنّة قريبة من المؤمنين من حيث: المكان، زمان دخولها، من حيث تسهيل أسبابها لهم.

وقد تجلت مكانة المؤمنين عند اللّه حينما صرحّت الآية باقتراب الجنّة من المؤمنين، ولم تقل: اقترب المؤمنين من الجنّة.

وكما قلنا آنفاً... فالجنّة والنّار موجودتان في كلّ وقت، ولكنْ مع حلول يوم القيامة تكون الجنّة والنّار أشدّ اشتعالا من أي وقت مضى.

وتأتي الآية الأخيرة (من الآيات المبحوثة) لتتم ما جاء قبلها من جمل، حيث تمثل جزاء الشرط للجمل السابقة والتي وردت في (12) آية: (علمت نفس ما أحضرت).

فستحضر أعمال الإنسان كاملة، ولا من محيص من العلم والإطلاع بها في عالم الشهود والمشاهدة.

وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة مرات عديدة في آيات مباركات، منها... الآية (49) من سورة الكهف: (ووجدوا ما عملوا حاضراً)، والآية الأخيرة من سورة الزلزال: (فَمَنْ يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومَن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره).

فالآية إذَنْ... تبيّن مسألة (تجسم الأعمال) في يوم القيامة، فأعمالنا التي نتصورها قد انتهت وفنت في عالمنا الدنيوي، هي ليست كذلك، فكل عمل قمنا به سيتجسم بصورة ما، ليحضر أمام أعيننا في عرصة المحشر الرهبية.

* * *

[456]

بحثان

1 ـ تناسق الآيات

تمّت الإشارة إلى (12) حادثة من حوادث يوم القيامة، فالحوادث الستة الأولى قد ارتبطت بمرحلة الفناء العام للعالم (المرحلة الأولى)، والستة الثّانية قد اختصت بمرحلة عودة الحياة بعد الموت من جديد.

وكان الحديث في الستة الأولى عن: ذهاب ضوء الشمس، تساقط وتناثر النجوم، إزالة الجبال عن واقعها وتحولها إلى غبار منتشر، إضرام البحارُ ناراً، نسيان المال والثروة، اجتماع الحيوانات الوحشية في مكان واحد...

فيما كان الحديث في لستة الثانية عن: حشر الناس فرادى، سؤال الموءودة عن ذنبها الذي قتلت من أجله!، ونشر الصحف، ارتفاع الحجب عن صفحة السماء، اشتعال أوار جهنّم واقترب الجنّة، واطلاع الإنسان على كل أعماله مجسدة.

ورغم قصر جمل الآيات إلاّ أنّها حملت الكثير من المعاني وبأُسلوب مثير يعمل على تحريك ضمير الإنسان ويدفعه للتوغل في أعماق التأمل و الفكر...

وقد جسّمت الآيات نهاية العالم بتصوير رائع، بحيث قربت إلى الأذهان كيفية حدوث القيامة، كل ذلك في عبارات وجيزة وبألفاظ سهلة، وكلُّ هذا يعطي مدى قوّة بيان وبلاغة القرآن الكريم... فما أجمل وأعذب القرآنية، و ما أغزرها بالمعاني و الإشارات!!

2 ـ هل ستنطفيء المنظومة الشمسية، وهل ستخمد النجوم؟؟

قبل البدء بالإجابة لابدّ من بيان بعض ما توصل إليه العلم الحديث بخصوص المنظومة الشمسية:

إنّ الشمس (التي تعتبر مركز المنظومة الشمسية) متوسطة الحجم نسبةً إلى

[457]

بقية النجوم السابحة في السماء، ولكنّها نسبة إلى الأرض كبيرة جدّاً، حيث قدّر العلماء حجمها بما يعادل (000،300،1) مرة بقدر حجم الأرض، ونظراً لبعدها عن الإرض، (حيث قدرت بـ (000،000،150) كيلومتر)، فتُرى لناظرينا بهذا الحجم المحدود...

ويكفينا أن نتلمس عظمة حجم الشمس، فيما لو فرضنا بإدخال الكرة الأرضية مع القمر في باطن الشمس وبذات الفاصلة الموجودة حالياً ما بين الأرض والقمر، ففي هذه الحال. سوف لا يواجه القمر أية صعوبة بالدوران حول الأرض من دون أن يخرج من سطح الشمس!

أمّا درجة حرارة سطح الشمس فتبلغ (000،6) درجة مئوية، وتصل درجة حرارة أعماق الشمس إلى عدّة ملايين درجة مئوية!!

وإذا ما أردنا أن نزن الشمس بالأطنان، فسيواجهنا العدد (2) وبيمينه (27) صفراً، أي (ملياري مليار مليار طن)!

وتصل ألسنة نيران سطح الشمس في بعض الأوقات إلى ارتفاع (000،60) كيلومتر، وبإمكان تلك الألسنة أنْ تلف الأرض وما عليها و بكل يسر، لأنّ قطر الكرة الأرضية لا يتجاوز ألـ (000،12) كيلومتر.

ومصدر حرارة ونور الشمس الخارجة منها، على خلاف ما يتصوره البعض من كونهما ناشئين من احتراق شي ما، وكما يقول مؤلف كتاب (ولادة وموت الشمس)، أن لو كانت الشمس، عبارة عن جرم من الفحم الحجري الخالص، لما استمرت لهذا اليوم، ولو قدّرنا بدأ احتراقها منذ عصر أول فراعنة مصر، لكان في يومنا المعاش قد احتراق بأكمله ونفد، وإذا ما قيل بأيّة مادة أُخرى غير الفحم الحجري، فلا تغيّر من النتيجة الحاصلة.

وحقيقة الأمر، أنّ مفهوم الإحتراق لا ينطبق على الشمس، بقدر ما ينطبق عليها مفهوم الطاقة الحاصلة من التجزئة الذريّة، ولمّا كانت الطاقة عظيمة جدّاً،

[458]

فذرات الشمس في حالة تجزئة وتبديل إلى طاقة وبشكل مستمر.

واستناداً إلى حسابات العلماء: فإنّ كلَّ ثانية تمرّ من عمر الشمس ينتقص من وزنها ما يقارب «اربعة ملايين طناً»! أمّا حجمها فلم يمسسه أيّ شي من التغيير رغم مرور السنين المديدة على عمرها!

وينبغي التسليم أنّ خاتمة الشمس لابدّ منها، وعجلة الزمن الدائبة ستوصل إلى ذلك الحدث، ولابدّ من مجي ذلك اليوم الذي سيشهد اضمحلال حجم هذا الجرم الكبير وإخماد نوره، كما هو حال وشأن بقية النجوم(1).

فالعلم الحديث إذَنْ، قد أثبت الحقائق العلمية التي طرحها قبل ألف وأربعمائة سنة إلاّ دليل قاطع على ما نقول.

* * *

______________________________

1 ـ اقتبس هذا الكلام من ثلاثة كتب: (ولادة و موت الشمس)، (النجوم من دون تلسكوب) و(بناء الشمس).

[459]

الآيات

فَلاَ أُقْسِمُ بِألْخُنَّسِ(15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16) وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ(17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ(18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول كَرِيم (19)ذِى قُوَّة عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِين(20) مُّطَاع ثَمَّ أَمِين(21) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُون(22) وَلَقَدْ رَءَاهُ بِألاُْفُقِ الْمُبِينِ(23) وَمَا هُو عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِين(24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَـن رَّجِيم(25)

التفسير

نزل به رسول كريم:

بعد أنْ تناولت الآيات السابقة مواضيع: المعاد، مقدمات يوم القيامة، وحوادث يوم القيامة... تأتي الآيات أعلاه لتطرق عن: أحقّية القرآن وصدق نبوّة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، والآيات في حقيقتها تأكيدٌ على ما جاء في الآيات السابقة لموضوع «المعاد»، إضافة لذكرها صور بيانية منبهة على هذه الحقيقة.

وتشرع الآيات بـ : (فلا أُقسم بالخنس(1)، الجوار الكنس).

«الخنّس»: جمع (خانس)، من (خنس) وهو الإنقباض والإختفاء، ويقال

______________________________

1 ـ تعرض المفسّرون في بحوث عديدة لكلمة «لا»، هل هي: نافية، زائدة، للتأكيد... وقد تناولنا ذلك مفصلا في أول سورة القيامة (في نفس هذا الجزء)، فراجع.

[460]

للشيطان: «الخنّاس»، لأّنه إذا ذُكر اللّه تعالى، وكما ورد في الحديث الشريف: «الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر اللّه خَنَس».(1)

«الجوار»: جمع (جارية)، وهي الشي الذي تتحرك بسرعة.

«الكنّس»: جمع (كانس)، من (كنس)، على وزن (شمس)، وهو الإختفاء، و«كناس» الطير والوحش: بيت يتخذه.

ولكنْ... ما هي الأشياء المقصودة بهذا القسم؟

يعتقد كثير من المفسّرين، إنّها الكواكب(2) الخمسة السيارة التي في منظومتنا الشمسية، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة (عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري وزحل).

ونقول توضيحاً: لو تأملنا السماء عدّة ليال، لرأينا أنّ نجوم السماء أو القبة السماوية تظهر و تغيب بشكل جماعي من دون أنْ تتغير الفواصل والمسافات فيما بينها، وكأنّها لئاليء خيطت على قطعة قماش داكن اللوان، وهذه القطعة تتحرك من المشرق إلى المغرب، إلاّ خمسة كواكب قد خرجت عن هذه القاعدة، فنراها تتحرك وليس بينها وبين بقية النجوم فواصل ثابتة، وكأنّها لئاليء قد وضعت على تلك القطعة وضعاً، من دون أنْ تخيّط بها!

وهذه الكواكب الخمس هي المقصود في هذا التفسير، وما نلاحظه من حركتها إنّما تكون لقربها منّا لا نتمكن من تمييز حركات بقية النجوم لعظم المسافة فيما بيننا وبينها.

ومن جهة أُخرى: ينبغي التنويه إلى أنّ علماء الفلك يطلقون على هذه الكواكب اسم (الكواكب المتحيرة)، لأنّها لا تتحرك على خط مستقيم ثابت،

______________________________

1 ـ لسان العرب: مادة (خنس).

2 ـ الفرق بين النجوم والكواكب، إنّ الأولى شموس كشمسنا، والثانية عبارة عن أجسام باردة كالأرض، تنعكس عليها أشعة الشمس فتضيء، ويمكن تمييزها على صفحة السماء بثبوت نورها، في حين تكون النجوم متلألئة بالنور.

[461]

فتراها تسير باتجاه معين من الزمن ثمّ تعود قليلا ومن ثمّ تتابع مسيرها الأوّل وهكذا... ولهؤلاء العلماء من البحوث العلمية في تحليل هذه الظاهرة.

وعليه... يمكن حمل إشارة الآيات إلى الكواكب السيّارة «الجوار»، التي في سيرها لها رجوع «الخنس»، ثمّ تختفي عند طلوع الفجر وشروق الشمس... فهي تشبه غزالا يتصيد طعامه في الليل وما أنْ يحّل النهار حتى يختفي عن أنظار الصيادين والحيوانات المفترسة فيذهب إلى «كناسه»، ولذا وصفت الكواكب  بـ «الكنّس»،.

وثمّة احتمال آخر: «الكنّس»: اختفاء الكواكب في ضوء الشمس.

أي إنّها حينما تدور حول الشمس، تصل في بعض الوقت إلى نقطة مجاورة للشمس فيختفي نورها تماماً عن الأبصار، وهو ما يعبّر عنه علماء الفلك  بـ (الأحتراق).

و«الكنّس»: في نظر بعض آخر: إشارة إلى دخول الكواكب في البروج السماوية، وذلك الدخول يشبه اختفاء الغزلان في أماكن أمنها.

وكما هو معروف، إنّ كواكب مجموعتنا الشمسية لا تنحصر بهذه الكواكب الخمس، بل ثمة ثلاثة كواكب أُخرى(أُورانوس، بلوتون، نبتون) ولكنّها لا ترى بالعين المجرّدة لبعدها عنّا، وللكثير من هذه السيّارات قمراً أو أقماراً،، فعدد كواكب هذه المجموعة بالإضافة إلى الأرض هو تسعة كواكب.

و«الجوري»: توصيف جميل لحركة الكواكب، حيث شبّه بحركة السفن على سطح البحر.

وعلى أيّة حال، فكأنّ القرآن الكريم يريد بهذا القسم المليء بالمعاني الممتزجة بنوع من الإبهام، كأنّه يريد إثارة الفكر الإنساني، وتوجيهه صوب الكواكب السيّارة ذات الوضع الخاص على القبة السماوية، ليتأمل أمرها وقدرة وعظمة خالقها سبحانه وتعالى.

[462]

وثمّة احتمالات أُخرى في هذا الموضوع أهملناها لضعفها.

وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال في تفسير الآيات المذكورة:«هي خمسة أنجم: زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد»(1).

ويعرض لنا القرآن لوحة أُخرى: (والليل إذا عسعس).

«عسعس»: من (العسعسة)، وهي رقة الظلام في طرفي الليل (أوله وآخره) ومنه اطلاق لفظ «عسس» على حرّاس الليل، وبالرغم من اطلاق هذه المفردة على معنيين متفاوتين، ولكن المراد منها في هذه الآية هو آخر الليل فقط بقرينة الآية التالية لها، وهو ما يشابه القسم الوارد في الآية (33) من سورة المدثر: (والليل إذا أدبر).

والليل، من النعم الإلهية الكبيرة، لأنّه: سكن للروح والجسم، معدّل لحرارة الشمس، وسبب لإدامة حياة الموجودات... أمّا التأكيد على نهايته فيمكن أنّ يكون بلحاظ كونه مقدمة استقبال نور الصباح، إضافة لما لهذا الوقت بالذات من فضل كبير في حال العبادة والمناجات والدعاء، ويمثل هذا الوقت أيضاً نقطة الشروع بالحركة والعمل في عالم الحياة.

ويأتي القسم الثّالث والأخير من الآيات: (والصبح إذا تنفّس).

فما أروع الوصف وأجمله! فالصبح كموجود حي قد بدأ أوّل أنفاسه مع طلوع الفجر، ليدّب الروح من جديد في كلّ الموجودات، بعد أنْ تقطعت أنفاسه عند حلول ظلام الليل!

ويأتي هذا الوصف في سياق ما ورد في سورة المدّثّر، فبعد القسم بإدبار الليل، قال: (والصبح إذا أسفر)، فكأنّ الليل ستارة سوداء قد غطت وجه الصبح، فما أنْ أدبر الليل حتى رفعت تلك الستارة فبان وجه الصبح مشرقاً، وأسفر

______________________________

1 ـ مجمع البيان: ج10، ص446.

[463]

للحياة من جديد.

وتجسّد الآية التالية جواب القسم للآيات السابقة: (إنّه لقول رسول كريم).

فالجواب موجّه لمن اتّهم النبّي(صلى الله عليه وآله وسلم)باختلاق القرآن ونسبته إلى الباري جلّ شأنه.

وقد تناولت وما بعدها خمسة أوصاف لأمين وحي اللّه جبرائيل(عليه السلام)، وهي الأوصاف التي ينبغي توفرها في كلّ رسول جامع لشرائط الرسالة...

فالصفة الأولى: إنّه «كريم»: إشارة إلى علو مرتبته وجلالة شأنه.

ومن صفاته أيضاً: (ذي قوّة عند ذي العرش مكين)(1).

«ذي العرش»: ذات اللّه المقدّسة. مع أنّ اللّه مالك كلّ عالم الوجود، فقد وصف «بذي العرش» لما للعرش من أهمية بالغة على على غيره (سواء كان العرش بمعنى عالم ما وراء الطبيعة، أو بمعنى مقام العلم المكنون).

أمّا وصفه بـ «ذي قوّة» (أي: صاحب قدرة)، لما للقدرة العظيمة والقوّة الفائقة من دور مهم وفعّال في عملية حمل وإبلاغ الرسالة، وعموماً... ينبغي لكل رسول أن يكون صاحب قدرة معينة تتناسب وحدود رسالته، وعلى الأخلاص في مجال عدم نسيان ما يُرسل به.

«مكين»: صاحب منزلة ومكانة، وبدون ذلك لا يتمكن الرسول من أداء رسالته على أتمّ وجه، فلا من كونه شخصاً جليلا، لائقاً، ومقرباً للمرسل.

وممّا لا شك فيه إنّ التعبير بـ «عند» لا يراد منه الحضور المكاني، لأنّ الباري جل شأنه لا يحده مكان، والمراد هو الحضور المقامي والقرب المعنوي.

وتتناول الآية التالية الصفة الرابعة والخامسة: (مطاع ثمّ أمين).

«ثَمَّ»: إشارة إلى البعيد، ويراد بها: إنّ أمين الوحي الإلهي نافذ الكلمة في

______________________________

1 ـ «مكين»: (المكانة)، وهي المقام والمنزلة، وما يستفاد من مفردات الراغب وغيره من المفسّرين، إنّه اسم مكان من (الكون) ولكثرته في الكلام فقد استعمل على صيغة الفعل فقيل: (تمكن) و(تمسكن).

[464]

عالم الملائكة، ومطاع عندهم، وإنّه في ذروة الأمانة في عملية إبلاغ الرسالة.

وما نستشفّه من الرّوايات: إنّ جبرائيل(عليه السلام) ينزل أحياناً وبصحبته جمع كبير من الملائكة في حال ابلاغه للآيات القرآنية المباركة، وهو ما يوحي بأنّه مطاع بينهم، وهو ما ينبغي أنْ يكون في كل أمّة تتبع رسولا، فلابدّ من طاعتها له.

وروي... أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)قال لجبرائيل(عليه السلام) عند نزول هذه الآيات: «ما أحسن ما أثنى عليك ربّك!: ذي قوّة عند العرش مكين، مطاع ثّم أمين، فما كانت قوتك؟ وما كانت أمانتك؟

فقال: أمّا قوّتي فإنّي بعثت إلى مداين لوط وهي أربع مداين في كلّ مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماوات أصواب الدجاج ونباح الكلاب، ثم هويت بهّن فقلبتهّن. وأمّا أمانتي، فإنّي لم أؤمر بشيء فعدوته إلى غيره» (1).

وينفي القرآن ما نُسب إلى النبّي(صلى الله عليه وآله وسلم): (وما صاحبكم بمجنون).

«الصاحب»: هو الملازم والرفيق والجليس، والوصف هذا مضافاً الى أنّه يحكي عن تواضع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع جميع الناس... فلم يرغب يوماً في الاستعلاء على أحد منكم، فإنّه قد عاش بينكم حقبة طويلة، وجالسكم، فلمستم عن قرب رجاحة عقله وحسن درايته وأمانته، فكيف تنسبون له الجنون؟!

وكلُّ ما في الأمر إنّه قد جاءكم بعد بعثته بتعاليم تخالف تعصبكم الأعمى وتحارب أهواءكم الجاهلية، فما راق لكم الإنضباط والترابط، وحبذتم الإنفلات والتراخي، فوليتم الأدبار عن تعاليمه الربانية ونسبتم إليه الجنون، فراراً من هدي دعوته المباركة!

ونسبة الجنون إلى النبّي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بالشيء الجديد في مسير دعوة السماء

______________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص 446، وورد هذا المضمون في نفسير (الدر المنثور) في ذيل الآية المبحوثة.

[465]

فقد واجه جميع أنبياء اللّه(عليهم السلام) هذا الإفتراء الفارغ من قبل جهلة وكفرة عصورهم، وقد حدثنا القرآن الكريم بتلك الوقائع: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون)(1).

فالعاقل في منطق الجاهلية، من يخضع للعادات والتقاليد المعاشة وإنْ كانت فاسدة منحطة، ومَنْ يطلق لجماح أهواءه وشهواته العنان، ومَنْ لا يفكر بأيَّ إصلاح أو تغيير لأنّه خروج على السائد المتعارف عليه!

وبناء على هذا المقياس الأعمى... فكلُّ الأنبياء في نظر عبدة الدنيا مجانين...

ويؤكّد القرآن على الأرتباط الوثيق ما بين النبىّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وجبرائيل(عليه السلام): (ولقد رآه في الأفق المبين)، وهو «الأفق الأعلى» الذي تظهر فيه الملائكة، حيث شاهد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) جبرائيل(عليه السلام).

وقد استدلّ بعض المفسّرين بالآية (7) من سورة النجم على التفسير أعلاه، والتي تقول: (وهو بالأفق الأعلى).

ولكننا نرى أنّ الآية مع بقية آيات السورة تتحدث عن حقيقة أخرى، فراجع إلى ما ذكرناه في تفسيرنا هذا.

وقال بعض: إنّ النبىّ(صلى الله عليه وآله وسلم)قد رأى جبرائيل(عليه السلام) في صورته الحقيقية مرّتين، الأولى عند بداية البعثة النبوية المباركة، حيث ظهر له في الأفق الأعلى وقد غطى الشرق و الغرب حتى بُهر النبيّ بعظمة هيئته، والثّانية رآه عند معراجه إلى السماوات العُلى واعتبروا الآية المبحوثة إشارة لتلك الرؤيتين.

وثمّة من يذهب في تفسير الآية من كونها تشير إلى مشاهدة اللّه عزَّوجلّ بالشهود الباطني، (ولمزيد من الإيضاح، راجع ذيل الآيات ( 5 ـ 13) من سورة النجم).

وتأتي الصفة الخامسة: (وما هو على الغيب بضنين).

______________________________

1 ـ الذاريات: الآية 52.

[466]

فهو ليس ممن يقبرون في صدورهم ممّا يوحى إليه، ولا يبخل ولا يتوانى عن الإبلاغ ويوصله إلى كلّ الناس كاملا وبأمانة.

«ضنين»: من (ضنّة) على وزن (مِنَّة)، أيْ: البخل بالأشياء الثمينة والنفيسة، فالأنبياء(عليهم السلام) منزّهون عن ذلك، وإذا ما بخل الآخرون بما صار في حوزتهم من علم محدود، فالنبّي فوق ذلك وأنزه مع ماله من منبع علم إلهي.

وتقول آخر الآيات المبحوثة: (وما هو بقول شيطان رجيم).

فالآيات القرآنية ليست كحديث الكهنة الذي يأخذوه من الشياطين، ودليلها معها، حيث أنّ حديث الكهنة محشو بالأكاذيب والتناقضات، ويدور حول محور ميولهم ورغباتهم، في حين لا يشاهد ذلك في الآيات القرآنية إطلاقاً.

والآية تجيب على إحدى افتراءات المشركين، حين اتهموا النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)بأنّه كاهن وكلّ ما جاء به قد أخذه من الشياطين! فحديث الشيطان! لا يتعدى أنْ يكون باطلا و ضلالا في حين أنّ الآيات الرّبانية كلّها نور وهداية، وهذا ما يشعر به كلُّ مَنْ يواجه القرآن ومنذ وهلته الأولى.

«رجيم»: من (الرجم)، و(رجام) على وزن (لجام) بمعنى أخذ الحجارة، وتطلق على رمي الحجار على الأشخاص أو الحيوانات، ويستعار الرجم للرمي  بـ :الظّن، التوهم، الشتم والطرد، و«الشيطان الرجيم» بمعنى المطرود من رحمة اللّه.

* * *

بحث

مؤهلات الرّسول:

الصفات الخمسة التي ذكرتها الآيات المباركة جبرائيل(عليه السلام)باعتباره رسول الوحي الإلهي إلى النبيّ الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم)، هي ذات الصفات التي ينبغي توفرها في كلّ رسول، وبما يناسب نوع ودرجة رسالته.

[467]

فلكي يكون الرسول لائقاً لحمل الرسالة، لابدّ من تحلِّيه بركائز أخلاقية ونفسية عالية، أيْ يكون «كريماً» محترماً.

ولابدّ من كونه قادر متمكن «ذي قوّة»، حتى يتمكن من إبلاغ رسالته بكل ما تحمل، ومن دون أنْ يصيبه أيّ ضعف أو فتور أو هوان.

وينبغي أنْ تكون ذو منزلة رفيعة ومقام مرموق عند المرسل، «مكين»، لكي يكون طبيعياً مستقراً في استلامه الرسالة، ولا يناله أيّ خوف أو ارتباك في حال إيصاله لأجوبة الرسالة إلى أيٍّ كان.

ومن المؤهلات اللازمة، أنْ يكون له أعوان ويطيعونه بأمر الرسالة، ولا يتخاذلون عن طاعته، «مطاع».

وأخيراً، لابدّ من كونه «أميناً» في النقل، ليعتمد المرسل عليه فيما يريد أنْ يوصله إليه من الرسالة، فلابدّ من الأمانة بكلَّ معناها والإبتعاد عن الخيانة ولو بأدنى زواياها.

فمتى ما توفرت المؤهلات اللازمة للرسول فيه كان جديراً بأداء حق الرسالة، ولذلك نرى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينتخب رسله بدقة من بين أصحابه، وأفضل نموذج حي لذلك، إرساله أمير المؤمنين(عليه السلام) بإيصال الآيات الأولى من سورة براءة إلى مشركي مكّة، في ظروف قد شرحناها عند تفسيرنا لتلك السورة.

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «رسولك ترجمان عقلك، وكتابك أبلغ ما ينطق عنك»(1).

* * *

______________________________

1 ـ نهج البلاغة: الكلمات القصار (301).

[468]

الآيات

فَأَيْنَ تُذْهَبُونَ(26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلعَـلَمِينَ(27) لِمَن شَآءَ مِنْكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ(28) وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَآءَ اللّهُ رَبُّ العَـلَمِينَ(29)

التّفسير

إلى اين... أيُّها الغافلون؟!

أكّدت الآيات السابقة ببيان جلي حقيقة كون القرآن كلام اللّه... فمحتواه ينطق عن كونه كلاماً رحمانياً وليس شيطانياً، وقد نزل به رسول كريم مقتدر وأمين، وقام بتبليغه النّبي الصادق الأمين(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لم يبخل في البلاغ في شيء، وما تهاون عن تعليم الناس فيما اُرسل به.

فيما توبخ الآيات أعلاه اُولئك الذين عادوا القرآن وانحرفوا عن خطّ سير الرسالة الربّانية الهادية، فتقول لهم بصيغة الإستفهام التوبيخي: (فأين تذهبون).

لم تركتم طريق الهداية؟! أوَ مِن العقل أنْ تصدّوا عن النور وتتجهوا صوب الظلام؟! ألاَ ترحمون أنفسكم؟! وكيف تعملون على هدم أركان سعادتكم وسلامتكم؟!...

[469]

وتأتي الآية الثّانية لتقول: (إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين)

فالآية تتحدث بلسان الوعظ والتذكير، عسى أنْ يستيقظ مَن تملكه نوم غفلته.

لا يمكن للهداية والتربية أنْ تؤدّي فعلها بوجود المرشد الناحج فقط، بل لابدّ من توفر عنصر الإستعداد وتقبل الهداية من قبل الطرف الآخر، ولذلك... فبعد الوعظ والتذكير جاءت الآية التالية لتبيّن هذه الحقيقة: (لمن شاء منكم أنْ يستقيم).

فالآية الاُولى: (إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين) قد ذكرت عمومية الفيض الإلهي في القرآن الكريم، فيما خصصت الآية التالية: (لمن شاء منكم أن يستقيم) عملية الإستفادة من هذا الفيض الجزيل وحددته بشرط الإستقامة.

وهذه القاعدة جارية في جميع النعم والمواهب الإلهية في العالم، فإنّها عامّة التمكين، خاصّة الإستفادة، فمن لا يملك الإرادة والتصميم على ضوء الهدي القرآني لا يستحق فيض رحمة اللّه ونعمه.

والآية الثّانية من سورة البقرة: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين)تدخل في سياق هذا المعنى.

وعلى أيّة حال، فالآية تؤكّد مرّة اُخرى على حرية الإنسان في اختياره الطريق الذي يرضاه، سواء كا طريق حقّ، أمْ طريق باطل.

ويفهم من «يستقيم»، أنّ طريق السعادة الحقّة، طريق مستقيم، وما دونه لا يكون كذلك، ولولا الإفراط والتفريط والوساوس الشيطانية وأغشية الضلال.. لسار الإنسان على هذه السبل المنجيَة، باستجابته لنداء الفطرة واتباعه الخط المستقيم، والخط المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة للهدف المنشود.

ولكي لا يتصور بأنّ مشيئة وإرادة الإنسان مطلقة في سيره على طريق المستقيم، ولكي يربط الإنسان مشيئته بمشيئة وتوفيق اللّه عزّوجلّ، وجاءت

[470]

الآية التالية ولتقول: (وما تشاؤون إلاّ أن يشاء اللّه ربّ العالمين)

والآيتان السابقتان تبيّنان فلسفة «أمر بين الأمرين» التي أشار إليها الإمام الصادق(عليه السلام)، فمن جهة، إنّ الإرادة والقرار بيدكم، ومن جهة اُخرى، يلزم تلك الإرادة وذلك القرارة ما يشاء اللّه ربّ العالمين... وإنّ خلقتم أحراراً مختارين، فالحرية والإختيار منه جلّ اسمه، ولولا إرادته ذلك لما كان.

فالإنسان ليس بمجبور على أعماله مطلقاً، ولا هو بمختار بكلّ معنى الإختيار، ولكنْ... كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام): «لا جبر ولا تفويض الأمر بين الامرين»، فكلّ ما للإنسان من: عقل، فهم قدرة بدنية، وقدرة على اتخاذ القرار، كلّ ذلك من اللّه عزّوجلّ، فهو من جهة في حالة الحاجة الدائمة للإتصال به جلّ شأنه، ولو شاء اللّه لتوقف كلّ شيء وانتهى، وهو من جهة اُخرى مسؤول عن أعماله لما له من حرية واختيار على تنفيذها.

ويفهم من «ربّ العالمين»، إنّ المشيئة الإلهية تقضي بهداية وتكامل الإنسان وكلّ الموجودات، فاللّه لا يريد أنْ يضل أو يذنب أحد من الخلق، بل يريد أن يسعد كلّ الخلق في جوار رحمته ورضوانه، وبمقتضى ربوبيته فهو الموفّق والمعين لكلّ من يريد أن يسلك طريق التكامل.

والخطأ القاتل الذي وقع فيه المتجبرة، إنّهم تمسّكوا بالآية الثّانية دون الاُولى وربّما كان المفوضة قد تمسّكوا بالآية الاُولى مفصولة عن الآية الثانية لها.. والفصل فيما بين آيات القرآن كثيراً ما يوقع في هاوية الضلال والخروج بنتائج خاطئة باطلة، وينبغي التعامل مع الآيات القرآنية على كونها كلٌّ مترابط، لا آيات فرادى.

وقيل: إنّه لمّا نزل قوله تعالى: (لمن يشاء منكم أنْ يستقيم)، قال أبو جهل: جعل الأمر إلينا إنْ شئنا استقمنا وإنْ شئنا لم نستقم، فأنزل اللّه تعالى: (وما

[471]

تشاؤون إلاّ أنْ يشاء اللّه ربّ العالمين)(1).

اللّهمّ! لا توفيق إلاّ منك، فوفقنا للسير على طريق رضوانك...

اللّهمّ! لقد رغبنا في سلوك طريقك ومنهجك، فاجعل مشيئتك أن تأخذ بأيدينا في هذا الطريق...

اللّهمّ! إنّا نخاف أهوال الحشر والقيامة، لخلو صحائف أعمالنا من الحسنات، فعاملنا بعفوك ولطفك، ولا تشدد علينا بعدلك...

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة التّكوير

* * *

______________________________

1 ـ روح المعاني، ج30، ص62; وفي روح البيان، ج10، ص354.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=908
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29