• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثامن عشر ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة المجادلة من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 99 ـ 156 ) .

سورة المجادلة من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 99 ـ 156 )

[ 99 ]

بدايَة الجزء الثامن و العشرون مِنَ القُرآن الكريم

[ 101 ]

سورة المُجادلة

مدنيّة

وعددُ آياتِها إثنان وعشرُونَ آية

[ 103 ]

الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والثانية عن الإمام الصادق (عليه السلام).

جاء في الرواية الاُولى: «من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله في يوم القيامة».

وجاء في الرواية الثانية: «من قرأ سورة الحديد والمجادلة في صلاة فريضة وأدمنها لم يعذّبه الله حتّى يموت أبداً، ولا يرى في نفسه ولا في أهله سوءاً أبداً، ولا خصاصة في بدنه».

وحيث أنّ موضوعات هذه السورة تتناسب مع الجزاء المرتقب من الله تعالى، لذلك فإنّ الروايات أعلاه توضّح لنا الهدف من التلاوة من أجل العمل بمحتوياتها، وليس بتلك التلاوة الخالية من الفكر والعمل.

* * *

[ 104 ]

الآيات

قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَـدِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَـهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَـتِهِمْ إِنْ أُمَّهَـتُهُمْ إِلاَّ الَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ(2) وَالَّذِينَ يُظَـهِرُونَ مِن نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مِّن قَبْلِ أِن يَتََماسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يِجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتََماسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَـفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(4)

سبب النّزول

نقل أغلب المفسّرين أنّ للآيات الاُولى في هذه السورة سبباً للنزول،

[ 105 ]

ومضمونها بشكل عامّ واحد، بالرغم من وجود إختلافات في الجزئيّات، إلاّ أنّ هذه الإختلافات لا تؤثّر على ما نحتاجه من البحث التّفسيري.

وجاء في تفسير القمّي: حدّثنا علي بن الحسين قال: حدّثنا محمّد بن أبي عبدالله، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولاّد، عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام)قال: «إنّ امرأة من المسلمات أتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يارسول الله إنّ فلان زوجي قد نثرت له بطني وأعنته على دنياه وآخرته، لم ير منّي مكروهاً أشكوه إليك. قال: فيم تشكينه؟ قالت: إنّه قال: أنت عليّ حرام كظهر اُمّي، وقد أخرجني من منزلي فانظر في أمري. فقال لها رسول الله: ما أنزل الله تبارك وتعالى كتاباً أقضي فيه بينك وبين زوجك، وأنا أكره أن أكون من المتكلّفين، فجعلت تبكي وتشتكي ما بها إلى الله عزّوجلّ وإلى رسول الله وانصرفت.

قال: فسمع الله تبارك وتعالى مجادلتها لرسول الله في زوجها وما شكت إليه وأنزل الله في ذلك قرآناً: ( بسم الله الرحمن الرحيم قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) ـ إلى قوله ـ ( وإنّ الله لعفو غفور).

قال فبعث رسول الله إلى المرأة، فأتته فقال لها: جيئي بزوجك، فأتته فقال له: أقلت لامرأتك هذه: أنتِ حرام عليّ كظهر اُمّي؟ فقال: قد قلت لها ذلك. فقال له رسول الله قد أنزل الله تبارك وتعالى فيك وفي امرأتك قرآناً وقرأ: ( بسم الله الرحمن الرحيم، قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) ـ إلى قوله تعالى ـ ( إنّ الله لعفو غفور)، فضمّ إليك امرأتك فإنّك قد قلت منكراً من القول وزوراً، وقد عفى الله عنك وغفر لك ولا تعد.

قال: فانصرف الرجل وهو نادم على ما قاله لامرأته، وكره الله عزّوجلّ ذلك للمؤمنين بعد وأنزل الله: ( والذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا) يعني ما قال الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر اُمّي.

قال: فمن قالها بعد ما عفى الله وغفر للرجل الأوّل فإنّ عليه «تحرير رقبة من

[ 106 ]

قبل أن يتماسّا ـ يعني مجامعتها ـ ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسّا فمن لم يستطع فإطعام ستّين مسكيناً، قال: فجعل الله عقوبة من ظاهر بعد النهي هذا. ثمّ قال: «ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله» قال: هذا حدّ الظهار»(1).

وكما قلنا فإنّ كثيراً من المفسّرين ذكروا لها هذا السبب للنزول، ومن جملتهم القرطبي، وروح البيان، وروح المعاني، والميزان، والفخر الرازي، وفي ظلال القرآن، وأبو الفتوح الرازي وكنز العرفان، وكثير من كتب الحديث والتاريخ مع وجود إختلافات.

* * *

التّفسير

الظهار عمل جاهلي قبيح:

بالنظر إلى ما قيل في سبب النزول، وكذلك طبيعة الموضوعات التي وردت في السورة، فإنّ الآيات الاُولى منها واضحة في دلالتها حيث يقول سبحانه: ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها).

«تجادل» من المجادلة مأخوذة من مادّة (جدل) وتعني في الأصل (فتل الحبل) ولأنّ الجدال بين الطرفين وإصرار كلّ منهما على رأيه في محاولة لإقناع صاحبه، اُطلق على هذا المعنى لفظ (المجادلة).

ثمّ يضيف تعالى: ( وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما).

«تحاور» من مادّة (حور) على وزن (غور) بمعنى المراجعة في الحديث أو الفكر، وتطلق كلمة «المحاورة» على بحث بين طرفين.

______________________________

1 ـ مجمع البيان، ج9، ص246 مع تلخيص قليل.

[ 107 ]

( إنّ الله سميع بصير) نعم إنّ الله عالم بكلّ المسموعات والمرئيات، بدون أن يحتاج إلى حواس نظر أو سمع، لأنّه حاضر وناظر في كلّ مكان، يرى كلّ شيء ويسمع كلّ حديث.

ثمّ يستعرض تعالى حكم الظهار بجمل مختصرة وحاسمة تقضي بقوّة على هذا المفهوم الخرافي حيث يقول سبحانه: ( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنّ أُمّهاتهم إن اُمّهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم).

«الاُمّ» و «الولد» ليس بالشيء الذي تصنعه الألفاظ، بل إنّهما حقيقة واقعية عينية خارجية لا يمكن أن تكون من خلال اللعب بالألفاظ، وبناءً على هذا فإذا حدث أن قال الرجل لزوجته مرّةً: (أنت عليّ كظهر اُمّي) فإنّ هذه الكلمة لا تجعل زوجته بحكم والدته، إنّه قول هراء وحديث خرافة.

ويضيف تعالى مكمّلا الآية: ( وإنّهم ليقولون منكراً من القول وزوراً)(1).

وبالرغم من أنّ قائل هذا الكلام لا يريد بذلك الإخبار، بل إنّ مقصوده إنشائي، يريد أن يجعل هذه الجملة بمنزلة (صيغة الطلاق) إلاّ أنّ محتوى ذلك واه، ويشبه بالضبط خرافة (جعل الولد) حين كانوا في زمن الجاهلية يتبنّون طفلا معيّناً كولد لهم، ويجرون أحكام الولد عليه، حيث أدان القرآن الكريم هذه الظاهرة وإعتبرها عملا باطلا ولا أساس له، حيث يقول عزّوجلّ: ( ذلك قولهم بأفواههم)(2)، وليس له أي واقعية.

وتماشياً مع مفهوم هذه الآية فإنّ «الظهار» عمل محرّم ومنكر، ومع أنّ التكاليف الإلهية لا تشمل الممارسات السابقة، إلاّ أنّها ملزمة لحظة نزول الحكم، ولابدّ عندئذ من ترتيب الأثر، حيث يضيف الله سبحانه هذه الآية: ( وإنّ الله لعفو

______________________________

1 ـ «زور» في الأصل بمعنى الإنحناء الموجود على الصدر وجاءت أيضاً بمعنى الإنحراف، ولأنّ حدود الكذب والباطل منحرفة عن الحقّ، فيقال له (زور) كما يطلق على الصنم أيضاً بهذا اللحاظ.

2 ـ الأحزاب، الآية 4.

[ 108 ]

غفور).

وبناءً على هذا فإذا كان المسلم قد إرتكب مثل هذا العمل قبل نزول الآية فلا بأس عليه لأنّ الله سيعفو عنه.

ويعتقد بعض الفقهاء والمفسّرين أنّ «الظهار» ذنب مغفور الآن، كما في الذنوب الصغيرة حيث وعد الله بالعفو عنها(1) ـ في صورة ترك الكبائر ـ إلاّ أنّه لا دليل على هذا الرأي، والجملة أعلاه لا تقوى أن تكون حجّة في ذلك.

وعلى كلّ حال فإنّ مسألة الكفّارة باقية بقوّتها.

وفي الحقيقة أنّ هذا التعبير شبيه لما جاء في الآية (5) من سورة الأحزاب، حيث يقول سبحانه: ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً).

وذلك بعد نهيه عن مسألة التبنّي.

ويثار تساؤل عن الفرق الموجود بين (العفوّ) و (الغفور).

قال البعض: (العفو) إشارة إلى الله تعالى (الغفور) إشارة إلى تغطية الذنوب إذ أنّ من الممكن أن يعفو شخص عن ذنب ما، ولكن لا يستره أبداً، غير أنّ الله تعالى يعفو ويستر في نفس الوقت.

وقيل أنّ «الغفران» هو الستر من العذاب، حيث أنّ مفهومها مختلف عن العفو بالرغم من أنّ النتيجة واحدة.

إلاّ أنّ مثل هذا العمل القبيح (الظهار) لم يكن شيئاً يستطيع الإسلام أن يغضّ النظر عنه، لذلك فقد جعل له كفّارة ثقيلة نسبيّاً كي يمنع من تكراره، وذلك بقوله تعالى: ( والذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا).

______________________________

1 ـ كنز العرفان، ج2، ص290 كما يلاحظ في الميزان إشارة لهذا المعنى أيضاً.

[ 109 ]

وقد ذكر المفسّرون إحتمالات عديدة في تفسير جملة: ( ثمّ يعودون لما قالوا) حيث ذكر المقداد ـ في كنز العرفان ستّة تفاسير لها، إلاّ أنّ الظاهر ـ خصوصاً بالنظر إلى جملة: ( من قبل أن يتماسّا) ـ أنّ هؤلاء قد ندموا لقولهم وأرادوا الرجوع إلى حياتهم العائلية، وقد ذكر هذا المعنى في روايات  أهل البيت(عليهم السلام) أيضاً(1).

وذكرت تفاسير اُخرى لهذا المقطع من الآية، إلاّ أنّها لا تتناسب بصورة تامّة مع معنى الآية ونهايتها. منها أنّ المراد من «العود» هو تكرار الظهار، أو أنّ المقصود من العود هو العودة إلى السنّة الجاهلية في مثل هذه الاُمور، أو أنّ العود بمعنى تدارك وتلافي هذا العمل وما إلى ذلك(2).

«رقبة» جاءت هنا كناية عن الإنسان، وهذا بلحاظ أنّ الرقبة أكثر أعضاء الجسم حسّاسية، كما تأتي كلمة «رأس» بهذا المعنى، لذا فإنّه يقال بدلا من خمسة أشخاص ـ مثلا ـ خمسة رؤوس.

ثمّ يضيف تعالى: ( ذلكم توعظون به).

أي يجب ألاّ تتصوّروا أنّ مثل هذه الكفّارة في مقابل الظهار، كفّارة ثقيلة وغير متناسبة مع الفعل. إنّ المقصود بذلك هو الموعظة والإيقاظ لنفوسكم، والكفّارة عامل مهمّ في وضع حدّ لمثل هذه الأعمال القبيحة والمحرّمة، ومن ثمّ السيطرة على أنفسكم وأقوالكم.

وأساساً فإنّ جميع الكفّارات لها جنبة روحية وتربوية، والكفّارات المالية يكون تأثيرها غالباً أكثر من التعزيرات البدنية.

ولأنّ البعض يحاول أن يتهرّب من إعطاء الكفّارة بأعذار واهية في موضوع الظهار، يضيف عزّوجلّ أنّه يعلم بذلك حيث يقول في نهاية الآية: ( والله بما تعملون

______________________________

1 ـ مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث.

2 ـ يراجع كنز العرفان، ج2، ص290، ومجمع البيان، ج9، ص247.

[ 110 ]

خبير).

إنّه عالم بالظهار، وكذلك عالم بالذين يتهرّبون من الكفّارة، وكذلك بنيّاتكم!

ولكن كفّارة تحرير (رقبة) قد لا تتيسّر لجميع من يرتكب هذا الذنب كما لاحظنا ذلك ـ في موضوع سبب نزول هذه الآية المباركة، حيث أنّ «أوس بن الصامت» ـ الذي نزلت الآيات الاُولى بسببه ـ قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّي غير قادر على دفع مثل هذه الكفّارة الثقيلة، وإذا فعلت ذلك فقدت جميع ما أملك. وقد يتعذّر وجود المملوك. ليقوم المكلّف بتحرير رقبته حتّى مع قدرته المالية، كما في عصرنا الحاضر، لهذا كلّه ولأنّ الإسلام دين عالمي خالد فقد عالج هذه المسألة بحكم آخر يعوّض عن تحرير الرقبة، حيث يقول عزّوجلّ: ( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسّا).

وهذا اللون من الكفّارة في الحقيقة له أثر عميق على الإنسان، حيث أنّ الصوم بالإضافة إلى أنّه وسيلة لتنقية الروح وتهذيب النفس، فإنّ له تأثيراً عميقاً وفاعلا في منع تكرّر مثل هذه الأعمال في المستقبل.

ومن الواضح ـ كما في ظاهر الآية ـ أنّ مدّة الصوم يجب أن تكون ستّين يوماً متتابعاً، وكثير من فقهاء أهل السنّة أفتوا طبقاً لظاهر الآية، إلاّ أنّه قد ورد في روايات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المكلّف إذا صام أيّام قلائل حتّى ولو يوماً واحداً بعد صوم الشهر الأوّل، فإنّ مصداق التتابع في الشهرين يتحقّق، وهذا الرأي حاكم على ظاهر الآية(1).

وهذا يوضّح لنا أنّ المقصود من التتابع في الآية أعلاه والآية (92) من سورة النساء في موضوع كفّارة القتل غير المتعمّد. أنّ المقصود هو التتابع بصورة إجمالية.

______________________________

1 ـ يراجع وسائل الشيعة، ج7، ص271، الباب الثالث من أبواب بقية الصوم الواجب.

[ 111 ]

وطبيعي أنّ مثل هذا التّفسير لا يسمع إلاّ من إمام معصوم، حيث أنّه وارث لعلوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا النوع من الصيام يكون تسهيلا للمكلّفين.

(تراجع الكتب الفقهية في الصوم وأبواب الظهار وكفّارة القتل، للحصول على شرح أوفى حول هذا الموضوع)(1).

وضمناً فإنّ المقصود من جملة: ( فمن لم يجد) لا يعني عدم وجود أصل المال لديه، بل المقصود منه ألاّ يوجد لديه فائض على إحتياجاته وضروريات حياته كي يشتري عبداً ويحرّره.

ولأنّ الكثير من الناس غير قادرين على الوفاء بالكفّارة الثانية، وهي صوم الشهرين المتتابعين، فقد ذكر لذلك بديل آخر حيث يقول سبحانه: ( فمن لم يستطع فإطعام ستّين مسكيناً).

والظاهر من الإطعام أن يعطي غذاء يشبع الشخص في وجبة طعام، إلاّ أنّ الروايات الإسلامية ذكرت أنّ المقصود بذلك هو (مدّ) لإطعام كلّ واحد (والمدّ يعادل 750غم) رغم أنّ بعض الفقهاء قد حدّدها بمدّين أي ما يعادل (500،1) غم(2).

ثمّ يشير تعالى في تكملة الآية مرّة اُخرى إلى الهدف الأساس لمثل هذه الكفّارات: ( ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله).

نعم إنّ إزالة الذنوب بوسيلة الكفّارات تقوّي اُسس الإيمان، وتربط الإنسان

______________________________

1 ـ إذا كان المقصود هو توالي الشهرين وليس توالي جميع أيّامها، فإنّ هذا النوع من التوالي يحصل بمجرّد البدء في الشهر الثاني (يرجى ملاحظة ذلك).

2 ـ المشهور بين الفقهاء ـ كما قلنا سابقاً ـ هو (مدّ واحد) ودليله روايات كثيرة لعلّها بلغت حدّ التواتر، فقد ورد بعضها في كفّارة القتل الخطأ، وبعض في كفّارة القسم، وبعض في كفّارة شهر رمضان، بضميمة أنّ الفقهاء لم يوجدوا أي فرق بين أنواع الكفّارات، إلاّ أنّه نقل عن المرحوم الطوسي في الخلاف والمبسوط والنهاية والتبيان أنّ مقدار الكفّارة (مدّان)، وفي هذا المجال يستدلّ الشيخ (رحمه الله) برواية أبي بصير التي وردت في كفّارة الظهار حيث عيّن حدّها (مدّين). إلاّ أنّ هذه الرواية إمّا أن تكون مخصوصة في كفّارة الظهار، أو أنّها تحمل على الإستحباب.

[ 112 ]

بالتعاليم الإلهيّة قولا وعملا.

وفي نهاية الآية يؤكّد سبحانه بصورة قاطعة على الإلتزام بأوامره حيث يقول: ( وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم).

ويجدر الإنتباه إلى أنّ مصطلح (الكفر) له معاني مختلفة، منها «الكفر العملي» الذي يعني المعصية وإقتراف الذنوب، وقد اُريد في الآية الكريمة هذا المعنى، وكما جاء في الآية (97) من سورة آل عمران بالنسبة للمتخلّفين عن أداء فريضة الحجّ، حيث يقول سبحانه: ( ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين).

«حدّ» بمعنى الشيء الذي يفصل بين شيئين، ومن هنا يقال لحدود البلدان (حدود) وبهذا اللحاظ يقال للقوانين الإلهية إنّها حدود، وذلك لحرمة تجاوزها، ولدينا شرح أوفى في هذا المجال في نهاية الآية (187) من سورة البقرة.

* * *

ملاحظات

1 ـ قسم من أحكام الظهار

اُشير للظهار بآيتين في القرآن الكريم (الآية مورد البحث، والآية رقم (4) من سورة الأحزاب) وهو من الأعمال والعادات القبيحة في عصر الجاهلية، حيث يمارس هذا الفعل في حالة سأم وضجر الرجل من زوجته، وكي يوقعها في حرج ويركعها لإرادته يقول لها (أنت عليّ كظهر اُمّي)(1) وكانوا يعتقدون بعد إطلاق هذه الصيغة أنّ الزوجة تحرم على زوجها إلى الأبد، ولا تستطيع أن تختار زوجاً آخر

______________________________

1 ـ «ظهر» في العبارة أعلاه ليس بمعناها المتعارف عليه كما قال بعض المفسّرين، بل إنّها كناية عن طبيعة العلاقة الزوجية الجاهلية، وبناءً على هذا فإنّ معنى الجملة يصبح هكذا (الزوجية معك كالزوجية مع اُمّي) يراجع لسان العرب مادّة ظهر والتّفسير الكبير للفخر الرازي.

[ 113 ]

لها.

وقد أدان الإسلام هذا التصرّف وشرّع له حكم الكفّارة.

وبناءً على هذا فكلّما جعل الرجل على زوجته ظهاراً فإنّ الزوجة تستطيع أن تراجع الحاكم الشرعي وتلزمه، إمّا أن يطلّقها بصورة شرعية، أو يرجعها إلى حالتها الزوجية السابقة، بعد دفعه للكفّارة بالصورة التي مرّت بنا سابقاً، وهي إمّا تحرير رقبة في حالة القدرة، أو صوم شهرين متتابعين في حالة الإستطاعة، وإلاّ فإطعام ستّين مسكيناً، وهذا يعني أنّ خصال الكفّارة ليست مخيّرة، بل مرتّبة.

2 ـ الظهار من كبائر الذنوب

لحن الآيات أعلاه شاهد معبّر عن هذا المضمون، والبعض يعتبرونه من الصغائر ومورد عفو، إلاّ أنّها نظرة خاطئة.

3 ـ إذا كان الشخص غير قادر على أداء الكفّارة بمختلف صورها، فهل يستطيع أن يرجع إلى حياته الزوجية السابقة بالتوبة والإستغفار فقط؟

هنالك وجهات نظر مختلفة بين الفقهاء حول هذه المسألة، فقسم منهم ـ بالإستناد على الحديث المنقول عن الإمام الصادق (عليه السلام)(1) ـ يعتقد أنّ التوبة والإستغفار تكفي في الكفّارات ـ عند عدم القدرة ـ إلاّ في كفّارة الظهار حيث لا تكفي التوبة وتجب الكفّارة.

في حين يرى البعض الآخر أنّ الإستغفار والتوبة تعوضان عن الكفّارة، ودليلهم هو الرواية الاُخرى التي نقلت عن الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا المجال(2).

ويعتقد آخرون بوجوب صوم ثمانية عشر يوماً في هذه الصورة(3).

______________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج15، ص544، (حديث1 باب6).

2 ـ وسائل الشيعة، ج15، ص555، حديث4.

3 ـ كنز العرفان، ج2، ص292.

[ 114 ]

والجمع بين الروايات لا يستبعد أيضاً، ففي صورة عدم القدرة بكلّ شكل من الأشكال السابقة، فإنّه يستطيع أن يرجع إلى حياته الزوجية مستغفراً الله، بالرغم من أنّ المستحبّ في مثل هذه الحالة أن يطلّق زوجته (لأنّ مثل هذا الجمع جمع معروف وتوجد له مظانّ كثيرة في الفقه، وذلك بالنظر إلى صحّة سند الحديثين).

4 ـ يرى الكثير من الفقهاء أنّ الشخص إذا كرّر الظهار عدّة مرّات (يعني الجملة السابقة بقصد جدّي) يجب أن يدفع عدّة كفّارات، بالرغم من أنّ التكرار حدث في جلسة واحدة. إلاّ أن يكون مقصوده من التكرار هو التأكيد، وليس الظهار الجديد.

5 ـ إذا قارب زوجته قبل الكفّارة وجبت عليه كفّارتان، كفّارة للظهار وكفّارة للمواقعة الجنسية، وهذا الحكم مورد إتّفاق بين الفقهاء، والآيات أعلاه لم تذكر هذه المسألة، إلاّ أنّ روايات أهل البيت (عليهم السلام) أشارت إليها(1).

6 ـ التعامل القاطع الجدّي مع مسألة الظهار، تؤكّد على حقيقة أنّ الإسلام لا يسمح أبداً أن تهضم حقوق المرأة عن طريق تسلّط الرجال وإستبدادهم، وذلك باستثمار الأعراف والتقاليد الظالمة، حيث أنّ السنّة الخاطئة والخرافية في هذا المجال كلّما كانت مستحكمة كان تأثيرها المدمّر أقوى.

7 ـ بالنسبة لموضوع (تحرير الرقبة) والتي هي أوّل كفّارة للظهار، فبالإضافة إلى كونها إجراءً مناسباً للقضاء على ظاهرة المرأة في قبضة الإستبداد، فإنّما تمثّل رغبة الإسلام في القضاء على العبودية بكلّ طريق، وذلك ليس فقط في كفّارة الظهار بل في كفّارة القتل الخطأ، وكفّارة عدم صيام شهر رمضان ـ الإفطار المتعمّد ـ وكذلك في كفّارة مخالفة القسم، أو عدم الوفاء بالنذر.

* * *

______________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج15، ص526، الأحاديث (1، 2، 3، 4، 5، 6).

[ 115 ]

الآيات

إِنَّ الَّذِين يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا ءَايَـتِ بَيِّنَـت وَلِلْكَـفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (5)يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَـهُ اللهُ ونَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَـمَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ(7)

التّفسير

اُولئك أعداء الله:

إذا كانت آخر جملة في الآيات السابقة تحثّ الجميع بضرورة الإلتزام بالحدود الإلهيّة وعدم تجاوزها، فإنّ الآيات مورد البحث لا تتحدّث عن

[ 116 ]

الأشخاص الذين تجاوزوا حدود الله فحسب، بل عن الذين حاربوا الله ورسوله، وتوضّح عاقبتهم ومصيرهم في هذه الدنيا والعالم الآخر كذلك.

يقول سبحانه في البداية: ( إنّ الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم).

«يحادون» من مادّة (محادة) بمعنى الحرب المسلّحة والإستفادة من الحديد وتقال أيضاً للحرب غير المسلّحة.

وقال البعض: إنّ (المحادّة) في الأصل بمعنى الممانعة من مادّة (حدّ) والتي تجيء بمعنى المانع بين شيئين، ولذلك يقال للحارس (حداد)، والمعنيان من حيث النتيجة متقاربان بالرغم من أنّهما مأخوذان من أصلين مختلفين.

«كبتوا» من مادّة (كبت) على وزن (ثبت) بمعنى المنع بذلّة، و (كبتوا) إشارة إلى أنّ الله تعالى يجعل جزاء المحاربين لله ورسوله الذلّة والهوان ويمنعهم من لطفه الشامل(1).

وهذا التعبير شبيه ما ورد في الآية (114) من سورة البقرة التي تتحدّث عن الأشخاص الذين يمنعون الناس من المساجد وعبادة الله سبحانه، ويحاربون مبدأ الحقّ حيث يقول سبحانه: ( لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب أليم).

أو كما ورد في الآية (33) من سورة المائدة في الحديث عن مصير الأشخاص الذين يحاربون الله ورسوله ويفسدون في الأرض حيث يقول: ( ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم).

ثمّ يضيف الباري سبحانه: ( وقد أنزلنا آيات بيّنات).

وبناءً على هذا فقد تمّت الحجّة بشكل كامل، ولم يبق عذر، وحجّة للمخالفة، ومع ذلك فإن خالفوا، فلابدّ من أن يجازوا، ليس في هذه الدنيا فحسب، بل في

______________________________

1 ـ فسّر بعض المفسّرين (كبتوا) بمعنى اللعنة، ولأنّ اللعنة من قبل الله تعالى القادر على كلّ شيء دليل على تحقيقها، فالنتيجة هي الذلّة والهوان لهذه المجموعة في الدنيا، إلاّ أنّ ظاهر تعبير الآية أنّها جملة خبريّة وليست إنشائية.

[ 117 ]

القيامة: ( وللكافرين عذاب مهين).

وبهذه الصورة فقد اُشير إلى عذابهم الدنيوي في الجملة السابقة، وفي هذه الجملة إلى العذاب الاُخروي، والشاهد على هذا المعنى في الآية الكريمة التالية: ( كما كبت الذين من قبلهم) كما أنّ الآية اللاحقة تؤكّد هذا المعنى أيضاً.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا التهديد الإلهي للأشخاص الذين يقفون بوجه الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن الكريم قد تحقّق، حيث واجهوا الذلّة والإنكسار في غزوة بدر وخيبر والخندق وغير ذلك، وأخيراً في فتح مكّة حيث كسرت شوكتهم وأُحبط كيدهم بإنتصار الإسلام في كلّ مكان.

والآية اللاحقة تتحدّث عن إستعراض زمان وقوع العذاب الاُخروي عليهم حيث يقول عزّوجلّ: ( يوم يبعثهم الله جميعاً فينبّئهم بما عملوا)(1) نعم ( أحصاه الله ونسوه).

ولذا فعندما تقدّم لهم صحيفة أعمالهم يصرخون: ( ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها)(2).

وهذا بحدّ ذاته عذاب مؤلم، لأنّ الله تعالى يذكّرهم بذنوبهم المنسيّة ويفضحهم في مشهد الحشر أمام الخلائق.

وفي نهاية الآية يقول الباريء سبحانه: ( والله على كلّ شيء شهيد).

وهذه في الحقيقة بمثابة الدليل على ما ورد في الجملة السابقة، فانّ حضور الله سبحانه في كلّ مكان وفي كلّ زمان وفي الداخل والخارج، يوجب ألاّ يحصي أعمالنا ـ فقط ـ بل نيّاتنا وعقائدنا، وفي ذلك اليوم الكبير الذي هو «يوم البروز» يعرف كلّ شيء. ولكي يعلم الإنسان السبب في صعوبة الجزاء الإلهي.

______________________________

1 ـ يوم ظرف ومتعلّق بالكافرين أو بالمهيمن، والإحتمال الأوّل أنسب، وإختاره كثير من المفسّرين. وإحتمال البعض انّ المتعلّق مقدّر بمعنى (اذكر) مستبعد.

2 ـ الكهف، الآية 49.

[ 118 ]

ولتأكيد حضور الله سبحانه في كلّ مكان وعلمه بكلّ شيء ينتقل الحديث إلى مسألة «النجوى» حيث يقول سبحانه: ( ألم تر أنّ الله يعلم ما في السماوات).

بالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أنّ المقصود هو عموم الناس(1)، ومقدّمة لبيان مسألة النجوى.

ثمّ يضيف تعالى: ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم، ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أين ما كانوا ثمّ ينّبئهم بما عملوا يوم القيامة إنّ الله بكلّ شيء عليم)(2).

نلاحظ هنا عدّة نقاط تستحقّ الإنتباه:

1 ـ «النجوى» و «النجاة» في الأصل بمعنى المكان المرتفع الذي إنفصل عن أطرافه وجوانبه بسبب إرتفاعه، ولأنّ الإنسان إذا أراد التكتم على حديثه يعتزل في مكان بعيد عن الآخرين، أو بلحاظ أنّ المتحدّث بالنجوى يريد أن ينجي أسراره من الكشف ويبعدها عن تناول أسماع الآخرين.

2 ـ يرى البعض أنّ «النجوى» يجب أن تكون بين ثلاثة أشخاص أو أكثر، وإذا كانت بين شخصين فيقال لها (سرار) على وزن (سِتار) إلاّ أنّ هذا خلاف ظاهر الآية، لأنّ الجملة: ( ولا أدنى من ذلك) تشير إلى أقلّ من ثلاثة أشخاص ـ أي شخصين ـ ومن الطبيعي أنّه إذا تناجى شخصان فلابدّ من أن يكون شخص ثالث قريب منهما، وإلاّ فلا ضرورة للنجوى. إلاّ أنّ ذلك لا يرتبط بما ذكرنا.

3 ـ والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي أنّ الآية أعلاه تحدّثت في البداية عن نجوى ثلاثة، ومن ثمّ عن نجوى خمسة، ولم يرد الكلام عن نجوى أربعة أشخاص والتي هي بين المرتبتين (ثلاثة وخمسة)، وبالرغم من أنّ كلّ ذلك جاء من باب

______________________________

1 ـ «ألم تر»: من مادّة (رؤية) في الأصل بمعنى المشاهدة الحسيّة، إلاّ أنّها في كثير من الموارد جاءت بمعنى الشهود القلبي والعلم والمعرفة.

2 ـ «نجوى» بالرغم من أنّها مصدر إلاّ أنّها جاءت هنا اسم فاعل، أي من قبيل (زيد عادل).

[ 119 ]

المثال، إلاّ أنّ بعض المفسّرين ذكروا له وجوهاً مختلفة، وأنسبها أنّ المقصود بذلك رعاية الفصاحة في الكلام وعدم التكرار، لأنّه إذا قال تعالى (كلّ ثلاثة أشخاص يتناجون فإنّ الله رابعهم، وكلّ أربعة أشخاص يتناجون فإنّ الله خامسهم) فإنّ العدد (أربعة) يتكرّر هنا، وهذا بعيد عن البلاغة. وقال البعض: إنّ هذه الآيات نزلت حول مجموعة من المنافقين الذين كان عددهم نفس العدد المذكور.

4 ـ المقصود من أنّ «الله» رابعهم أو سادسهم هو أنّ الله عزّوجلّ موجود حاضر وناظر في كلّ مكان وعالم بكلّ شيء، وإلاّ فإنّ ذاته المقدّسة لا مكان لها، ولا يوصف بالعدد أبداً، ووحدانيّته أيضاً ليست وحدة عدديّة، بل بمعنى أنّه لا شبيه له، ولا نظير ولا مثيل.

5 ـ وجدير بالذكر أنّ الحديث في ذيل الآية يتجاوز النجوى، حيث تؤكّد الآية أنّ الله مع الإنسان في كلّ مكان، وسوف يُطلع الإنسان على أعماله يوم القيامة .. وتنتهي الآية بالإحاطة العلمية لله سبحانه، كما ابتدأت بالإحاطة العلمية بالنسبة لكلّ شيء.

6 ـ نقل بعض المفسّرين أنّ سبب نزول الآية، ما ورد عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ الآية نزلت حول ثلاثة أشخاص، هم (ربيعة وحبيب وصفوان) كانوا يتحدّثون مع بعضهم، وقال أحدهم للآخر: هل يعلم الله ما نقول؟ قال الثاني: قسم يعلمه وقسم لا يعلمه. وقال الثالث: إذا كان يعلم قسماً منه فإنّه يعلم جميعه، فنزلت الآية وأعلنت أنّ الله تعالى حاضر في كلّ نجوى وفي كلّ مكان في الأرض وفي السماء، كي يتّضح خطأ الغافلين عمي القلوب(1).

* * *

______________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج29، ص265.

[ 120 ]

بحث

حضور الله سبحانه في كلّ نجوى:

تقدّم آنفاً أنّ الله تعالى ليس جسماً وليست له عوارض جسمانية، ومن هنا فلا يمكن أن نتصوّر له زماناً أو مكاناً، ولكن توهّم أن يوجد مكان لا يكون لله عزّوجلّ فيه حاضراً وناظراً يستلزم القول بتحديده سبحانه.

وبتعبير آخر فإنّ لله سبحانه إحاطة علمية بكلّ شيء في الوقت الذي لا يكون له مكان، مضافاً إلى أنّ ملائكته حاضرون في كلّ مكان، ويسمعون كلّ الأقوال والأعمال ويسجّلونها.

لذا نقرأ في حديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «إنّما أراد بذلك إستيلاء أُمنائه بالقدرة التي ركبها فيهم على جميع خلقه، وإن فعلهم فعله»(1).

وطبيعي أنّ هذا هو بعد من أبعاد الموضوع، وأمّا البعد الآخر فيطرح فيه حضور ذات الله عزّوجلّ، كما نقرأ في حديث آخر هو أنّ أحد كبار علماء النصارى سأل عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أين الله؟ قال (عليه السلام): هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت، ومحيط بنا ومعنا، وهو قوله: ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم)(2).

وفي الحديث المعروف (الإهليلجة) نقرأ عن الإمام الصادق (عليه السلام): إنّ الله تعالى سمّي «السميع» بسبب أنّه لا يتناجى ثلاثة أشخاص إلاّ هو رابعهم ... ثمّ أضاف: يسمع دبيب النمل على الصفا وخفقان الطير في الهواء، لا يخفى عليه خافية، ولا شيء ممّا تدركه الأسماع والأبصار، وما لا تدركه الأسماع والأبصار، ما جلّ من ذلك وما دقّ وما صغر وما كبر(3).

* * *

______________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص258، حديث20.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص259، الحديث 23.

3 ـ نور الثقلين، ج5، ص258، حديث21.

[ 121 ]

الآيات

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَـجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَنِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لم يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَنَـجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَـجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَنِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَـجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَـنِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(10)

سبب النّزول

نقلت روايتان حول سبب نزول الآية الاُولى أعلاه، وكلّ واحدة منهما تخصّ

[ 122 ]

قسماً من الآية الكريمة.

تقول الرواية الاُولى: إنّ الآية نزلت في اليهود والمنافقين حيث كانوا يتناجون فيما بينهم بمعزل عن المؤمنين، مع الإشارة إليهم بأعينهم غمزاً، فلمّا رأى المؤمنون نجواهم ظنّوا أنّ سوءاً حصل لإخوانهم في السرايا فحزنوا لذلك، وبثّوا حزنهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمرهم الرّسول ألاّ يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فنزلت الآية أعلاه وهدّدتهم بشدّة(1).

أمّا الرواية الثانية فقد نقل في صحيح مسلم والبخاري وكثير من كتب التّفسير أنّ قسماً من اليهود جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبدلا من قولهم له: السلام عليكم، قالوا: أسام عليك ياأبا القاسم (والتي تعني الموت عليك أو الملالة والتعب) فكان ردّ الرّسول عليهم (وعليكم) تقول عائشة: إنّي فهمت مرادهم وقلت: (عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم).

فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ياعائشة عليك بالرفق وإيّاك العنف والفحش، فقلت: ألا تسمعهم يولون السام؟ فقال: وأما سمعت ما أقول عليكم فأنزل اللّه تعالى: ( إن جاؤوك حيّوك....)(2).

التّفسير

النجوى من الشيطان:

البحث في هذه الآيات هو إستمرار لأبحاث النجوى السابقة، يقول سبحانه: ( ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثمّ يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرّسول).

ويستفاد من هذه الآية بصورة جليّة أنّ المنافقين واليهود قد نهوا من قبل

______________________________

1 ـ مجمع البيان، ج9، ص249.

2 ـ تفسير المراغي، ج28، ص13.

[ 123 ]

ومنعوا من النجوى التي تولّد سوء الظنّ عند الآخرين وتسبّب لهم القلق، إلاّ أنّهم لم يعيروا أي إهتمام لمثل هذا التحذير، والأدهى من ذلك أنّ نجواهم كانت تدور حول إرتكاب الذنوب ومخالفة أوامر الله ورسوله.

والفرق بين «الإثم» و «العصيان» و «معصية الرّسول»، هو أنّ «الإثم» يشمل الذنوب التي لها جانب فردي كشرب الخمر، أمّا «العدوان» فإنّها تعني التجاوز على حقوق الآخرين، وأمّا «معصية الرّسول» فإنّها ترتبط بالاُمور والتعليمات التي تصدر من شخص الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره رئيساً للدولة الإسلامية، ويتصدّى لمصالح المجتمع الإسلامي. وبناءً على هذا فإنّهم يطرحون في نجواهم كلّ عمل مخالف، وهو أعمّ من الأعمال التي تكون مرتبطة بهم أو بالآخرين أو الحكومة الإسلامية وشخص الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

والتعبير بـ (يعودون) و (يتناجون) جاء هنا بصيغة مضارع، حيث يوضّح لنا أنّ هذا العمل يتكرّر بإستمرار، وقصدهم به إزعاج المؤمنين.

وعلى كلّ حال، فالآية جاءت بعنوان إخبار غيبي يكشف مخالفاتهم ويظهر خطّهم المنحرف.

وإستمراراً لهذا الحديث فإنّ القرآن الكريم يشير إلى مورد آخر من أعمال التجاوز والمخالفة للمنافقين واليهود، حيث يقول تعالى: ( وإذا جاؤك حيّوك بما لم يحيّك به الله).

«حيّوك» من مادّة (تحية) مأخوذة في الأصل من الحياة بمعنى الدعاء بالسلام والحياة الاُخرى، والمقصود بالتحية الإلهية في هذه الآية هو: (السلام عليكم) أو (سلام الله عليك) والتي وردت نماذج منها في الآيات القرآنية عن الأنبياء وأصحاب الجنّة، ومن جملتها قوله تعالى: ( سلام على المرسلين)(1).

______________________________

1 ـ الصافات، الآية 181.

[ 124 ]

وأمّا التحيّة التي لم يحيّ بها الله، ولم يكن قد سمح بها هي جملة: (أسام عليك).

ويحتمل أيضاً أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحيّة الجاهلية حيث كانوا يقولون: (أنعم صباحاً) و (أنعم مساءً) وذلك بدون أن يتوجّهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.

هذا الأمر مع أنّه كان سائداً في الجاهلية، إلاّ أنّ تحريمه غير ثابت، وتفسير الآية أعلاه له بعيد.

ثمّ يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقول عزّوجلّ: ( ويقولون في أنفسهم لولا يعذّبنا الله بما نقول) وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.

وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم: ( حسبهم جهنّم يصلونها فبئس المصير).

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي، بل يؤكّد القرآن على أنّه لو لم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنّم، فإنّه سيكفيهم وسيرون جزاء كلّ أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنّم.

ولأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحياناً وذلك للضرورة أو لبعض الميول، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول الباريء عزّوجلّ: ( ياأيّها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرّسول، وتناجوا بالبرّ والتقوى واتّقوا الله الذي إليه تحشرون).

يستفاد من هذا التعبير ـ بصورة واضحة ـ أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين، ولابدّ أن يكون مسارها

[ 125 ]

التواصي بالخير والحسنى، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولكن كلّما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى إيذاء المؤمنين، فنفس هذا العمل حرام وقبيح، فكيف الحال إذا كانت نجواهم شيطانية وتآمرية، ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد للبحث، حيث يقول تعالى: ( إنّما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا) ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلاّ أن يأذن الله بذلك ( وليس بضارّهم شيئاً إلاّ بإذن الله).

ذلك لأنّ كلّ مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتّى إحراق النار وقطع السيف.

( وعلى الله فليتوكّل المؤمنون) إذ أنّهم ـ بالروح التوكّلية على الله، وبالإعتماد عليه سبحانه ـ يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل، ويفسدوا خطط أتباع الشيطان، ويفشلوا مؤامراته.

* * *

بحثان

1 ـ أنواع النجوى

لهذا العمل من الوجهة الفقهيّة الإسلامية أحكام مختلفة حسب إختلاف الظروف، ويصنّف إلى خمسة حالات تبعاً لطبيعة الأحكام الإسلامية في ذلك.

فتارةً يكون هذا العمل «حراماً» وفيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم ـ كما اُشير له في الآيات أعلاه ـ كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحياناً (واجبة) وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية، حيث أنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى، وفي مثل هذه الحالة فإنّ عدم

[ 126 ]

العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اُخرى بالإستحباب، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساساً، فانّ كلّ حالة لا يوجد فيها هدف مهمّ فالنجوى عمل غير محمود، ومخالف لآداب المجالس، ويعتبر نوعاً من اللامبالاة وعدم الإكتراث بالآخرين.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى إثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه»(1).

كما نقرأ في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: كنّا نتناوب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل الثوب المحتسبون ليلة حتّى إذا كنّا نتحدّث فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الليل فقال: ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى»(2).

ويستفاد من روايات أُخرى أنّ الشيطان ـ لإيذاء المؤمنين ـ يستخدم كلّ وسيلة ليس في موضوع النجوى فقط، بل أحياناً في عالم النوم حيث يصوّر لهم مشاهد مؤلمة توجب الحزن والغمّ، ولابدّ للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات أن يلتجيء إلى الله ويتوكّل عليه، ويبعد عن نفسه هذه الوساوس الشيطانية(3).

2 ـ كيف تكون التحيّة الإلهيّة؟

من المتعارف عليه إجتماعياً في حالة الدخول إلى المجالس تبادل العبارات

______________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث، والدرّ المنثور، ج6، ص184 واُصول الكافي، ج2، ص483 (باب المناجاة) حديث 1، 2.

2 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص184.

3 ـ للإطلاع الأكثر على هذه الروايات يراجع تفسير نور الثقلين، ج5، ص261 ـ 262، حديث 31، 32.

[ 127 ]

التي تعبّر عن الودّ والإحترام بين الحاضرين ـ كلّ منهم للآخر ـ ويسمّى هذا بالتحيّة، إلاّ أنّ المستفاد من الآيات أعلاه أن يكون للتحيّة محتوى إلهي، كما في بقيّة القواعد الخاصّة بآداب المعاشرة.

ففي التحيّة بالإضافة إلى الإحترام والإكرام لابدّ أن تقرن بذكر الله في حالة اللقاء، كما في (السلام) الذي تطلب فيه من الله السلامة للطرف الآخر.

وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم ـ في نهاية الآيات مورد البحث ـ أنّ مجموعة من أصحاب الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كانوا يقدمون عليه يحيّونه بقولهم (أنعم صباحاً) و (أنعم مساءً) وهذه تحية أهل الجاهلية فأنزل الله: ( فإذا جاءوك حيّوك بما لم يحيّك به الله) فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «قد أبدلنا الله بخير تحيّة أهل الجنّة السلام عليكم»(1).

كما أنّ من خصوصيات السلام في الإسلام أن يكون مقترناً بذكر الله تعالى، هذا من جهة، ومن جهة اُخرى ففي السلام سلامة كلّ شيء أعمّ من الدين والإيمان والجسم والروح ... وليس منحصراً بالراحة والرفاه والهدوء(2).

(وحول حكم التحية والسلام وآدابها كان لدينا بحث مفصّل في نهاية الآية (86) في سورة النساء).

* * *

______________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 5، حديث30.

2 ـ في كتاب «بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب» جاء بحث مفصّل حول تحيّة العرب في الجاهلية وتفسير عبارة (أنعم صباحاً) و (أنعم مساءاً)، ج2، ص192.

[ 128 ]

الآيات

يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى الَْمجَـلِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَـت وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(11)

سبب النّزول

نقل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان، والآلوسي في روح المعاني، وجمع آخر من المفسّرين، أنّ هذه الآية نزلت يوم الجمعة وكان رسول الله يومئذ في (الصفّة) وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر. قد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله فقالوا: السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته. فردّ النبي عليهم، ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينظرون أن يوسّع لهم، فعرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يحملهم على القيام، فشقّ ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر! قم يافلان، قم يافلان، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين

[ 129 ]

يديه من المهاجرين والأنصار ـ أهل بدر ـ فشقّ ذلك على من اُقيم من مجلسه، وعرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الكراهة في وجوههم، فقال المنافقون: ألستم تزعمون أنّ صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إنّ قوماً أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه .. فبلغنا أنّ رسول الله قال: «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً، فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية(1).

التّفسير

إحترام أهل السابقة والإيمان:

تعقيباً على الموضوع الذي جاء في الرّوايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس، يتحدّث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه: ( ياأيّها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا(2) يفسح الله لكم).

«تفسّحوا» من مادّة (فسح) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع، وبناءً على هذا، فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع، وهذه واحدة من آداب المجالس، فحين يدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها مجالا له، كي لا يبقى في حيرة وخجل، وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة والودّ على عكس النجوى التي اُشير إليها في الآيات السابقة، والتي هي أحد عوامل التفرقة والشحناء، وإثارة الحساسيات والعداوة.

______________________________

1 ـ تفسير روح المعاني، ج28، ص25. ومجمع البيان، ج9، ص252، ونقل مفسّرون آخرون نفس النصّ باختلاف قليل كالفخر الرازي والقرطبي والسيوطي في الدرّ المنثور وفي ظلال القرآن أيضاً في نهاية الآية مورد البحث.

2 ـ إنّ إختلاف التعبيرين ـ تفسّحوا و افسحوا ـ عن الآخر وهو أنّ أحدهما من تفعّل، والآخر من الثلاثي المجرّد، ويمكن أن يكون الفرق أنّ الأوّل له صفة التكلّف، والآخر خال من هذه الصفة، يعني كما لو قال قائل: افسحوا للشخص الذي يقدم توّاً، فإنّ الجالسين بدون أن يشعروا بالتكلّف يتفسّحون، (يرجى ملاحظة ذلك).

[ 130 ]

والشيء الملاحظ أنّ القرآن الكريم، الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين لم يهمل حتّى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الإجتماعية للمسلمين، بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية، حتّى لا يظنّ المسلمون أنّه يكفيهم الإلتزام بالمباديء الكليّة.

جملة ( يفسح الله لكم) فسّرها بعض المفسّرين بتوسّع المجالس في الجنّة، وهو ثواب يعطيه الله تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم الدنيا، ويلتزمون بها، وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإنّ لها مفهوماً واسعاً، وتشمل كلّ سعة إلهيّة، سواء كانت في الجنّة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة، أو في المال والرزق، ولا عجب من فضل الله تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير، لأنّ الأجر بقدر كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحياناً بحيث أنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين وإستمراراً لهذا البحث يقول تعالى: ( وإذا قيل انشزوا فانشزوا)(1)أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف، لأنّ القادمين أحياناً يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للإحترام الخاصّ لهم، وأسباب اُخرى.

وهنا يجب أن يؤثّر الحاضرون على أنفسهم ويتقيّدوا بهذا الأدب الإسلامي، كما مرّ بنا في سبب نزول الآية، حيث كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر المجموعة التي

______________________________

1 ـ «انشزوا» من مادّة (نشزَ) على وزن (نصر) مأخوذة من معنى الأرض العالية، لذلك استعمل بمعنى القيام، و «المرأة الناشزة» تطلق على كلّ من تعتبر نفسها أعلى من أن تطيع أمر زوجها، وإستعمل هذا المصطلح أحياناً بمعنى الإحياء، لأنّ هذا الأمر سبب للقيام من القبور.

[ 131 ]

كانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمين الجدد لأنّهم كانوا من مجاهدي بدر، وأفضل من الآخرين من ناحية العلم والفضيلة.

كما فسّر بعض المفسّرين (انشزوا) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع، حيث تشمل أيضاً القيام للجهاد والصلاة وأعمال الخير الاُخرى، إلاّ أنّه من خلال التمّعن والتدقيق في الجملة السابقة لها والتي فيها قيد «في المجالس»، فالظاهر أنّ هذه الآية مقيّدة بهذا القيد، فيمتنع إطلاقها بسبب وجود القرينة.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي، حيث يقول عزّوجلّ: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اُوتوا العلم درجات)(1).

وذلك إشارة إلى أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين، فإنّه لهدف إلهي مقدّس، وإحتراماً للسابقين في العلم والإيمان.

والتعبير بـ (درجات) بصورة نكرة وبصيغة الجمع، إشارة إلى الدرجات العظيمة والعالية التي يعطيها الله لمثل هؤلاء الأشخاص، الذين يتميّزون بالعمل والإيمان معاً، أو في الحقيقة أنّ الأشخاص الذين يتفسّحون للقادمين لهم درجة، واُولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء. والتظاهر .. فيضيف تعالى في نهاية الآية: ( والله بما تعملون خبير).

* * *

______________________________

1 ـ «يرفع» في الآية أعلاه مجزومة بسبب صيغة الأمر التي جاءت قبلها، والتي في الحقيقة تعطي مفهوم الشرط، ويرفع بمنزلة جزاء هذا الشرط.

[ 132 ]

ملاحظات

1 ـ مقام العلماء

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاصّ، إلاّ أنّ لها مفهوماً عامّاً، وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان: الإيمان، و العلم. وبالرغم من أنّ «الشهيد» في الإسلام يتمتع بمقام سام جدّاً، إلاّ أنّنا نقرأ حديثاً للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يبيّن لنا فيه مقام أهل العلم حيث قال: «فضل العالم على الشهيد درجة، وفضل الشهيد على العابد درجة .. وفضل العالم على سائر الناس، كفضلي، على أدناهم»(1).

وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) نقرأ الحديث التالي: «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة»(2).

ومعلوم أنّ الليالي المقمرة لها بهاء ونضرة، خصوصاً ليلة الرابع عشر من الشهر، حيث يكتمل البدر ويزداد ضوؤه بحيث يؤثّر على ضوء النجوم .. هذا المعنى الظريف ورد في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(3).

والطريف هنا أنّ العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان، ولكن بما أنّ روح العبادة هي المعرفة، لذا فإنّ العالم مفضّل عليه بدرجات.

وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان الفرق الكبير بين هذين الصنفين، لذا ورد في حديث آخر حول الإختلاف بينهما بدلا من درجة واحدة مائة درجة، والمسافة بين درجة واُخرى بمقدار عدو الخيل في سبعين سنة(4).

______________________________

1 ـ مجمع البيان، ج9، ص253.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ جوامع الجامع، مطابق لنقل نور الثقلين، ج5، ص264، والقرطبي، ج9، ص6470.

4 ـ المصدر السابق.

[ 133 ]

وواضح أيضاً أنّ مقام الشفاعة لا يكون لأي شخص في يوم القيامة، بل هي مقام المقرّبين في الحضرة الإلهية، ولكن نقرأ في حديث للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء»(1).

وفي الحقيقة أنّ الموفّقية في طريق التكامل وجلب رضا الله والقرب منه مرهون بعاملين أساسين هما: الإيمان والعلم، أو الوعي والتقوى وكلّ منهما ملازم للآخر، ولا تتحقّق الهداية بأحدهما دون الآخر.

2 ـ آداب المجلس في القرآن الكريم

أشار القرآن الكريم مرّات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن المسائل الأساسية، ومنها آداب التحيّة، والدخول إلى المجلس، وآداب الدعوة إلى الطعام. وآداب التكلّم مع الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وآداب التفسّح للأشخاص القادمين، خصوصاً ذوي الفضيلة والسابقين في العلم والإيمان(2).

وهذا يرينا بوضوح أنّ القرآن الكريم يرى لكلّ موضوع في محلّه أهميّة وقيمة خاصّة، ولا يسمح لتساهل الأفراد وعدم إهتمامهم أن تؤدّي إلى الإخلال بالآداب الإنسانية للمعاشرة.

وقد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) حول آداب المعاشرة مع الآخرين. جمعها المحدّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة، ج8، حيث رتّبها في 166 باباً.

وملاحظة الجزئيّات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ إهتمام الإسلام بالآداب الإجتماعية. حيث تتناول هذه الروايات حتّى طريقة الجلوس،

______________________________

1 ـ روح المعاني، ج28، ص26، والقرطبي، ج9، ص6470.

2 ـ جاءت هذه التعليمات من خلال التسلسل في الآيات التالية: آداب التحيّة والسلام. النساء / 86، آداب الدعوة إلى الطعام. الأحزاب / 53، آداب التكلّم مع الرّسول. الحجرات / 2، وآداب التفسّح. في الآيات مورد البحث.

[ 134 ]

وطريقة التكلّم والإبتسامة والمزاح والإطعام، وطريقة كتابة الرسائل، بل حتّى طريقة النظر إلى الآخرين، وقد حدّدت التعليمات المناسبة لكلّ منها، والحديث المفصّل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التّفسيري، إلاّ أنّنا نكتفي بحديث واحد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول: «ليجتمع في قلبك الإفتقار إلى الناس، والإستغناء عنهم، فيكون إفتقارك إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك، ويكون إستغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك»(1).

* * *

______________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج8، ص401.

[ 135 ]

الآيتان

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَـجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَـت فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(13)

سبب النّزول

نقل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان وكذلك جمع آخر من المفسّرين أنّ هذه الآية اُنزلت في الأغنياء، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكثرون مناجاته ـ وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم إرتياح المستضعفين منه، وحيث يشعرهم بإمتياز الأغنياء عليهم ـ فأمر سبحانه بـ (الصدقة) عند المناجاة، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته، فنزلت آية الرخصة التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاُولى وسمح للجميع بالمناجاة،

[ 136 ]

حيث أنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود(1).

وصرّح بعض المفسّرين أيضاً أنّ هدف البعض من «النجوى» هو الإستعلاء على الآخرين بهذا الاُسلوب. وبالرغم من أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان غير مرتاح لهذا الاُسلوب، إلاّ أنّه لم يمنع منه، حتّى نهاهم القرآن من ذلك(2).

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (إختبار رائع):

في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى، وفي الآيات مورد البحث إستمراراً وتكملة لهذا المطلب.

يقول سبحانه: ( ياأيّها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرّسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة) وكما ذكرنا في سبب نزول هذه الآيات، فإنّ بعض الناس وخاصّة الأغنياء منهم كانوا يزاحمون الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باستمرار ويتناجون معه ... ولمّا كان هذا العمل يسبّب إزعاجاً للرسول بالإضافة إلى كونه هدراً لوقته الثمين، وفيه ما يشعر بالخصوصية لهؤلاء الذين يناجونه بدون مبرّر لذا نزل الحكم أعلاه، وكان إمتحاناً لهم، ومساعدة للفقراء، ووسيلة مؤثّرة للحدّ من مضايقة هؤلاء لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثمّ يضيف بقوله تعالى: ( ذلك خير لكم وأطهر).

أمّا كون الصدقة «خير» فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد، لأنّه عندما تكون النجوى مقرونة بالصدقة تكون دائرتها أضيق ممّا كانت عليه في الحالة المجانية، وبالتالي فإنّها نوع من التصحيح

______________________________

1 ـ مجمع البيان، ج9، ص252، وكثير من التفاسير الاُخرى نهاية الآيات مورد البحث.

2 ـ روح المعاني، ج28، ص27.

[ 137 ]

والتهذيب الفكري والإجتماعي للمسلمين.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجباً على الجميع، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كإحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة ممّا مكّنهم من مناجاة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والتحدّث معه ( فان لم تجدوا فانّ الله غفور رحيم).

وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجباً على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيراً عجيباً وإمتحاناً رائعاً أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلاّ شخص واحد، ذلك هو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح، وأخذ المسلمون درساً في ذلك، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه: ( أأشفقتم أن تقدّموا بين يدي نجواكم صدقات).

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)واتّضح أيضاً أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية، وإلاّ فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى، خاصّة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة!!

ثمّ يضيف تعالى: ( فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون).

ويعكس لنا التعبير بـ (التوبة) أنّهم في نجواهم السابقة كانوا قد ارتكبوا ذنوباً، سواء في التظاهر والرياء، أو أذى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أذى المؤمنين الفقراء.

وبالرغم من عدم التصريح بجواز النجوى في هذه الآية بعد هذا الحادث، إلاّ أنّ تعبير الآية يوضّح لنا أنّ الحكم السابق قد رفع.

أمّا الدعوة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله فقد أكّد عليها

[ 138 ]

بسبب أهميّتها، وكذلك هي إشارة إلى أنّه إذا تناجيتم فيما بعد فيجب أن تكون في خدمة الأهداف الإسلامية الكبرى وفي طريق طاعة الله ورسوله.

* * *

بحوث

1 ـ الملتزم الوحيد بآية الصدقة قبل النجوى

إنّ الشخص الوحيد الذي نفّذ آية الصدقة في النجوى ـ كما في أغلب كتب مفسّري الشيعة وأهل السنّة ـ وعمل بهذه الآية هو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما ينقل ذلك الطبرسي في رواية عنه (عليه السلام) أنّه قال: «آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبل ولم يعمل بها أحد بعدي، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا جئت إلى النبي تصدّقت بدرهم»(1).

كما نقل هذا المضمون «الشوكاني» عن «عبدالرّزاق» و «ابن المنذر» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردويه»(2).

ونقل «الفخر الرازي» هذا الحديث أيضاً عن بعض المحدّثين عن ابن عبّاس والعامل الوحيد بمضمون الآية هو الإمام علي (عليه السلام)(3).

وجاءت في الدرّ المنثور ـ أيضاً ـ روايات متعدّدة بهذا الصدد، في نهاية تفسير الآيات أعلاه(4).

وفي تفسير روح البيان نقل عن عبدالله بن عمر بن الخطاب أنّه قال: «كان لعلي ثلاثة! لو كانت فيّ واحدة منهنّ لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم: تزويجه

______________________________

1 ـ تفسير الطبري، ج28، ص15.

2 ـ (البيان في تفسير القرآن)، ج1، ص375، ونقل سيّد قطب أيضاً هذه الرواية في ظلال القرآن، ج8، ص21.

3 ـ تفسير الفخر الرازي، ج29، ص271.

4 ـ تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص185.

[ 139 ]

فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى»(1).

إنّ ثبوت هذه الفضيلة العظيمة للإمام علي (عليه السلام) قد جاء في أغلب كتب التّفسير، وهي مشهورة بحيث لا حاجة لشرحها أكثر.

2 ـ فلسفة تشريع ونسخ حكم الصدقة

لماذا كانت الصدقة قبل النجوى مع الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تشريعية؟ ثمّ لماذا نسخت بعد فترة وجيزة؟

يمكن الإجابة على هذا التساؤل ـ بصورة جيّدة ـ من خلال القرائن الموجودة في الآية محلّ البحث ومن سبب النزول كذلك.

الهدف هو إختبار الأفراد المدّعين الذين يتظاهرون بحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بهذه الوسيلة، فاتّضح أنّ إظهار الحبّ هذا إنّما يكون إذا كانت النجوى مجانية، ولكن عندما أصبحت النجوى مقترنة بدفع مقدار من المال تركوا نجواهم.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ هذا الحكم قد ترك تأثيره على المسلمين، ووضّح حقيقة عدم إشغال وقت الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك القادة الإسلاميين الكبار في النجوى، إلاّ لضرورات العمل الأساسية، لأنّ ذلك تضييعاً للوقت وجلباً لسخط الناس وعدم رضاهم. فكان هذا التشريع في الحقيقة تقنيناً للنجوى المستقبلة.

وبناءً على هذا فالحكم المذكور كان في البداية مؤقتاً، وبعد ما تحقّق المطلوب نسخ، لأنّ إستمراره سيثير مشكلة، لأنّ هناك بعض المسائل الضرورية التي تستدعي أن يطّلع عليها النبي على إنفراد. ومع بقاء حكم الصدقة فقد تهمل بعض المسائل الضرورية، وبصورة عامّة ففي موارد النسخ يكون للحكم منذ

______________________________

1 ـ تفسير روح البيان، ج6، ص406، كما نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان، والزمخشري في الكشّاف، والقرطبي في تفسير الجامع وذلك في نهاية الآيات مورد البحث.

[ 140 ]

البداية جانب محدود ومؤقت بالرغم من أنّ الناس أحياناً لا يعلمون بذلك ويتصوّرونه بصورة دائمة.

3 ـ هل الإلتزام بالصدقة فضيلة؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام علي (عليه السلام) لم يكن من طائفة الأغنياء من أصحاب الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث البساطة في حياته وزهده في عيشه، ومع هذا الحال وإحتراماً للحكم الإلهي، تصدّق في تلك الفترة القصيرة ـ ولمرّات عديدة، وناجى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه المسألة واضحة ومسلّمة بين المفسّرين وأصحاب الحديث كما أسلفنا.

إلاّ أنّ البعض ـ مع قبول هذا الموضوع ـ يصرّون على عدم إعتبار ذلك فضيلة وحجّتهم في ذلك أنّ كبار الصحابة عندما أحجموا عن هذا العمل فذلك لأنّهم لم تكن لهم حاجة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو لم يكن لديهم وقت كاف، أو أنّهم كانوا يفكّرون بعدم إحراج الفقراء .. وبناءً على هذا فإنّها لا تحسب فضيلة للإمام علي، أو أنّها لا تسلب فضيلة من الآخرين(1).

ويبدو أنّهم لم يدقّقوا في متن الآية التالية حيث يقول سبحانه موبّخاً: ( أأشفقتم أن تقدّموا بين يدي نجواكم صدقات) حتّى أنّه سبحانه يعبّر في نهاية الآية بالتوبة، والتي ظاهرها دالّ على هذا المعنى، ويتّضح من هذا التعبير أنّ الإقدام على الصدقة والنجوى مع الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت عملا حسناً، وإلاّ فلا ملامة ولا توبة.

وبدون شكّ فإنّ قسماً من أصحاب الرّسول المعروفين قبل هذا الحادث كانت لهم نجوى مع الرّسول (لأنّ الأفراد العاديين والبعيدين قلّما احتاجوا إلى

______________________________

1 ـ الفخر الرازي وروح البيان نهاية الآيات مورد البحث.

[ 141 ]

مناجاة الرّسول).

إلاّ أنّ هؤلاء الصحابة المعروفين بعد حكم الصدقة، امتنعوا من النجوى، والشخص الوحيد الذي إحترم ونفّذ هذا الحكم هو الإمام علي (عليه السلام).

وإذا قبلنا ظاهر الآيات والروايات التي نقلت في هذا المجال وفي الكتب الإسلامية المختلفة ولم نقم أهميّة للإحتمالات الضعيفة الواهية فلابدّ أن نضمّ صوتنا إلى صوت عبدالله بن عمر بن الخطاب الذي جعل هذه الفضيلة بمنزلة تزويج فاطمة، وإعطاء الراية يوم فتح خيبر، وأغلى من حمر النعم.

4 ـ مدّة الحكم ومقدار الصدقة:

وحول مدّة الحكم بوجوب الصدقة قبل النجوى مع الرّسول توجد أقوال مختلفة، فقد ذكر البعض أنّها ساعة واحدة، وقال آخرون: إنّها ليلة واحدة، وذكر البعض أنّها عشرة أيّام، إلاّ أنّ الأقوى هو القول الثالث، لأنّ الساعة والليلة لا تكفي أبداً لمثل هذا الإمتحان، لأنّ بالإمكان الإعتذار في هذه المدّة القصيرة عن عدم وجود حاجة للنجوى، إلاّ أنّ مدّة عشرة أيّام تستطيع أن توضّح الحقائق وتهيء أرضية للوم المتخلّفين.

أمّا مقدار الصدقة فإنّها لم تذكر في الآية ولا في الروايات الإسلامية، ولكن المستفاد من عمل الإمام علي (عليه السلام) هو كفاية الدرهم الواحد في ذلك.

* * *

[ 142 ]

الآيات

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَـنَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (16) لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـدُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ أَصْحَـبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـلِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَـذِبُونَ(18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَـنُ فَأَنسَـهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُوْلَـئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَـنِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَـنِ هُمُ الْخَـسِرُونَ(19)

التّفسير

حزب الشيطان:

هذه الآيات تفضح قسماً من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسماً ممّن ناجوا الرّسول كانوا من المنافقين، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتستّرون على مؤامراتهم، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

يقول تعالى في البداية: ( ألم تر إلى الذين تولّوا قوماً غضب الله عليهم).

هؤلاء القوم الذين «غضب الله عليهم» كانوا من اليهود ظاهراً كما عرّفتهم الآية (60) من سورة المائدة بهذا العنوان حيث يقول تعالى: ( قل هل اُنبّئكم بشرٍّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه)(1).

ثمّ يضيف تعالى: ( ما هم منكم ولا هم منهم) فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كلّ يوم ويظهرون كلّ لحظة لكم بصورة جديدة.

وطبيعي أنّ هذا التعبير لا يتنافى مع قوله تعالى: ( ومن يتولّهم منكم فإنّهم منهم)(2)، لأنّ المقصود هناك أنّهم بحكم أعدائكم، بالرغم من أنّهم في الحقيقة ليسوا منهم.

ويضيف ـ أيضاً ـ وإستمراراً لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فانّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة: ( ويحلفون على الله الكذب وهم يعلمون).

وهذه طريقة المنافقين، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

______________________________

1 ـ المائدة، الآية 60.

2 ـ المائدة، الآية 51.

[ 143 ]

ثمّ يشير تعالى إلى العذاب المؤلم لهؤلاء المنافقين المصرّين على الباطل والمعاندين للحقّ، حيث يقول تعالى: ( أعدّ لهم عذاباً شديداً) وبدون شك فإنّ هذا العذاب عادل وذلك: ( إنّهم ساء ما كانوا يعملون).

ثمّ للتوضيح الأكثر حول بيان سمات وصفات المنافقين يقول سبحانه: ( اتّخذوا أيمانهم جنّة فصدّوا عن سبيل الله)(1).

يحلفون أنّهم مسلمون وليس لهم هدف سوى الإصلاح، في حين أنّهم منهمكون بفسادهم وتخريبهم ومؤامراتهم .. وفي الحقيقة فإنّهم يستفيدون من الإسم المقدّس لله للصدّ والمنع عن سبيل الله تعالى ...

نعم، إنّ الحلف الكاذب هو أحد علائم المنافقين، حيث ذكره سبحانه أيضاً في سورة المنافقين الآية (2) في معرض بيان أوصافهم.

ويضيف تعالى في النهاية: ( فلهم عذاب مهين) أي مذلّ.

إنّهم أرادوا بحلفهم الكاذب تحسين سمعتهم وتجميل صورتهم، إلاّ أنّ الله سيبتليهم بعذاب أليم مذلّ، وقبل ذلك عبّر عنه سبحانه بأنّه «عذاب شديد»، كما في الآية (15) من هذه السورة، لأنّهم يحزنون قلوب المؤمنين بشدّة.

والظاهر أنّ كلا العذابين مرتبط بالآخرة، لأنّهما ذكرا بوصفين مختلفين: (مهين وشديد) فليسا تكراراً، لأنّ وصف العذاب بهذين الوصفين في القرآن الكريم يأتي عادةً لعذاب الآخرة، بالرغم من أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّ العذاب الأوّل مختّص بالدنيا أو عذاب القبر، وأنّ الثاني مختّص بعذاب الآخرة.

ولأنّ المنافقين يعتمدون في الغالب على أموالهم وأولادهم وهما (القوّة الإقتصادية والقوّة البشرية) في تحقيق مآربهم وحلّ مشاكلهم، فإنّ القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى بقوله تعالى: ( لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله

______________________________

1 ـ «جنّة» في الأصل من مادّة (جنّ) على وزن (فنّ) بمعنى تغطية الشيء، ولأنّ الدرع يغطّي الإنسان من ضربات العدو فيقال له (جنّة ومجن ومجنة).

[ 144 ]

شيئاً)(1).

وهذه الأموال ستصبح لعنة عليهم وطوقاً في أعناقهم وسبباً لعذابهم المؤلم، كما يوضّح الله سبحانه وتعالى ذلك في قوله: ( سيطوفون ما بخلوا به يوم القيامة)(2).

وكذلك بالنسبة لأولادهم الضالّين فإنّهم سيكونون سبباً لعذابهم، وأمّا الصالحون والمؤمنون فسيتبرّون منهم.

نعم، في يوم القيامة لا ملجأ إلاّ الله، وحينئذ يتجلّى خواء الأسباب الاُخرى، كما يتبيّن ذلك في قوله تعالى: ( وتقطّعت بهم الأسباب)(3)

وفي ذيل الآية يهدّدهم ويقول: ( اُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

وبهذه الصورة فقد وصف القرآن الكريم عذابهم أحياناً بأنّه «شديد»، وأحياناً بأنّه مذلّ و «مهين»، وثالثة بأنّه «خالد»، وكلّ واحدة من هذه الصفات متناسبة مع طبيعة أعمالهم.

والعجيب أنّ المنافقين لا يتخلّون عن نفاقهم حتّى في يوم القيامة أيضاً، كما يوضّح الله سبحانه ذلك في قوله: ( يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم)(4).

إنّ يوم القيامة يوم تتجلّى فيه الأعمال، وحقيقة الإنسان التي كان عليها في الدنيا، ولأنّ المنافقين أخذوا هذه الحالة النفسية معهم إلى القبر والبرزخ، فإنّها ستتضح يوم القيامة أيضاً، ومع علمهم بأنّ الله سبحانه لا يخفى عليه شيء وأنّه

______________________________

1 ـ اعتبر بعض المفسّرين أنّ كلمة «عذاب» هنا مقدرة وقالوا: إنّ المقصود هو (من عذاب الله)، (القرطبي وروح البيان والكشّاف)، ويوجد هنا إحتمال آخر، وهو أنّ الآية ليس لها تقدير والمراد من كلمة (الله) هو أنّهم لا يجدون ملجأً آخر غيره.

2 ـ آل عمران، الآية 180.

3 ـ البقرة، الآية 166.

4 ـ «يوم» ظرف ومتعلّق بـ (اذكر) المحذوفة، أو متعلّق بما قبله يعني «لهم عذاب مهين»، أو «اُولئك أصحاب النار»، إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل أنسب.

[ 145 ]

علاّم الغيوب، إلاّ أنّهم ـ إنسجاماً مع سلوكهم المعهود ـ فإنّهم يحلفون أمام الله حلفاً كاذباً.

وطبيعي أنّ هذا لا يتنافى مع إعترافهم وإقرارهم بذنوبهم في بعض محاضر محكمة العدل الإلهي، لأنّ في يوم القيامة محطّات ومواقف مختلفة وفي كلّ واحدة منها برنامج.

ثمّ يضيف عزّوجلّ أنّهم بهذا اليمين الكاذب يظنّون أنّه بإمكانهم كسب منفعة أو دفع ضرر: ( ويحسبون أنّهم على شيء).

إنّ هذا التصور الواهي ليس أكثر من خيال، إلاّ أنّ تطبّعهم على هذه الأساليب في الدنيا وتخلّصهم ممّا يحدق بهم من أخطار بواسطة الأيمان الكاذبة ونيل بعض المنافع الدنيوية لأنفسهم، وبذلك فإنّهم يحملون هذه الملكات السيّئة معهم إلى هناك، حيث تفصح عن حقيقتها.

وأخيراً تنتهي الآية بهذه الجملة: ( ألا إنّهم هم الكاذبون).

ويمكن أن يكون التصريح مرتبطاً بالدنيا، أو القيامة، أو كليهما، وبهذه الصورة سيفتضح.

وفي آخر آية مورد البحث يبيّن الباري عزّوجلّ المصير النهائي للمنافقين العمي القلوب بقوله تعالى: ( استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله اُولئك حزب الشيطان ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون).

«استحوذ» من مادّة (حوذ) على وزن (موز) في الأصل بمعنى الجزء الخلفي لفخذ البعير، ولأنّ أصحاب الإبل عندما يسوقون جمالهم يضربونها على أفخاذها، فقد جاء هذا المصطلح بمعنى التسلّط أو السوق بسرعة.

نعم، إنّ المنافقين المغرورين بأموالهم ومقامهم، ليس لهم مصير سوى أن يكونوا تحت سيطرة الشيطان وإختياره ووساوسه بصورة تامّة، وينسون الله بصورة كليّة، إنّهم ليسوا منحرفين فحسب، بل إنّهم في زمرة الشيطان وهم أنصاره

[ 146 ]

وحزبه وجيشه في إضلال الآخرين.

يقول الإمام علي (عليه السلام) في بداية وقوع الفتن والخلافات «أيّها الناس، إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، يتولّى فيها رجال رجالا، فلو أنّ الباطل خلص لم يخف على ذي حجى، ولو أنّ الحقّ خلص لم يكن إختلاف، ولكن يؤخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معاً، فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى»(1).

كما يلاحظ نفس هذا التعبير في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) عندما شاهد صفوف أهل الكوفة بكربلاء كالليل المظلم والسيل العارم أمامه، حيث قال: «فنعم الربّ ربّنا وبئس العباد، أنتم أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرّسول محمّد ثمّ أنّكم رجعتم إلى ذرّيته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ثمّ أضاف (عليه السلام): فتبّاً الموت لكم ولما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون»(2).

وسنتطرّق إلى بحث تفصيلي حول حزب الشيطان وحزب الله، في نهاية الآيات اللاحقة إن شاء الله.

* * *

______________________________

1 ـ اُصول الكافي مطابق لنقل نور الثقلين، ج5 ص267.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص266.

[ 147 ]

الآيات

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِى الاَْذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللهُ لاََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللهَ قِوِىٌّ عَزِيزٌ (21) لاَّ تَجِدُوا قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَـنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوح مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَـئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(22)

التّفسير

حزب الله .. والنصر الدائم!!

كان الحديث عن المنافقين وأعداء الله وبيان بعض صفاتهم وخصائصهم في الآيات السابقة، وإستمراراً لنفس البحث ـ في هذه الآيات التي هي آخر آيات

[ 148 ]

سورة المجادلة ـ تطرح خصوصيات اُخرى لهم، ويتّضح المصير الحتمي لهم حيث الموت والإندحار، يقول تعالى في البداية: ( إنّ الذين يحادّون الله ورسوله اُولئك في الأذلّين) أي أذلّ الخلائق(1).

والآية اللاحقة في الحقيقة دليل على هذا المعنى حيث يقول سبحانه: ( كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي إنّ الله قوي عزيز).

وبنفس القدر الذي يكون فيه الله قويّاً عزيزاً فإنّ أعداءه يكونون ضعفاء أذلاّء، وهذا بنفسه بمثابة الدليل على ما ورد في الآية السابقة من وصف الأعداء بأنّهم ( في الأذلّين).

والتعبير بـ (كتب) يعني التأكيد على أنّ الإنتصار قطعي.

وجملة «لأغلبنّ» مع (لام التأكيد) و (نون التوكيد الثقيلة)، هي دلالة تأكيد هذا النصر بصورة لا يكون معه أي مجال للشكّ والريبة.

وهذا التشبيه هو نفس الذي ورد في قوله تعالى: ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنّهم لهم المنصورون، وإنّ جندنا لهم الغالبون)(2).

ولقد اتّضح على مرّ العصور هذا الإنتصار للمرسلين الإلهيين في أوجه مختلفة، سواء في أنواع العذاب الذي أصاب أعداءهم وصوره المختلفة كطوفان نوح وصاعقة عاد وثمود والزلازل المدمّرة لقوم لوط وما إلى ذلك، وكذلك في الإنتصارات في الحروب المختلفة كغزوات بدر وحنين وفتح مكّة، وسائر غزوات رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم).

وأهمّ من ذلك كلّه إنتصارهم الفكري والمنطقي على أفكار الشيطان وأعداء الحقّ والعدالة، ومن هنا يتّضح الجواب على تساؤل من يقول: إذا كانت هذه

______________________________

1 ـ «يحادّون» من مادّة (محادّة) بمعنى الحرب المسلّح وغير المسلّح، أو بمعنى الممانعة (وقد أعطينا توضيحاً آخر في هذا المجال في نهاية الآية (5) من نفس السورة).

2 ـ الصافات، الآية 171، 173.

[ 149 ]

الوعود قطعيّة فلماذا إستشهد الكثير من الرسل الإلهيين والأئمّة المعصومين والمؤمنين الحقيقيين دون تحقيق النصر؟

هؤلاء المنتقدين والمتسائين لم يشخّصوا في الحقيقة معنى الإنتصار بصورة صحيحة، فمثلا هل يمكن أن نتصوّر أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد إندحر لأنّه إستشهد في كربلاء هو وأصحابه، في حين نعلم جيّداً بأنّه (عليه السلام) قد حقّق هدفه النهائي في فضح بني اُميّة، وبنى صرح العقيدة والحرية، وأعطى الدروس لكلّ أحرار العالم، وإنّه يعتبر الآن زعيم أحرار عالم الإنسانية وسيّد شهداء الدنيا، بالإضافة إلى انتصار خطّه الفكري ومنهجه بين أوساط مجموعة عظيمة من الناس؟(1).

والجدير بالذكر أنّ هذا الإنتصار القطعي ثابت وفقاً للوعد الإلهي بالنصر للسائرين على خطّ الأنبياء والرسالة، وهذا يعني إنتصار مضمون وأكيد من قبل الله تعالى، كما في قوله عزّوجلّ: ( إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)(2).

ومن الطبيعي أنّ كلّ من يطلب العون من الله فإنّ الله سوف ينصره، إلاّ أنّه يجب ألاّ ننسى أنّ هذا الوعد الحقيقي لله سبحانه لن يكون بدون قيد أو شرط، حيث أنّ شرطه الإيمان وآثاره، شرطه ألاّ يجد الضعف طريقه إلى نفوسنا، ولا نخاف ولا نحزن من المصائب، ونجسّد قوله تعالى: ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)(3).

والشرط الآخر أن نبدأ التغيير من داخل نفوسنا، لأنّ الله تعالى لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم قال تعالى: ( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم

______________________________

1 ـ للتوضيح الأشمل في هذا المجال يراجع تفسير الآية (171) من سورة الصافات.

2 ـ المؤمن، الآية 51.

3 ـ آل عمران، الآية 139.

[ 150 ]

حتّى يغيّروا ما بأنفسهم)(1).

كما يجب أن نوثّق علاقتنا بالسلسلة المرتبطة بالخطّ الإلهي ونوحّد صفوفنا، ونجنّد قوانا ونخلص نيّاتنا، ونكون مطمئنّين بأنّ كلّما كان العدو قويّاً، وكنّا قليلي العدّة والعدد .. فإنّنا سننتصر بالجهاد والسعي والتوكّل على الله تعالى.

وذكر بعض المفسّرين أنّ سبب نزول الآية أعلاه أنّ قسماً من المسلمين تنبّأوا أنّ الله سيفتح لهم أرض الروم وفارس، بعد ما شاهدوا بعض قرى الحجاز، إلاّ أنّ المنافقين والمرجفين قالوا لهم: أتتصوّرون أنّ فارس والروم كقرى الحجاز، وأنّ بإمكانهم فتحها، عند ذلك نزلت الآية أعلاه ووعدتهم بالنصر.

آخر آية مورد البحث ـ والتي هي آخر آية من سورة المجادلة ـ تعدّ من أقوى الآيات القرآنية التي تحذّر المؤمنين من إمكانية الجمع بين حبّ الله وحبّ أعدائه، إذ لابدّ من إختيار طريق واحد لا غير، وإذا ما كانوا حقّاً مؤمنين صادقين فعليهم إجتناب حبّ أعداء الله، يقول تعالى: ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخرين يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم).

نعم، لا يجتمع حبّان متضادّان في قلب واحد، والذين يدّعون إمكانية الجمع بين الإثنين، فإنّهم إمّا ضعفاء الإيمان أو منافقون، ولذلك نلاحظ في الغزوات الإسلامية أنّ جمعاً من أقرباء المسلمين كانوا في صفّ المخالفين والأعداء، ومع ذلك قاتلهم المسلمون حتّى قتلوا قسماً منهم.

إنّ حبّ الآباء والأبناء والاُخوان والعشيرة شيء ممدوح، ودليل على عمق العواطف الإنسانية، إلاّ أنّ هذه المحبّة حينما تكون بعيدة عن حبّ الله فإنّها ستفقد خاصيّتها.

______________________________

1 ـ الأنفال، الآية 53.

[ 151 ]

وطبيعي أنّ من يتعلّق بهم الإنسان ليس مختصاً بالأقسام الأربعة التي إستعرضتها الآية الكريمة، ولكن هؤلاء أقرب عاطفياً من غيرهم للإنسان، وبملاحظة الموقف من هؤلاء سيتّضح الموقف من الآخرين.

ولذلك لم يأت الحديث عن الزوجات والأموال والتجارة والممتلكات، في حين أنّ ذلك قد لوحظ في الآية (24) من سورة التوبة، حيث يقول سبحانه: ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم واخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله حتّى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين).

والسبب الآخر في عدم ذكر المتعلّقات الاُخرى بالإنسان في الآية مورد البحث، هو ما ورد في سبب نزول الآية الكريمة والتي من جملتها أنّ «حاطب بن أبي بلتعة» كتب رسالة إلى أهل مكّة ينذرهم بقدوم رسول الله إليهم، ولمّا إنكشفت الوشاية وعرف أنّ حاطب بن أبي بلتعة وراء هذا الأمر، إعتذر قائلا: «أهلي بمكّة أحببت أن يحوطوهم بيد تكون لي عندهم»(1).

وقيل: إنّ هذه الآية قد نزلت بشأن «عبدالله بن أُبي»، الذي كان له ولد مؤمن أراد الخير لأبيه، حيث رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً يشرب الماء، فطلب من رسول الله سؤره المتبقّي في الإناء ليعطيه لأبيه، عسى أن يطهّر قلبه، إلاّ أنّ الأب إمتنع من شربه وتجاسر على رسول الله. عند ذلك جاء الولد يطلب من رسول الله الإذن في قتل أبيه، فلم يسمح له (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك وقال: «بل ترفّق به» يداريه، (وأن يتبرّأ من أعماله في قلبه).

ثمّ يتطرّق القرآن الكريم إلى الجزاء العظيم لهذه المجموعة التي سخّرت قلوبها لعشق الله تعالى، حيث يستعرض خمسة من أوصافهم والتي يمثّل بعضها

______________________________

1 ـ مجمع البيان، ج9، ص255.

[ 152 ]

مدداً وتوفيقاً من الله تعالى، والآخر نتيجة العمل الخالص له سبحانه ...

وفي بيان القسم الأوّل والثاني يقول تعالى: ( اُولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه).

ومن الطبيعي أنّ هذا الإمداد واللطف الإلهي لا يتنافى أبداً مع أصل حرية الإرادة وإختيار الإنسان، لأنّ الخطوات الاُولى في ترك أعداء الله قد قرّرها المؤمنون إبتداءً، ثمّ جاء الإمداد الإلهي بصورة إستقرار الإيمان حيث عبّر عنه بـ (كتب).

هل هذه الروح الإلهية التي يؤيّد الله سبحانه المؤمنين بها هي تقوية الاُسس الإيمانية، أو أنّها الدلائل العقلية، أو القرآن، أو أنّها ملك إلهي عظيم يسمّى بالروح؟ ذكرت لذلك إحتمالات وتفاسير مختلفة، إلاّ أنّه يمكن الجمع بينهما، وخلاصة الأمر أنّ هذه الروح نوع من الحياة المعنوية الجديدة التي أفاضها الله تعالى على المؤمنين.

ويقول تعالى في ثالث مرحلة: ( ويدخلهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها).

ويضيف في رابع مرحلة لهم: ( رضي الله عنهم ورضوا عنه).

إنّ أعظم ثواب معنوي وجزاء روحاني لأصحاب الجنّة في مقابل النعم الماديّة العظيمة في القيامة من جنان وحور وقصور هو شعورهم وإحساسهم أنّ الله راض عنهم وأنّ رضى مولاهم ومعبودهم يعني أنّهم مقبولون عنده، وفي كنف حمايته وأمنه، حيث يجلسهم على بساط قربه، وهذا أعظم إحساس ينتابهم، ونتيجته رضاهم الكامل عن الله سبحانه.

نعم، لا تصل أي نعمة إلى هذا الرضا ذي الجانبين المادّي والمعنوي، والذي هو مفتاح للهبات والعطايا الإلهية الاُخرى، لأنّه سبحانه عندما يرضى عن عبد فإنّه يعطيه ما يطلب منه، فهو القادر والكريم.

[ 153 ]

وما أروع التعبير القرآني: ( رضي الله عنهم ورضوا عنه) أي أنّ مقامهم رفيع إلى درجة بحيث أنّ أسماءهم تكون مقترنة باسمه، ورضاهم إلى جانب رضاه تعالى.

وفي آخر مرحلة يضيف تعالى بصورة إخبار عام يحكي عن نعم وهبات اُخرى حيث يقول: ( اُولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون).

وليس المقصود بالفلاح هنا ما يكون في عالم الآخرة ونيل النعم المادية والمعنوية في يوم القيامة فحسب، بل كما جاء في الآيات السابقة أنّ الله تعالى ينصرهم بلطفه في هذه الدنيا أيضاً على أعدائهم وستكون بأيديهم حكومة الحقّ والعدل التي تستوعب هذا العالم أخيراً

* * *

ملاحظات

1 ـ العلامة الفارقة بين حزب الله وحزب الشيطان

اُشير في القرآن الكريم إلى حزب الله بآيتين، الآية مورد البحث، والآية (56) من سورة المائدة، وقد أشار في آية واحدة إلى حزب الشيطان، وفي كلا الآيتين التي تحدّث فيهما عن حزب الله، أكّد على مسألة «الحبّ في الله والبغض في الله» وموالاة أهل الحقّ.

ففي آية سورة المائدة وبعد بيان مسألة الولاية والحكم ووجوب طاعة الله وطاعة الرّسول، وطاعة الذين أعطوا الزكاة في صلاة (الإمام علي (عليه السلام)) يقول سبحانه: ( ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون).

وفي الآيات مورد البحث ـ أيضاً ـ أكّد سبحانه على قطع (الودّ) مع أعداء الله، وبناءً على هذا فإنّ خطّ «حزب الله» هو خطّ الولاية نفسه، والبراءة من غير الله ورسوله وأوصيائه.

[ 154 ]

وفي المقابل عندما يصف «حزب الشيطان»، الذي اُشير إليه في الآيات الآنفة الذكر من هذه السورة، فإنّ أهمّ ميزة لهم هي النفاق وعداء الحقّ والكذب والمكر، ونسيان ذكر الله.

والنقطة الجديرة بالذكر هنا قوله سبحانه: ( فإنّ حزب الله هم الغالبون) وفي مورد آخر يقول سبحانه: ( ألا إنّ حزب الله هم المفلحون) وبالنظر إلى أنّ الفلاح يقترن دائماً مع النصر والغلبة، لذا فإنّ معنى الآيتين واحد مع وجود قيد، هو أنّ للفلاح مفهوماً أعمق من مفهوم الغلبة، لأنّه يشخّص مسألة الوصول إلى الهدف أيضاً.

على عكس حزب الشيطان، حيث وصفهم سبحانه بالهزيمة والخيبة وعدم الموفّقية في برامجهم والتخلّف عن أهدافهم.

إنّ مسألة الولاية بالمعنى الخاصّ، ومسألة الحبّ في الله والبغض في الله بالمعنى العامّ، ورد التأكيد عليهما في كثير من الروايات الإسلامية حتّى أنّ الصحابي الجليل سلمان الفارسي قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): ياأبا الحسن، ما اطلعت على رسول الله إلاّ ضرب بين كتفي، وقال ياسلمان «هذا ـ وأشار إلى الإمام علي ـ وحزبه هم المفلحون»(1).

وحول المورد الثاني ـ يعني الولاية نقرأ في حديث عن الرّسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم): «ودّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان»(2).

وجاء في حديث آخر أنّه: «قال الله تعالى لموسى: هل علمت فيّ عملا قطّ، قال: صلّيت لك، وصمت وتصدّقت، وذكرت لله. قال الله تبارك وتعالى: وأمّا الصلاة فلك برهان، والصوم جنّة، والصدقة ظلّ والزكاة والذكر نور، فأي عمل عملت لي؟ قال موسى (عليه السلام): دلّني على العمل الذي هو لك. قال ياموسى: هل

______________________________

1 ـ نقل هذا الحديث في تفسير البرهان عن كتب أهل السنّة (البرهان ج4 ص312).

2 ـ اُصول الكافي ج2 باب الحبّ في الله حديث3.

[ 155 ]

واليت ليّ وليّاً؟ وهل عاديت لي عدوّاً قطّ، فعلم موسى أنّ أفضل الأعمال الحبّ في الله والبغض في الله»(1).

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): «لا يمحّض رجل الإيمان في الله حتّى يكون الله أحبّ إليه من نفسه وأبيه واُمّه وولده وأهله وماله ومن الناس كلّهم»(2).

كما توجد روايات كثيرة حول هذا الموضوع في جانبه الإيجابي (حبّ أولياء الله) وكذلك الجانب السلبي (البغض لأولياء الله) ويطول بنا ذكرها هنا، ومن المناسب أن ننهي الحديث عنها بحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: «إذا أردت أن تعلم انّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله عزّوجلّ ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبّك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحبّ»(3).

2 ـ جزاء الحبّ في الله والبغض في الله

رأينا في الآيات أعلاه أنّ الله تعالى يثيب الأشخاص الذين يجعلون أساس كلّ علاقة وودّ هو الحبّ المرتبط بالله، ومن هنا يحبّون أحبّاء الله ويعادون أعداءه، وهذا الجزاء العظيم يكون على خمسة أنواع، ثلاثة في الدنيا، وإثنان في يوم القيامة.

وأوّل هذه النعم في عالم الدنيا هو إستقرار وثبات إيمانهم، حيث يجعل الإيمان في قلوبهم بحيث لا تستطيع الحوادث والأعاصير أن تؤثّر عليه، ومضافاً إلى ذلك فإنّ الله تعالى يؤيّدهم ويقوّيهم بروحية متسامية، وفي المرحلة الثالثة

______________________________

1 ـ سفينة البحار ج1 ص201.

2 ـ سفينة البحار، ج1، ص201.

3 ـ المصدر السابق.

[ 156 ]

يجعلهم في حزبه وينصرهم على أعدائه.

كما يمنحهم في الآخرة جنّة خالدة مع جميع نعمها، وبالإضافة إلى ذلك فإنّه يعلن عن رضاه المطلق عنهم.

وجاء في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) بهذا الصدد: «ما من مؤمن إلاّ ولقلبه اُذنان في جوفه، اُذن ينفذ فيها الوساوس الخنّاس، واُذن ينفذ فيها الملك، فيؤيّد الله المؤمن بالملك فذلك قوله: ( وأيّدهم بروح منه)»(1).

وفي حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسيره لكلام الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: «إذا زنى الرجل فارقه روح الإيمان» قال (عليه السلام): «هذه روح الإيمان التي ذكرها الله في كتابه حيث يقول: ( وأيّدهم بروح منه)»(2).

ويتّضح من الأحاديث أعلاه سعة معنى «روح الإيمان» وشمولها للملك والمرتبة العالية للروح الإنسانية، وفي الضمن توضّح هذه الحقيقة وهي أنّ وجود هذه المرحلة من الإيمان للإنسان يمنعه من التلوّث بالمعاصي كالزنا وشرب الخمر وأمثالها، حيث تصبح لديه حصانة تمنعه من ذلك.

نهاية سورة المجادلة

* * *

______________________________

1 ـ الكافي مطابق لنقل تفسير الميزان، ج19، ص288.

2 ـ المصدر السابق.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=885
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16