[216]
الآيات
هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ( 13 ) فَادْعُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـفِرُونَ( 14 ) رَفِيعُ الدَّرَجَـتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ( 15 )
التّفسير
ادع الله وحده رغماً على الكافرين:
هذه الآيات المتضمنة للنصيحة والتهديد والإنذار استدلال على المسائل المطروحة في الآيات السابقة، فهي استدلال على التوحيد والرّبوبية ونفي الشرك وعبادة الأصنام.
تقول الآية أوّلا: (هو الذي يريكم آياته).
فهي نفس الآيات والعلائم الآفاقية والأنفسية التي تملأ عالم الوجود، وتستوعب بإشراقتها أركانه، وتضع بصماتها وآثارها العجيبة على جدران الوجود وجميع أرجاءه.
ثم توضح واحدة من هذه الآيات: (وينزل لكم من السماء رزقاً).
[217]
قطرات المطر تعطي الحياة، ونور الشمس يحيي الكائنات، والهواء سرّ الوجود والحياة ; حياة جميع الكائنات، حيوانات نباتات، أناس... كلّها تنزل من السماء. وتشكّل هذه الأثافي الثلاث فيما بينها قوام الحياة، حيث تتفرع الأشياء الأُخرى من أصولها.
بعض المفسّرين أطلق على السماء اسم «عالم الغيب» وعلى الأرض اسم «عالم الشهود» ونزول الرزق من السماء إلى الأرض هو بمعنى الظهور من عالم الغيب إلى عالم الشهود.
ولكن هذا التّفسير فضلا عن منافاته لظاهر الآية، لم نعثر له على دليل وشاهد، صحيح أنّ الوحي والآيات، هما غذاء الروح، ينزلان من سماء الغيب، وأنّ المطر والشمس والنور التي تعتبر غذاء الجسد تنزل من السماء الظاهرية، وهما متناسقان مع بعضهما. ولكن ينبغي أن لا نتصوّر أن عبارة (آياته) التي نحن بصددهاتشير إلى مفهوم أوسع، أو تشير بالخصوص إلى الآيات التشريعية، لأنّ عبارة (يريكم آياته) وردت مراراً في القرآن الكريم، وهي عادةً ما تطلق على الآيات الدالة على التوحيد في عالم الوجود.
مثلا، في أواخر هذه السورة (المؤمن) وبعد ذكر النعم الإلهية، من قبيل الزواحف والفلك تقول: (ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون)(1).
إنّ تعبير «يريكم» ينسجم في العادة مع الآيات التكوينية، بينما جرت العادة في الآيات التشريعية على استخدام تعابير مثل (أوحى) و (يأتيكم).
من هنا يتبيّن أنّ اعتبار هذه الآيات بمعنى الآيات التشريعية، وأنّها أعم من التشريعية والتكوينية، كما يذهب بعض كبار المفسّرين القدماء والمحدثين إلى ذلك، لا يستند إلى دليل، ولا تقوم عليه حجّة.
ولكن من الضروري أن نلتفت إلى أنّ القرآن يختار الإشارة إلى آية الرزق
____________________________________
1 ـ المؤمن، الآية 81.
[218]
من بين آيات الله المبثوثة في السماء والأرض وفي وجود الإنسان، ذلك لأنّ الرزق هو أكثر ما يشغل البال والفكر، واحياناً نرى الإنسان يستنجد بالأصنام من أجل زيادة الرزق، وإنقاذه من وضعه المتردي، لذا يأتي القرآن ليؤّكد أن جميع الأرزاق هي بيد الله ولا تستطيع الأصنام أو غيرها أن تفعل أي شيء.
وأخيراً تضيف الآية الكريمة: برغم جميع هذه الآيات البينات التي تسود هذا العالم الواسع، وتغمد الوجود بضيائها، إلاّ أنّ العيون العمياء والقلوب المحجوبة لا تكاد ترى شيئاً، وإنّما يتذكر ـ فقط ـ من ينيب إلى خالقه ويغسل قلبه وروحه من الذنوب: (وما يتذكر إلاّ من ينيب).
الآية التي بعدها ترتب نتيجة على ما سبق فتقول: (فادعوا الله مخلصين له الدين) إنهضوا واضربوا الأصنام وحطموها بفؤوس الإيمان، وامحوا آثارها من ذاكرة الفكر والثقافة والمجتمع.
ومن الطبيعي أنّ وقفتكم الرّبانية هذه ستؤذي الكافرين والمعاندين، لكن عليكم أن لا تسمحوا للخوف أن يتسرّب الى قلوبكم، أخلصوا نيّاتكم: (ولو كره الكافرون).
ففي المجتمع الذي يشكل فيه عبدة الأصنام الغالبية، يكون طريق أهل التوحيد موحشاً في باديء الأمر، مثل شروق الشمس في بدايات الصباح الأولى وسط عالم الظلام والخفافيش، لكن عليكم أن لا تركنوا إلى ردود الأفعال غير المدروسة، تقدموا بحزم وإصرار، وارفعوا راية التوحيد والإخلاص، وانشروها في كلّ مكان.
تصف الآية التي تليها خالق الكون ومالك الحياة والموت، بعض الصفات المهمّة، فتقول: (رفيع الدرجات) فهو تعالى يرفع درجات العباد الصالحين كما في قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(1).
____________________________________
1 ـ المجادلة، الآية 11.
[219]
وحتى بين النّبيين فقد فضّل الله بعضهم على بعض بسبب اجتيازهم للإمتحان والإختبار أكثر من غيرهم، فأخلصوا لله تعالى بمراتب أعلى وأفضل: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)(1).
لقد استخلف الله الإنسان في هذه الأرض، وجعل منه خليفته، وفضّل البعض على البعض الآخر وفقاً لاختلاف الخصائص والقابليات لدى الإنسان: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات)(2).
فإذا كانت الآية السابقة قد دعت إلى الإخلاص في الدين، فإنّ الآية التي بين أيدينا تقول: إنّ الله تبارك وتعالى سوف يرفع درجاتكم بمقدار إخلاصكم، فهو رفيع الدرجات.
إنّ صحة كلّ هذه المعاني منوطة بتفسير (رفيع) بالرافع، إلاّ أنّ البعض ذهب إلى أنّ (رفيع) في الآية بمعنى (المرتفع) وبناء على هذا المعنى فإنّ (رفيع الدرجات) تشير إلى الصفات العالية الرفيعة لله تعالى، فهو رفيع في علمه، وفي قدرته، وفي جميع أوصافه الكمالية والجمالية، هو تعالى رفيع في أوصافه بحيث أنّ عقل الإنسان برغم قابليته واستعداده لا يستطيع أن يدركها.
وبحكم أنّ اللغة تعطي صلاحية متساوية للمعنيين الآنفين لكمة (رفيع) فإنّ التّفسيرين واردان، ولكن لأنّ الآية تتحدث عن إعطاء الأجر لعباد الله الصالحين، والذي هو الدرجات الرفيعة، لذا فإنّ المعنى الأوّل أظهر.
لكن لا مانع من الجمع بين التّفسيرين، لأننا نعتقد جواز استخدام اللفظ لأكثر من معنى، خصوصاً في إطار الآيات التي تشتمل ألفاظها على معاني كبيرة وواسعة.
تضيف الآية بعد ذلك قوله تعالى: (ذو العرش).
____________________________________
1 ـ البقرة، الآية 253.
2 ـ الأنعام، الآية 165.
[220]
فكل عالم الوجود تحت حكومته وفي قبضته، ولا منازع له في حكومته، وهذا بحد ذاته ذليل على أنّ تحديد درجات العباد حسب أفضليتهم إنّما يتمّ بقدرته تعالى.
وبما إنّنا تحدثنا بالتفصيل عن «العرش» فلا حاجة هنا للتكرار.
وفي وصف ثالث تضيف الآية أنّه هو تعالى الذي: (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده) وهذه الروح هي نفس القرآن ومقام النبوّة والوحي، حيث تحيي هذه الأُمور القلوب، وتكون في الانسان كالروح بالنسبة لجسد الإنسان.
إنّ قدرته من جانب، ودرجاته الرفيعة من جانب آخر، تقتضي أن يعلن عزّوجلّ عن برنامجه وتكاليفه عن طريق الوحي، وهل ثمّة تعبير أجمل من الروح، هذه الروح التي هي سرّ الحياة والحركة والنشاط والتقدم.
لقد ذكر المفسّرون احتمالات متعدّدة لمعنى الروح، لكن من خلال القرائن الموجودة في الآية، وممّا تفيده الآية (2) من سورة «النحل» التي تقول: (ينزل الملائكة بالرّوح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذورا أنّه لا إله إلاّ أنا فاتقون)وكذلك ممّا تفيده آية (52) من سورة «الشورى» التي تخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وتوضح له نزول القرآن و الإيمان والروح بقوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) من كلّ ذلك يتبيّن أنّ المقصود بالروح في الآية التي نحن بصددها، هو الوحي والقرآن والتكليف الإلهي.
تفيد عبارة (من أمره) أنّ ملك الوحي المكلّف بإبلاغ هذه الروح، إنّما يتحدث ويتكلّم بأمر الله لا من عند نفسه.
أمّا قوله تعالى: (على من يشاء من عباده) فلا تعني أنّ هبة الوحي تعطى لأي كان، لأن مشيئته تعالى هي عين حكمته، وكل من يجده مؤهلا لهذا المنصب يخصه بهذا الأمر، كما نقرأ في الآية (124) من سورة الأنعام حيث قوله تعالى: (الله أعلم
[221]
حيث يجعل رسالته).
وعندما نجد بعض الرّوايات المروية عن أهل البيت(عليهم السلام) تُفسّر الروح في الآية أعلاه بـ «روح القدس» وتخصّها بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة المعصومين من أهل البيت(عليهم السلام)، فإنّ ذلك لا يتعارض مع ما قلناه، لأنّ «روح القدس» هي نفس الروح العلوية المقدسة والمنصب المعنوي العظيم الذي يتجسّد كاملا في الأنبياء والأئمّة المعصومين(عليهم السلام)، وكثيراً ما يتجلّى جزء منها في الأشخاص الآخرين الذي متى ما ساعدتهم فيوضات روح القدس فإنّه سيقومون بأعمال مهمّة، وتنطق لسانهم بالحكمة. (لمزيد من التوضيح يمكن مراجعة تفسير الآية 87 من سورة البقرة).
والملفت للنظر هنا أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن رزق الأجساد من مطر ونور وهواء، فيما تتحدث هذه الآيات عن الرزق «الروحي» والمعنوي المتمثل في نزول الوحي.
والآن لنرى ما هو الهدف من إنزال روح القدس على الأنبياء(عليهم السلام)، ولماذا يسلك الأنبياء هذه الطرق الطويلة المليئة بالعقبات والصعاب.
الإجابة يقدمها القرآن في نهاية الآية بقوله: (لينذر يوم التلاق).
أنّه اليوم الذي يلتقي فيه العباد بخالقهم ...
إنّه اليوم الذي يلتقي فيه السابقون باللاحقين...
إنّه اليوم الذي يجمع على ساحة القيامة بين رموز الحق وقادته، ورموز الباطل وزعامته وأنصاره ...
إنّه يوم لقاء المستضعفين بالمستكبرين...
إنّه يوم التقاء الظالم والمظلوم...
هو يوم التقاء الإنسان والملائكة ...
وأخيراً، يوم التلاق، هو يوم التقاء الإنسان مع أعماله وأقواله في محكمة
[222]
العدل الإلهي.
إذاً، هدف بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية هو تحذير الإنسان من يوم التلاقي الكبير ... إنّه لاسم عجيب (يوم التلاق) الذي انتخبته الآية اسماً ليوم القيامة!
* * *
[223]
الآيتان
يَوْمَ هُمْ بَرِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَحِدِ الْقَهَّارِ( 16 ) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ( 17 )
التّفسير
يوم التلاقي!
هذه الآيات والتي تليها، هي توضيح وتفسير (ليوم التلاق) وهو اسم ليوم القيامة.
في هاتين الآيتين تمّ ذكر بعض خصوصيات القيامة و كلّ واحدة أكثر إثارة من الأُخرى.
يبيّن تعالى أن يوم التلاقي، هو: (يوم هم بارزون)... إنّه اليوم الذي تزول فيه جميع الحجب والأستار، وكتوطئة له ستزول الموانع المادية كالجبال الراسيات مثلا، وتصبح الأرض (قاعاً صفصفاً) كما يصفها القرآن في الآية (106) من سورة طه».
ومن جانب آخر سيخرج الناس من قبورهم، ثمّ تنكشف الأسرار الباطنية
[224]
والمخفية: (يوم تبلى السرائر)(1).
ويوم تخرج الأرض ما تطويه في بطونها: (وأخرجت الأرض أثقالها)(2).
ويوم تنشر صحف الأعمال وينكشف محتواها: (وإذا الصحف نشرت)(3).
في يوم التلاق تتجسّد الأعمال التي اقترفها الإنسان وتبدو حاضرة أمامه: (يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه)(4).
وفي ذلك اليوم تنكشف الأسرار التي كان يطويها الإنسان بداخله ويتكتم عليها: (بل بدالهم ما كانوا يخفون من قبل)(5).
وفي ذلك اليوم المهول ستشهد الأعضاء على أعمال الإنسان، وستشهد ـ أيضاًـ الأرض وتكشف ما ارتكب عليها: (يومئذ تحدّث أخبارها)(6).
في ذلك اليوم سيطوى الكون، وسيظهر الإنسان بكل وجوده، ويبرز الكون وما عليه، ولا تبقى من خافية: (وبرزوا الله جميعاً)(7).
إنّهُ منظر مهول ومشهد موحش!!
وَيكفينا لتصور هول ذلك اليوم نتخيّل ... وَ لو للحظة واحدة... منظر هَذِهِ الدنيا وقد حلّت بها شرائط القيامة؟ لنرى أيّ فزع سينتاب البشرية وتحل بها! وكيف تتقطع العلائق والروابط في ذلك اليوم لذلك على الإنسان أن يستعد، وأن يعيش بشكل لا يخشى فيه انكشاف المستور من أوضاعه، و أن تكون أعماله وأفعاله بحيث لا يقلق منها لو ظهرت وانكشفت أمام الملأ.
الوصف الثّاني لذلك اليوم المهول، هوانكشاف أمر الناس بحيث لا يخفى
____________________________________
1 ـ الطارق، الآية 9.
2 ـ الزلزال، الآية 2.
3 ـ التكوير، الآية 10.
4 ـ النبأ، الآية 40.
5 ـ الأنعام، الآية 28.
6 ـ الزلزال، الآية 4.
7 ـ إبراهيم، الآية 21.
[225]
شيء منها على الله تعالى: (لا يخفى على الله منهم شيء).
بالطبع ... في هذه الحياة لا يخفى من أمر الإنسان شيء على الله العالم المطلق، إذ يتساوى لذى ذاته المطلقة غير المتناهية المخفي والظاهر، والشاهد والغائب. فلماذاـ إذاًـ ذكر القرآن الجملة أعلاه على أنّهاتفسير لجملة (يوم هم بارزون)؟
إن سبب ذلك يعود إلى أنّ «البروز» في ذلك اليوم يكون مؤكّداً أكثر، بحيث أنّ الآخرين سيطّلعون على أسرار بعضهم البعض. أمّا بالنسبة لله فالمسألة لا تحتاج إلى بحث أو كلام.
الخصوصية الثّالثة ليوم التلاقي هو انبساط الحاكمية المطلقة لله تعالى، ويظهر ذلك من خلال نفس الآية التي تسأل عن الحكم والملك في ذلك اليوم: (لمن الملك اليوم)؟
يأتي الجواب: (لله الواحد القهار).
مَن الذي يطرح السؤال، وَ مَن الذي يجيب عليه؟
الآية لا تتحدّث عن ذلك، والتفاسير مختلفة في هذا الصدد.
ذهب البعض الى أنّ السؤال يطرح من قبل الله جلّ وعلا، أمّا الجواب فيأتي من الجميع، مؤمنين وكافرين(1).
وذهب آخرون الى أن السؤال والجواب كلاهما من قبل الخالق عزّوجلّ(2).
قسم ثالث يعتقد أنّ «المنادي الإلهي» هو الذي يطرح السؤال، وهو الذي يجيب عليه.
ولكن يبدو من الظاهر أنّ هذا السؤال وجوابه لا يطرحان من قبل فرد معين، بل هو سؤال يطرحه الخالق والمخلوق، الملائكة والإنسان، المؤمن والكافر،
____________________________________
1 ـ مجمع البيان، أثناء تفسير الآية.
2 ـ الميزان: ذيل الآية مورد البحث.
[226]
تطرحه جميع ذرات الوجود، وكلّهم يجيبون عليه بلسان حالهم، بمعنى أنّك أينما تنظر تشاهد آثار حاكميته، وأينما تدقق ترى علائم قاهريته واضحه.
فلو أصحت السمع إلى أي ذرة من ذرات الوجود، لسمعتها تقول: (لمن الملك) وفي الجواب تسمعها نفسها تقول: (لله الواحد القهّار).
وقد نرى في هذه الدنيا نموذجاً مصغراً لذلك، فعندما ندخل إلى بيت أو مدينة أو بلد معين، فإنّنا نحس بقدرة شخص معين، وبانبساط حاكميته، وكأنّ الجميع يقولون ـ كلّ بلسان حاله ـ: إنّ المالك أو الحاكم هو فلان، وتشهد على ذلك حتى الجدران!!
وبالطبع، في هذا اليوم أيضاً تطغى الحاكمية الإلهية على كلّ شيء، وتبسط قدرتها في كلّ الأرجاء، لكن في يوم القيامة سيكون لها ظهور وبروز من نوع جديد، فهناك لا يوجد كلام عن حكومة الجبارين، ولا نسمع ضجيج الطواغيت السكارى، ولا نرى أثراً لإبليس وجنوده وجيوشه من الإنس و الجن.
الخصوصية الرابعة لذلك اليوم، هو كونه يوم جزاء: (اليوم تجزى كلّ نفس بماكسبت). أجل، إن ظهور وبروز الاحاطة العلمية لله تعالى وحاكميته ومالكيته وقهاريته كلها أدلة واضحة على هذه الحقيقة العظيمة المخيفة من جهة، والمفرحة من جهة اُخرى.
أمّا الخصوصية الخامسة لذلك اليوم، فهي ما يختصره قوله تعالى: (لا ظلم اليوم).
وكيف يمكن أن يحصل الظلم، في حين أن الظلم إمّا أن يكون عن جهل، والله عزوجل قد أحاط بكل شيء علماً.
وإمّا أن يكون عن عجز، والله عزوجل هو القاهر والمالك والحاكم على شيء، لذا لا مجال لظلم أحد في محضر القدس الإلهي وفي ساحة القضاء الإلهي العادل.
[227]
الصفة السادسة والأخيرة ليوم التلاقي، هي سرعة الحساب لأعمال العباد، كما نقرأ ذلك في قوله تعالى: (إنّ الله سريع الحساب).
وسرعة الحساب بالنسبة لله تعالى تجري كلمح البصر، وهي بدرجة بحيث نقرأ عنها في حديث: «إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر»(1).
وأساساً فإنّه مع القبول بمسألة تجسّم الاعمال و بقاء آثار الخير و الشر فإن مسألة الحساب مسألة محلولة؟ فهل أنّ الأجهزة المتطورة في هذه الدنيا التي تحسب مقدار العمل في اثناء العمل بجاجة الى زمان؟!
وقد يكون الغرض من تكرار (سريع الحساب) في مواضع مختلفة من القرآن الكريم هو عدم انخداع الناس العاديين بوساوس الشيطان وإغوائاته، ومن يتبعه من الذين يثيرون الشكوك بإمكانية محاسبة الخلائق على أعمالهم التي قاموا بها خلال آلاف سحيقة من السنين وعصور التأريخ.
إضافة إلى أنّ هذا التعبير يستبطن معنى التحذير لجميع الناس بأنّ ذلك اليوم لا مجال فيه للمجرمين والظالمين والقتلة، ولا تعطى لهم الفرصة كما يحصل في هذه الدنيا، حيث يترك ملف الظلمة والقتلة لشهور وسنين.
* * *
____________________________________
1 ـ في مجمع البيان، نهاية الحديث عن الآية (202) من سورة البقرة.
[228]
الآيات
وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الاَْزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَـظِمِينَ مَا لِلَّظـلِمِينَ مِنْ حَمِيم وَلاَ شَفِيع يُطَاعُ( 18 ) يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الاَْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ( 19 ) وَاللهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَىْء إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( 20 )
التّفسير
يوم تبلغ القلوب الحناجر:
هذه الآيات تستمر ـ كالآيات السابقة ـ في وصف القيامة ـ يوم التلاقي ـ وتحدّد سبع خصائص للقيامة والحوادث المهولة والمدهشة التي تدفع بكل انسان مؤمن نحو التفكير والتأمل بالحياة والمصير.
يقول تعالى: (وأنذرهم يوم الآزفة).
«الآزفة» باللغة بمعنى (القريب) ويا لها من كناية عجيبة، حيث أطلق سبحانه على يوم القيامة يوم الآزفة كي لا يظن الجهلة أن هناك فترة طويلة تفصلهم عن ذلك اليوم، فلا ينبغي ـ والحال هذه ـ أن ينشغل المرء بالتفكير به!
وإذا نظرنا بتأمّل فسنجد أنّ عمر الدنيا بأجمعه لا يعادل سوى لحظة زائلة
[229]
حيال يوم القيامة، ولأنّ الله تبارك وتعالى لم يذكر أىّ تأريخ لهذا اليوم المهول، حتى للأنبياء(عليهم السلام)، لذا يجب الإستعداد دائماً لاستقبال ذلك اليوم.
الوصف الثّاني ليوم الأزقة هو: (إذ القلوب لدى الحناجر) من شدة الخوف. فعندما تواجه الإنسان الصعويات يشعر وكأنّ قلبه يفر من مكانه، وكأنّهُ يريد أن يخرج من حنجرته، والعرب في ثقافتها اللغوية التي نزل بها القرآن تطلق على هَذِهِ الحالة وصف «بلغت القلوب الحناجر».
ويمكن أن يكون (القلب) كناية عن (الروح) بمعنى أنّ روحه بلغت حنجرته هلعاً وخوفاً، كأنما تريد أن تفارق بدنه تدريجياً ولم يبق منها سوى القليل.
إنّ هول الخوف من الحساب الإلهي الرباني الدقيق، والخشية من الإفتضاح وانكشاف الستر والحجب أمام جميع الخلائق، وتحمّل العذاب الأليم الذي لا يمكن الخلاص منه، كلّ هذه أُمور سيواجهها الإنسان ولا يمكن وصفها وشرحها بأي بيان.
الصفة الثّالثة لذلك اليوم تعبر عنها الآية بـ ( كاظمين) أي إنّ الهم والغم سيشمل كل وجودهم، إلاّ أنّهم لا يستطيعون إظهار ذلك أو إبداءه.
«كاظم» مشتقّة من «كظم» وهي في الأصل تعني غلق فوهة القربة المملوءة بالماء; ثمّ أطلقت بعد ذلك على الأشخاص المملوئين غضباً إلاّ أنّهم لا يظهرونه لسبب من الأسباب.
قد يستطيع الإنسان المغموم المحزون أن يهدأ او يستريح بالصراخ، لكن المصيبة حينما لا يستطيع هذا الإنسان حتى عن الصراخ ... فماذا ينفع الصراخ في محضر الخالق جلّ وعلا وفي ساحة عدله وعندما تنكشف جميع الأسرار امام جميع الخلائق.
الصفة الرّابعة ليوم التلاقي هو يوم: (ما للظالمين من حميم). أي صديق نعم، أنّ تلك المجموعة من الأصدقاء الكذابين التي تحيط بالشخص كذباً وتملقاً ـ كما
[230]
يحيط الذباب بالحلويات ـ طمعاً في مقامه وقدرته وجاهه وماله. إنّ هؤلاء في هذا اليوم مشغولون بأنفسهم لا ينفعون أحداً... وهو يوم لا تنفع فيه لا صداقة ولا خلّة.
الصفة الخامسة تقول عنها الآية:(ولا شفيع يطاع).
ذلك أنّ شفاعة الشفعاء الحقيقيين كالأنبياء والأولياء إنّما تكون بإذن الله تعالى، وعلى هذا الأساس لا مجال لتلك التصورات السقيمة لعبدة الأصنام، الذين كانوا يعتقدون في الحياة الدنيا أنّ أصنامهم ستشفع لهم في حضرة الله جلّ وعلا.
وفي المرحلة السادسة تذكر الآية أحد صفات الخالق جلّ وعلا، والتي تعتبر في نفس الوقت وصفاً لكيفية القيامة، حيث تقول: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)(1).
إنّ الله تبارك وتعالى يعلم الحركات السرية للعيون وما تخفيه الصدور من أسرار، وسيقوم تعالى بالحكم والقضاء العادل عليها، وهو بعلمه سيجعل صباخ الظالمين المذنبين مظلماً.
وعندما سئل الإمام الصادق(عليه السلام) عن معنى الآية فأجاب: «ألم تر إلى الرجل ينظر إلى الشيء وكأنّه لا ينظر إليه، فذلك خائنة الأعين»(2). أي يوهم أنّه لا ينظر إليه.
قد يتطاول البعض بنظره إلى أعراض الناس وإلى ما يحرم النظر إليه، وقد يستطيع الفاعل أن يخفي فعلته عن الآخرين، لكن ذلك لايخفى عن علم الله المحيط بكل ذرات الوجود إذ: (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في
____________________________________
1 ـ هناك احتمالان من حيث التركيب النحوي لجملة «يعلم خائنة الأعين» : الأول: أنّ (خائنة) لها معنى مصدري وتعني الخيانة (مثل كاذبة ولا غية بمعنى كذب ولغو). ويحتمل أن تكون (اسم فاعل) من باب تقديم الصفة، أي أنّها تعني في الأصل (الأعين الخائنة).
2 ـ تفسير الصافي أثناء الحديث عن الآية.
[231]
الأرض)(1).
وقد روي أنّه (لماجيء بعبد الله بن أبي سرح إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما اطمأن أهل مكّة وطلب له الأمان عثمان صمت رسول الله طويلا ثمّ قال (نعم) فلما انصرف قال رسول الله لمن حوله: «ما صمتّ طويلا إلاّ ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» فقال رجلٌ من الأنصار: فهلاً أومأت إليّ يا رسول الله، فقال: «إن النّبي لا تكون له خائنة الأعين»(2).
وبالطبع فإنّ لخيانة العين أشكال مختلفة، إذ تتمثل في بعض الأحيان باستراق النظر إلى ما يحرم كالنساء وغيرهن، وأحياناً تتمثل بإشارات معينة للعين تهدف تحقير الآخرين والإستهزاء بكلامهم. وقد تكون حركات العين مقدمة لمخططات شيطانية ضدّ الآخرين.
إنّ من يؤمن بالحساب الدقيق في الآخرة، عليه أن يراعي حدود التقوى في خائنة الأعين وخطرات الفكر، وواضح أنّ استحضار عناصر الرقابة هذه لها مؤدّاها التربوي الكبير في سلوك الإنسان وحياته.
وفي قصص الوعظ المتداولة في مجالس العلماء، يقال أن أحد كبار العلماء عندما أنهى دراسته الدينية في النجف الأشرف، طلب من أستاذه عندما أراد الرجوع إلى بلده أن يعظه وينصحه، فقال له الأستاذ: بعد كلّ هذا التعب وتحمّل مضاق الدراسة والتحصيل فإنّ آخر نصيحتي لك هي أن لا تنسى أبداً قوله تعالى (ألم يعلم بأنّ الله يرى)(3).
المؤمن الحقيقي يعتبر العالم كلّه حاضراً عند الله تعالى، وإنّ كلّ الأعمال تتمّ في حضوره، وينبغي لهذا الحضور الإلهي أن يكون رادعاً كافياً للخجل والكف
____________________________________
1 ـ سبأ، الآية 3.
2 ـ تفسير القرطبي ذيل الآية.
3 ـ العلق، الآية 14.
[232]
عن المعاصي والذنوب.
الآية التي تليها تتحدث عن صفة سابعة للقيامة تتمثل في قوله تعالى: (والله يقضي بالحق).
أمّا غيره: (والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء).
في ذلك اليوم يختص الله وحده بالقضاء، وهو جلّ جلاله لا يقضي إلاّ بالحق، لأنّ القضاء بغير الحق ـ بالظلم مثلا والإنحياز ـ إمّا أن يعود إلى الجهل وعدم المعرفة، والله محيط بكل شيء، حتى بما يموج في الضمائر وماتكنّه السرائر. أو أنّه يكون نتيجة للعجز والإحتياج، وهذه صفات هي أبعد ما تكون عن ذات الله جلّ جلاله.
إنّ هذا التعبير يحمل في مؤدّاه دليلا كبيراً على توحيد المعبود والعبادة، لأنّ من يكون له حق القضاء في النهاية يستحق العبادة حتماً أمّا الأصنام التي لا تنفع شيئاً في هذا العالم، ولا تكون في القيامة مرجعاً للحكم والقضاء، فكيف تستحق العبادة.
ومن الضروري أن نشير أيضاً إلى أنّ للحكم والقضاء بالحقّ معاني واسعة، إذ هي تشمل عالم التكوين وعالم التشريع، حيث وردت كلمة «قضى» في الآيات القرآنية لتشمل المعنيين، ففي مكان نقرأ قوله تعالى: (وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه)(1) حيث تنطوي الآية على القضاء التشريعي. وفي آية اُخرى نقرأ قوله تعالى: (إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون)(2).
وفي الختام و للتأكيد على المطالب المذكورة في الآيات السابقة تضيف الآية (إن الله هو السميع البصير).
____________________________________
1 ـ الإسراء، الآية 23.
2 ـ آل عمران، الآية 47.
[233]
فهو تعالى سميع وبصير بمعنى الكلمة، أي إنّ كلّ المسموعات والمبصرات حاضرة عنده، وهذا تأكيد على إحاطته وعلمه بكل شيء، وقضاوته بالحق، إذ ما لم يكن الشخص سميعاً وبصيراً مطلقاً فلا يستطيع أن يقضي بالحق،
* * *
[234]
الآيتان
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الاَْرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِى الاَْرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللهِ مِن وَاق( 21 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـتِ فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ( 22 )
التّفسير
اعتبروا بعاقبة أسلافكم الظالمين:
إنّ أسلوب القرآن الكريم في كثير من الايات أنّه بعد أن يتعرض لكليات القضايا الحساسة والمهمّة يمزجها ببعض المسائل الجزئية والمحسوسة ويأخذ بيد الانسان ليريه الحوادث الماضية و الحالية. لذلك فإنّ الآيات التي بين أيدينا تتحدث عن أحوال الأمم الظالمة السابقة ومنهم فرعون والفراعنة وما حلّ بهم من جزاء أليم، وتدعوا الناس للإعتبار بمصير أولئك، بعد ما كانت الآيات السابقة قد حدّثتنا عن يوم القيامة وصفاته وطبيعة الحساب الدقيق الذي ينطوي عليه.
يقول تعالى: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا
[235]
من قبلهم).
إنّ الذي تحكيه الآيات وتدعونا للإعتبار به ليس تأريخاً مدوناً نستطيع أن نشكّك في طبيعة الوثائق والنصوص المكوّنة له، وإنّما هو تأريخ حي ينطق عن نفسه، وينبض بالعبرة والعظة، فهذه قصور الظالمين الخربة، وماتركوه من جنات وعيون، وهذه مدن الأشقياء التي نزل بساحتها العذاب والإنتقام الإلهي، وها هي عظامهم النخرة التي يطويها التراب، والقصور المدفونة تحت الأرض ... ها هي كلّها تحكي عظة الدرس، وعظيم العبرة، خصوصاً وأنّ القرآن يزيدنا معرفةٌ بهؤلاء فيقول عنهم: (كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض).
كانوا يملكون السلطات القوية، والجيوش العظيمة، والمدنية الباهرة التي لا يمكن مقايستها بحياة مشركي مكّة.
إنّ تعبير (أشد منهم قوّة) يكشف عن قوتهم السياسية والعسكرية، وعن قوته الإقتصادية والعلمية أيضاً.
أمّا التعبير في قوله تعالى: (آثاراً في الأرض) فلعله إشارة إلى تقدمهم الزراعي العظيم، كما ورد في الآية (9) من سورة «الروم» في قوله تعالى: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوّة وآثاروا الأرض وعمروها أكثر ممّا عمروها).
وقد يكون التعبير القرآني إشارة إلى البناء المحكم العظيم للأمم السابقة، ممّا قاموا به في أعماق الجبال وبين السهول، كما يصف القرآن ذلك في حال قوم «عاد»: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون)(1).
ولكن عاقبة هؤلاء القوم، بكل ما انطوت عليه حياتهم من مظاهر قوّة وحياة ونماء، هي كما يقول تعالى: (فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق).
فلم تنفعهم كثرتهم ولم تمنعهم أموالهم وقدرتهم وشوكتهم من العذاب الإلهي
____________________________________
1 ـ الشعراء، الآية 128 ـ 129.
[236]
عندما نزل بساحتهم.
لقد وردت كلمة «أخذ» مراراً في القرآن الكريم بمعنى العقاب، وهي إشارة إلى «أخذ» القوم أو الجماعة قبل أن يُنْزل بها العقاب، تماماً كما يقبض أوّلا على الشخص المجرم، ثمّ يتمّ عقابه.
الآية التي بعدها فيها تفصيل لما قيل سابقاً بإيجاز، بقوله تعالى: (ذلك بأنّهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا). فلم يكن الأمر أنّهم كانوا غافلين ولم يعرفوا الأمر، ولم يكن كفرهم وارتكابهم الذنوب بسبب عدم إتمام الحجّة عليهم، فلقد كانت تأتيهم رسلهم تترا، كما يستفاد من قوله تعالى: (كانت تأتيهم) إلاّ أنّهم لم يخضعوا للأوامر الإلهية، كانوا يحطمون مصابيح الهداية، ويديرون ظهورهم للرسل، وكانوا ـ أحياناًـ يقتلونهم!
وحينئذ: (فأخذهم الله) وعاقبتهم أشدّ العقاب ـ (إنّه قوي شديد العقاب). إذ هو في مواطن الرأفة أرحم الراحمين وفي مواضع الغضب أشد المعاقبين.
* * *
[237]
الآيات
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَـتِنَا وَسُلْطَـن مُّبِين( 23 ) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَـمَـنَ وَقَـرُونَ فَقَالُوا سَـحِرٌ كَذَّابٌ( 24 ) فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُواْ اقْتُلُواْ أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَـفِرِينَ إِلاَّ فِى ظَلَـل( 25 ) وَقَالَ فِرْعَوْنَ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلُ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرْ فِى الاَْرْضِ الْفَسَادَ( 26 ) وَقَالَ مُوسَى إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّر لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ( 27 )
التّفسير
ذروني أقتل موسى!!
بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى العاقبة الأليمة للأقوام السابقة، فقد شرعت الآيات التي بين أيدينا بشرح واحدة من هذه الحوادث، من خلال قصة موسى وفرعون، وهامان وقارون.
قد يبدو للوهلة الأولى أنّ قصة موسى(عليه السلام) مكررة في أكثر من سورة من سور
[238]
القرآن الكريم، ولكن التأمّل في هذه الموراد يظهر خطأ هذا التصوّر، إذ يتبيّن أن القرآن يتطرف الى ذكر القصة في كلّ مرّة من زاوية معينة، وفي هذه السورة يتعرض القرآن للقصة من زاوية دور «مؤمن آل فرعون» فيها. والباقي هو بمثابة أرضية ممهّدة لحكاية هذا الدور.
يقول تعالى (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين).
أرسله تعالى: (إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذّاب).
لقد ذكر المفسرون عدّة تفاسير في الفرق بين «الآيات» و «السلطان المبين» فالبعض اعتبر «الآيات» الأدلة الواضحة، بينما «السلطان المبين» هي المعجزات.
والبعض الآخر اعتبر «الآيات» آيات التوراة، بينما «السلطان المبين» المعجزات.
واحتمل البعض الثّالث أنّ «الآيات» تشمل كلّ معاجز موسى(عليه السلام)، أمّا «السلطان المبين» فهو المعاجز الكبيرة كالعصا واليد البيضاء، التي تسببت في غلبته الواضحة على فرعون.
ومنهم من اعتبر «الآيات» المعجزات، بينما فسّرَ «السلطان المبين» بالسلطة القاهرة والنفوذ الإلهي لموسى(عليه السلام) والذي كان سبباً في عدم قتله وعدم فشل دعوته.
لكن الملاحظ أنّ هذه الآراء بمجموعها لا تقوم على أدلة قوية واضحة، ولكن نستفيد من الآيات القرآنية الأُخرى أنّ «السلطان المبين» يعني ـ في العادةـ الدليل الواضح القوي الذي يؤدي إلى السلطة الواضحة، كما نرى ذلك واضحاً في الآية (21) من سورة «النمل» أثناء الحديث عن قصة سليمان(عليه السلام) والهدهد حيث يقول تعالى على لسان سليمان: (وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين، لأعذبنّه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتيني بسلطان مبين) فالسلطان المبين هنا هو الدليل الواضح للغيبة.
[239]
وفي الآية (15)من سورة الكهف قوله تعالى: (لو لا يأتون عليه بسلطان بيّن).
أمّا «الآيات» فقد وردت في القرآن مراراً بمعنى المعاجز.
وبناء على هذا فإنّ «آيات» في الآية التي نحن بصددها تشير إلى «معجزات موسى» بينما يشير «سلطان مبين» إلى منطق موسى (عليه السلام) القوي وأدلته القاطعة في مقابل الفراعنة.
إنّ موسى(عليه السلام) كان يزاوج بين منطق العقل، وبين الأعمال الإعجازية التي تعتبر علامة كافية على ارتباطه بعالم الغيب وبالله تعالى، ولكن في المقابل لم يكن للفراعنة من منطق سوى اتهامه بالسحر أو الكذب. لقد اتهموه بالسحر في مقابل الآيات والمعجزات التي أظهرها، وكذّبوه مقابل منطقه واستدلاله العقلاني على الأمور. وهذا ما يؤيد الرأي الذي اخترناه في تفسير «آيات» و «سلطان مبين».
وبالنسبة للطواغيت والفراعنة لا يملكون أصلا سوى منطق الإتهام، وأُسلوب إطلاق الشبهات على رجال الحق ودعاته.
والذي يلفت النظر في الآية الكريمة إشارتها إلى ثلاثة أسماء، كلّ واحد منها يرمز لشيء معين في سياق الحالة السائدة آنذاك، والتي يمكن أن تجد مماثلاتها في أي عصر.
«فرعون» نموذج للطغاة والعصاة وحكّام الظلم والجور.
«هامان» رمزللشيطنة والخطط الشيطانية.
«قارون» نموذج للأثرياء البغاة، والمستغلين الذين لا يهمهم أي شيء في سبيل الحفاظ على ثرواتهم وزيادتها.
وبذلك كانت دعوة موسى(عليه السلام) تستهدف القضاء على الحاكم الظالم، والمخططات الشيطانية لرموز السياسة في حاشية السلطان الظالم، وبتر تجاوزات الأثرياء المتستكبرين، وبناء مجتمع جديد يقوم على قواعد العدالة الكاملة في
[240]
المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية. ولكن من وقعت مصالحهُ اللامشروعة في خطر! قصدوا لمقاومة هذه الدعوة الإلهية.
الآية التي بعدها تتعرض إلى بعض مخططات هؤلاء الظلمة في مقابل دعوة النّبي موسى(عليه السلام): (فلما جاءهم بالحقّ من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نسائهم).
وما نستفيده من الآية هو أنّ قضية قتل الأبناء والإبقاء على النساء فقط لم يقتصر ـ كأُسلوب طاغوتي ـ على الفترة التي سبقت ولادة موسى(عليه السلام) فحسب، وإنّما تمّ تكرار هذه الممارسة أثناء نبوة موسى(عليه السلام)، فالآية (129) من سورة الأعراف تؤيد هذا الرأي، حيث تحكي على لسان بني إسرائيل قولهم لموسى(عليه السلام): (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا).
لقد صدر هذا القول عن بني إسرائيل بعد أن قام فرعون بقتل أبناء المؤمنين منهم بدعوة موسى(عليه السلام).
وفي كلّ الأحوال، يعبّر هذا الأُسلوب عن واحدة من الممارسات والخطط المشؤومة الدائمة للقدرات الشيطانية الظالمة التي تستهدف إبادة وتعطيل الصاقات الفعّالة، وترك غير الفاعلين للإفادة منهم في خدمة النظام.
لقد كان «بنو إسرائيل» قبل موسى(عليه السلام) عبيداً للفراعنة، لذلك لم يكن من العجيب أن تبادر سلطات فرعون بعد بعثة موسى(عليه السلام) وشيوع دعوته إلى اعتماد الخطة المعادية في قتل الأبناء واستحياء النساء، بهدف الإنتقام والإبادة الشديدة لبني إسرائيل كي تتعطل فيهم عوامل الصمود والمقاومة.
ولكن ما هي نتيجة كلّ هذا الكيد؟
القرآن يجيب: (وما كيد الكافرين إلاّ في ضلال).
أعمالهم سهام تطلق في ظلام الجهل و الضلال فلا تصيب سوى الحجارة! لقد قضى الله تعالى بمشيئته أن ينتصر الحق وأهله، وأن يزهق الباطل وأنصاره.
[241]
لقد اشتد الصراع بين موسى (عليه السلام) وأصحابه من جانب، وبين فرعون وأنصاره من جانب آخر. ووقعت حوادث كثيرة، لا يذكر القرآن عنها كثيراً في هذه الفقرة، ولتحقيق هدف خاص يذكر القرآن أنّ فرعون قرّر قتل موسى(عليه السلام) لمنع انتشار دعوته وللحيلولة دون ذيوعها، لكنّ المستشارين من «الملأ» من القوم عارضوا الفكرة.
يقول تعالى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وَليدع ربّه).
نستفيد من الآية أنّ أكثرية مستشارية أو بعضهم على الاقل كانوا يعارضون قتل موسى، لخوفهم أن يطلب(عليه السلام) من ربّه نزول العذاب بساحتهم، لما كانوا يرون من معجزاته وأعماله غير العادية، إلاّ أنّ فرعون ـ بدافع من غروره ـ يصر على قتله مهما تكن النتائج.
وبالطبع، فإنّ سبب امتناع «الملأ» عن تأييد فكرة فرعون في قتل موسى غير معلوم، فهناك احتمالات كثيرة قد يكون بعضها أو كلّها صحيحة ... .
فقد يكون الخوف من العذاب الإلهي ـ كما احتملنا ـ هو السبب.
وقد يكون السبب خشية القوم من تحوّل موسى(عليه السلام) بعد استشهاده إلى هالة مقدّسة، وهو ممّا يؤدي إلى زيادة عدد الأتباع والمؤمنين بدعوته، خاصة إذا ما وقعت حادثة قتله بعد قضية لقاء موسى مع السحرة وانتصاره الإعجازي عليهم.
وما يؤكّد هذا المعنى هو أنّ موسى جاء في بداية دعوته بمعجزتين كبيرتين (العصا واليد البيضاء) وقد دعا هذا الأمر فرعون إلى أن يصف موسى(عليه السلام)بالساحر، وأن يدعوه للمنازلة مع السحرة في ميقات يوم معلوم (يوم الزينة) وكان يأمل الإنتصار على موسى(عليه السلام) عن هذا الطريق، لذا بقي في انتظار هذا اليوم.
وبمشاهدة هذا الوضع ينتفي احتمال أن يكون فرعون قد صمّم على قتل
[242]
موسى قبل حادث يوم الزينة خشية من تبدّل دين أهل مصر(1).
خلاصة القول: إنّ هؤلاء يعتقدون أنّ موسى(عليه السلام) مجرّد حادث صغير ومحدود، بينما يؤدي قتله في مثل تلك الظروف إلى أن يتحول إلى تيار... تيارٌ كبير يصعب السيطرة عليه.
البعض الآخر من المقربين لفرعون ممّن لا يميل إليه، كان يرغب ببقاء موسى(عليه السلام) حياً حتى يشغل فكر فرعون دائماً، كي يتمكن هؤلاء من العيش بارتياح بعيداً عن عيون فرعون، ويفعلون ما شاؤوا من دون رقابته.
وهذا الأمر يعبّر عن «سليقة» في بلاط السلاطين، إذ يقوم رجال الحاشية ـ من هذا النوع ـ بتحريك بعض أعداء السلطة حتى ينشغل الملك أو السلطان بهم، وليأمنوا هم من رقابته عليهم، كي يفعلوا ما يريدون!
وقد استدل فرعون على تصميمه في قتل موسى(عليه السلام) بدليلين، الأوّل ذو طابع ديني ومعنوي، والآخر ذو طابع دنيوي ومادي، فقال الأول، كما يحكي القرآن ذلك: (إنّي أخاف أن يبدّل دينكم).
وفي الثّاني: (أو أن يظهر في الأرض الفساد).
فإذا سكتّ أناوكففت عن قتله، فسيظهر دين موسى وينفذ في أعماق قلوب أهل مصر، وستتبدل عباة الأصنام التي تحفظ منافعكم ووحدتكم; وإذا سكتّ اليوم فإنّ الزمن كفيل بزيادة أنصار موسى(عليه السلام) وأتباعه، وهو أمرٌ تصعب معه مجاهدته في المستقبل، إذ ستجر الخصومة والصراع معه إلى إراقة الدماء والفساد وشيوع القلق في البلاد، لذا فالمصلحة تقتضي أن أقتله أسرع ما يمكن.
بالطبع، لم يكن فرعون يقصد من الدين شيئاً سوى عبادته أو عبادة الأصنام،
____________________________________
1 ـ ورد في تفسير الميزان عند الحديث عن الآية (36) من سورة الشعراء: (قالوا أرجه وأخاه) إنّ الآية دليل على أنّ هناك مجموعة منعت فرعون من قتل «موسى»(عليه السلام) إلاّ أنّ التدقيق في الآيات الخاصة بقصة موسى تظهر أنّه لم تكن هناك نية لقتله في ذلك الوقت، وإنّما كان الهدف اختبار النوايا لمعرفة الصادق من الكاذب، أما التصميم على القتل فقد كان بعد حادثة السحرة وانتصار موسى(عليه السلام) عليهم ونفوذ تأثيره في أعماق قلوب أهل مصر، حيث خشي فرعون العواقب.
[243]
وهذا الأسلوب في استخدام لباس الدين واسمه وتبنّي شعاراته، يستهدف منه السلطان (فرعون) تحذير الناس وتجهيلهم من خلال إعطاء طابع الدين على مواقفه وكيانه وسلطته.
أمّا الفساد فهو من وجهة نظر فرعون يعني الثورة ضدّ استكبار فرعون من أجل تحرير عامّة العباد، ومحو آثار عبادة الأصنام، وإحياء معالم التوحيد، وتشييد الحياة على أساسها.
إنّ استخدام لباس الدين ورفع شعاراته، وكذلك «التدليس» على المصلحين بالإتهامات، هما من الأساليب التي يعتمد هما الظلمة والطغاة في كلّ عصر ومصر، وعالمنا اليوم يموج بالأمثلة على ما نقول!
والآن لنر كيف كان رد فعل موسى(عليه السلام) والذي يبدو أنّه كان حاضر المجلس؟
يقول القرآن في ذلك: (وقال موسى إنّي عذت بربي و ربكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب).
قال موسى(عليه السلام) هذا الكلام بقاطعية واطمئنان يستمدان جذورهما من إيمانه القوي واعتماده المطلق على الله تعالى، وأثبت بذلك بأنّه لا يهتز أو يخاف أمام التهديدات.
ويستفاد من قول موسى(عليه السلام) أيضاً أنّ من تحل فيه صفتا «التكبر» و «عدم الإيمان بيوم الحساب» فهو إنسان خطر، علينا أن نستعيذ بالله من شرّه وكيده.
فالتكبر يصبح سبباً لأن لا يرى الإنسان سوى نفسه وسوى أفكاره، فهو يعتبر كما في حال فرعون ـ الآيات والمعجزات الإلهية سحراً، ويعتبر المصلحين مفسدين، ونصيحة الأصدقاء والمقربين ضعفاً في النفس.
أمّا عدم الإيمان بيوم الحساب فيجعل الإنسان حراً طليقاً في أعماله وبرامجه، لا يفكر بالعواقب، و لا يرى لنفسه حدوداً يقف عندها، وسيقوم بسبب
[244]
انعدام الضوابط وفقدان الرقابة بمواجهة كلّ دعوة صالحة ويحارب الأنبياء.
ولكن ماذا كان عاقبة تهديد فرعون؟
الآيات القادمة تنبئنا بذلك، وتكشف كيف استطاع موسى(عليه السلام) أن يفلت من مخالب هذا الرجل المتكبر المغرور.
* * *
[245]
الآيتان
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـنَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللهُ وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبِيِّنَـتِ مِن رَّبِّكُمْ وَ إِن يَكُ كَـذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ( 28 ) يَـقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَـهِرِينَ فِى الاَْرْضِ فَمَن يَنْصُرُنَا مِن بَأْسِ اللهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَ مَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ( 29 )
التّفسير
أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله!
مع هذه الآيات تبدأ مرحلة جديدة من تأريخ موسى(عليه السلام) وفرعون، لم تطرح في أي مكان آخر من القرآن الكريم. المرحلة التي نقصدها هنا تتمثل بقصة «مؤمن آل فرعون» الذي كان من المقربين إلى فرعون، ولكنّه اعتنق دعوة موسى التوحيدية من دون أن يفصح عن إيمانه الجديد هذا، وإنّماتكتم عليه واعتبر نفسه.
[246]
من موقعه في بلاط فرعون ـ مكلفاً بحماية موسى(عليه السلام) من أي خطر يمكن أن يتهدد من فرعون أو من جلاوزته.
فعندما شاهد أنّ حياة موسى في خطر بسبب غضب فرعون، بادر بأسلوبه المؤثر للقضاء على هذا المخطط.
يقول تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله).
أتقتلوه في حين أنّه: (وقد جاءكم بالبينات من ربّكم).
هل فيكم من يستطيع أن ينكر معاجزه، مثل معجزة العصا واليد البيضاء؟ ألم تشاهدوا بأعينكم انتصاره على السحرة، بحيث أن جميعهم استسلموا له وأذعنوا لعقيدته عن قناعة تامة، ولم يرضخوا لا لتهديدات فرعون ووعيده، ولا لإغراءاته وأمنياته، بل استرخصوا الأرواح في سبيل الحق; في سبيل دعوة موسى، وإله موسى ... هل يمكن أن نسمّي مثل هذا الشخص بالساحر؟
فكروا جيداً، لا تقوموا بعمل عجول، تحسّبوا لعواقب الأُمور وإلاّ فالندم حليفكم.
ثم إنّ للقضية بعد ذلك جانبين: (وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم).
إنّ حبل الكذب قصير ـ كما يقولون ـ وسينفضح أمره في النهاية إذا كان كاذباً، وينال جزاء الكاذبين، وإذا كان صادقاً ومأُموراً من قبل السماء فإنّ توعده لكم بالعذاب حاصل شئتم أم أبيتم، لذا فإنّ قتله في كلا الحالين أمر بعيد عن المنطق و الصواب.
ثم تضيف الآيات: (إنّ الله لا يهدي من هو مسرفٌ كذّاب).
فإذا كان موسى سائراً في طريق الكذب والتجاوز فسوف لن تشمله الهداية الإلهية، وإذا كنتم أنتم كذلك فستحرمون من هدايته.
[247]
ولنا أن نلاحظ أنّ العبارة الأخيرة برغم أنّها تحمل معنيين إلاّ أن «مؤمن آل فرعون» يهدف من خلالها إلى توضيح حال الفراعنة.
والتعبير الذي يليه يفيد أنّ فرعون، أو بعض الفراعنة ـ على الأقل ـ كانوا يؤمنون بالله، وإلاّ فإن تعبير «مؤمن آل فرعون» في خلاف هذا التأويل سيكون دليلا على إيمانه بإله موسى(عليه السلام) وتعاونه مع بني إسرائيل، وهذا ما لا يتطابق مع دوره في تكتمه على إيمانه، ولا يناسب أيضاً مع أسلوب «التقية» التي كان يعمل بها.
و بالنسبة للتعبير الآنف الذكر (و إن يك كاذباً... ) فقد طرح المفسّرون سؤالين:
الأوّل: إذا كان موسى(عليه السلام) كاذباً، فإنّ عاقبة كذبه سوف لن تقتصر عليه و حسب، وإنّما سوف تنعكس العواقب السيئة على المجتمع برمته.
الثّاني: أما لو كان صادقاً، فستتحقق كلّ تهديداته ووعيده لا بعض منها، كما في تعبير «مؤمن آل فرعون»؟
بالنسبة للسؤال الأول، نقول: إنّ المراد هو معاقبة جريمة الكذب التي تشمل شخص الكذّاب فقط ويكفينا العذاب الالهي لدفع شرّه. وإلاّ فكيف يمكن لشخص أن يكذب على الله، ويتركه سبحانه لشأنه كي يكون سبباً لإضلال الناس وإغوائهم؟
وبالنسبة للسؤال الثّاني، من الطبيعي أن يكون قصد موسى(عليه السلام) من التهديد بالعذاب، هو العذاب الدنيوي والأخروي، والتعبير بـ «بعض» إنّما يشير إلى العذاب الدنيوي، وهو الحد الأدنى المتيقّن حصوله في حالة تكذيبكم إيّاه.
وفي كلّ الأحوال تبدو جهود «مؤمن آل فرعون» واضحة في النفود بشتى الوسائل والطرق إلى أعماق فرعون وجماعته لتثنيهم عن قتل موسى(عليه السلام).
ونستطيع هنا أن نلخص الوسائل التي اتبعها بما يلي:
[248]
أوضح لهم أولا أنّ عمل موسى(عليه السلام) لا يحتاج إلى ردّة فعل شديدة كهذه.
ثم عليكم أن لا تنسوا أنّ الرجل يملك «بعض» الأدلة، ويظهر أنّها أدلة معتبرة، لذا فإنّ محاربة مثل هذا الرجل تعتبر خطراً واضحاً.
والموضوع برمته لا يحتاج إلى موقف منكم، فإذا كان كاذباً فسينال جزاءه من قبل الله، ولكن يحتمل أن يكون صادقاً، وعندها لن يتركنا الله لحالنا.
ولم يكتف «مؤمن آل فرعون» بهذا القدر، وإنّما استمرّ يحاول معهم بلين وحكمة، حيث قال لهم كما يحكي ذلك القرآن من أنّه قال لهم أن بيدكم حكومة مصر الواسعة مع خيراتها و نعيمها فلا تكفروا بهذه النعم فيصيبكم العذاب الالهي. (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا).
ويحتمل أن يكون غرضه: إنكم اليوم تملكون كلّ أنواع القوّة، وتستطيعون اتخاذ أي تصميم تريدونه اتجاه موسى (عليه السلام)، ولكن لا تغرنكم هذه القوّة، ولا تنسوا النتائج المحتملة وعواقب الأُمور.
ويظهر أنّ هذا الكلام أثر في حاشية فرعون وبطانته، فقلّل من غضبهم وغيظهم، لكن فرعون لم يسكت ولم يقتنع، فقطع الكلام بالقول: (قال فرعون ما أريكم إلاّ ما أرى) وهو إنّي ارى من المصلحة قتل موسى و لا حلّ لهذه المشكلة سوى هذا الحل.
ثمّ إنني : (و ما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد).
و هذه هو حال كافة الطواغيت و الجبّارين على طول التأريخ، فهم يعتبرون كلامهم الحق دون غيره، و لا يسمحون لأحد في إبداء وجهة نظر مخالفة لما يقولون، فهم يظنون أن عقلهم كامل، وأن الآخرين لا يملكون علماً ولا عقلا... وهذا هو منتهى الجهل والحماقة.
* * *
[249]
بحوث
أوّلا: من هو مؤمن آل فرعون؟
نستفيد من الآيات القرآنية أنّ «مؤمن آل فرعون» هو رجل من قوم فرعون آمن بموسى(عليه السلام)، وظلّ يتكتم على إيمانه، ويعتبر نفسه مكلفاً بالدفاع عنه(عليه السلام).
لقد كان الرجل ـ كما يدل عليه السياق ـ ذكياً و لبقاً، يقدّر قيمة الوقت، ذا منطق قوي، حيث قام في اللحظات الحسّاسة بالدّفاع عن موسى(عليه السلام) وإنقاذه من مؤامرة كانت تستهدف حياته.
تتضمن الرّوايات الإسلامية وتفاسير المفسّرين أوصافاً اُخرى لهذا الرجل سنتعرض لها بالتدريج.
البعض مثلا يعتقد أنّه كان ابن عم ـ أو ابن خالة ـ فرعون، ويستدل هذا الفريق على رأيه بعبارة (آل فرعون) إذ يرى أنّها تطلق على الأقرباء، بالرغم من أنّها تستخدم أيضاً للأصدقاء والمقربين.
والبعض قال: إنّه أحد أنبياء بني إسرائيل كان يعرف اسم «حزبيل» أو «حزقيل»(1).
فيما قال البعض الآخر: إنّه خازن خزائن فرعون، والمسؤول عن الشؤون المالية(2).
وينقل عن ابن عباس أنّه قال: إنّ هناك ثلاثة رجال من بين الفراعنة آمنوا بموسى(عليه السلام)، وهم آل فرعون، وزوجة فرعون، والرجل الذي أخبر موسى قبل نبوته بتصميم الفراعنة على قتله، حينما أقدم موسى على قتل القبطي، ونصحه بالخروج من مصر بأسرع وقت: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا
____________________________________
1 ـ يستفاد هذا المعنى من رواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (تلاحظ في أمالي الصدوق طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلد الرابع، ص 519) ولكن بما أنّ الشائع أن «حزقيل» هو أحد أنبياء بني إسرائيل، فعندها سيضعف هذ الإحتمال، إلاّ إذا كان «حزقيل» هذا غير النّبي المعروف في بني إسرائيل. ثمّ إنّ الرواية ضعيفة السند.
2 ـ ورد هذا المعنى في تفسير علي بن إبراهيم، كما نقل صاحب نور الثقلين في المجلد الرابع، صفحة 518.
[250]
موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنّي لك من الناصحين)(1).
لكن القرائن تفيد أن ثمّة مجموعة قد آمنت بموسى(عليه السلام) بعد مواجهة موسى مع السحرة، ويظهر من السياق أنّ قصة مؤمن آل فرعون كانت بعد حادثة السحرة.
والبعض يحتمل أنّ الرجل كان من بني إسرائيل، لكنّه كان يعيش بين الفراعنة ويعتمدون عليه، إلاّ أنّ هذا الإحتمال ضعيف جداً، ولا يتلاءم مع عبارة «آل فرعون» وأيضاً نداء «يا قوم».
ولكن يبقى دوره مؤثراً في تأريخ موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل حتى مع عدم وضوح كلّ خصوصيات حياته بالنسبة لنا.
ثانياً: التقية أداة مؤثّرة في الصراع
(التقية) أو (كتمان الإعتقاد) ليست من الضعيف أو الخوف كما يظن البعض، بل غالباً ما توظّف كأسلوب مؤثّر في إدارة مع الظالمين و الجبارين والطغاة، إذ أن كشف أسرار العدو لا يمكن أن يتمّ إلاّ عن طريق الأشخاص الذين يعملون بأسلوب التقية.
وكذلك الضربات الموجعة والمباغتة للعدو، لا تتمّ إلاّ عن طريق التقية وكتمان الخطط وأساليب الصراع.
لقد كانت «تقية» مؤمن آل فرعون من أجل خدمة دين موسى(عليه السلام)، والدفاع عنه في اللحظات الصعبة. ثمّ هل هناك أفضل من أن يحظى الإنسان بشخص مؤمن بقضيته ودعوته يزرعه في جهاز عدوه بحيث يستطيع من موقعه أن ينفذ إلى أعماق تنظيمات العدو، ويحصل على المعلومات و الأسرار ليفيد بها قضيته ودعوته، و يخبر بها أصحابه و قد تقضي الضرورة النفوذ في ذهينة العدو أيضاً وتغييرها لمصالح قضيته ودعوته ما أستطاع إلى ذلك سبيلا.
____________________________________
1 ـ القصص، الآية 20.
[251]
الآن نسأل: هل كان بوسع مؤمن آل فرعون إسداء كلّ هذه الخدمات لدعوة موسى(عليه السلام) لو لم يستخدم أُسلوب التقية؟
لذلك كلّه ورد في حديث عن الإمام الصادق قوله(عليه السلام): (التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية ترس الله في الأرض، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل»(1).
إنّ فاعلية هذا المبدأ تكتسب أهمية استثنائية في الوقت الذي يكون فيه المؤمنون قلّة خاضعة للأكثرية التي لا ترحم ولا تتعامل وفق المنطق، فالعقل لا يسمح بإظهار الإيمان (باستثناء الضرورات) والتفريط بالطاقات الفعّالة، بل الواجب يقضي بكتمان العقيدة والتخفي على المعتقد في مثل هذا الوضع لكي يصار إلى تجميع الطاقات والقوى والإفادة منها لتسديد الضربة النهائية والقاصمة في الوقت والظرف المناسبين.
إنّ الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) إلتزم بنفسه هذا المبدأ، حينما أبقى دعوته سريّة لبضع سنوات، وحينما ازداد أتباعه و تشكّلت النواة الإيمانية القادرة للحفاظ على الدعوة الجديدة صدع (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره تعالى أمام القوم.
ومن بين الأنبياء الآخرين نرى إبراهيم (عليه السلام) الذي استخدم أُسلوب التقية، ووظّف هذا المبدأ في عمله الشجاع الذي حطّم فيه الأصنام، وإلاّ فلولا التقية لم يكن بوسعه أن ينجح في عمله أبداً.
كذلك استفاد أبو طالب عم الرسول من أسلوب التقية في حماية رسول الله ودعوته الناشئة، إذ لم يعلن عن صريح إيمانه برسول الله وبالإسلام إلاّ في فترات ومواقف خاصّة، كي يستطيع من خلال ذلك لنهوض بأعباء دوره المؤثر في حفظ حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيال مكائد وطغيان الشرك القرشي.
من هنا يتبيّن خطأ رأي من يعتقد بأنّ «التقية» كمبدأ وكأُسلوب، تختص
____________________________________
1 ـ مجمع البيان، المجلد الثامن، صفحة 521.
[252]
بالشيعة دون غيرهم، أو أنّها كدليل على الضعف والجبن، فيما هي موجودة في جميع المذاهب دون استثناء.
ولمزيد من التوضيح، باستطاعة القاريء الكريم أن يرجع إلى بحثنا في تفسير الآية 28 من آل عمران والآية 106 من النحل.
ثالثاً: من هم الصدّيقون؟
في الحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «الصديقون ثلاثة: (حبيب النجار) مؤمن آل يس الذي يقول:(فاتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجراً) و(حزقيل) مؤمن آل فرعون و (علي بن أبي طالب و هو أفضلهم».
والملاحظ في هذا الحديث أنّه يروى في مصادر الفريقين(1).
إنّ تأريخ النبوات يظهر مكانة هؤلاء في دعوات الرسل، إذ صدّقوهم في أحرج اللحظات، وكانوا في المقدمة، فاستحقوا لقب «الصدّيق» خاصة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، الذي وقف منذ مطلع عمره الشريف وحتى نهايته مناصراً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته و بعد رحلته و ذاباً عن الدعوة الجديدة، واستمرّ في كلّ المراحل و الأشواط في تقديم التضحيات بمنتهى الاخلاص.
* * *
____________________________________
1 ـ يلاحظ الصدوق في «الأمالي» وابن حجر في الفصل الثّاني الباب التاسع من «الصواعق».
[253]
الآيات
وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يَـقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الاَْحْزَابِ( 30 ) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوح وَعَاد وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ( 31 ) وَيَـقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ( 32 ) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَالَكُمْ مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِم وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ هَاد( 33 )
التّفسير
التحذير من العاقبة!
كان الشعب المصري آنذاك يمتاز نسبياً بمواصفات التمدّن والثقافة، وقد اطّلع على أقوال المؤرخين بشأن الأقوام السابقة، أمثال قوم نوح وعاد وثمود الذين لم تكن أرضهم تبعد عنهم كثيراً، و كانوا على علم بما آل إليه مصيرهم.
لذلك كلّه فكّر مؤمن آل فرعون بتوجيه أنظار هؤلاء إلى أحداث التأريخ وأخذ يحذرهم من تكرار العواقب الأليمة التي نزلت بغيرهم، عساهم أن يتيقظوا ويتجنّبوا قتل موسى(عليه السلام) يقول القرآن الكريم حكاية على لسانه: (وقال الذي آمن يا قوم إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب).
[254]
ثم أوضح مراده من هذا الكلام بأنني خائف عليكم عن العادات والتقاليد السيئة التي كانت متفشّية في الاقوام السالفة. (مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم)(1).
لقد نالت هذه الأقوام جزاء ما كانت عليه من الكفر والطغيان، إذ قتل من قتل منهم بالطوفان العظيم، وأصيب آخرون منهم بالريح الشديدة، وبعضهم بالصواعق المحرقة، ومجموعة بالزلازل المخرّبة.
واليوم يخاطبهم مؤمن آل فرعون: ألا تخشون أن تصيبكم إحدى هذه البلايا العظيمة بسبب إصراركم على الكفر والطغيان؟ هل عندكم ضمان بأنّكم لستم مثل أولئك; أو أن العقوبات الإلهية لا تشملكم ; ترى ماذا عمل أُولئك حتى أصابهم ما أصابهم، لقد اعترضوا على دعوة الأنبياء الإلهيين، وفي بعض الأحيان عمدوا إلى قتلهم ... لذلك كلّه فإني أخاف عليكم مثل هذا المصير المؤلم!؟
ولكن ينبغي أن تعلموا أنّ ما سيصيبكم و يقع بساحتكم هو من عند أنفسكم وبماجنت أيديكم: (وما الله يريد ظلماً للعباد).
لقد خلق الله الناس بفضله وكرمه، ووهبهم من نعمه ظاهرة وباطنة، وأرسل أنبياءه لهدايتهم، ولصدّ طغيان العتاة عنهم، لذلك فإنّ طغيان العباد وصدّهم عن السبيل هو السبب فيما ينزل بهم من العذاب الأليم.
ثم تضيف الآية على لسانه: (ويا قوم إنّي أخاف عليكم يوم التناد) أي يوم تطلبون العون من بعضكم البعض، إلاّ أصواتكم لا تصل إلى أي مكان.
«التناد» مأخوذة اًصلا من كلمة «ندا» وتعني «المناداة» (وهي في الأصل (التنادي) وحذفت الياء ووضعت الكسرة في محلّها) والمشهور بين المفسّرين أنّ
____________________________________
1 ـ «داب» على وزن (ضرب) تعني في الأصل الإستمرار في السير، و (دائب) تطلق على الكائن الذي يستمر في سيره ثمّ أصبحت بعد ذلك تستعمل لأي عادة مستمرة ... والمقصود هنا من (دأب قوم نوح) هو قيامهم واستمرارهم واعتيادهم على الشرك والطغيان والظلم والكفر.
[255]
(يوم التناد) هو من أسماء يوم القيامة، وقد ذكروا أسباباً لهذه التسمية متشابهة تقريباً، فمنهم من يقول: إن ذلك يعود إلى مناداة أهل النّار لأهل الجنّة، كما يقول القرآن: (ونادى أصحاب النّار أصحاب الجنّة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله) فجاءهم الجواب: (إنّ اللّه حرّمهما على الكافرين)(1)(2). أو أنّ التسمية تعود إلى مناداة الناس بعضهم لبعض طلباً للعون والمساعدة.
وهناك من قال: إن سبب التسمية يعود إلى أنّ الملائكة تناديهم للحساب، وهم يطلبون العون من الملائكة.
أو لأنّ منادي المحشر ينادي: (ألا لعنة الله على الظالمين)(3).
وقال بعضهم: إنّ السبب يعود إلى أنّ المؤمن عندما يشاهد صحيفة أعماله ينادي برضى وشوق: (هآؤم اقرؤا كتابيه)(4) بينما الكافر من شدة خوفه و هول ما يحلّ به يصرخ وينادي: (ياليتني لم أوت كتابيه)(5).
ولكن يمكن تصور معنى أوسع للآية، بحيث يشمل «يوم التناد في هذه الدنيا أيضاً، لأنّ المعنى ـ كما رأيناـ يعني (يوم مناداة البعض للبعض الآخر) وهذا المعنى يعبّر عن ضعف الإنسان وعجزه عندما تنزل به المحن وتحيطه المصاعب والملمّات، وينقطع عنه العون وأسباب المساعدة، فيبدأ بالصراخ ولكن بغير نتيجة.
وفي عالمنا هذا ثمّة أمثلة عديدة على «يوم التناد» مثل الأيّام التي ينزل فيها العذاب الإلهي، أو الأيّام التي يصل فيها المجتمع إلى طريق مسدود لكثرة ما ارتكب من ذنوب وخطايا، وقد نستطيع أن نتصور صوراً اُخرى عن يوم التناد في حياتنا من خلال الحالات التي يمرّ بها الناس بالمشاكل والصعاب المختلفة حيث
____________________________________
1 ـ الأعراف، الآية 50.
2 ـ ورد هذا المعنى أيضاً في حديث للإمام الصادق(عليه السلام) في كتاب «معانى الأخبار» للصدوق.
3 ـ هود، الآية 18.
4 ـ الحاقة، الآية 19.
5 ـ الحاقة، الآية 25.
[256]
يصرخ الجميع عندها طالبين للحل والنجاة!
الآية التاليةتفسّر يوم التناد بقولها: (يوم تولّون مدبرين مالكم من الله من عاصم).
ومثل هؤلاء حق عليهم القول: (ومن يضلل الله فما له من هاد) إنّ هؤلاء الذين ضلّوا في الحياة الدنيا بابتعادهم عن سبل الرشاد والهداية وتنكبهم عن الطريق المستقيم، سيظلّون في الآخرة عن الجنّة والرضوان والنعم الإلهية الكبرى. وقد يكون في التعبير القرآني إيماءة خفيفة إلى قول فرعون: (ما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد).
* * *
[257]
الآيتان
وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَـتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ( 34 ) الَّذِينَ يُجَـدِلُونَ فِى ءَايَـتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَـن أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّر جَبَّار( 35 )
التّفسير
عجز المتكبرين عن الادارك الصحيح!
هذا المقطع من الآيات الكريمة يستمر في عرض كلام مؤمن آل فرعون، ومن خلال نظرة فاحصة في سياق الآيات، يظهر أنّ مؤمن آل فرعون طرح كلامه في خمسة مقاطع، كلّ منها اكتسى بلون من المخاطبة، و شكل من الدليل، الذي يستهدف النفوذ إلى قلب فرعون والمحيطين به، بغية محو الصدأ وآثار الكفر السوداء منها كي تذعن لله ورسالاته و أنبيائه، وتترك التكبر والطغيان:
المقطع الأوّل: راعى فيه مؤمن آل فرعون الإحتياط، ودعا القوم إلى الحذر من الأضرار المحتملة من جهتين: (قال لهم: لو كان موسى كاذباً فسينال جزاء
[258]
كذبه، أمّا لو كان صادقاً فيشملنا العذاب، إذاً عليكم أن لا تتركوا العمل بالإحتياط).
المقطع الثّاني: وفيه وجّه مؤمن آل فرعون الدعوة إلى التأمّل بما حلّ بالأقوام السابقة وما نال الأمم الداثرة من المصير والجزاء، كي يأخذوا العبرة من ذلك المصير!
المقطع الثّالث: كأمن في الآيات القرآنية التي بين أيدينا، إذ تذكر هم الآيات ـ من خلال خطاب مؤمن آل فرعون ـ بجزء من تأريخهم، هذا التأريخ الذي لا يبعد كثيراً عنهم، ولم تمحى بعد أواصر الإرتباط الذهني والتأريخي فيما بينهم وبينه ; وهذا الجزء يتمثل في نبوة يوسف (عليه السلام)، الذي يعتبر أحد أجداد موسى، حيث يبدأ قصة التذكير معهم بقوله تعالى: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات)(1) وبالدلائل الواضحة لهدايتكم ولكنكم: (فمازلتم في شك ممّا جاءكم به).
وشككم هنا ليس بسبب صعوبة دعوته أو عدم اشتمالها على الأدلة والعلائم الكافية، بل بسبب غروركم حيث أظهرتم الشك والتردد فيها.
ولأجل أن تتنصلوا من المسؤولية، وتعطوا لأنفسكم الذرائع والمبررات، قلتم: (حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا).
بناء على ذلك كلّه لم تشملكم الهداية الإلهية بسبب أعمالكم ومواقفكم: (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب).
لقد سلكتم سبيل الأسراف والتعدي على حدود الله تعالى كما قمتم بالتشكيك في كلّ شيء، حتى غدا ذلك كلّه سبباً لحرمانكم من اللطف الإلهي في الهداية، فسدرتم في وادي الضلال والغي، كي تنتظركم عاقبة هذا الطريق الغاوي.
واليوم ـ والسياق ما زال يحكي خطاب مؤمن آل فرعون لهم ـ اتبعتم نفس
____________________________________
1 ـ تعتبر هذه الآية هي الوحيدة في القرآن الكريم التي تشير صراحة إلى نبوة يوسف(عليه السلام) ، وإن كنّا لا نعدم إشارات متفرقة لهذه النبوّة في سياق آيات قرآنية اُخرى.
[259]
الأسلوب حيال دعوة موسى(عليه السلام)، إذ تركتم البحث في أدلة نبوته وعلائم بعثته ورسالته، فابتعدت عنكم أنوار الهداية، وظلت قلوبكم سوداء محجوبة عن إشعاعاتها الهادية الوضّاءة.
الآية الكريمة التي تليها تعرّف «المسرف المرتاب» بقول الله تبارك وتعالى: (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم)(1).
هؤلاء يرفضون آيات الله البينات من دون أي دليل واضح من عقل أو نقل، بل يستجيبون في ذلك إلى أهوائهم المغرضة ووساوسهم المضلّة الواهية، كي يستمروا في رفع راية الجدل والمعارضة.
وللكشف عن قبح هذه المواقف عند الله وعند الذين آمنوا، تقول الآية: (كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا)(2).
ذلك لأنّ الجدال بالباطل (الجدال السلبي) واتخاذ المواقف ضدّ الوقائع والآيات القائمة على أساس الدليل المنطقي، يعتبر أساساً لضلال المجادلين وتنكبهم عن جادة الهداية والصواب، وكذلك في اغواء للآخرين، حيث تنطفيء أنوار الهداية في تلك الأوساط، وتتقوى أسس ودعائم حاكمية الباطل.
في النهاية، وبسبب عدم تسليم هؤلاء أمام الحق، تقرّر الآية قوله تعالى:(كذلك يطبع الله على كلّ قلب متكبر جبّار )(3).
أجل، إنّ العناد في مقابل الحق يشكّل ستاراً مظلماً حول فكر الإنسان، ويسلب منه قابليته على التشخيص الهادي الصحيح، بحيث ينتهي الأمر إلى أن
____________________________________
1 ـ (الذين) هنا بدل عن «مسرف مرتاب» إلاّ أنّ المبدل عنه مفرد، في حين أنّ البدل جاء على صيغة الجمع! السبب في ذلك أنّ الخطاب لا يستهدف شخصاً معيناً وإنّما يشتمل على النوع.
2 ـ فاعل «كبر» هو (الجدال) حيث نستفيد ذلك من الجملة السابقة، أمّا «مقتاً» فهي تمييز، فيما يرى بعض المفسّرين أنّ الفاعل هو «مسرف مرتاب» إلاّ أنّ الرأي الأوّل أفضل.
3 ـ «متكبر جبار» وصف للقلب، وليست وصفاً لشخص، بالرغم من أنّها مضافة. اشارة الى أنّ أساس التكبر والتجبر انما ينبع من القلب، ولأنّ القلب يسيطر على كلّ أعضاء ووجود الإنسان، فإنّ كلّ الوجود الإنساني سيكتسي هذا الطابع الفاسد البذيء.
[260]
يتحول القلب إلى مثل الإناء المغلق، الذي لا يمكن افراغه من محتواه الفاسد، ولا ادخال المحتوى الهادي الصحيح.
إنّ الأشخاص الذين يقفون في وجه الحق و أهله بسبب اتصاف بصفتي التكبر و التجبر، فإنّ الله تعالى سوف يسلب منهم روح طلب الحقيقة الى درجة أن الحق سيكون مراً في مذاقهم، والباطل حلواً.
وفي كلّ الأحوال، لقد قام مؤمن آل فرعون بعمله من خلال الوسائل التي وقفنا عليها آنفاً، فانتهى ـ كما سيظهر في الآية اللاحقة ـ إلى أجهاض مخطط فرعون في قتل موسى(عليه السلام)، أو على الأقل وفّر الوقت الكافي في تأخير تنفيذ هذا لمخطط إلى أن استطاع موسى(عليه السلام) أن يفلت من الخطر.
لقد كانت هذه مهمّة عظيمة أنجزها هذا الرجل المؤمن الشجاع، الذي انصب جهده في هذه المرحلة الخطيرة من الدعوة الموسوية على إنقاذ حياة كليم الله (عليه السلام): وكما سيتضح لاحقاً من احتمال أن هذا الرجل ضحى بحياته أيضاً في هذا السبيل.
* * *
|