• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء التاسع عشر ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة عبس من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 407 ـ 440 ) .

سورة عبس من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 407 ـ 440 )

[407]

سُورَة عَبَسَ

مَكيَّة

وعدد آياتِها اثنتان وأربعون آية

[409]

«سورة عَبَسَ»

محتوى السورة:

تبحث هدذه السورة على قصرها مسائل مختلفة مهمّة تدور بشكل خاص حول محور المعاد، ويمكن ادراج محتويات السورة في خمسة مواضيع أساسية.

1 ـ عتاب إلهي شديد لمن واجه الأعمى الباحث عن الحقّ باسلوب غير لائق.

2 ـ أهمية القرآن الكريم.

3 ـ كفران الإنسلان للنعم والمواهب الإلهية.

4 ـ بيان جانب من النعم الإلهية في مجال تغذية الإنسان والحيوان لاثارة حسّ الشكر في الإنسان.

5 ـ الإشارة إلى بعض الوقائع والحوادث الرهيبة ومصير المؤمنين والكفّار ذلك اليوم العظيم.

وتسمية هذه السورة بهذا الإسم بمناسبة الآية الاولى منها.

فضيلة السورة:

ورد في يالحديث النّبوي الشريف أنّ: «من قرأ سورة «عَبَسَ» جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر»(1)

______________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان، ج10، ص435.

[410]

الآيات

عَبَسَ وَتَوَلَّى(1) أَنْ جَآءَهُ الأَعْمَى(2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3) أوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى(6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى(7) وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى(8) وَهُوَ يَخْشَى(9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى(10)

سبب النّزول

تبيّن الآيات المباركة عتاب اللّه تعالى بشكل إجمالي، عتابه لشخص قدّم المال والمكانة الإجتماعية على طلب الحق... أمّا مَن هو المعاتب؟ فقد اختلف فيه المفسّرون، لكنّ المشهور بين عامّة المفسّرين وخاصتهم، ما يلي:

إنّها نزلت في عبداللّه بن اُم مكتوم، إنّه أتى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب واُبي واُميّة بن خلف يدعوهم إلى اللّه ويرجو إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعم، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين)، فقال: يا رسول الّه، أقرئني وعلمني ممّا علمك اللّه، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللّه لقطعه كلامه، وقال في

[411]

نفسه: يقول هؤلاء الصناديد، إنّما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآية.

وكان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي»، ويقول له: «هل لك من حاجة».

واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين(1).

والرأي الثّاني في شأن نزولها: ما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّها نزلت في رجل من بني اُميّة، كان عند النّبي، فجاء ابن اُم مكتوم، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك، وأنكره عليه»(2).

وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.

والآية لم تدل صراحة على أنّ المخاطب هو شخص النّبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنّ الآيات (8 ـ 10) في السورة يمكن أن تكون قرينة، حيث تقول: (وأمّا من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى)، والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خير مَنْ ينطبق عليه هذا الخطاب الربّاني.

ويحتجّ الشريف المرتضى على الرأي الأوّل، بأنّ ما في آية (عبس وتولّى)لا يدل على أنّ المخاطب هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أنّ العبوس ليس من صفاته مع أعدائه، فكيف به مع المؤمنين المسترشدين! ووصف التصدّي للأغنياء والتلهي عن الفقراء ممّا يزيد البون سعة، وهو ليس من أخلاقه(صلى الله عليه وآله وسلم) الكريمة، بدلالة قول اللّه تعالى في الآية (4) من سورة (ن)، والتي نزلت قبل سورة عبس، حيث وصفه الباري: (وإنّك لعلى خلق عظيم).

وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول، فإنّ فعل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والحال هذه لا يخرج من كونه (تركاً للأولى)، وهذا ما لا ينافي العصمة،

______________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان، ج10، ص437.

2 ـ المصدر السابق.

[412]

وللأسباب التالية:

أوّلاً: على فرض صحة ما نسب إلى النّبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش، فإنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر الإسلام عن هذا الطريق، وتحطيم صف أعدائه.

ثانياً: إنّ العبوس أو الإنبساط مع الأعمى سواء، لأنّه لا يدرك ذلك، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ «عبد اللّه بن اُم مكتوم» لم يراع آداب المجلس حينها، حيث أنّه قاطع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مراراً في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين، ولكن بما أنّ اللّه تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الإعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.

ويمثل هذا السياق دليلاً على عظمة شأن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية، حتى عاتبه على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى)، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم كتاب إلهي وأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) صادق فيه، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضاً) فلا داعي لإستعتاب نفسه...

ومن مكارم خلقه(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كما ورد في الرواية المذكورة ـ إنّه كان يحترم عبد اللّه بن اُم مكتوم، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.

وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والإستهداء بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك، وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين.

ونأتي لنقول ثانيةً: إنّ المشهور بين المفسّرين في شأن النّزول، هو نزولها في شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن ليس في الآية ما يدل بصراحة على هذا المعنى.

* * *

[413]

التّفسير

عتاب ربّاني!

بعد أن تحدثنا حول شأن نزول الآيات، ننتقل إلى تفسيرها:

يقول القرآن أولاً: (عبس وتولّى).

لماذا؟: (أن جاءه الأعمى).

(وما يدريك لعله يزّكّى)، ويطلب الإيمان والتقوى والتزكية.

(أو يذكر فتنفعه الذكرى)، فإن لم يحصل على التقوى،فلا أقل من أن يتذكر ويستيقظ من الغفلة، فتنفعه ذلك(1).

ويستمر العتاب...: (أمّا من استغنى)، مَنْ اعتبر نفسه غنياً ولا يحتاج لأحد.

(فأنت له تصدّى)، تتوجّه إليه، وتسعى في هدايته، في حين أنّه مغرور لما أصابه من الثروة والغرور يولد الطغيان والتكبر، كما أشارت لهذا الآيتان (6 و 7) من سورة العلق: (... إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).(2)

(وما عليك ألاّ تزّكّى)، أي في حين لو لم يسلك سبيل التقوى والإيمان، فليس عليك شيء.

فوظيفتك البلاغ، سواء أمن السامع أم لم يؤمن، وليس لك أن تهمل الأعمى الذي يطلب الحقّ، وإن كان هدفك أوسع ليشمل هداية كلّ اُولئك الأغنياء المتحجرين.

______________________________

1 ـ والفرق بين الآية والتي قبلها، هو أنّ الحديث قد جرى حول التزكية والتقوى الكاملة، في حين أنّ الحديث في الآية المبحوثة يتناول تأثير التذكر الإجمالي، وإن لم يصل إلى مقام التقوى الكاملة، وستكون النتيجة استفادة الأعمى المستهدي من التذكير، سواء كانت الفائدة تامّة أم مختصرة.

وقيل: إنّ الفرق بين الآيتين، هو أنّ الاُولى تشير إلى التطهير من المعاصي، والثانية تشير إلى كسب الطاعات وإطاعة أمر اللّه عزّوجلّ.

والأوّل يبدو أقرب للصحة.

2 ـ يقول الراغب في مفرداته: (غنى واستغنى وتغنى وتغانى) بمعنى واحد، ويقول في (تصدّى): إنّها من (الصدى)، أي الصوت الراجع من الجبل.

[414]

وتأتي العتاب مرّة اُخرى تأكيداً: (وأمّا مَنْ جاءك يسعى)، في طلب الهداية...

(وهو يخشى)(1)، فخشيته من اللّه هي التي دفعته للوصول إليك، كي يستمع إلى الحقائق ليزكّي نفسه فيها، ويعمل على مقتضاها.

(فأنت عنه تلهى)(2).

ويشير التعبير بـ «أنت» إلى أنّ التغافل عن طالبي الحقيقة، ومهما كان يسيراً، فهو ليس من شأن من مثلك، وإنّ كان هدفك هداية الآخرين، فبلحاظ الأولويات، فإنّ المستضعف الظاهر القلب والمتوجه بكلّه إلى الحقّ، هو أولى من كلّ ذلك الجمع المشرك.

وعلى أيّة حال: فالعتاب سواء كان موجه إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أو إلى غيره، فقد جاء ليكشف عن اهتمام الإسلام أو القرآن بطالبي الحق، والمستضعفين منهم بالذات.

وعلى العكس من ذلك حدّة وصرامة موقف الإسلام والقرآن من الأثرياء المغرورين إلى درجة أنّ اللّه لا يرضى بإنذاء رجل مؤمن مستضعف.

وعلّة ذلك، إنّ الطبقة المحرومة من الناس تمثل: السند المخلص للإسلام دائماً... الأتباع الأوفياء لأئمّة دين الحق، المجاهدين الصابرين في ميدان القتال والشهادة، كما تشير إلى هذا المعنى رسالة أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر: «وإنّما عماد الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء العامّة من الأئمّة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم»(3).

* * *

______________________________

1 ـ يراد بالخشية هنا: الخوف من اللّه تعالى، الذي يدفع الإنسان ليتحقق بعمق وصولاً لمعرفته جلّ اسمه، وكما يعبر المتكلمون عنه بـ... وجوب معرفة اللّه بدليل دفع الضرر المحتمل.

واحتمل الفخر الرازي: يقصد بالخشية، الخوف من الكفّار، أو الخوف من السقوط على الأرض لفقدانه البصر. وهذا بعيد جدّاً.

2 ـ «التلهي»: من (اللهو)، ويأتي هنا بمعنى الغفلة عنه والإستغفال بغيره، ليقف في قبال «التصّدي».

3 ـ نهج البلاغة، الرسالة 53.

[415]

الآيات

كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ(11) فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ(12) فِى صُحُف مُّكَرَمَة(13) مِّرْفُوعَة مُّطَهَّرَة(14)بِأَيْدِى سَفَرَة(15) كِرَام بَرَرَة(16) قُتِلَ الاِْنْسِـنُ مَآ أَكْفَرَهُ(17) مِنْ أَىِّ شَىء خَلَقَهُ (18)مِنْ نُّطْفَة خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21) ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنْشَرَهُ(22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ(23)

التّفسير

تأتي هذه الآيات المباركة لتشير إلى أهمية القرآن وطهارته وتأثيره في النفوس، بعد أن تناولت الآيات التي سبقتها موضوع (الإعراض عن الأعمى الذي جاء لطلب الحق)،، فتقول (كلاّ) فلا ينبغي لك أنْ تعيد الكرّة ثانية.

(إنّها تذكرة)، إنّما الآيات القرآنية تذكرة للعباد، فلا ينبغي الإعراض عن المستضعفين من ذوي القلوب النقية الصافية والتوجه إلى المستكبرين، اُولئك الذين ملأ الغرور نفوسهم المريضة.

ويحتمل أيضاً، كون الآيات، (كلاّ إنّها تذكرة) جواب لجميع التهم الموجهة ضد القرآن من قبل المشركين وأعداء الإسلام.

[416]

وفتقول الآية: إنّ الأباطيل والتهم الزائفة التي افتريتم بها على القرآن من كونه شعر أو سحر أو نوع من الكهانة، لا يمتلك من الصحة شيئاً، وإنّما الآيات القرآنية آيات تذكرة وإيمان، ودليلها فيها، وكلّ مَنْ اقترب منها سيجد أثر ذلك في نفسه (ما عدا المعاندين).

وتشير الآية التالية إلى اختيارية الهداية والتذكّر: (فَمَنْ شاء ذكره)(1).

نعم، فلا إجبار ولا إكراه في تقبل الهدي الرّباني، فالآيات القرآنية مطروحة وأسمعت كلّ الآذان، وما على الإنسان إلاّ أن يستفيد منها أو لا يستفيد.

ثمّ يضيف: أنّ هذه الكلمات الإلهية الشريفة مكتوبة في صحف (ألواح وأوراق): (في صحف مكرمة).

«الصحف»: جمع (صحيفة) بمعنى اللوح أو الورقة، أو أيُّ شيء يُكتب عليه.

فالآية تشير إلى أنّ القرآن قد كُتب على ألواح من قبل أن يُنزّل على النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ووصلت إليه بطريق ملائكة الوحي، والألواح بطبيعتها جليلة القدر وعظيمة الشأن.

وسياق الآية وارتباطها مع ما سبقها من آيات وما سيليها: لا ينسجم مع ما قيل من أنّ المقصود بالصحف هنا هو، كتب الأنبياء السابقين.

وكذا الحال بالنسبة لما قيل من كون «اللوح المحفوظ»، لأنّ «اللوح والمحفوظ» لا يعبر عنه بصيغة الجمع، كما جاء في الآية: «صحف».

وهذه الصحف المكرمة: (مرفوعة مطهرة).

فهي مرفوعة القدر عند اللّه، وأجلّ من أن تمتد إليها أيدي العابثين وممارسات المحرِّفين، ولكونها خالية من قذارة الباطل، فهي أطهر من أن تجد فيها أثراً لأيّ تناقض أو تضاد أو شك أو شبهة.

______________________________

1 ـ يعود ضمير: «ذكره» إلى ما يعود إليه ضمير «إنّها»، وسبب اختلاف الصيغة بين الضميرين هو أنّ ضمير «إنّها» يرجع إلى الآيات القرآنية، و«ذكره» إلى القرآن، فجاء الأوّل مؤنثاً والثّاني مذكراً.

[417]

وهي كذلك: (بأيدي سفرة)، سفراء من الملائكة.

وهؤلاء السفراء: (كِرام بررة).

«سفرة»: جمع (سَافِرْ) من (سَفَر) على وزن (قمر)، ولغةً: بمعنى كشف الغطاء عن الشيء، ولذا يطلق على الرسول ما بين الأقوام (السفير) لأنّه يزيل ويكشف الوحشة فيما بينهم، ويطلق على الكاتب اسم (السافر)، وعلى الكتاب (سِفر) لما يقوم به من كشف موضوع ما وعليه... فالسفره هنا، بمعنى: الملائكة الموكلين بإيصال الوحي الإلهي إلى النّبي، أو الكاتبين لآياته.

وقيل: هم حفّاظ وقرّاء وكتّاب القرآن والعلماء، الذين يحافظون على القرآن من أيدي العابثين وتلاعب الشياطين في كلّ عصر ومصر.

ويبدو هذا القول بعيداً، لأنّ الحديث في الآيات كان يدور حول زمان نزول الوحي على صدر الحبيب المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس عن المستقبل.

وما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام)، في وقوله: «الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة»(1). بجعل الحافظين للقرآن العاملين به في درجة السفرة الكرام البررة، فليسوا هم السفرة بل في مصافهم، لأنّ جلالة مقام حفظهم وعملهم، يماثل ما يؤديه حملة الوحي الإلهي.

ونستنتج من كلّ ما تقدم: بأنّ مَنْ يسعى في حفظ القرآن وإحياء مفاهيمه وأحكامه ممارسةً، فله من المقام ما للكرام البررة.

«كرام»: جمع (كريم)، بمعنى العزيز المحترم، وتشير كلمة «كِرام» في الآية إلى عظمة ملائكة الوحي عند اللّه وعلو منزلتهم.

وقيل: «كرام»: إشارة إلى طهارتهم من كلِّ ذنب، بدلالة الآيتين (26 و 27) من سورة الأنبياء: (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون).

______________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص438.

[418]

«بررة»: جمع (بار)، من (البَرِّ)، بمعنى التوسع، ولذا يطلق على الصحراء الواسعة اسم (البَرْ)، كما يطلق على الفرد الصالح اسم (البار) لوسعة خير وشمول بركاته على الآخرين.

و«البررة»: في الآية، بمعنى: إطاعة الأمر الإلهي، والطهارة من الذنوب.

ومن خلال ما تقدم تتوضح لنا ثلاث صفات للملائكة.

الاُولى: إنّهم «سفرة» حاملين وحيه جلّ شأنه.

الثّانية: إنّهم أعزاء ومكرمون.

الثاّالثة: طهرة أعمالهم عن كلّ تقاعس أو مفسدة.

وعلى الرغم من توفير مختلف وسائل الهداية إلى اللّه، ومنها ما في صحف المكرمة من تذكير وتوجيه.. ولكنّ الإنسان يبقى عنيداً متمرداً: (قتل الإنسان ما أكفره)(1).

«الكفر»: في هذا الموضع قد يحتمل على ثلاثة معان... عدم الإيمان، الكفران وعدم الشكر... جحود الحق وستره بأيّ غطاء كان وعلى كلّ المستويات، وهو المعنى الجامع والمناسب للآية، لأنّها تعرضت لأسباب الهداية والإيمان، فيما تتحدث الآيات التي تليها عن بيان النعم الإلهية التي لا تُعد ولا تُحصى.

(قتل الإنسان): كناية عن شدّة غضب الباري جلّ وعلا، وزجره لمن يكفر بآياته.

ثمّ يتعرض البيان القرآني إلى غرور الإنسان الواهي، والذي غالباً ما يوقع صاحبه في هاوية الكفر والجحود السحيقة: (من أيّ شيء خلقه

______________________________

1 ـ «قتل الإنسان»: نوع من اللعن، وهو أشدّها عند الزمخشري في (الكشاف). «ما»، في «ما أكفره»: للتعجب، التعجب من السير في متاهات الكفر والضلال، مع ما للحق من سبيل واضحة، وتوفير مختلف مصاديق واللطف والرحمة والرّبانية التي توصل الإنسان إلى شاطىء النجاة.

[419]

لقد خلقه من نطفة قذرة حقيرة، ثمّ صنع منه مخلوقاً موزوناً مستوياً قدّر فيه جميع اُموره في مختلف مراحل حياته: (من نطفة خلقه فقدّره).

فَلِمَ لا يتفكر الإنسان بأصل خلقته؟!

لِمَ ينسى تفاهة مبدأه؟!

ألاَ يجدر به أن يتأمل في قدرة الباري سبحانه، وكيف جعله موجوداً بديع الهيئة والهيكل من تلك النطفة الحقيرة القذرة!! ألا يتأمل!!..

فالنظرة الفاحصة الممعنة في خلق الإنسان من نطفة قذرة وتحويله إلى هيئته التامّة المقدرة من كافة الجهات، ومع ما منحه اللّه من مواهب واستعدادات... لأفضل دليل يقودنا بيسر إلى معرفته جلّ اسمه.

«قَدَّره»: من (التقدير)، وهو الحساب في الشيء... وكما بات معلوماً أنّ أكثر من عشرين نوعاً من الفلزات وأشباه الفلزات داخلة في التركيب (البيولوجي) للإنسان، ولكلّ منها مقداراً معيناً ومحسوباً بدقّة متناهية من حيث الكمية الكيفية، بل ويتجاوز التقدير حدّ البناء الطبيعي للبدن ليشمل حتى الإستعدادات والغرائز والميول المودعة في الإنسان الفرد، بل وفي المجموع العام للبشرية، وقد وضع الحساب في مواصفات تكوينية ليتمكن الإنسان بواسطتها من الوصول إلى السعادة الإنسانية المرجوة.

وتتجلّى عظمة تقدير الخالق سبحانه في تلك النطفة الحقيرة القذرة التي تتجلّى بأبهى صورها جمالاً وجلالاً، حيث لو جمعنا الخلايا الأصلية للإنسان (الحيامن) لجميع البشر، ووضعناها في مكان واحد، لكانت بمقدار حمصة! نعم... فقد اُودعت في هذا المخلوق العاقل الصغير كلّ هذه البدائع والقابليات.

وقيل: التقدير بمعنى التهيئة.

وثمّة احتمال آخر، يقول التدير بمعنى إيجاد القدرة في هذه النطفة المتناهية في الصغر.

[420]

فما أجلّ الإله الذي الذي جعل في موجود ضعيف كلّ هذه القدرة والإستطاعة، فترى النطفة بعد أن تتحول إلى الإنسان تسير وتتحرك بين أقطار السماوات والأرض، وتغوص في أعماق البحار وقد سخرت لها كلّ ما يحيط بها من قوى(1).

ولا مانع من الأخذ بالتفاسير الثلاث جملةً واحدةً.

ويستمر القرآن في مشوار المقال: (ثمّ السبيل يسّره)... يسّر له طريق تكامله حينما كان جنيناً في بطن اُمّه، يسّر له سبيل خروجه إلى الحياة من ذلك العالم المظلم.

ومن عجيب خلق الإنسان أنّه قبل خروجه من بطن اُمّه يكون على الهيئة التالية: رأسه إلى الأعلى ورجليه إلى الأسفل، ووجهه متجهاً صوب ظهر اُمّه، وما أنْ تحين ساعة الولادة حتى تنقلب هيئة فيصبح رأسه إلى الأسفل كي تسهل وتتيسّر ولادته! وقد تشذ بعض حالات لولادة، بحيث يكون الطفل في بطن اُمّه في هيئة مغايرة للطبيعة، ممّا تسبب كثير من السلبيات على وضع الاُم عموماً.

وبعد ولادته: يمرّ الإنسان في مرحلة الطفولة التي تتميز بنموه الجسمي، ثمّ مرحلة نمو الغرائز، فالرشد في مسير الهداية الايمانية والروحية، ويساهم العقل ودعوة الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) في تركيز معالم شخصية وبناء الإنسان ورحياً وإيمانياً.

وبلاغة بيان القرآن قد جمعت كلّ ذلك في جملة واحدة: (ثمّ السبيل يسّره).

والملفت للنظر أنّ الآية المباركة تؤكّد على حرية اختيار الإنسان حين قالت أنّ اللّه تعالى يسّر وسهّل له الطريق الى الحق، ولم تقل أنّه تعالى أجبره على

______________________________

1 ـ يقول الراغب في مفردات: «قدّره (بالتشديد): أعطاه القدرة، ويقال: قدّرني اللّه على كذا وقواني عليه».

[421]

سلوك ذلك الطريق.

وتشير الآية التالية إلى الأمر الحتمي الذي به تطوى آخر صفحات مشوار الحياة الدنيا: (ثمّ أماته فأقبره).

ومن المعلوم أنّ «الإماتة» من اللّه تعالى والدفن على ظاهره من عمل الإنسان، ولمّا كانت عملية الدفن تحتاج إلى نسبة من الذكاء والعقل بالإضافة إلى توفر بعض المستلزمات الضرورية لذلك، فقد نسب الدفن «فاقبره» إلى اللّه تعالى.

وقيل: نسب اللّه ذلك إليه، باعتبار تهيئة الأرض قبراً للإنسان.

قيل: تمثل الآية حكماً شرعياً، وأمراً إلهياً في دفن الأموات.

وعلى أيّة حال، فالدفن من عناية ولطف وتكريم اللّه للإنسان، فلولا أمره سبحانه بالدفن لبقيت أجساد الإنسان الميتة على الأرض وتكون عرضة للتعفن والتفسخ وطعماً للحيوانات الضارية والطيور الجارحة، فيكون الإنسان والحال هذه في موضع الذّلة والمهانة، ولكنّ لطف الباري عزّوجلّ على الإنسان في حياته وبعد مماته أوسع ممّا يلتفت فيه الإنسان لنفسه أيضاً.

وحكم دفن الأموات (بعد الغسل والتكفين والصلاة)، يبيّن لنا... إنّه ينبغي على الإنسان أن يكون طاهراً محترماً في موته، فكيف به يا تُرى وهو حيّ؟!

وذكر الموت في الآية باعتباره نعمة ربّانية، أضفى بها الباري على الإنسان.. وبنظرة تأملية فاحصة سنجد حقيقة ذلك، فالموت في حقيقته عبارة عن:

أوّلاً: مقدمة للخلاص من أتعاب وصعاب هذا العالم، والإنتقال إلى عالم أوسع.

ثانياً: فسح المجال لتعاقب الأجيال على الحياة الدنيا لمتابعة مشوار التكامل البشري بصورة عامّة، ولولا الموت لضاقت الأرض بأهلها، ولما كان ممكناً أنْ تستمر عجلة الحياة على الأرض.

[422]

وأشارت الآيات (26 ـ 28) من سورة الرحمن إلى نعمة الموت، بالقول: (كلّ مَن عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام فبأيّ آلاء ربّكما تكذبان)؟!

فالموت على ضوء الآية المباركة من مفردات النعم الكبيرة للباري جلّ شأنه على البشرية.

نعم.. فالدنيا وجميع ما تحويه من نعم ربّانية لا تتعدى كونها سجن المؤمن، والخروج منها إطلاق سراح من هذا السجن الكئيب.

وإذا كانت النعم سبباً لوقوع الإنسان في غفلة عن اللّه، فالموت خير رادع لايقاظه وتحذيره من الوقوع في ذلك الشَرَك، فهو والحال هذه نعمة جليلة الشأن.

أضف إلى ذلك كلّه، إنّ الحياة لو دامت فسوف لا يجني الإنسان منها سوى الملل والتعب، فهي ليست كالآخرة التي تحمل بين ثناياها النشاط والسعادة الأبدية.

وينتقل البيان القرآني إلى يوم القيامة: (ثمّ إذا شاء أنشره).

«أنشره»: من (النشر)، بمعنى الإنبساط بعد الجمع، فالكلمة تشير باُسلوب بلاغي رائع إلى جمع كلّ حياة الإنسان عند الموت لتنشر في محيط أكبر وأعلى (يوم القيامة).

ومع أنّ الآية السابقة لم تشر إلى مشيئة اللّه في عمليتي الموت والإقبار (ثمّ أماته فأقبره)، إلاّ أنّ «النشر» قد اقترن بمشيئته سبحانه في الآية المبحوثة (ثمّ إذا شاء أنشره).. يمكن حمل ذلك على كون إشارة لعدم معرفة أيّ مخلوق بوقت حدوث يوم القيامة، وأمّا الموت فهو معروف إجمالاً، حيث كلّ إنسان يموت بعد عمر طبيعي.

وتأتي الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة لتبيّن لنا ما يؤول إليه الإنسان من ضياع في حال عدم اعتباره بكلّ ما أعطاه اللّه من المواهب، فالرغم من حتمية

[423]

تسلسل حياة الإنسان من نطفة حقيرة، مروراً بما يطويه من صفحات الزمن العابرة، حتى يموت ويقبر، لكنّه.. (كلاّ لمّا يقض ما أمره)(1).

جاءت «لمّا»، ـ التي عادة ما يستعمل للنفي المصاحب لما ينتظر ويتوقع ـ كإشارة إلى ما وضع تحت اختيار وعين الإنسان من نعم إلهية وهداية ربّانية وأسباب التذكير، لأجل أن يرجع الإنسان إلى ما فطر عليه ويؤدي ما عليه من مسؤولية وتكاليف، ولكنّه مع كلّ ذلك فلا زال غير مؤد لما عليه!

وثمّة احتمالات فيمن عنتهم الآية:

الأوّل: إنّهم السائرون في طريق الكفر والنفاق، إنكار الحق، الظلم والعصيان، بقرينة الآية (34) من سورة إبراهيم: (إنّ الإنسان لظلوم كفّار).

الثّاني: إنّهم جميع البشر.. لأنّ المؤمن والكافر يلتقون معاً في عدم بلوغهما لدرجة العبودية الحقة والطاعة الكاملة التي تليق بجلالة وعظمة ولطف الباري جلّ شأنه.

* * *

______________________________

1 ـ قيل: أتت «كلاّ» هنا بمعنى (حقّاً)... إلاّ أنّ سياق الآية وظاهر الكلمة لا يؤيدان ذلك ولعل المعنى المشهور (الردع) هو المطلوب، لوجود الكثير ممن يعتقد مغروراً ومدعيّاً بأنّه قد أدّى وظائفه الشرعية على أتمّ أداء، فتأتي الآية لتقول رادعة بأنّه لم يؤدِ وظائفه بعد.

[424]

الآيات

فَلْيَنْظُرِ الاِْنْسَـنُ إِلَى طَعَامِهِ(24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبَّاً(25) ثُمَّ شَقَقْنَا الاَْرْضَ شَقَّاً(26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبَّاً(26) وَعِنَباً وَقَضْباً (28)وَزَيْتُونَاً وَنَخْلاً(29) وَحَدَآئِقَ غُلْباً(30) وَفَـكِهَةً وَأَبَّاً(31) مَتَـعاً لَكُمْ وَلاَِنْعَـمِكُمْ(32)

التّفسير

فلينظر الإنسان إلى طعامه:

تحدثث الآيات السابقة حول مسألة المعاد، والآيات القادمة تتناول نفس الموضوع بشكل أوضح، ويبدو أنّ الآيات المبحوثة ـ وانسياقاً مع ما قبلها وما بعدها ـ تتطرق لذات لبحث تبيّن مفردات قدرة الباري جلّ شأنه على كلّ شيء كدليل على إمكان تحقق المعاد، فما يقرّب إمكانية القيامة إلى الأذهان هو إحياء الأراضي الميتة بإنزال المطر عليها، العملية تمثل إحياء بعد موت مختصة في عالم النبات.

ثمّ إن البيان القرآني في الآيات أعلاه قد طرح بعض مفردات الأغذية التي جعلها اللّه تحت تصرف الإنسان والحيوان، لتثير عند الإنسان الإحساس

[425]

بضرورة شكر المنعم الواهب، وهذا الإحساس بدوره سيدفع الإنسان ليتقرب في معرفة بارئه ومصوّره.

وشرعت الآيات بقولها: (فلينظر الإنسان إلى طعامه)(1) كيف خلقه اللّه تعالى؟!

الغذاء من أقرب الاشياء الخارجية من الإنسان وأحد العوامل الرئيسية في بناء بدنه، ولولاه لتقطّعت أنفاس الإنسان وأسدلت ستارة نصيبه من الحياة، ولذلك جاء التأكيد القرآني على الغذاء وبالذات النباتي منه من دون بقية العوامل المسخرة لخدمة هذا المخلوق الصغير في حجمه.

ومن الجلي أنّ «النظر» المأمور به في الآية جاء بصيغة المجاز، واُريد به التأمل والتفكير في بناء هذه المواد الغذائية، وما تحويه من تركيبات حياتية، وما لها من تأثيرات مهمّة وفاعلة في وجود الإنسان، وصولاً إلى حال التأمل في أمر خالقها جلّ وعلا.

أمّا ما احتمله البعض، من كون «النظر» في الآية هو النظر الظاهري (أي المعنى الحقيقي للكلمة)، وعلى أساس طبي، حيث أنّ النظر إلى الغذاء يثير إلى الغدد الموجودة في الفم لإفراز موادها كي تساعد عملية هضمه في المعدة، فيبدو هذا الإحتمال بعيداً جدّاً، لأنّ سياق الآية وبربطها بما قبلها وما بعدها من الآيات لا ينسجم مع هذا الإحتمال.

وبطبيعة الحال إنّ الذين يميلون إلى هذا الإحتمال هم علماء التغذية الذين ينظرون إلى القرآن الكريم من زاوية تخصصهم لا غير.

وقيل أيضاً: نظر الإنسان إلى غذاءه في حال جلوسه حول مائدة الطعام، النظر إلى كيفية حصوله... فهل كان من حلال أم من حرام؟ هل هو مشروع أم غير

______________________________

1 ـ يمكن اعتبار جملة «فلينطر»: جزاء شرط مقدّر، والتقدير: (إنّ كان الإنسان في شك من ربّه ومن البعث فلينظر إلى طعامه).

[426]

مشروع؟ أيْ ينظر إلى طعامه من جانبيه الأخلاقي والتشريعي.

وقد ذُكِرَ في بعض روايات أهل البيت(عليهم السلام)، إنّ المراد بـ «الطعام» في الآية هو (العلم) لأنّه غذاء الروح الإنسانية.

ومن هذه الروايات ما روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) في تفسير الآية، إنّه قال: «علمه الذي يأخذه عمن يأخده»(1).

وقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) ما يشابه معنى الرواية أعلاه(2).

وإذا كان المستفاد من ظاهر الآية هو الطعام الذي يدخل في عملية بناء الجسم، فلا يمنع من تعميمه ليشمل الغذاء الروحي أيضاً، لأنّ الإنسان في تركيبته مكوّن من جسم وروح، فكما أنّ الجسم يحتاج إلى الغذاء المادي فكذا الروح بحاجة إلى الغذاء المعنوي.

وفي الوقت الذي ينبغي على الإنسان أنْ يكون فيه دقيقاً متابعاً لأمر غذائه وباحثاً عن منبعه: وهو المطر المحيي الأرض بعد موتها (كما سيأتي في الآيات التالية)، فعليه أيضاً أنْ يهتم في أمر غذاءه الروحي وباحثاً في منشئه، وهو غيث الوحي الإلهي النازل على قلب الحبيب المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي خزن في صدور المعصومين(عليهم السلام) من بعده، حيث ينبع من صفحات قلوبهم الطاهرة ليسقي الموات عسى أن تثمر ألوان الثمار الإيمانية اللذيذة من فضائل أخلاقية وعقائدية.

نعم... ينبغي على الإنسان أنْ يكون دقيقاً في متابعة مصدر ومنبع علمه ليطمئن لغذائه الروحي، وليأمن بالنتيجة من مدلهمات الخطوب التي تؤدي لمرض الروح أو هلاكها.

وبواسطة الدلالة الإلتزامية، يستفاد من الآية المباركة ضرورة النظر في حليّة وحرمة الغذاء، وذلك عن طريق قياس الأولوية.

______________________________

1 ـ تفسير البرهان، ج4، ص429.

2 ـ المصدر السابق.

[427]

وثَمّة مَنْ يقول: إنّ المعنى كلٌّ من «الطعام» و«النظر» من الوسع بحيث يشمل كلّ ما ذكره أعلاه، ولكنْ.. مَنْ المخاطب في الآية؟

الجميع مخاطبون، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، فعلى كلّ إنسان أنْ ينظر إلى طعامه ويتفكر فيما أودع فيه من أسرار وعجائب كماً وكيفيةً، وعسى الضال ـ والحال هذه ـ أن يجد ضالته فيترك طريق الضلال ويسلك طريق الحقّ، ولكي يزداد المؤمنون إيماناً.

فالأغذية بما تحمل وتقدم تعتبر عالماً مضيئاً وآيات باهرة تنير درب الباحثين عن الحق في لجج الضياع والجهالة، وتوصل الباحثين عن الأمان إلى شاطيء النجاة.

ثمّ يدخل القرآن في شرح تفصيلي لماهية الغذاء ومصدر تشكيله، فيقول (أنّ صببنا الماء صبّاً).

«الصب»: إراقة الماء من أعلى، وجاء هنا بمعنى هطول المطر.

و«صباً»: تأكيد، وللإشارة إلى غزارة الماء.

نعم.. فالماء مصدر رئيسي للحياة، وهو على الدوام ينزل من السماء وبغزارة ليجسد لطف اللّه تعالى على خلقه.

كيف لا، وكلّ العيون والآبار والقنوات والأنهار قد استمدت أساس وجودها من الأمطار.

وعليه.. فلابدّ للإنسان حين ينظر إلى طعامه أن يربط ذلك بنظام المطر، ويدقق النظر في عملية تكوين الغيوم وكيفية حدوث الأمطار.

فالماء المتبخر من سطح البحار، يتجمع في الفضاء على شكل غيوم، وتتحرك تلك الغيوم بفعل الرياح إلى طبقات الجو الباردة، فتبدأ بعملية التكاثف حتى تصل لدرجة الهطول، فترى ذلك البخار وقد تحول إلى قطرات ماء زلال خال من أيّ أملاح مضرة وقد تطهر عن كلّ قذارة، وليستقر في آخر مطافه على

[428]

الأرض ليعطيها القوّة والحركة والحياة.

وبعد ذكر نعمة الماء وما له من أثر حيوي ومهم في نمو النباتات، ينتقل البيان القرآني إلى الأرض، فيقول: (ثمّ شققنا الأرض شقّاً).

يذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ الآية تشير إلى عملية شقّ الأرض بواسطة النباتات التي تبدأ بالظهور على سطح الأرض بعد عملية بذر الحبوب، والعلمية بحدّ ذاتها مدعاة للتأمل، إذ كيف يمكن لهذا العشب الصغير الناعم أنْ يفتت سطح التربة مع ما لها من صلابة وخشوبة! بل ونرى في المناطق الجبلية أنّ سويقات نباتاتها وقد ظهرت من بين حافات صخورها الصلدة! فأيّة قدرة هائلة قد اُودعت فيها، سبحانك يا ربّ وأنت الخلاق العليم.

وقيل: تشير الآية إلى شقّ الأرض بالآت الزرّاعة من قبل الإنسان، أو تشير إلى ما تقوم به الديدان من حرث الأرض وتشقيقها من خلال ممارساتها لنشاطاتها الحياتية المختصة بها.

صحيح أنّ الإنسان هو الذي يقوم بعملية الحرث، ولكنّ جميع أسبابه ووسائله من اللّه عزّوجلّ، لذا فقد نسبت عملية شقّ الأرض إلى الباري جلّ اسمه.

وثمّة تفسير ثالث يقول: إنّ شقّ الأرض في الآية إشارة إلى تفتت الصخور التي كانت على سطح الأرض.

ولهذ التفسير مرجحات عديدة...

وتوضيح ذلك: كان سطح الكرة الأرضية مغطى بطبقة عظيمة من الصخور، وقد تشققت تلك الطبقة الصخرية بفعل غزارة هطول الأمطار المتتالية عليها، ممّا جعلتها علس شكل ذرات منتشرة على معظم سطح الأرض، فتحولت إلى تربة صالحة للزراعة.

وحتى يومنا المعاش... نلاحظ قسماً كبيراً من الأتربة التي تحملها مياه

[429]

الأنهار أو المصحوبة مع السيول، نلاحظها وقد كونت طبقات من التربة الصالحة للزراعة بعد أن تستقر على الأرض يتبخر الماء عنها أو تمتصه الأرض.

فالآية تمثل إحدى مفردات الإعجاز العلمي للقرآن، لأنّها تناولت موضوع الأمطار وتشقق الأرض وتهيئها للزراعة، بشكل علمي دقيق، والآية لم تتحدث عن شيء قد حدث، بل حدث ولا زال، يبدو أنّ هذا التفسير ينسجم مع ما تطرحه الآية التالية بخصوص عملية الإنبات.... مع ذلك، فلا ضير من قبول التفاسير الثلاثة للآية ومن جهات مختلفة.

وبعد ذكر ركنين أساسيين في عملية الإنبات ـ أي الماء والتراب ـ ينتقل القرآن بالإشارة إلى ثمانية مصادر لغذاء الإنسان أو الحيوان: (فأنبتنا فيها حبّاً).

تعتبر الحبوب من الأغذية الرئيسية للإنسان والحيوان معاً، وتتوضح أهميتها فيما لو عمّ الجفاف ـ على سبيل المثال ـ فمدّة عام واحد، حيث يعمّ القحط وتنتشر المجاعة في كلّ مكان.

«حبّاً»: جاءت في الآية نكرة، لتعظيم شأنها، أو لتشير إلى تنوع أصناف الحبوب، وذهب البعض إلى أنّ الحنطة الشعير هما المرادان دون بقية الحبوب، ولكن ليس هناك من دليل على هذا التخصيص، وإطلاق الكلمة يدل على شمول كلّ الحبوب.

ثمّ يضيف: (وعنباً وقضباً).

وقد اختارت الآية العنب دون البقية لما اُودع فيه من مواد غذائية غنية بالمقويات، حتى قيل عنه بأنّه غذاء كامل.

ومع أنّ «العنب» يطلق على الشجرة والثمرة، وبالرغم من ورود كلا الإستعمالين في الآيات القرآنية، لكنّ المناسب هنا الثمرة دون الشجرة.

«قضباً»: هو الخضراوت التي تحصد بين فترة اُخرى، وما اُريد منها بالذات، تلك الخضراوات التي تؤكل من غير طبخ (تؤكل طرية)، وقد جاء ذكرها بعد

[430]

العنب لأهميتها الغذائية، وقد أكّد هذا المعنى علم التغذية الحديث.

وتستعمل كلمة (القضيب) بمعنى القطف والقطع أيضاً، و(القضيب): غصن الشجرة، و(سيف قاضب) بمعنى: قاطع.

وروي عن ابن عباس قوله: إن «القضيب» في هذه الآية هو (الرطب)، ولكنّ هذا المعنى بعيد جدّاً للإشارة إلى الرطب في الآية التالية.

وقيل أيضاً: «القضب» الوارد في الآية، بمعنى ثمار النباتات الزاحفة (كالخيار والبطيخ وما شابهه)، أو النباتات الأرضية (كالبصل والجزر... الخ).

ولا يبعد من إرادة كلّ الخضروات التي تؤكل طرية والنباتات الزاحفة وكذا الأرضية في معنى «القضب» المشار إليه في الآية.

ثمّ يضيف (وزيتوناً ونخلاً) ومن الواضح أنّ ذكر هاتين الفاكهتين لما لهما من الأهمية الغذائية للإنسان، حيث يعتبر الزيتون والثمر من أهم الأغذية المقوية والصحية والمفيدة للإنسان.

وتأتي المرحلة التالية: (وحدائق غلباً).

«الحدائق»: جمع (حديقة)، وهي الأرض المزروعة والمحاطة بسور يحفظها، وهي الأصل بمعنى: قطعة الأرض التي تحتوي على الماء، وسميّت حديقة تشبيهاً بحدقة العين من حيث الهيئة وحصول الماء فيها.

ويحتمل إشارة الآية إلى أنواع الفواكه، باعتبار أنّ الحدائق غالباً ما تزرع بأشجار الفاكهة.

«غلب»: على وزن (قفل)، جمع (أغلب) و(غلباء)، بمعنى غليظ الرقبة، فلآية إذَنْ ترمز إلى الأشجار الشاهقة المتينة.

ثمّ يضيف: (وفاكهة وأبّاً).

«الأبّ»: (بتشديد الباء): هو المرعى المُهيأ للرعى والحصد، وهو في الأصل بمعنى «التهيؤ»، اُطلق على المرعى لما فيه من أعشاب يكون بها مهيئاً لاستفادة

[431]

الحيوانات منه.

وذكر جمع من المفسّرين ـ من كلا الفريقين ـ في ذيل الآية: إنّ عمر بن الخطاب قرأ يوماً على المنبر: (فأنبتنا فيها حبّاً وعنباً وقضياً) إلى قوله تعالى: (وأبّاً).. قال: كلّ هذا قد عرفناه، فما الأبّ! ثمّ رمى عصاً كانت في يده، فقال: هذا لعمر اللّه هو التكلف، فما عليك أنْ لا تدري ما الأبّ!! إتّبعوا ما تبيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكِلوه إلى ربّه!(1).

وأغرب من ذلك، ما ورد في (الدر المنثور) عن أبي بكر حينما سئل عن ذلك، أنّه قال: (أيُّ سماء تظلني وأيُّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب اللّه ما لا أعلم)!

وقد اتّخذ كثير من علماء السنّة من الحديثين المذكورين على أنّه: لا ينبغي لأحد التكلم فيما لا يعلم، وعلى الأخص في كتاب اللّه.

ولكنْ، يبقى في الذهن إشكال... إذْ كيف يكون لخليفة المسلمين أنْ لا يفقه كلمة وردت في القرآن الكريم، مع كونها ليست من معضلات اللغة؟!! وهذا ما يوصلنا إلى ضرورة وجود قائد الإلهي في كلّ عصر، وأن يكون عارفاً بجميع المسائل الشرعية، ومنزّهاً عن الخطأ (معصوماً).

ولذلك، روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، إنّه حينما سمع بما قاله الخليفة.. قال: «سبحان اللّه أمَا عَلِمَ أنّ الأبّ هو الكلأ والمرعى، وأنّ قوله تعالى:(وفاكهة وأبّاً)اعتداد من اللّه بإنعامه على خلقه، فيما غذّاهم به، وخلقه لهم ولأنعامهم، ممّا تحيى به أنفسهم وتقوم به أجسادهم»(2).

ويواجهنا سؤال: إذا كانت الآيات السابقة ذكرت بعض أنواع الفاكهة، والآية المبحوثة تناولت الفاكهة بشكل عام، هذا بالإضافة إلى ذكر الـ «حدائق» في الآية

______________________________

1 ـ تفسير الآية المذكورة في: تفسير روح المعاني، تفسير القرطبي، تفسير في ظلال القرآن، الدر المنثور، وتفسير الميزان.

2 ـ إرشاد المفيد، ص107، وعنه تفسير الميزان، ج20، ص319.

[432]

السابقة والتي قيل أنّ ظاهرها يشير إلى الفاكهة... فَلِمَ هذا التكرار؟

الجواب: إنّ تخصيص ذكر العنب والزيتون والتمر (بقرينة ذكر النخل)، إنّما جاء ذكرها لأهميتها المميزة على بقية الفاكهة(1).

أمّا لماذا ذكرت بشكل منفصل عن الفاكهة؟ فيمكن حمله على ما للحدائق من منافع خاصّة بها، ولا تشترك الفاكهة فيها، كجمالية منظرها وعذوبة نسيمها وما شابه ذلك، بالإضافة إلى إستعمال أوراق الأشجار وجذورها وقشور جذوعها كمواد غذائية (كالشاي والزنجبيل وأمثالها)، أمّا بالنسبة للحيوانات، فأوراق الأشجار المختلفة من أفضل أغذيتها عموماً... فالآيات إذَنْ كانت في صدد الحديث عن غذاء الإنسان والحيوان.

ولذلك... جاءت الآية التالية لتوضيح هذا المعنى: (متاعاً لكم ولأنعامكم).

«والمتاع»: هو كلّ ما يستفيد منه الإنسان ويتمتع به.

* * *

بحث

الغذاء النافع:

ذكرت الآيات المبحوثة ثمانية أنواع من المواد الغذائية النباتية لسد احتياجات الإنسان والحيوانات، وهذا التأكيد على الا غذاية النباتية يعطي ما للنباتات والحبوب والفاكهة من أهمية غذائية تفوق في دورها على الأغذية الحيوانية التي تأتي في نظر القرآن في المرتبة الثّانية من حيث الأهمية.

وقد اهتم علماء التغذية حديثاً بما ورد في القرآن الكريم فيما يخصّ مجال عملهم، ويكشف هذا الإهتمام بدوره عن عظمة القرآن وقوّة ما فيه...

______________________________

1 ـ بحثنا مفصّلاً موضوع الأهمية الغذائية للزيتون والعنب والتمر في هذا التفسير ضمن تفسير الآية (11) من سورة النحل ـ فراجع.

[433]

وعلى أيّة حال، فالتأمل في هذه الاُمور يزيد الإنسان معرفة بعظمة ولطف الخالق جلّ شأنه، ويوسّع اطلاعه في تحسس نِعم الباري جلّ اسمه على الخلائق أجمعين.

نعم.. فالإهتمام في مسألة غذاء الإنسان (الجسمي والروحي) من حيث النوعية وطريقة كسبه، يدفع الإنسان للتقرب أكثر من جادة معرفة اللّه وسلوك طريق رضوانه سبحانه، كما ويدفع إلى تهذيب وتزكية النفس من أدران الشرك وقذارة الذنوب.

نعم.. (فلينظر الإنسان إلى طعامه)، تمثل الآية المباركة: أقصر تعبير لمعنىً واسع ومتشعب.

* * *

[434]

الآيات

فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ(33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35) وَصَـحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36) لِكُلِّ امْرِىء مِنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذ مُّسْفِرَةٌ(38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39)وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذ عَلَيٌهَا غَبَرَةٌ(40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ(41) أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ(42)

التّفسير

صيحة البعث....

وينتقل الحديث في هذه الآيات إلى يوم القيامة وتصوير حوادثه، وما سيؤول فيه من أحوال المؤمنين الكافرين، كلٌّ بما كسبت يداه وقدَّم.

فمتاع الحياة الدنيا وإنّ طال فهو قليل جدّاً في حساب حقيقة الزمن، وأنّ خالق كلّ شيء لعظيم في خلقه وشأنه، وأنّ المعاد حق ولابدّ من حتمية وقوعه.

ويقول القرآن الكريم: (فإذا جاءت الصاخة)(1)

______________________________

1 ـ ثمّة احتمالات كثيرة في تعيين جزاء الشرط لهذه الجملة الشرطية... الأوّل: إنّه محذوف بدلالة الآيات التالية، التقدير: (فإذا جاءت الصاخة فما أعظم أسف لكافرين) ـ تفسير المراعي. والثاني: وفي (مجمع البيان) قيل: إنّه (لكلّ امرء منهم يومئذ شأن يغنيه). والثالث: أمّا في (روح المعاني)، فقد احتمل: إنّه مستفاد من جملة (يوم يفر المرء)، والتقدير: (فإذا جاءت الصاخة يفر المرء من أخيه).

[435]

«الصّاخة»: من (صخّ)، وهو الصوت الشديد الذي يكاد أنْ يأخذ بسمع الإنسان، ويشير في الآية إلى نفخة الصور الثّانية، وهي الصيحة الرهيبة التي تعيد الحياة إلى الموجودات بعد موتها جميعاً ليبدأ منها يوم الحشر.

نعم، فالصيحة من الشدّة بحيث تذهله عن كلّ ما كان مرتبطاً به، سوى نفسه وأعماله.

ولذا، تأتي الآية التالية، ولتقول مباشرة: (يوم يفرّ المرء من أخيه).

ذلك الأخ الذي ما كان يفارقه وقد ارتبط به بوشائج الاُخوة الحقة!

وكذلك: (اُمّه وأبيه).

حتى: (وصاحبته وبنيه).

فوحشة ورهبة يوم القيامة لا تُنسي الأخ والاُم والأب والزوجة والأولاد فحسب، بل وتتعدى إلى الفرار منهم، وعندما ستتقطع كلّ روابط وعلاقات الإنسان الفرد مع الآخرين... فحينها سوف لا يهتم إلاّ نفسه وما قدّم، وسينسى:

اُمّه التي كانت تحبّه وتفديه..

وأبو الذي ربّاه واحترمه..

وزوجته التي لا تعرف غيره..

وأولاده.. ثمرة كبده وقرة عينه..

وقيل: إنّما يكون الفرار للتهرب من الحقوق التي لهم عليه، وهو عاجز عن أدائها.

وقيل أيضاً: إنّما يفر المؤمنون خاصّة من أقربائهم من غير المؤمنين وغير المتقين، خوفاً من الإصابة بما سيصيب اُولئك من عقاب.

[436]

ويبدو أنّ التفسير الأوّل أنسب ولا مانع من الجمع بينهما.

ولكن... ما سرّ تسلسل ذكر الأخ، ثمّ الاُمّ، فالأب من بعدها، ومن ثمّ الزوجة والأولاد؟

يعتقد بعض بأّ التسلسل قد لوحظ فيه شدّة العلاقة ما بين الفار ومَنْ يرتبط بهم، وقد تسلسل الذكر من الأدنى حتى الأعلى، ليعطي لهذا التصوير بعداً بلاغياً، فهو من أخيه، ثمّ من اُمّه وأبيه، ثمّ من زوجته وبنيه.

ولكن: يصعب الخروج بقاعدة كلية تختص في ترتيب العلائق بين الناس، فالناس ليسوا سواسية في هذا الجانب، فقد نجد من يكون مرتبطاً بأخيه أكثر من أيّ إنسان الآخر، ونجد ممن لا يقرّب على علاقته باُمّه شيء، وثمّة من تكون زوجته رمز حياته، أو مَنْ يفضل ابنه حتى على نفسه... الخ.

وثمّة عوامل اُخرى تدخل في التأثير على علاقة الإنسان بأخيه وأبيه وزوجته وبنيه، وعلى ضوئها لا يمكننا ترجيح أفضلية أيّ منهم على الآخر من جميع الجهات، وعليه فلا يمكن القطع بأنّ التسلسل الوارد في الآية قد جاء على أثر أهمية وشدّة العلاقة.

ولكن.. لِمَ الفرار؟... (لكلّ امرء منهم يومئذ شأن يغنيه).

«يغنيه»: كناية لطيفة عن شدّة انشغال الإنسان بنفسه في ذلك اليوم، ولما سيرى من حوادث مذهلة، تأخذه كاملاً، فكراً وقلباً.

وقد سئل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحميم، وهل يذكره الرجل يوم القيامة؟ فقال: «ثلاثة مواطن لا يذكر (فيها) أحدٌ أحداً: عند الميزان، حتى ينظر أيثقل ميزانه أم يخف؟.. وعند الصراط، حتى ينظر أيجوزه أم لا؟.. وعند الصحف، حتى ينظر بيمينه يأخذ الصحف أم بشمال؟.. فهذه ثالثة مواطن لا يذكر فيها أحد حميمه ولا حبيبه ولا قريبه ولا صديقه، ولا بنيه ولا والديه، ذلك قوله تعالى: (لكلّ امرء

[437]

منهم يومئذ شأن يغنيه)(1).

وينتقل البيان القرآني ليصور لنا حال العباد بقسميهم في ذلك اليوم، فتقول:

(وجوهٌ يومئذ مسفرة) أي مشرقة وصبيحة.

(ضاحكة مستبشرة).

(ووجوهٌ يومئذ عليها غبرة).

(ترهقها قترة) أي تغطيها ظلمات ودخان.

(اُولئك هم الكفرة الفجرة).

«مسفرة»: من (الأسفار)، بمعنى الظهور بياض الصبح بعد ظلام الليل.

«غبرة»: على وزن (غَلَبَة)، من (الغبار).

«قترة»: من (القتار)، وهو شبه دخان يغشي من الكذب، وقد فسّره بعض أهل اللغة بـ (الغبار) أيضاً، ولكن ذكرهما في آيتين «الغبرة والقترة» متتاليتين منفصلتين يشير إلى اختلافهما في المعنى.

«الكفرة»: جمع (كافر)، والوصف يشير إلى فاسدي العقيدة.

«الفجر»: جمع (فاجر)، والوصف يشير إلى فاسدي العمل.

ونستخلص من كلّ ما تقدّم، إنّ آثار فساد العقيدة لدى الإنسان وأعماله السيئة ستظهر على وجهه يوم القيامة.

وقد اختير الوجه، لأنّه أكثر أجزاء الإنسان تعبيراً عمّاً يخالجه من حالات الغبطة والسرور أو الحزن والكآبة، فبإمكانك وبكلّ وضوح أن تعرف أنّ فلاناً مسروراً أم حزيناً من خلال رؤيتك لما انطبع على وجهه، وحالات: السرور، والحزن، والخوف، والغضب، والخجل وما شابه، لها بصمات خاصّة على ملامح وتقاسيم الوجه.

______________________________

1 ـ تفسير البرهان، ج4، ص429.

[438]

وعلى أيّة حال.. فالوجوه الضاحكة المستبشرة، تحكي عن: الإيمان وطهارة القلب وصلاح الأعمال.

وبعكس الوجوه المقابلة والدالة على: ظلام الكفر، قبح الأعمال، وكأنّ وجوههم قد غطاها الغبار، تراها مسودة، وتحيط بها هالة من الدخان..

وترى معاني الغم والألم والأسف قد تجسدت على الوجوه، كما تشير إلى ذلك الآية (41) من وسورة الرحمن: (يعرف المجرمون بسيماهم)... فيكفي لمعرفة حال الإنسان في يوم القيامة من خلال النظر إلى وجهه.

* * *

بحث

اُسس البناء الذاتي:

لقد حملت السورة المباركة بين طياتها برنامجاً تربوياً جامعاً لنباء النفس وتزكيتها:

1 ـ فقد أمرت بكسر حاجز الغرور والتكبر، والتحلي بالتأمل في بدء خلق الإنسان، فهذا الذي ابتدأ وجوده من نطفة قذرة، لا ينبغي عليه أن يتطاول ويرى نفسه أكبر من حجمها الطبيعي.

2 ـ التمسك بطرق الهداية الرّبانية (هداية الوحي، تعاليم الأنبياء وبرامج الأولياء الصالحين، وكذا الهداية الحاصلة عن العقل بدراسة قوانين وأنظمة عالم التكوين)، فهو أفضل زاد في مشوار طريق البناء.

3 ـ وتأمر الإنسان للتفكر في طعامه ـ من أين جاء كيف صار، وما سرّ اختلاف ألوانه وأنواعه ـ، ليصل إلى عظمة الخلاق ومدى لطفه ورحمته على عباده، ولابدّ للإنسان من السعي في كسب لقمة الحلال والتي تعتبر من أهم أركان التربية السليمة، وذلك لما لها من آثار نفسية وشرعية.

[439]

4 ـ وإذا ما أعطت السورة كلّ هذه الأهمية لغذاء البدن، فهي تدفع الإنسان للتحري عن سلامة غذاءه الروحي، لأنّ فعل التعليمات المنحرفة والتوجيهات الفاسدة الباطلة كفعل الغذاء المسموم، فهي تنخر في البناء الروحي وتعرض حياة الإنسان للخطر.

وممّا يحزُّ في نفوس المؤمنين أن يروا قسماً من الناس وقد تكالبوا على غذاء البدن بكلّ دقة واعتناء، وأهملوا الغذاء الروحي فترى (مثلاً) من يقرأ أيّ كتاب وإن كان فاسد ومفسِّد، ويستمع لأيّ حديث وإن كان ضالاً مضلاً، دون أن يضع لتوجيهاته أيّ ضابط بقيد أو شرط!

وقد جسّد أمير المؤمنين(عليه السلام) هذا المعنى بقوله: «ما لي أرى الناس إذا قرب إليهم الطعام ليلاً تكلفوا إنارة المصابيح، ليبصروا ما يدخلون بطونهم، ولا يهتمون بغذاء النفس، بأن ينيروا مصابيح ألبابهم بالعلم، ليسلموا من لواحق الجهالة والذنوب، في اعتقاداتهم وأعمالهم»(1).

وروي شبيه هذا القول عن الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام): «عجبت لمن يتفكر في مأكوله، كيف لا يتفكر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه، ويودع صدره ما يرديه»(2).

5 ـ ثمّ تذكّر السورة بصيحة البعث الرهيبة التي تضع الإنسان وجهاً لوجه أمام ما قدّمت يداه من أعمال في الحياة الدنيا...

فعلى الإنسان أن يتفكر في أمر آخرته، وعليه أن يعمل ليكون ضاحك الوجه مستبشراً في ذلك اليوم المحتوم، وأن يجهد بكلّ ما أمكنه للتخلص ممّا يؤدي به لأن يكون عبوساً حزيناً.

اللّهمّ، وفقنا لتربية وتزكية وأنفسنا..

______________________________

1 ـ سفينة البحار، ج2، ص84.

2 ـ المصدر السابق.

[440]

اللّهم، لا تحرمنا من نعمة التوجه الصحيح الشاخص لساحة رضوانك..

اللّهم، أيقظنا من غفلتنا واجعل عاقبتنا على خير...

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة عبس


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=907
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28