• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع عشر ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الصافات من أول السورة ـ آية 61 من ( ص 273 ـ 327 ) .

سورة الصافات من أول السورة ـ آية 61 من ( ص 273 ـ 327 )

[ 273 ]

سُورَة الصّافات

مكّية

وعَدَدُ آيَاتِها مائة و إثنان و ثمانون آية

  

[ 275 ]

 

سورة الصّافات

محتوى سورة الصّافات:

هذه السورة بحكم كونها من السور المكيّة، فإنّها تمتلك كافّة خصائص السور المكيّة، فهي تسلّط الأضواء على اُصول المعارف والعقائد الإسلامية الخاصّة بالمبدأ والمعاد. وتتوعّد المشركين بأشدّ العقاب وذلك من خلال العبارات الحازمة والآيات القصيرة العنيفة الوقع، وتوضّح ـ بالأدلّة القاطعة ـ بطلان عقائدهم.

بصورة عامّة يمكن تلخيص محتوى سورة الصافات في خمسة أقسام:

القسم الأوّل: يبحث حول مجاميع من ملائكة الرحمن، ومجموعة من الشياطين المتمردين ومصيرهم.

القسم الثّاني: يتحدّث عن الكافرين، وإنكارهم للنبوّة والمعاد، والعقاب الذي ينتظرهم يوم القيامة، كما يستعرض الحوار الذي يدور بينهم في ذلك اليوم، ويحملهم جميعاً الذنب، والعذاب الإلهي الذي سيشملهم، كما يشرح هذا القسم جوانب من النعم الموجودة في الجنّة إضافةً إلى ملذّاتها وجمالها وسرور أهلها.

القسم الثّالث: يشرح بصورة مختصرة تأريخ الأنبياء أمثال (نوح) و (إبراهيم) و (إسحاق) و (موسى) و (هارون) و (إلياس) و (لوط) و (يونس) وبصورة ذات تأثير قوي، كما يتحدّث هذا القسم بشكل مفصّل عن إبراهيم محطّم الأصنام وعن جوانب مختلفة من حياته، والهدف الرئيسي من وراء سرد قصص الأنبياء ـ مع ذكر بعض الشواهد العينية من تأريخهم ـ هو تجسيد حوادث تلك القصص

[ 276 ]

وتصويرها بشكل محسوس وملموس.

القسم الرّابع: يعالج صورة معيّنة من صور الشرك والذي يمكن إعتباره من أسوأ صور الشرك، وهو الإعتقاد بوجود رابطة القرابة بين الله سبحانه وتعالى والجنّ والملائكة، ويبيّن بطلان مثل هذه العقائد التافهة بعبارات قصيرة.

أمّا القسم الخامس والأخير: فيتناول في عدّة آيات قصار إنتصار جيوش الحقّ على جيوش الكفر والشرك والنفاق، وإبتلاءهم ـ أي الكافرين والمشركين والمنافقين ـ بالعذاب الإلهي، وتنزّه آيات هذا القسم الله سبحانه وتعالى وتقدّسه عن الأشياء التي نسبها المشركون إليه، ثمّ تنتهي السورة بالحمد والثناء على الباري عزّوجلّ.

 

فضيلة تلاوة سورة الصافات:

في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، جاء فيه: «من قرأ سورة الصافات اُعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ جنّ وشيطان، وتباعدت عنه مردة الشياطين، وبرىء من الشرك، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمناً بالمرسلين»(1).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) جاء فيه: «من قرأ سورة الصافات في كلّ جمعة لم يزل محفوظاً من كلّ آفة، مدفوعاً عنه كلّ بليّة في حياته الدنيا، مرزوقاً في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق، ولم يصبه الله في ماله ولا ولده ولا بدنه بسوء من شيطان رجيم، ولا جبّار عنيد، وإن مات في يومه أو ليلته بعثه الله شهيداً، وأماته شهيداً، وأدخله الجنّة مع الشهداء في درجة من الجنّة»(2).

الثواب العظيم الذي يناله من يتلو سورة الصافات، جاء نتيجة لما تحويه هذه

________________________________

1 ـ مجمع البيان، أوّل تفسير سورة الصافات.2 ـ تفسير مجمع البيان أوّل تفسير سورة الصافات ـ لقد ورد هذا الحديث في تفسير البرهان نقلا عن الشيخ الصدوق، (رحمه الله) مع إختلاف بسيط.

[ 277 ]

السورة المباركة، فنحن ندرك أنّ الهدف من التلاوة هو التفكّر، ومن ثمّ الإعتقاد، ومن بعد العمل. ومن دون شكّ فإنّ الذي يتلو هذه السورة بتلك الصورة، سيحفظ من شرّ الشياطين، ويتطهّر من الشرك، ويمتلك الإعتقاد الصحيح القوي، ويمارس أعمالا صالحة، ويتّعظ من القصص الواقعية للأنبياء والأقوام الماضية، وإنّه سيحشر مع الشهداء.

وممّا يذكر فإنّ تسمية هذه السورة بالصافات جاءت نسبة إلى الآية الاُولى فيها.

 

* * *

[ 278 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

والصَّـفَّـتِ صَفّاً (1) فَالزَّجِرَتِ زَجْراً (2) فَالتَّـلِيَـتِ ذِكْراً(3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَحِدٌ (4) رَّبُّ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَـرِقِ (5)

 

التّفسير

الملائكة المستعدّة لتنفيذ المهام:

هذه السورة هي أوّل سورة في القرآن الكريم تبدأ بالقسم، القسم المليء بالمعاني والمثير للتفكّر، القسم الذي يجوب بفكر الإنسان في جوانب مختلفة من هذا العالم، ويجعله متهيّئاً لتقبّل الحقائق.

من المسلّم به أنّ الله تبارك وتعالى هو أصدق الصادقين، وليس بحاجة إلى القسم، إضافةً إلى أنّ قسمه إن كان للمؤمنين، فإنّهم مؤمنون به من دون قسم، وإن كان للناكرين، فإنّ اُولئك لا يعتقدون بالقسم الإلهي.

ونلفت الإنتباه إلى نقطتين لحلّ مشكلة القسم في كلّ آيات القرآن التي سنتناولها من الآن فما بعد.

الاُولى: أنّ القسم يأتي دائماً بالنسبة إلى اُمور مهمّة وذات قيمة، ولذلك فإنّ

[ 279 ]

أقسام القرآن تشير إلى عظمة وأهميّة الأشياء المقسم بها. وهذا الأمر يدعو إلى التفكّر أكثر بالشيء المقسم به، التفكّر الذي يكشف للإنسان عن حقائق جديدة.

الثانية: أنّ القسم يأتي للتأكيد، وللدلالة على أنّ الاُمور التي يقسم من أجلها هي اُمور جديّة ومؤكّدة.

وعلاوةً على ذلك أنّ المتحدّث لو تحدّث بصورة حازمة ومؤكّدة، فإنّ تأثير كلامه من الناحية النفسية سيكون أوقع على قلب المستمع، كما أنّه يقوّي المؤمنين ويضعّف الكافرين.

على كلّ حال، فإنّ بداية هذه السورة تذكر أسماء ثلاثة طوائف أقسم بها الله تعالى(1).

الاُولى: (والصافات صفّاً).

الثانية: (فالزاجرات زجراً).

الثالثة: (فالتاليات ذكراً).

فمن هي تلك الطوائف الثلاث؟ وعلى من أطلقت تلك الصفات؟ وما الهدف النهائي منها؟

المفسّرون قالوا الكثير بهذا الشأن، إلاّ أنّ المعروف والمشهور هو أنّ هذه الصفات تخصّ طوائف من الملائكة ...

طوائف اصطفّت في عالم الوجود بصفوف منظمة، وهي مستعدّة لتنفيذ الأمر الإلهي.

وطوائف من الملائكة تزجر بني آدم عن إرتكاب المعاصي والذنوب، وتحبط وساوس الشياطين في قلوبهم. أو الملائكة الموكّلة بتسيير السحاب في السماء وسوقها نحو الأرض اليابسة لإحيائها.

وأخيراً طوائف من الملائكة تتلو آيات الكتب السماوية حين نزول الوحي

________________________________

1 ـ هذه العبارات الثلاث من جهة هي ثلاثة أقسام، ومن جهة اُخرى هي قسم واحد له ثلاث صفات.

[ 280 ]

على الرسل(1).

وممّا يلفت النظر أنّ «الصافات» هي جمع كلمة «صافّة» وهي بدورها تحمل صفة الجمع أيضاً، وتشير إلى مجموعة مصطفّة، إذن فـ «الصافات» تعني الصفوف المتعدّدة(2).

وأمّا كلمة «الزاجرات» فإنّها مأخوذة من (الزجر) ويعني الصرف عن الشيء بالتخويف والصراخ، وبمعنى أوسع فإنّها تشمل كلّ منع وطرد وزجر للآخرين.

إذن فالزاجرات تعني مجاميع مهمّتها نهي وصرف وزجر الآخرين.

و «التاليات» من (التلاوة) وهي جمع كلمة (تال) وتعني طوائف مهمّتها تلاوة شيء ما(3).

ونظراً لكثرة وإتّساع مفاهيم هذه الألفاظ، فليس من العجب أن يطرح المفسّرون تفاسير مختلفة لها دون أن يناقض بعضها الآخر، بل من الممكن أيضاً أن تجتمع لتوضيح مفهوم هذه الآيات، فمثلا المقصود من كلمة «الصافات» هو صفوف الملائكة المستعدّة لتنفيذ الأوامر الإلهيّة في عالم الخلق، أو الملائكة النازلون بالوحي إلى الأنبياء في عالم التشريع، وكذلك صفوف المقاتلين

________________________________

1 ـ بالطبع وردت إحتمالات اُخرى في تفسير الآيات المذكورة أعلاه، «منها» ما يشير إلى صفوف جند الإسلام في ساحات الجهاد، الذين يصرخون بالأعداء ويزجرونهم عن الإعتداء على حرمة الإسلام والقرآن، والذين يتلون كتاب الله دائماً ومن دون أي إنقطاع، وينوّرون قلوبهم وأرواحهم بنور تلاوته، ومنها: أنّ بعض هذه الأوصاف الثلاثة هو إشارة إلى ملائكة إصطفّت بصفوف منظمة، والقسم الآخر يشير إلى آيات القرآن التي تنهى الناس عن إرتكاب القبائح، والقسم الثالث يشير إلى المؤمنين الذين يتلون القرآن في أوقات الصلاة وفي غيرها من الأوقات. ويستبعد الفصل بين هذه الأوصاف، لأنّها معطوفة على بعضها البعض بحرف (الفاء)، وهذا يوضّح أنّها أوصاف لطائفة واحدة.وقد ذكر العلاّمة «الطباطبائي» في تفسيره الميزان هذا الإحتمال، في أنّ الأوصاف الثلاثة هي تطلق على ملائكة مكلّفة بتبليغ الوحي الإلهي، والإصطفاف في طريق الوحي لتوديعه، وزجر الشياطين التي تقف في طريقه، وفي النهاية تلاوة آيات الله على الأنبياء.2 ـ ولا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الإناث «الصافات والزاجرات والتاليات» لأنّ موصوفها الجماعة، وهي مؤنّث لفظي.3 ـ ممّا يذكر أنّ بعض اللغويين قالوا بأنّ جمع كلمة (تال) هو (تاليات) وجمع (تالية) (توال).

[ 281 ]

والمجاهدين في سبيل الله، أو صفوف المصلّين والعباد.

رغم أنّ القرائن تشير إلى أنّ المراد من كلمة «الصافات» هو الملائكة، إضافةً إلى أنّ بعض الروايات قد أشارت إلى ذلك المعنى(1).

وليس هناك أي مانع من أن تشمل كلمة «الزاجرات» الملائكة الذين يطردون وساوس الشياطين من قلوب بني آدم، والإنسان الذي يؤدّي واجب النهي عن المنكر.

و «التاليات» إشارة إلى كلّ الملائكة والجماعات المؤمنة التي تتلو آيات الله، وتلهج بذكره تبارك وتعالى على الدوام.

هنا يطرح هذا السؤال: ظاهر هذه الآيات ـ وبمقتضى وجود العطف بحرف (الفاء) بين الجمل الثلاث ـ يبيّن أنّ الطوائف الثلاث جاءت الواحدة بعد الاُخرى، فهل أنّ هذا الترتيب جاء بحكم الواجب المترتّب على كلّ طائفة؟ أم كلّ حسب مقامه؟ أم لكلا الأمرين؟

من الواضح أنّ الإصطفاف والإستعداد قد جاءا كمرحلة اُولى، ثمّ جاءت ـ كمرحلة ثانية ـ عملية إزالة العراقيل من الطريق. أمّا إعلان الأوامر وتنفيذها فقد كانت بمثابة المرحلة الثالثة.

ومن جهة اُخرى فإنّ المستعدّين لتنفيذ الأوامر الإلهيّة لهم مرتبة، والذين يزيلون العراقيل لهم مرتبة أعلى، أمّا الذين يتلون الأوامر وينفّذونها فلهم مرتبة أسمى من الجميع.

على أيّة حال فإنّ قسم الله سبحانه وتعالى بتلك الطوائف يوضّح عظم منزلتهم عند الباري عزّوجلّ، ويشير إلى حقيقة مفادها أنّ سالكي طريق الحقّ عليهم للوصول إلى غايتهم أن يجتازوا تلك المراحل الثلاث والتي تبدأ بتنظيم الصفوف ووقوف كلّ مجموعة في الصفّ المخصّص لها، ومن ثمّ العمل على إزالة العراقيل

 

________________________________

1 ـ تفسير البرهان، المجلّد 4، الصفحة 15; الدرّ المنثور، المجلّد 5، الصفحة 271.

[ 282 ]

من الطريق، ورفع الموانع بالصوت العالي، الصوت الذي يتناسب مع مفهوم الزجر، ومن بعد تلاوة الآيات الإلهيّة والأوامر الربّانية على القلوب المتهيّئة لتنفيذ مضامين تلك الأوامر.

فالمجاهدون السالكون لطريق الحقّ ليس أمامهم من سبيل سوى إجتياز تلك المراحل الثلاث، وبنفس الصورة على العلماء العاملين أن يستوحوا في جهودهم الجماعية ذلك البرنامج.

وممّا يذكر أنّ بعض المفسّرين فسّروا الآيات على أنّها تعود على المجاهدين، والبعض الآخر أكّد عودتها على العلماء، ولكن حصر مفهوم الآيات بالمجاهدين والعلماء فقط مستبعد بعض الشيء، وإن اُعطيت الآيات طابعاً عامّاً فإنّها ستكون أقرب للواقع، وإذا اعتبرناها تخصّ الملائكة فإنّ الآخرين يمكنهم تنظيم حياتهم وفق مناهج الملائكة.

أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عندما يصف بخطبته في نهج البلاغة الملائكة، فإنّه يقسّمهم إلى مجموعات مختلفة، ويقول: «وصافون لا يتزايلون، ومسبّحون  لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان، ومنهم اُمناء على وحيه، وألسنة إلى رسله»(1).

أمّا آخر حديثنا عن الآيات الثلاث هذه، فهو أنّ البعض يعتقد بأنّ القسم في هذه الآيات يعود إلى ذات الله، وكلمة (ربّ) مقدّرة في جميع تلك الآيات، حيث يكون المعنى كالتالي: وربّ الصافات صفّاً، وربّ الزاجرات زجراً، وربّ التاليات ذكراً.

والذين فسّروا الآيات على هذا النحو، فالظاهر أنّهم يعتقدون بأنّ العباد لا يحقّ لهم القسم بغير الله، لذا فإنّ الله لا يقسم إلاّ بذاته، إضافةً إلى أنّ القسم يجب أن يكون بشيء مهمّ، ألا وهو ذات الله المقدّسة.

________________________________

1 ـ الخطبة الاُولى في نهج البلاغة.

[ 283 ]

إلاّ أنّ هؤلاء غفلوا عن هذه الحقيقة، وهي أنّ حساب الله لا علاقة له بالعباد، فالله تعالى ـ من أجل توجيه الإنسان ـ يقسم بآيات «الآفاق» و «الأنفس» ودلائل قدرته في الأرض والسماء، وذلك لكي يتفكّر الإنسان بتلك الآيات، وعن طريقها يعرف ربّه.

وجدير بالذكر أنّ بعض آيات القرآن المجيد، ومنها آيات سورة الشمس تقسم بموجودات الكون إلى جانب القسم بذات الله المقدّسة، إذن فالتقدير هنا غير سديد، إذ يقول القرآن الكريم: (والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سوّاها)(1).

على أيّة حال، فإنّ ظاهر الآيات ـ محلّ البحث ـ يدلّ على أنّ المجموعات الثلاث هي المقسم بها، وتقدير الشيء هنا خلاف للظاهر، ولا يمكن قبوله بغير دليل.

الآن نرى ما هو المراد من هذه الأقسام المفعمة بالمعاني، أي القسم بالملائكة والإنس؟

الآية التالية توضّح ذلك وتقول: (إنّ إلهكم لواحد).

قسم بتلك المقدّسات التي ذكرناها فإنّ الأصنام ستزول وتدمّر، وإنّه ليس هناك من شريك ولا شبيه ولا نظير لله سبحانه وتعالى.

ثمّ يضيف (ربّ السماوات والأرض وما بينهما وربّ المشارق).

وهنا نطرح سؤالين:

1 ـ ما هي الضرورة لذكر «المشارق» بعد ذكر السماوات والأرض وما بينهما، رغم أنّ المشارق هي جزء منهما.

ويتّضح الجواب من خلال الإلتفات إلى هذه النقطة وهي: إنّ المراد من «المشارق» هو الإشارة إلى مواقع شروق الشمس في أيّام السنة، أو إلى مشارق

________________________________

1 ـ سورة الشمس، الآيات 5 ـ 7.

[ 284 ]

النجوم المختلفة في السماء، حيث أنّها جميعاً لها نظام وبرنامج خاصّ بها، إضافةً إلى النظام السماوي والأرضي الذي يوضّح العلم والقدرة والتدبير المطلق للخالق.

فالشمس في كلّ يوم تشرق من مكان غير المكان الذي أشرقت منه قبل يوم أو بعد يوم، والفواصل الموجودة بين هذه النقاط منظمة ودقيقة للغاية، حيث أنّها  لا تزيد ولا تقلّ بمقدار 10001 من الثانية، وهذا التنظيم الدقيق موجود منذ ملايين السنين.

كما أنّ هذا النظام ينطبق على ظهور وغروب النجوم.

إضافةً إلى ذلك فإنّ الشمس لو لم تكن تتحرّك ضمن مسير تدريجي طوال العام، لم يعد هناك وجود للفصول الأربعة وللنعم المختلفة التي تظهر خلال تلك الفصول، وهذا دليل آخر على عظمة وتدبير الخالق عزّوجلّ.

ومن المعاني الاُخرى لكلمة «المشارق»، هو أنّ الأرض لكونها كروية الشكل، فإنّ كلّ نقطة عليها تعتبر بالنسبة إلى النقطة الاُخرى إمّا مشرقاً أو مغرباً، وبهذا فإنّ الآية تؤكّد كروية الأرض ووجود المشارق والمغارب (ولا مانع من تحقّق المعنيين في الآية المذكورة).

أمّا السؤال الثاني الذي يطرح نفسه فهو: لماذا لم تأت كلمة «مغارب» في الآية في مقابل «المشارق» كما جاء في الآية (40) من سورة المعارج (فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب).

والجواب على هذا السؤال، هو أنّ قسماً من الكلام ينسخ قسماً آخر لوجود القرينة، وفي بعض الأحيان يأتيان معاً، وهنا ذكر كلمة «المشارق» قرينة على «المغارب» وهذا التنوّع يوضّح فصاحة القرآن وبلاغته.

فيما قال بعض المفسّرين: إنّ ذكر كلمة (المشارق) يتناسب مع شروق الوحي بواسطة الملائكة (فالتاليات ذكراً) على قلب النّبي الطاهر (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

* * *

________________________________

1 ـ تفسير الميزان، المجلّد 17.

[ 285 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَة الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَـن مَّارِد (7) لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الاَْعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِب (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)

 

التّفسير

حفظ السماء من تسلّل الشياطين!

الآيات السابقة تحدّثت عن طوائف الملائكة المكلّفة بتنفيذ المهام الجسام، والآيات التالية ـ موضوع البحث ـ ستتحدّث عن الطائفة المقابلة لها، أي الشياطين وعن مصيرهم. ويمكن أن تكون هذه الآيات مقدّمة لدحض معتقدات مجموعة من المشركين الذين يعبدون الشياطين والجنّ، وتتضمّن كذلك درساً في التوحيد بين طيّاتها.

تبدأ الآية بالقول: (إنّا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب)(1) فلو رفع أحدنا

________________________________

1 ـ «الكواكب» هنا بدل من الزينة، ويحتمل كونها عطف بيان، والزينة هنا اسم مصدر وليست مصدراً، حيث جاء في الكتب الأدبية أينما وجدت نكرة بدل عن المعرفة فيجب مرافقتها بوصف، وفي حالة العكس فإنّ الأمر غير واجب.

[ 286 ]

ببصره نحو السماء في إحدى الليالي المظلمة، لتجسّم في بصره منظر جميل يسحر الإنسان.

وكأنّ الكواكب تتحدّث معنا بلسانها الصامت، لتكشف لنا أعن أسرار الخلق، وأحياناً تكون شاعرة تنشد لنا أجمل القصائد الغزلية والعرفانية، وإغماضها وتواريها، ومن ثمّ إبراقها ولمعانها، يوضّح أسرار العلاقة الموجودة بين العاشق والمعشوق.

حقّاً إنّ منظر النجوم في السماء رائع الجمال، ولا تملّ أيّ عين من طول النظر إليه، بل إنّ النظر إليه يزيل التعب والهمّ من داخل الإنسان. (ممّا يذكر أنّ أبناء المدن في العصر الحاضر التي يغطّيها دخّان المصانع، لا يستمتعون بمشاهدة السماء وهي مرصّعة بالكواكب كما يشاهدها الإنسان القروي حيث يدركون هذه المقولة القرآنية ـ أي تزيين السماء بالكواكب ـ بصورة أفضل).

ومن الجدير بالإهتمام قول الآية: (إنّا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب) في حين كانت الفرضيات الشائعة في ذلك الوقت في أذهان العلماء والمفكّرين هي أنّ السماء العليا هي التي تضمّ الكواكب (السماء الثامنة طبقاً لفرضيات بطليموس).

وكما هو معروف فإنّ العلم الحديث دحض تلك الفرضيات. وعدم اتّباع القرآن لما جاء في تلك الفرضيات النادرة والمشهورة في ذلك الزمان معجزة حيّة لهذا الكتاب السماوي.

والنقطة الاُخرى التي تلفت النظر هي أنّ إرتعاش نور الكواكب الجميل وغمزها للناظر يعود ـ من وجهة نظر العلم الحديث ـ إلى وجود القشرة الهوائية حول الأرض، وهذا المعنى يتلاءم مع ما نصّت عليه الآية الكريمة (السماء الدنيا).

[ 287 ]

أمّا في خارج جو الأرض فإنّ النجوم تبدو نقاط منيرة على وتيرة واحدة وليس لها ذلك التلألؤ، على عكس ما يشاهد داخل جوّ الأرض.

أمّا الآية (وحفظاً من كلّ شيطان مارد)(1) فإنّها تشير إلى حفظ السماء من تسلّل الشياطين إليها.

كلمة (مارد) مشتقّة من (مرد) التي تعني الأرض المرتفعة الخالية من الزرع، كما يقال للشجرة التي تساقطت أوراقها كلمة (أمرد) وتطلق على الفتى الذي لا شعر في وجهه. وهنا المقصود من كلمة (مارد) هو الشخص الخبيث العاري من الخير.

حفظ السماء من تسلّل الشياطين يتمّ بواسطة نوع من أنواع النجوم يطلق عليها اسم (الشهب)، وسيشار إليها في الآيات القادمة.

ثمّ يضيف القرآن الكريم: إنّ الشياطين لا تتمكّن من سماع حديث ملائكة الملأ الأعلى ومعرفة أسرار الغيب التي عندهم، فكلّما حاولوا عمل شيء ما لسماع الحديث، رشقوا بالشهب من كلّ جانب (لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كلّ جانب).

نعم إنّهم يطردون من السماء بشدّة، وقد أعدّ لهم عذاب دائم، كما جاء في قوله تعالى: (دحوراً ولهم عذاب واصب).

(لا يسمعون) بمعنى (لا يستمعون) ويفهم منها أنّ الشياطين يحاولون معرفة أخبار «الملأ الأعلى» إلاّ أنّه لا يسمح لهم بذلك.

(الملأ الأعلى)، تعني ملائكة السماوات العلى، لأنّ كلمة (ملأ) تطلق في الأصل على الجماعة التي لها وجهة نظر واحدة، وتعدّ في نظر الآخرين مجموعة متّحدة ومنسجمة، كما تطلق هذه الكلمة على الأشراف والأعيان والدائرين في فلك

________________________________

1 ـ (حفظاً) على حدّ قول الكثير من المفسّرين مفعول مطلق لفعل محذوف والتقدير هو: وحفظناها حفظاً. والبعض إحتمل أنّها معطوفة على (بزينة) التي هي (مفعول له)، وتقديرها (إنّا خلقنا الكواكب زينةً للسماء وحفظاً).

[ 288 ]

مراكز القوى، لأنّهم يعدّون في نظر الآخرين متّحدين أيضاً، ولكن عندما يوصف الملأ بـ (الأعلى) فذلك إشارة إلى الملائكة الكرام ذوي المقام الأرفع والأسمى.

«يقذفون» مشتقّة من (قذف) وتعني رمي الشيء إلى مكان بعيد، والمقصود هنا طرد الشياطين بواسطة الشهب، التي سنتطرّق لها فيما بعد، وهذا يوضّح أنّ الباري عزّوجلّ لا يسمح للشياطين بالإقتراب من الملأ الأعلى.

«دحوراً» مشتقة من (دحر) ـ على وزن (دهر) ـ وتعني طرد الشيء ودفعه، أمّا كلمة (واصب) فإنّها تعني المرض المزمن، وبصورة عامّة تعني الدائم والمستمر، وفي بعض الأحيان تعني (الخالص)(1).

وهنا إشارة إلى أنّ الشياطين لا يطردون ولا يمنعون من الإقتراب من السماء فحسب، بل سيصيبهم في النهاية ـ مع ذلك ـ عذاب دائم.

وأشارت الآية أيضاً إلى طائفة من الشياطين الشريرة التي تحاول الصعود إلى السماء العليا لإستراق السمع، وإلى المصير الذي ينتظرها هناك، كما جاء في الآية الشريفة (إلاّ من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب).

«الخطفة» أي اختلاس الشيء بسرعة.

و «الشهاب» شيء مضيء متولّد من النار، ويرى نوره في السماء على شكل خطّ ممتدّ.

وكما هو معروف فإنّ الشهب ليست نجوماً، وإنّما تشبه النجوم، وهي عبارة عن قطع صغيرة من الحجر متناثرة في الفضاء، عندما تدخل في مجال جاذبية الأرض، تنجذب نحوها، ونتيجة دخولها بسرعة إلى جوّ الأرض وإحتكاكها الشديد مع الهواء المحيط بالكرة الأرضية فإنّها تشتعل وتحترق.

وكلمة «ثاقب» تعني النافذ والخارق، وكأنّه يخترق العين بنوره الشديد ويثقبها، وهذه إشارة إلى أنّ الشهاب يثقب كلّ شيء يصيبه ويحرقه.

________________________________

1 ـ لقد تمّ بحث كلمة «واصب» أيضاً في نهاية الآية (52) من سورة النحل.

[ 289 ]

وبهذا يكون هناك مانعان يحوّلان دون نفوذ الشياطين إلى السماء العليا:

الأوّل، هو رشق الشياطين من كلّ جانب وطردهم، والذي يتمّ على الظاهر بواسطة الشهب.

والثاني، هو رشقهم بواسطة أنواع خاصّة من الشهب يطلق عليها اسم الشهاب الثاقب، الذي يكون بإنتظار كلّ شيطان يحاول التسلّل إلى الملأ الأعلى لاستراق السمع، وهذا المعنى نجده أيضاً في الآيتين (17) و (18) من سورة الحجر (وحفظناها من كلّ شيطان رجيم إلاّ من استرق السمع فاتبعه شهاب مبين).

وفي الآية الخامسة من سورة الملك (ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين).

ولكن هل يجب الإلتزام بظواهر هذه الآيات؟ أم أنّ هناك قرائن تجبرنا على تفسيرها بخلاف الظاهر، كاستخدام الأمثال والتشبيه والكناية؟

هناك وجهات نظر مختلفة بين المفسّرين، فالبعض منهم التزم بظاهر الآيات وبنفس المعاني التي استعرضت في بداية الأمر، وقالوا: هناك طوائف من الملائكة تسكن السماء القريبة والبعيدة تعرف أخبار الحوادث التي ستقع في العالم الأرضي قبل وقوعها، لذا تحاول مجموعة من الشياطين الصعود إلى السماء لاستراق السمع ومعرفة بعض الأخبار، لكي تنقلها إلى عملائها في الأرض أي الذين يرتبطون بها ويعيشون بين الناس، ولكن ما أن يحاولون الصعود يرشقون بالشهب التي تتّصف بأنّها كالنجوم المتحرّكة، فتجبرهم على التراجع، أو تصيبهم فتهلكهم.

ويقولون: من الممكن أن لا نفهم بصورة دقيقة ما تعنيه هذه الآيات في الوقت الحاضر، إلاّ أنّنا مكلّفون بحفظ ظواهرها، وترك تفاصيلها للمستقبل.

وقد إختار هذا التّفسير العلاّمة «الطبرسي» في (مجمع البيان) و «الآلوسي» في (روح المعاني) و «سيّد قطب» في (الظلال)، إضافة إلى عدد آخر من المفسّرين.

في حين يرى البعض الآخر أنّ الآيات المذكورة إنّما هي من قبيل الأمثال

[ 290 ]

المضروبة تصوّر بها الحقائق الخارجة عن الحسّ في صورة المحسوس لتقريبها من الحسّ، وهو القائل عزّوجلّ: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلاّ العالمون).(1)

وأضافوا: إنّ المراد من السماء التي تسكنها الملائكة، عالم ملكوتي ذو اُفق أعلى من عالمنا المحسوس، والمراد باقتراب الشياطين من السماء وإستراقهم السمع وقذفهم بالشهب، هو أنّ هذه الشياطين كلّما حاولت الإقتراب من عالم الملائكة للإطلاع على أسرار الخليقة والحوادث المستقبلية، طردت من هناك بواسطة نور الملكوت الذي لا يطيقونه، ورمتهم الملائكة بالحقّ الذي يبطل أباطيلهم.

وإيراده تعالى قصّة إستراق الشياطين للسمع ورميهم بالشهب، عقيب الإقسام بملائكة الوحي وحفظهم إيّاه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه(2).

ويحتمل أيضاً أنّ السماء هنا هي كناية عن سماء الإيمان والمعنويات التي يحاول الشياطين النفوذ إليها، إضافةً إلى الإنسلال إلى قلوب المؤمنين عن طريق الوساوس التي يبثّونها في قلوبهم، إلاّ أنّ الأنبياء والصالحين والأئمّة المعصومين من أهل البيت والسائرين على خطّهم الفكري والعملي يهاجمون الشياطين بالشهاب الثاقب الذي يمتلكونه، ألا وهو العلم والتقوى، ويمنعون الشياطين من الإقتراب من هذه السماء.

التّفسير المذكور أوردناه هناك كإحتمال، وذكرنا بعض الدلائل والشواهد عليه في نهاية الآية (18) من سورة الحجرات.

هذه ثلاثة تفسيرات مختلفة للآيات مورد البحث والآيات المشابهة لها.

* * *

________________________________

1 ـ العنكبوت، 43.2 ـ تلخيص من تفسير الميزان، المجلّد السابع عشر، الصفحة (125).

[ 291 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَـهُم مِّن طِين لاَّزِب (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا  لاَ يَذْكُرُونَ(13) وَإِذَا رَأَوْا ءَايَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (15)

 

التّفسير

الذين لا يقبلون الحقّ أبداً:

هذه الآيات تعالج قضيّة منكري البعث، وتتابع البحث السابق بشأن قدرة الباري عزّوجلّ خالق السموات والأرض، وتبدأ بالإستفسار منهم وتقول: اسألهم هل أنّ معادهم وخلقهم مرّة ثانية أصعب أو خلق الملائكة والسماوات والأرض: (فإستفتهم أهم أشدّ خلقاً أم من خلقنا).

نعم، فنحن خلقناهم من مادّة تافهة، من طين لزج: (إنّا خلقناهم من طين لازب).

فالمشركون الذين ينكرون المعاد، قالوا بعد سماعهم الآيات السابقة بشأن خلق السموات والأرض والملائكة. إنّ خلق الإنسان أصعب من خلق السموات

[ 292 ]

والأرض والملائكة. إلاّ أنّ القرآن الكريم أجابهم بالقول: إنّ خلق الإنسان مقابل خلق الأرض والسماء والملائكة الموجودة في هذه العوالم، يعدّ لا شيء، لأنّ أصل الإنسان يعود إلى حفنة من التراب اللزج.

«إستفتهم» من مادّة «استفتاء» وتعني الحصول على معلومات جديدة.

وهذا التعبير إشارة إلى أنّ المشركين لو كانوا صادقين في أنّ خلقهم أهمّ وأصعب من خلق السماوات والملائكة، فإنّهم قد جاؤوا بموضوع جديد لم يطرح مثله من قبل.

«لازب» يقول البعض: إنّ أصلها كان (لازم)، حيث إستبدلت (الميم) (باءً) وحالياً تستعمل بهذه الصورة، على أيّة حال فهي تعني الطين المتلازم بعضه ببعض، يعني الملتصق لأنّ أصل الإنسان كان من التراب الذي خلط بالماء، وبعد فترة أضحى طيناً متجمّعاً ذا رائحة نتنة، ثمّ تحول إلى طين متماسك (وهذه الصورة هي جمع لحالات متعدّدة مذكورة في عدّة آيات في القرآن المجيد).

ثمّ يضيف القرآن الكريم: (بل عجبت ويسخرون).

نعم أنت تتعجّب لإنكارهم بالمعاد، لأنّك بقلبك الطاهر ترى المسألة واضحة جدّاً، وأمّا أصحاب القلوب السوداء فيعدونها مستحيلة إلى حدّ أنّهم يستهزئون بها وينكرونها.

وما يكمن وراء تلك التصرفات القبيحة ليس هو الجهل ـ فقط ـ وعدم المعرفة، بل إنّها اللجاجة والعناد، إذ أنّهم كلّما ذكروا بدلائل المعاد والعقوبات الإلهيّة لا يتذكّرون (وإذا ذكروا لا يذكرون).

والأنكى من ذلك، أنّهم كلّما شاهدوا معجزة من معجزاتك، لا يكتفون بالإستهزاء، وإنّما يدعون الآخرين للإستهزاء أيضاً (وإذا رأوا آية يستسخرون).

(وقالوا إنّ هذا إلاّ سحر مبين).

قولهم «هذا» المقصود منه تحقير المعجزات والآيات الإلهية والإنتقاص منها،

[ 293 ]

وإطلاقهم كلمة «سحر» على تلك المعجزات لكونها من جهة أعمالا خارقة للعادة، ولا يمكن نكرانها. ومن جهة اُخرى فإنّهم لم يكونوا راغبين للإستسلام لتلك المعاجز، وكلمة السحر كانت الكلمة الوحيدة التي تعكس خبثهم وترضي أهواءهم النفسية، وتوضّح في نفس الوقت إعترافهم بالتأثير الكبير للقرآن ولمعجزات النّبي الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).

* * *

 

ملاحظتان

1 ـ يعتقد بعض المفسّرين أنّ عبارة «يستسخرون» تعني «يسخرون»،  ولا يوجد أي فرق بين العبارتين. في حين يؤكّد البعض الآخر على وجود إختلاف بين المعنيين، بقولهم: إنّ «يستسخرون» جاءت من باب إستفعال، وتعني دعوة الآخرين إلى المشاركة في الإستهزاء، وتشير إلى أنّهم لم يكتفوا لوحدهم بالإستهزاء بآيات القرآن المجيد، وإنّما سعوا لإشراك الآخرين في ذلك، كي تصير المسألة عامّة في المجتمع.

والبعض يعتبر هذا الإختلاف توكيد أكثر يستفاد من عبارة (يستسخرون).

فيما فسّر البعض الآخر هذه العبارة بأنّها «الإعتقاد بكون الشيء مثيراً للسخرية»، ويعني أنّهم نتيجة إنحرافهم الشديد كانوا في قرارة أنفسهم يعتقدون ـ تماماً ـ أنّ هذه المعجزات ليست أكثر من سخرية، ولكن المعنى الثاني يعدّ أكثر مناسباً من غيره.

2 ـ عزا بعض المفسّرين سبب نزول هذه الآية إلى قضيّة مفادها أنّ «ركانة» رجل من المشركين من أهل مكّة، لقيه الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في جبل خال يرعى غنماً له، وكان من أقوى الناس، فقال له: ياركانة أرأيت إنّ صرعتك أتؤمن بي؟

[ 294 ]

قال: نعم. فصرعه ثلاثاً، ثمّ عرض عليه بعض الآيات ودعا عليه الصلاة والسلام شجرة فأقبلت، فلم يؤمن وجاء إلى مكّة فقال: «يابني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض». فنزلت فيه وفي أضرابه هذه الآية.

 

* * *

[ 295 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَ ءَابَآؤُنَا الاَْوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَـوَيْلَنَا هَـذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)هَـذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَطِ الْجَحِيمِ (23)

 

التّفسير

هل نبعث من جديد؟

الآيات هذه تتابع سرد أقوال منكري المعاد، وتواصل الردّ عليها، فالآية الاُولى تعكس إستبعاد البعث من قبل منكريه، بهذا النصّ (ءإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً ءإنّا لمبعوثون)(1) (2).

________________________________

1 ـ تفسير روح المعاني، المجلّد 23، الصفحة 77.2 ـ هذه الآية هي بحالة جملة شرطية وشرطها (أإذا متنا) بينما جزاءها محذوف وجملة (أإنّا لمبعوثون) قرينة عليها، لأنّ نفس هذه الجملة ـ طبقاً للقواعد الأدبية ـ لا يمكن أن تكون جزاءً.

[ 296 ]

وهل سيبعث آباؤنا الأوّلون أيضاً؟ (أو آباؤنا الأوّلون). فمن يستطيع جمع تلك العظام النخرة وأكوام التراب المتفرّقة المتبقيّة من الإنسان؟ ومن يتمكّن من إعادة الحياة إليها؟

فهؤلاء ذوي القلوب العمياء نسوا أنّهم كانوا تراباً في اليوم الأوّل، ومن التراب خلقوا، وإذ كانوا يشكّكون في قدرة الله، فعليهم أن يعرفوا أنّ الله كان قد أراهم قدرته، وإن كانوا يشكّكون بإستحالة التراب، فقد أثبت ذلك من قبل، وعلاوةً على هذا فإنّ خلق السماوات والأرض بكلّ هذه العظمة لا تترك أي مجال للشكّ عند أحد في قدرة الباري عزّوجلّ المطلقة.

ممّا يذكر أنّ منكري البعث صاغوا أقوالهم بشكل عبارات مؤكّدة (إذ أنّ جملة (أإنّا لمبعوثون) هي جملة اسمية إستخدمت فيها (إن) و (لام) والتي تأتي كلّ منهما للتأكيد) وذلك لجهلهم ولجاجتهم.

وممّا يلفت النظر أنّ كلمة (التراب) قدّمت على (العظام) وهذا الأمر يحتمل أنّه يشير إلى إحدى النقاط الثلاث الآتية:

أوّلا: إنّ الإنسان بعد وفاته يصير عظاماً في بداية الأمر، ثمّ يتحوّل إلى تراب، وبما أنّ إعادة التراب إلى الحياة يعدّ شيئاً عجيباً، لهذا قدّمت كلمة التراب.

ثانياً: عند إندثار أبدان الأموات، في البداية تتحوّل اللحوم إلى تراب وتبقى إلى جانب العظام، ولهذا فهناك تراب وعظام في آن واحد.

ثالثاً: التراب يشير إلى أجساد الأجداد الأوّلين، والعظام تشير إلى أبدان الآباء والتي لم تتحوّل بعد إلى تراب.

ثمّ يردّ القرآن على تساؤلاتهم بلهجة شديدة وعنيفة، عندما يقول للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): قل لهم: نعم أنتم وأجدادكم ستبعثون صاغرين مهانين أذلاّء، (قل نعم وأنتم داخرون)(1).

________________________________

1 ـ (داخر) من مادّة (دخر) على وزن فخر (دخور)، وكلتاهما تعطي معنى الذلّة والحقارة. الآية أعلاه فيها جملة تقديرية هي جوابها، والبقيّة شيء إضافي عليها كي يكتسب القول قاطعية أكثر، فالتقدير سيكون هكذا (نعم إنّكم مبعوثون حال كونكم داخرين).

[ 297 ]

فهل تتصوّرون أنّ عملية إحيائكم والأوّلين تعدّ مستحيلة، أو هي عمل عسير على الله القادر والقوي؟ كلاّ، فانّ صرخة عظيمة واحدة ممّن كلّفهم الله سبحانه وتعالى بذلك كافية لبعث الحياة بمن في القبور، ونهوض الجميع فجأة من دون أيّ تمهيد أو تحضير من قبورهم ليشاهدوا بأعينهم ساحة المحشر التي كانوا بها يكذّبون (فإنّما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون).

(زجرة) مشتقّة من (زجر) وكما أشرنا إليها سابقاً، فإنّها تعني الطرد، وأحياناً تأتي بمعنى الصرخة، وهنا تفيد المعنى الثاني، وهي إشارة إلى النفخة والصيحة الثانية لإسرافيل، والتي سنتحدّث بشأنها في الآيات الأخيرة لسورة الزمر.

عبارة (ينظرون) تشير إلى نظر منكري البعث لساحة المحشر وهم مدهوشون، أو النظر بعنوان إنتظار العذاب، وفي كلا الحالتين فإنّ المقصود ليس ـ فقط ـ عودتهم إلى الحياة، وإنّما عودتهم إلى الشعور والنظر فور سماعهم الصيحة.

وتعبير (زجرة واحدة) مع الإلتفات إلى معنى الكلمتين، يشير إلى أنّ البعث يتمّ بسرعة وعلى حين غرّة، وإلى سهولته في مقابل قدرة الباري عزّوجلّ، إذ بصرخة واحدة (لملك البعث) المأمور بها تعود الحياة إلى حالتها الاُولى.

وهنا تتعالى صرخات المشركين المغرورين وتبيّن ضعفهم وعجزهم وعوزهم، ويقولون: الويل لنا فهذا يوم الدين (وقالوا ياويلنا هذا يوم الدين).

نعم، فعندما تقع أعينهم على محكمة العدل الإلهي وشهودها وقضاتها، وعلى علامات العقاب فإنّهم ـ من دون أن يشعروا ـ يصرخون ويبكون، ويعترفون بحقيقة البعث، الإعتراف الذي يعجز عن إنقاذهم من العذاب، أو تخفيف العقاب الذي ينتظرهم.

وهنا يوجّه إليهم الخطاب من الباري عزّوجلّ أو من ملائكته: نعم، اليوم هو

[ 298 ]

يوم الفصل الذي كنتم به تكذّبون، يوم فصل الحقّ عن الباطل، وفصل المجرمين عن المتّقين، ويوم المحكمة الإلهيّة الكبرى (هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذّبون).

ومثل هذه العبارات وردت في آيات اُخرى من آيات القرآن الكريم، والتي تتناول يوم القيامة، وتعتبره يوم الفصل، وهي عبارات عجيبة ورهيبة؟!(1).

الملاحظ، هو أنّ الكافرين يوم القيامة يطلقون على هذا اليوم اسم يوم الجزاء (ياويلنا هذا يوم الدين).

فيما يطلق عليه الباري عزّوجلّ في كتابه الحكيم اسم يوم الفصل (هذا يوم الفصل).

إنّ الإختلاف بين التعبيرين يمكن أن يكون لهذا السبب، وهو أنّ المجرمين لا يفكّرون إلاّ بالجزاء والعقاب الذي سينالهم، ولكن الله سبحانه وتعالى يشير إلى معنى أوسع من الجزاء الذي يعدّ أحد أبعاد ذلك اليوم، إذ يعتبر ذلك اليوم هو يوم الفصل، نعم يوم فصل صفوف المجرمين عن المتّقين، كما جاء في الآية (59) من سورة يس (وامتازوا اليوم أيّها المجرمون) فالأمر في ذلك اليوم موجّه إلى المجرمين أن انفصلوا عن المؤمنين، فهنا ليست دار الدنيا التي تجمع بين المجرمين والمتّقين.

وكم يكون هذا المشهد رهيباً عندما يشاهدون أقاربهم وأبناءهم ينفصلون عنهم لإيمانهم بالله، ويتّجهون نحو جنان الخلد.

وعلاوةً على أنّ ذلك اليوم هو يوم فصل الحقّ عن الباطل، فيجب أن تتبيّن كلّ الخطوط المتضادّة والبرامج الحقيقيّة والكاذبة التي كانت مختلطة في عالم الدنيا في مكانها الخاصّ بها.

على أيّة حال، إنّ ذلك اليوم ـ أي يوم الفصل ـ يعني أيضاً يوم المحاكمة، ففي

________________________________

1 ـ الدخّان، الآية 40; المرسلات، الآيات 13، 14، 38; النبأ الآية، 17.

[ 299 ]

ذلك اليوم يقضي الله العالِم العادِل بين عباده ويصدر أحكاماً دقيقة بحقّهم، وهنا يخزى المشركون.

إذن، فطبيعة الدنيا هي إختلاط الحقّ بالباطل، في حين أنّ طبيعة البعث هو فصل الحقّ عن الباطل، ولهذا السبب فإنّ أحد أسماء يوم القيامة في القرآن المجيد (يوم الفصل) والذي كرّر عدّة مرّات، اليوم الذي تظهر فيه كافّة الخفايا والأسرار، ولا يمكن تجنّب عملية فصل الصفوف.

ثمّ يصدر الباري عزّوجلّ أوامره إلى ملائكته المكلّفين بإرسال المجرمين إلى جهنّم أن (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون).

نعم احشروهم وما كانوا يعبدون (من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم).

(احشروا) مشتقّة من (حشر) ويقول الراغب في مفرداته: إنّها تعني إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.

وهذه الكلمة تأتي بمعنى «تجميع» في الكثير من الحالات.

على كلّ حال، فالخطاب هنا إمّا أن يكون من جانب الله عزّوجلّ، أو من طائفة من الملائكة إلى طائفة اُخرى مكلّفة بسوق المجرمين إلى الجحيم والنتيجة واحدة.

 

(أزواج) هنا إمّا أن تشير إلى زوجات المجرمين والمشركين، أو إلى من يعتقد إعتقادهم ويعمل عملهم ومن هو على شاكلتهم، لأنّ هذه الكلمة تشمل المعنيين، حيث نقرأ في سورة الواقعة الآية (7) (وكنتم أزواجاً ثلاثة).

وبهذا يحشر المشركون مع المشركين والأشرار، وذوو القلوب العمياء مع نظائرهم، ثمّ يساقون إلى جهنّم.

أو أنّ المقصود من الأزواج هم الشياطين الذين كانوا يشابهونهم في الشكل والعمل.

المهمّ، هو عدم وجود أي إختلاف بين هذه المعاني الثلاثة، ومن الممكن أن

[ 300 ]

تجتمع في مفهوم الآية.

جملة (ما كانوا يعبدون) تشير إلى آلهة المشركين، كالأصنام والشياطين والطغاة المتجبّرين والفراعنة والنماردة، وعبّرت عنها بـ (ما كانوا يعبدون) لكون أغلب تلك الآلهة موجودات عديمة الحياة وغير عاقلة، وقد إصطلح عليها بهذا التعبير لأنّه يعطي طابع التغليب.

(الجحيم) تعني جهنّم، وهي من مادّة (جحمة) على وزن (ضربة) وتعني شدّة تأجيج النار.

والملاحظ في الآية إستخدامها عبارة (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) حقّاً كم هذه العبارة عجيبة؟ ففي أحد الأيّام اُرشدوا إلى الصراط المستقيم ولكنّهم لم يقبلوه، واليوم يجب أن يهدوا إلى صراط الجحيم، وهم مجبرون على القبول به، وهذا توبيخ عنيف لهم يجعلهم يتحرّقون ألماً في أعماقهم.

 

* * *

[ 301 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ(27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الَْيمِينِ (28) قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـنِ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَـغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)فَأَغْوَيْنَـكُمْ إِنَّا كُنَّا غَـوِينَ (32)

 

التّفسير

الحوار بين القادة والأتباع الضالّين:

الآيات السابقة إستعرضت كيفية سوق ملائكة العذاب للظالمين ومن يعتقد إعتقادهم برفقة الأصنام والآلهة الكاذبة التي كانوا يعبدونها من دون الله، إلى مكان معيّن، ومن ثمّ هدايتهم إلى صراط الجحيم.

وإستمراراً لهذا الإستعراض يقول القرآن: (وقفوهم إنّهم مسؤولون)(1).

________________________________

1 ـ (قفوهم) من مادّة (وقف) وأحياناً تأتي بصورة فعل متعد وتعني (التوقيف والحبس)، وأحياناً اُخرى تأتي بصورة فعل لازم، وتعني (التوقّف والوقوف) ومصدر الاُولى هو وقفة، ومصدر الثانية وقوف.

[ 302 ]

نعم عليهم أن يتوقّفوا ويجيبوا على مختلف الأسئلة التي تطرح عليهم، ولكن عمّاذا يسألون؟

قال البعض: يسألون عن البدع التي اختلقوها.

وقال البعض الآخر: يسألون عن أعمالهم القبيحة وأخطائهم.

والبعض أضاف: إنّهم يسألون عن التوحيد وقول لا إله إلاّ الله.

وذهب آخرون: إنّهم يسألون عن النعم التي أُنعمت عليهم، وعن شبابهم وصحّتهم وأعمارهم وأموالهم ونحوها، وهناك رواية يذكرها الشيعة والسنّة في أنّهم يسألون عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)(1).

وبالطبع فإنّ هذه التفاسير لا يوجد أي تناقض بينها، لأنّ في ذلك اليوم يتمّ السؤال عن كلّ شيء، عن العقائد وعن التوحيد والولاية، وعن الحديث والعمل، وعن النعم والمواهب التي وضعها الله سبحانه وتعالى في إختيار الإنسان.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه، وهو: كيف يساق اُولئك أوّلا إلى صراط الجحيم، ثمّ يؤمرون بالتوقّف لإستجوابهم؟

ألا ينبغي تقديم عملية إيقافهم ومساءلتهم على سوقهم إلى صراط الجحيم؟

هناك جوابان لهذا السؤال وهما:

أوّلا: كون اُولئك من أهل جهنّم أمر واضح للجميع، وحتّى لأنفسهم، وإستجوابهم إنّما يتمّ لإعلامهم بمقدار وحجم الذنوب والجرائم التي إقترفوها ..

ثانياً: طرح هذه الأسئلة عليهم لا لمحاكمتهم، وإنّما ذلك لتوبيخهم ومعاقبتهم نفسياً.

وبالطبع فإنّ كلّ ذلك في حالة كون الأسئلة متعلّقة بما أوردنا آنفاً، أمّا إذا إرتبط

________________________________

1 ـ الرواية هذه وردت في (الصواعق) عن أبي سعيد الخدري نقلا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما وردت عن الحاكم بن أبو القاسم الحسكاني في (شواهد التنزيل) نقلا عن رسول الله، كذلك وردت في عيون أخبار الرضا نقلا عن الإمام الرضا (عليه السلام).

[ 303 ]

الحديث بالآية التالية والتي تسألهم عن عدم نصرتهم بعضهم البعض، فهنا لا تبقى أيّة مشكلة في تفسير الآية، ولكن هذا التّفسير لا يتطابق مع ما جاء في عدّة روايات بهذا الشأن، إلاّ إذا كان هذا السؤال جزء من أسئلة مختلفة.

على أيّة حال، فعندما يساق المجرمون إلى صراط الجحيم، تكون أيديهم مقطوعة عن كلّ شيء وقاصرة عن تحصيل العون، ويقال لهم: أنتم الذين كان أحدكم يلجأ إلى الآخر في المشكلات ويطلب العون منه، لِمَ لا ينصر بعضكم بعضاً الآن (ما لكم لا تناصرون).

نعم، فكلّ الدعائم التي تصوّرتم انّها دعامات مطمئنة في الدنيا اُزيلت عنكم، ولا يمكن أن يساعد بعضكم البعض، كما أنّ آلهتكم ليسوا بقادرين على تقديم العون لكم، لأنّهم عاجزون ومنشغلون بأنفسهم.

يقال أنّ (أبا جهل) نادى يوم معركة بدر «نحن جميع منتصر»، والقرآن المجيد أعاد تكرار قوله في الآية (44) من سورة القمر (أم يقولون نحن جميع منتصر)فيوم القيامة يسأل أبو جهل وأمثاله: لماذا لا يسعى بعضكم لمساعدة البعض الآخر؟ ولكن لا يمتلكون أي جواب لهذا السؤال، سوى سكوتهم الدالّ على ذلّتهم.

الآية التي تليها تضيف: إنّهم في ذلك اليوم مستسلمون لأوامر الله وخاضعون له، ولا يمكنهم إظهار المخالفة أو الإعتراض (بل هم اليوم مستسلمون)(1).

وهنا يبدأ كلّ واحد منهم بلوم الآخر، ويسعى إلى إلقاء أوزاره على عاتق الآخر، والتابعون يعتبرون رؤساءهم وأئمّتهم هم المقصّرون، فيقابلونهم وجهاً لوجه، ويبدأ كلّ منهم بسؤال الآخر، كما تقول الآية: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون).

________________________________

1 ـ (إستسلام) من مادّة (السلامة) ولكونها من باب (إستفعال) فهي بمعنى طلب السلامة والتي عادةً تكون ملازمة للإنقياد والخضوع في مقابل قوّة أعظم.

[ 304 ]

وهنا يقول التابعون لمتبوعيهم: إنّكم شياطين، إذ كنتم تأتوننا بعنوان النصيحة والهداية والتوجيه وإرادة الخير والسعادة لنا، ولكن لم يكن من وراء مجيئكم سوى المكر والضياع (قالوا إنّكم كنتم تأتوننا عن اليمين).

إذ أنّنا ـ بحكم فطرتنا ـ كنّا نسعى وراء الخير والطهارة والسعادة، ولذا لبّينا دعوتكم، لكنّنا لم نكن نعلم أنّكم تخفون وراء وجوهكم الخيّرة ظاهراً وجهاً آخر شيطانياً وقبيحاً أوقعنا في الخطيئة، نعم فكلّ الذنوب التي إرتكبناها أنتم مسؤولون عنها، لأنّنا لم نكن نملك شيئاً سوى حسن النيّة وطهارة القلب، وأنتم الشياطين الكذّابون لم يكن لديكم سوى الخداع والمكر.

كلمة (يمين) تعني (اليد اليمنى) أو (الجهة اليمنى) والعرب تعتبرها في بعض الأحيان كناية عن الخير والبركة والنصيحة، وكلّ ما يرد إليهم من جهة اليمين يتفاءلون به، ولذا فإنّ الكثير من المفسّرين يفسّرون (كنتم تأتوننا عن اليمين) على أنّها تظهر الخير والنصيحة كما ذكرنا ذلك أعلاه.

على أيّة حال، الثقافة العامّة تعتبر العضو الأيمن أو الطرف الأيمن شريفاً، والأيسر غير شريف، ولهذا السبب تستعمل اليمين للإحسان وعمل الخيرات.

وقد ذكرت مجموعة من المفسّرين تفسيراً آخر وهو: إنّ المقصود هو أنّكم أتيتمونا بإعتمادكم على القدرة، لأنّ الجهة اليمنى تكون عادةً هي الأقوى، وبهذا الدليل فإنّ أغلب الناس ينجزون أعمالهم المهمّة والصعبة باليد اليمنى، لذا فقد أصبح هذا التعبير كناية عن «القدرة».

وهناك تفسيرات اُخرى تعود إلى هذين التّفسيرين أعلاه، ولكن لا شكّ أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وفي المقابل فإنّ المتبوعين والقادة لا يسكتون، بل يجيبون تابعيهم بالقول: (قالوا بل لم تكونوا مؤمنين).

فلو لم تكن أهواؤكم منحرفة، ولو لم تكونوا من طلاّب الشرّ والشيطنة، لما

[ 305 ]

اتّبعتمونا بإشارة واحدة، ولماذا لم تستجيبوا لدعوة الأنبياء والصالحين؟ إذاً فالخلل فيكم أنتم، اذهبوا ولوموا أنفسكم والعنوها. ودليلنا واضح، إذ لم تكن لنا أي سلطة عليكم، ولم نضغط عليكم ونجبركم لعمل أي شيء (وما كان لنا عليكم من سلطان).

إنّما أنتم قوم طغاة ومعتدون، وأخلاقكم وطبيعتكم الظالمة صارت سبب تعاستكم (بل كنتم قوماً طاغين).

وكم هو مؤلم أن يرى الإنسان قائده وإمامه الذي كان قد إرتبط به قلبيّاً طوال عمره، قد تسبّب في تعاسته وشقائه ثمّ يتبرّأ منه، ويلقي كلّ الذنوب على عاتقه؟

في الحقيقة، إنّ كلا المجموعتين صادقة في قولها، فلا هؤلاء، أبرياء ولا اُولئك، فالغواية والشيطنة كانت من اُولئك، وتقبل الغواية والإستسلام كان من هؤلاء.

فجدالكم لا يؤدّي إلى نتيجة، وهنا يعترف أئمّة الضلال بهذه الحقيقة، ويقولون: بهذا الدليل ثبت أمر الله علينا، وصدر حكم العذاب بحقّ الجميع، وسينالنا جميعاً عذاب الله (فحقّ علينا قول ربّنا إنّا لذائقون).

إنّكم كنتم طاغين، وهذا هو مصير الطغاة، أمّا نحن فقد كنّا ضالّين ومضلّين.

فنحن أضللناكم كما كنّا نحن أنفسنا ضالّين (فأغويناكم إنّا كنّا غاوين).

بناء على ذلك ما الذي يثير العجب في أن نكون جميعاً شركاء في هذه المصائب وهذا العذاب؟

* * *

 

ملاحظتان

1 ـ السؤال أيضاً عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)

:

بالشكل الذي أشرنا إليه سابقاً، فإنّ روايات عديدة وردت في مصادر الشيعة وأهل السنّة بشأن تفسير هذه الآية (وقفوهم إنّهم مسؤولون) تبيّن أنّ من جملة

[ 306 ]

القضايا التي يسأل عنها المجرمون يوم القيامة هو ما يتعلّق بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

فالشيخ «الطوسي» نقل في كتابه (الأمالي) عن أنس بن مالك عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على جهنّم لم يجز عليه إلاّ من معه جواز فيه ولاية علي بن أبي طالب، وذلك قوله تعالى: (وقفوهم إنّهم مسؤولون)يعني عن ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام)»(1).

كما أكّد الكثير من كتب أهل السنّة على أنّ تفسير هذه الآية يخصّ السؤال بشأن ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد نقل هذه الرواية ابن عبّاس وأبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما نقلها رواة آخرون منهم:

ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة ـ الصفحة 147.

عبدالرزاق الحنبلي في كشف الغمّة ـ الصفحة 92.

العلاّمة سبط ابن الجوزي في التذكرة ـ الصفحة 21.

الآلوسي في روح المعاني في نهاية هذه الآية.

أبو نعيم الأصفهاني في كفاية الخصال ـ الصفحة 360، وغيرهم من الرواة(2).

وبالطبع، وكما قلنا مراراً، فإنّ مثل هذه الروايات لا تحدّ من المفهوم الواسع للآيات، بل تعكس ـ في الحقيقة ـ مصاديقها الواضحة، بناءً على ذلك فإنّه ليس هناك أي مانع من أن يسأل عن جميع العقائد، لكن بما أنّ للولاية موقعاً خاصّاً في بحث العقائد فقد إستند عليها.

وهناك نقطة جديرة بالإهتمام، وهي أنّ الولاية لا تعني علاقة عادية أو إعتقاداً جافّاً، وإنّما الهدف هو قبول قيادة الإمام علي (عليه السلام) في المسائل العقائدية والعلمية

________________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلّد الرابع، الصفحة 401.2 ـ لكسب المزيد من الإطلاع في هذا المجال يراجع إحقاق الحقّ، المجلّد الثالث (الطبعة الجديدة) صفحة (104)، والمراجعات، الصفحة 58 (المراجعة 12).

[ 307 ]

والأخلاقية والإجتماعية بعد النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد عكست خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) وكلماته في نهج البلاغة نماذج من تلك المسائل .. المسائل التي يعدّ الإيمان بها والعمل على أساسها وسيلة مؤثّرة للخروج من صفّ أهل جهنّم والإستقرار على صراط الله المستقيم.

 

2 ـ المتبوعون والتابعون الضالّون:

الآيات المذكورة أعلاه وآيات اُخرى في القرآن الكريم، تضمّنت إشارات ذات مغزى عن التخاصم الذي يقع بين الأتباع والمتبوعين يوم القيامة أو في جهنّم وهذا تحذير مفيد لكلّ من يضع عقله ودينه تحت تصرّف أئمّة الضلال.

ومع أنّ كلّ واحد يسعى في ذلك اليوم للتبرؤ من الآخر، وحتّى أنّه يحاول إلقاء تبعات إرتكاب الذنب عليه، ولكن بتلك الحال لا يستطيع أي واحد منهم إثبات براءته.

وشاهدنا في الآيات المذكورة أعلاه أنّ أئمّة الغواية والضلال يقولون بصراحة لتابعيهم: إنّ سبب تأثيرنا عليكم هو وجود روح الطغيان في داخلكم (بل كنتم قوماً طاغين).

هذا الطغيان هيّأ لديكم أرضية التأثّر بإغوائنا، وعبّر هذا الطريق تمكّنا من نقل الخرافات إليكم (فأغويناكم إنّا كنّا غاوين).

التوجّه الدقيق لمعنى (أغوى) والمشتقّة من (غي) يوضّح الموضوع، لأنّ كلمة (غيّ) كما يقول الراغب في (مفرداته) تعني الجهل الناشىء من المعتقدات الفاسدة، إذ أنّ أئمّة الضلال بقوا بعيدين عن معرفة حقائق الوجود والحياة، ونقلوا جهلهم ومعتقداتهم الفاسدة إلى تابعيهم الذين كانوا يحملون روح الطغيان في مقابل أمر الباري عزّوجلّ.

وبهذا الدليل يعترفون هناك بأنّهم هم وتابعوهم يستحقّون العذاب، (فحقّ علينا

[ 308 ]

قول ربّنا إنّا لذائقون).

وكلمة (ربّ) هنا لها مغزى كبير، إذ أنّ الإنسان يصل إلى درجة بحيث أنّ الله الذي هو مالك ذلك الإنسان ومربّيه ولا يريد له سوى الخير والسعادة يأمر بالقائه في أشدّ العذاب!! وهذا أيضاً من شؤون ربوبيته.

على أيّة حال فإنّ ذلك اليوم هو حقّاً (يوم الحسرة) حيث يندم فيه أئمّة الضلال وتابعوهم على أفعالهم، ولكن ما الفائدة؟ فليس هناك أي طريق للرجعة.

 

* * *

[ 309 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالُْمجْرِمِينَ(34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا ءَالِهَتِنَا لِشَاعِر مَّجْنُون(36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الاَْلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الُْمخْلَصِينَ (40)

 

التّفسير

مصير أئمّة الضلال وأتباعهم:

الآيات السابقة بحثت موضوع التخاصم الذي يدور بين أئمّة الضلال وتابعيهم يوم القيامة قرب جهنّم، أمّا الآيات أعلاه فقد وضّحت ـ في موضع واحد ـ مصير المجموعتين، وشرحت أسباب تعاستهم بشكل يشخّص المرض ويصف الدواء الخاص لمعالجته.

ففي البداية تقول: إنّ التابع والمتبوع والإمام والمأموم مشتركون في ذلك اليوم

[ 310 ]

بالعذاب الإلهي (فإنّهم يومئذ في العذاب مشتركون).

وبالطبع فإنّ إشتراكهم في العذاب لا يمنع من وجود إختلاف في المكان الذي سيلقون به جهنّم، إضافةً إلى إختلاف نوع العذاب الإلهي. إذ من الطبيعي أنّ الذي يتسبّب في إنحراف الآلاف من البشر لا يتساوى عذابه مع فرد ضالّ عادي، وهذه الآية تشبه الآية (48) في سورة غافر والتي يقول فيها المستكبرون لضعفاء الإيمان بعد محاججة ومخاصمة تجري فيما بينهم: إنّنا جميعاً في جهنّم، لأنّ الله قد حكم بالعدل بين العباد (قال الذين استكبروا إنّا كلّ فيها إنّ الله قد حكم بين العباد).

وهذه الآية لا تنافي الآية (13) من سورة العنكبوت، والتي يقول فيها الباري عزّوجلّ (وليحملنّ أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) أي إنّهم يحملون يوم القيامة أحمالهم الثقيلة، وأحمالا اُخرى اُضيفت إلى أحمالهم الثقيلة، وذلك أثر إغوائهم وإضلالهم للآخرين وتشجيعهم على إرتكاب الذنب.

وللتأكيد أكثر على تحقّق العذاب تقول الآية التي تلتها (إنّا كذلك نفعل بالمجرمين) إنّ هذه هي سنّتنا، السنّة المستمدّة من قانون العدالة.

ثمّ توضّح السبب الرئيسي الكامن وراء تعاسة اُولئك، وتقول: (إنّهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلاّ الله يستكبرون).

نعم، إنّ التكبّر والغرور، وعدم الإنصياع للحقّ، والعمل بالعادات الخاطئة والتقاليد الباطلة بإصرار ولجاجة، والنظر إلى كلّ شيء بإستخفاف وإستحقار، تؤدّي جميعاً إلى إنحراف الإنسان.

فروح الإستكبار يقابلها الخضوع والإستسلام للحقّ والذي هو الإسلام الحقيقي، الإستكبار الذي هو أساس الظلام، فيما أنّ الخضوع والإستسلام هو أساس السعادة.

والذي يثير الإهتمام أنّ بعض آيات القرآن الكريم توضّح بصورة مباشرة

[ 311 ]

العذاب الإلهي الذي سيعذّب به المستكبرون (فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحقّ).(1)

لكن هؤلاء برّروا إرتكابهم للذنوب الكبيرة بتبريرات أسوأ من ذنوبهم، كقولهم: هل نترك آلهتنا وأصنامنا من أجل شاعر مجنون (ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون).

لقد أطلقوا على النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كلمة (شاعر) لأنّ كلامه كان ينفذ إلى قلوبهم ويحرّك عواطفهم، فأحياناً كان يتكلّم إليهم بكلام يفوق أفضل الأشعار وزناً، في الوقت الذي لم يكن حديثه شعراً، وكانوا يعتبرونه (مجنوناً) لكونه لم يتلوّن بلون المحيط الذي يعيش فيه، ووقف موقفاً صلباً أمام العقائد الخرافية التي يعتقد بها المجتمع المتعصّب حينذاك، الموقف الذي اعتبره المجتمع الضالّ في ذاك الوقت نوع من الإنتحار الجنوني، في الوقت الذي كان أكبر فخر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، هو عدم إستسلامه للوضع السائد حينذاك.

وهنا تدخل القرآن لردّ إدّعاءاتهم التافهة والدفاع عن مقام الوحي ورسالة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، عندما قال: (بل جاء بالحقّ وصدّق المرسلين).

فمحتوى كتابه من جهة، وتوافق دعوته مع دعوات الأنبياء السابقين من جهة اُخرى، هي خير دليل على صدق حديثه.

وأمّا أنتم أيّها المستكبرون الضالّون، فإنّكم ستذوقون العذاب الإلهي الأليم (إنّكم لذائقوا العذاب الأليم).

ولا تتصوّروا أنّ الله منتقم، وأنّه يريد الإنتقام لنبيّه منكم، كلاّ ليس كذلك (وما تجزون إلاّ ما كنتم تعملون).

وحقيقة الأمر أنّ أعمالكم سوف تتجسّد أمامكم، لتبقى معكم لتؤذيكم وتعذّبكم، وجزاؤكم إنّما هو نتيجة أعمالكم وتكبّركم وكفركم وعدم إيمانكم بالله

________________________________

1 ـ الأحقاف، 20.

[ 312 ]

وزعمكم بأنّ آيات الله هي (شعر) ورسوله (مجنون) إضافةً إلى ظلمكم وإرتكابكم القبائح.

آخر آية في هذا البحث، والتي هي ـ في الحقيقة ـ مقدّمة للبحث المقبل، تستثني مجموعة من العذاب، وهي مجموعة عباد الله المخلصين (إلاّ عباد الله المخلصين)(1).

وكلمة (عباد الله) يمكنها لوحدها أن تبيّن إرتباط هذه المجموعة بالله سبحانه وتعالى، وعندما تضاف إليها كلمة (مخلصين) فإنّها تعطي لتلك الكلمة عمقاً وحياةً، و «مخلَص» (بفتح اللام) جاءت بصيغة اسم مفعول، وتعني الشخص الذي أخلصه الله سبحانه وتعالى لنفسه، أخلصه من كلّ أشكال الشرك والرياء ومن وساوس الشياطين وهوى النفس.

نعم فهذه المجموعة لا تحاسب على أعمالها، وإنّما يعاملها الله سبحانه وتعالى بفضله وكرمه، ويمنحها من الثواب بغير حساب.

* * *

 

ملاحظة

الإمعان في آيات القرآن الكريم يبيّن أنّ كلمة (مخلِص) بكسر اللام، قد استخدمت بكثرة في المواقع التي تتحدّث عن حالة الإنسان الذي يعيش مراحل بناء نفسه، ولم يصل إلى التكامل، أمّا كلمة (مخلَص) بفتح اللام، فتطلق على مرحلة وصل فيها الإنسان إلى مرتبة يصان فيها من نفوذ وساوس الشيطان إلى قلبه، بعد أن إجتاز مرحلة جهاد النفس ومراحل المعرفة والإيمان، كما أنّ القرآن ينقل عن إبليس الخطاب التالي لله سبحانه وتعالى (فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين).

هذه الآية تكرّرت عدّة مرّات في القرآن، وهي توضّح عظمة مقام المخلصين،

________________________________

1 ـ العبارة هذه (استثناء منقطع) من ضمير (تجزون) أو (لذائقو).

[ 313 ]

مقام يوسف الصدّيق بعد أن عبر ساحة الإختبار الكبيرة بنجاح، وأمثاله من المخلصين (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنّه من عبادنا المخلصين) أي نحن أظهرنا البراهين ليوسف لنبعد عنه الفحشاء والسوء، لأنّه من عبادنا المخلصين (سورة يوسف ـ 24).

فمقام المخلَصين لا يناله إلاّ من إنتصر في الجهاد الأكبر، وشمله اللطف الإلهي بإزالة كلّ شيء غير خالص من وجوده، ولا تبقى فيه سوى النفس الطاهرة الخالصة ـ كالذهب الخالص ـ عند إذابتها في أفران الحوادث والإختبار. وهنا فإنّ مكافأتهم لا تتمّ وفق معيار أعمالهم، وإنّما معيار مكافأتهم هو الفضل والرحمة الإلهيّة.

والعلاّمة الطباطبائي رحمة الله عليه يقول بهذا الشأن:

«يقول الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، إنّ كافّة الناس يأخذون مكافأة أعمالهم إلاّ العباد المخلصين له، لأنّهم يدركون بأنّهم عبيد الله، والعبد هو الذي  لا يملك لنفسه شيئاً من إرادة ولا عمل، فهؤلاء لا يريدون إلاّ ما أراده الله ولا يعملون إلاّ له. ولكونهم من المخلصين، فقد أخلصهم لنفسه، ولا تعلّق لهم بشيء غير ذات الله تعالى. فقلوبهم خالية من حبّ الدنيا وزخارفها، وليس فيها إلاّ الله سبحانه.

ومن المعلوم أنّ من كانت هذه صفته كان التذاذه وتنعّمه بغير ما يلتذّ ويتنعّم به غيره، وإرتزاقه بغير ما يرتزق به سواه، وإن شاركهم في ضروريات المأكل والمشرب، ومن هنا يتأيّد أنّ المراد بقوله: (اُولئك لهم رزق معلوم) الإشارة إلى أنّ رزقهم في الجنّة رزق خاص لا يشبه غيره، (وأنّهم يرزقون من مظاهر ذات الله الطاهرة، وقلوبهم متعطّشة إشتياقاً لله، وغارقة في العشق والوصول إلى الله)(1).

* * *

________________________________

1 ـ الميزان، المجلّد 17، الصفحة 141.

[ 314 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

اُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ (41) فَوَكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ (42) فِى جَنَّـتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُر مُّتَقَـبِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْس مِّن مَّعِين (45) بَيْضَاءَ لَذَّة لِّلشَّـرِبِينَ (46) لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ (47) وَعِندَهُمْ قَـصِرَتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ (49)

 

التّفسير

جوانب من النعم لأهل الجنّة:

الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدّثت عن عباد الله المخلصين، أمّا آيات بحثنا هذا فإنّها تستعرض العطايا والنعم غير المحدودة التي يهبها الله سبحانه وتعالى لأهل الجنّة، ويمكن توضيحها في سبعة أقسام:

تقول الآية أوّلا: إنّ لهم رزقاً معلوماً ومعيّناً (اُولئك لهم رزق معلوم).

فهل هذه هي خلاصة لتلك النعم التي ستبيّنها الآيات فيما بعد، وتوضيح للنعم التي ستغدق عليهم بصورة خفيّة.

أو إشارة إلى نعم معنوية غير معروفة وغير قابلة للوصف، تتصدّر نعم أهل

[ 315 ]

الجنّة.

بعض المفسّرين فسّرها بالشكل الأوّل، فيما فسّرها آخرون بالشكل الثاني، وتناسب البحث يتواءم مع المعنى الثاني، وبهذا فإنّ النعمة الاُولى من النعم السبع ـ التي وردت في آيات بحثنا ـ هي الهبات المعنوية والمتع الروحية ودرك مظاهر ذات الله، وتناول الشراب الطاهر والغمرة في عشق الله. اللذّة التي لا يمكن أن يدركها العبد ما لم يتذوّقها ويعيش رحابها.

والسبب في أنّ العطايا الماديّة في الجنّة قد ذُكرت في آيات القرآن الكريم بالتفصيل والهبات المعنوية والملذّات الروحية استعرضت بصورة خفيّة، فهو أنّ الأُولى قابلة للوصف دون الثانية.

وأمّا بشأن معنى (رزق معلوم) فلقد قيل عنها الكثير، هل هي بمعنى معلوم الوقت، أم بقاءه ودوامه، أم سائر خصائصه؟ ولكن كما قلنا قبل قليل فانّ «معلوم» تعبير خفي ومجمل عن المواهب التي لا تقبل الوصف.

ثمّ ينتقل إلى بيان نعم اُخرى، ويعدّد قبل كلّ شيء بعض نعم الجنّة التي تقدّم لأهل الجنّة بكل إحترام وتكريم (فواكه وهم مكرمون).

وليس بتلك الصورة التي يرمى فيها الطعام أمام الحيوان لتناوله، وإنّما يقدّم لهم الطعام بكلّ إحترام وكأنّهم ضيوف أعزّاء.

هنا نترك الحديث عن أنواع الفواكه التي تقدّم لأهل الجنّة باحترام وتجليل، لنتطرّق إلى أماكنهم في الجنّة، حيث أنّ القرآن الكريم يقول: إنّ أماكنهم في حدائق خضراء مملوءة بنعم الجنّة (في جنّات النعيم).

فأي نعمة يتمنّونها موجودة هناك، وكلّ ما يطلبون يجدونه أمامهم.

وأشارت الآيات إلى النعمة الرابعة، وهي إستئناس أهل الجنّة بمجالس السمر التي يعقدونها مع أصدقائهم في جوّ ملؤه الصفاء، إذ يجلسون على سرر متقابلة وينظر كلّ منهم إلى الآخر (على سرر متقابلين).

[ 316 ]

يتذاكرون في كلّ شيء، فمرّة تراهم يتحدّثون عن ماضيهم في الدنيا، واُخرى عن النعم العظيمة التي أغدقها عليهم الباري عزّوجلّ في الآخرة، وأحياناً يستعرضون صفات الجمال والجلال عند الله، وفي أوقات يتحدّثون عن مقام الأولياء وكراماتهم، ويتذاكرون قضايا اُخرى قد لا ندركها نحن المسجونون في هذه الدنيا.

«سرر» هي جمع (سرير) وهي الأسرّة التي يجلس عليها الناس في مجالس سمرهم، كما أنّ لهذه الكلمة معان أوسع، حتّى أنّها تطلق أحياناً على تابوت الميّت، ويحتمل أن يكون إطلاق هذه التسمية على تابوت الميّت برجاء أن يكون التابوت مركب بهجة يسير به إلى الرحمة الإلهية وجنّة الخلد.

أمّا القسم الخامس فيتحدّث عن نعمة اُخرى من النعم التي تغدق على أهل الجنّة، إذ تطرّق إلى الشراب الطهور الذي يطاف به عليهم بكؤوس مملوءة بأنواع الخمور الطاهرة، ومتى ما أرادوا فإنّهم يسقون من ذلك الخمر ليغرقوا في عالم من النشاط والروحية (يطاف عليهم بكأس من معين).

وهذه الكؤوس ليست في مكان معيّن يذهبون إليها لأخذها، وإنّما يطاف بها عليهم (يطاف عليهم).

كلمة (كأس) يطلقها أهل اللغة على إناء الشراب المملوء، فيما يطلقون كلمة (قدح) عليه إن كان خالياً، وقال الراغب في مفرداته: الكأس الإناء بما فيه من الشراب.

أمّا كلمة (معين) مشتقّة من (معن) على وزن (صحن) وتعني الجاري، إشارة إلى أنّ هناك عيوناً جارية من الخمر الطاهر، تملأ منها ـ في كلّ لحظة ـ الكؤوس، ومن ثمّ يطاف بها على أهل الجنّة، وهذه العيون الجارية من الخمر الطاهر لا تنضب  ولا تفسد، إضافةً إلى أنّ الحصول عليها لا يحتاج إلى أي مشقّة أو تعب.

ثمّ ينتقل الحديث إلى وصف كؤوس الشراب، إذ يقول: إنّها بيضاء اللون

[ 317 ]

ومتلألئة وتعطي لذّة للشاربين بها (بيضاء لذّة للشاربين).

وكلمة (بيضاء) إعتبرها بعض المفسّرين صفة لكؤوس الشراب، فيما إعتبرها البعض الآخر صفة للشراب الطهور، ويعني أنّ ذلك الشراب ليس كالأشربة الملوّنة في الدنيا، بل إنّها أشربة طاهرة، خالية من الألوان الشيطانية، وبيضاء اللون شفّافة.

وبالطبع فإنّ المعنى الثاني أنسب لجملة (لذّة للشاربين).

الآية السابقة التي تطرّقت إلى الشراب والكؤوس ربّما تجلب إلى الأذهان مفاهيم اُخرى، أمّا الآية التي تليها فتطرد في جملة قصيرة كافّة تلك المفاهيم عن الأذهان (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون).

 

أي أنّ ذلك الخمر هو شراب طاهر لا يفسد العقل، ولا يؤدّي إلى السكر والغفلة، وإنّما يؤدّي إلى اليقظة والنشاط وفيه متعة للروح.

وكلمة (غول) على وزن (قول) تعني الفساد الذي ينفذ إلى الشيء بصورة غير محسوسة، ولهذا يقال في الأدب العربي لعمليات القتل التي تتمّ بصورة سريّة أو خفية بأنّه (قتل غيلة).

وكلمة (ينزفون) من مادّة (نزف) على وزن (حذف) وتعني فقدان الشيء تدريجيّاً، وعندما تستخدم هذه الكلمة بشأن آبار المياه، فإنّها تعطي معنى إستخراج الماء من البئر تدريجيّاً حتّى ينضب، ويقال «نزيف الدم» وهو خروج الدم من الجسد تدريجيّاً حتّى ينتهي تماماً.

على أيّة حال، فإنّ المقصود في هذه الآية ذهاب العقل تدريجيّاً والوصول إلى حالة السكرة، أمّا خمر الجنّة الطاهر فإنّه لا يسكر على الإطلاق، إذ لا يذهب بالعقل ولا يسبّب أي مضارّ.

هاتان العبارتان تتطرّقان في آن واحد ـ بصورة ضمنية ودقيقة ـ إلى الشراب في عالم الدنيا والذي ينفذ إلى حياة الإنسان بصورة تدريجية وسرية، ويوجد عنده حالات الفساد والضياع، حيث أنّها لا تؤدّي بعقل الإنسان وأعصابه إلى

[ 318 ]

الدمار فحسب، بل إنّ تأثيرها السلبي والذي لا يمكن إنكاره يمتدّ إلى جميع أعضاء جسم الإنسان، إلى القلب وحتّى الشرايين، وإلى المعدة والكلية والكبد، وأحياناً تودي بحياة الإنسان وكأنّها تقتله غيلة، وكذلك تأثيرها على عقل وذكاء الإنسان يشبه عملية سحب ماء البئر تدريجيّاً حتّى يجفّ.

ولكن الشراب الطهور الإلهي في يوم القيامة لا يحمل هذه الصفات(1).

أمّا القسم السادس، فإنّه يشير إلى الحور العين في جنّات النعيم (وعندهم قاصرات الطرف عين)، أي نرزقهم زوجات لا يعشقن سوى أزواجهن ويقصرن طرفهن عليهم فقط، ولهذه الزوجات أعيناً واسعة وجميلة.

(طرف) في الأصل تعني جفن العين، وهذه الكلمة كناية عن النظر، إذ أنّ أجفان العين تتحرّك عندما ينظر الإنسان إلى شيء ما، إذن فإنّ عبارة (قاصرات الطرف) تعني النساء اللواتي ينظرن نظرة قصيرة، كما أنّ هناك تفسيرات متعدّدة وردت بهذا الشأن يمكن درجها كالتالي:

الأوّل: هو أنّهن ينظرن إلى أزواجهنّ فقط، ولا تمتد أبصارهنّ إلى سواهم.

والثاني: هذا التعبير كناية عن كونهنّ لا يعشقن إلاّ أزواجهنّ، وقلوبهم متيّمة بمحبّتهم، ولا توجد محبّة اُخرى في قلوبهنّ، وهذا هو أكبر إمتياز للمرأة التي تحبّ زوجها وتتأمّل به.

والتّفسير الثالث: هو أنّ لهنّ أعين سكرى، هذه الحالة الخاصّة التي طالما وصف فيها الشعراء جمال العين في قصائدهم(2).

________________________________

1 ـ الضميران (فيها) و (عنها) يعودان على «الخمر» التي لم ترد بصورة مباشرة في الجملة، لكن ذلك يتّضح من سياق الكلام، وكما هو معروف فإنّ الخمرة هي مؤنث مجازي و (عن) في (عنها) إنّما هي لبيان العلّة، وتعني أنّ هذه الخمرة لا تسكر هؤلاء ولا تفقد عقلهم وشعورهم، ويجب الإلتفات إلى أنّ للخمر معنيان مشتركان، إذ هي أحياناً تطلق على شراب يثير الفساد ويذهب بالعقل (إنّما الخمر والميسر ...) (المائدة ـ 90)، وأحياناً تطلق على الشراب الطاهر الذي يعطى لعباد الله المخلصين في جنان الخلد (وأنهار من خمر لذّة للشاربين) (محمّد ـ 15).2 ـ روح المعاني، المجلّد 33، صفحة 81.

[ 319 ]

وبالطبع فإنّ المعنى الأوّل والثاني يبدوان أنسب، مع أنّه لا مانع من الجمع بين المعاني.

كلمة (عِين) على وزن (سين) وجمعها (عيناء) وتعني المرأة ذات العين الواسعة.

وأخيراً، فإنّ آخر آية في بحثنا هذا تعطينا وصفاً آخر لزوجات الجنّة، إذ توضّح طهارتهنّ وقداستهن من خلال هذه العبارة (كأنّهنّ بيض مكنون) أي إنّهن نظيفات وظريفات، وذوات أجسام بيضاء صافية كالبيض الذي كنه الريش في العشّ فلم تمسّه الأيدي ولم يصبه الغبار.

(بيض) جمع بيضة.

(مكنون) مشتقّة من (كن) على وزن (جنّ) وتعني المستور بالإدّخار.

هذا التشبيه القرآني يتّضح بصورة جيّدة إذا نظر الإنسان إلى البيضة في اللحظة التي تنفصل فيها عن الدجاجة، ولم تمسّها بعد يد الإنسان لتستقرّ تحت جناح الدجاجة وريشها، إذ تبدو عليها شفافية وصفاء عجيبان.

وبعض المفسّرين يرى بأنّ كلمة (مكنون) تعني المحتويات الداخلية للبيضة المختفية تحت القشرة، وفي الواقع فإنّ التشبيه المذكور يشير إلى بيضة مطبوخة قد اُزيلت قشرتها الخارجية لتوّها، وقد بدا عليها البياض اللامع والنعومة واللطافة.

الملاحظ أنّ عبارات القرآن المجيد الخاصّة بتوضيح الحقائق، عميقة ومفعمة بالمعاني، فعبارة قصيرة ولطيفة واحدة توضّح حقائق كثيرة وباُسلوب لطيف.

* * *

 

ملاحظة

إلقاء نظرة عامّة على ما جاء في الآيات السابقة:

الهبات التي منّ الله تعالى بها على أهل الجنّة ـ المذكورة في الآيات السابقة ـ هي مجموعة من الهبات الماديّة والمعنوية، ونستشف من عبارة (اُولئك لهم رزق

[ 320 ]

معلوم) أنّ أوّل هبة هي تلك المتعلّقة بالهبات المعنوية والروحية التي يعجز اللسان عن وصفها.

أمّا الأقسام الستّة الاُخرى وهي الفواكه، والشراب الطاهر، والزوجات الصالحات، والإحترام الكامل، والمسكن الحسن، والأصدقاء الجيدون في الجنّة، فقد أعطت أبعاداً مختلفة لنعم الجنّة، والتي غالباً ما تمزج بالعطايا والمنح المادية والمعنوية.

لكن كلّ ما طرحناه كان بلغتنا التي لا تستطيع أبداً أن تعكس كلّ جوانب النعم في الجنّة، ومن الطبيعي فإنّنا نحتاج إلى حواس سمع ونظر وإدراك اُخرى، إضافةً إلى ألفاظ وجمل وكلام آخر، كي نتمكّن من شرح هذه الاُمور.

وبعبارة اُخرى، فإنّ حقيقة النعم التي تغدق على أهل الجنّة خفيّة عن أهل الدنيا، إلاّ إذا ذهبوا إلى هناك وشاهدوها عن قرب ليدركوها.

على أيّة حال، فإنّ (عباد الله المخلصين) والذين وصلوا في علومهم وإيمانهم إلى مرحلة الكمال، أعزّاء عند الله، ويشملهم اللطف الإلهي بصورة غير محدودة، ومهما تصوّرنا علو مقامهم، فإنّهم أفضل وأعلى من ذلك.

 

* * *

[ 321 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54)فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ(56) وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنتُ مِنَ الُْمحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ(58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاُْولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَـمِلُونَ (61)

 

التّفسير

البحث عن رفيق السوء:

عباد الله المخلصون الذين إستعرضت الآيات السابقة النعم المادية والمعنوية التي أغدقت عليهم، كالفاكهة، والحور، وكأس المعين الذي يطاف به عليهم، والسرر المتقابلة التي يجلسون عليها، والأصدقاء الطيبين الذين يجالسونهم ويتحدّثون معهم، وفجأة ـ خلال جلسات سمرهم في الجنّة ـ يتذكّرون أصدقائهم

[ 322 ]

في الدنيا، أصدقائهم الذين إنفصلوا عنهم في الطريق، ولم يجدوا لهم أي أثر في الجنّة، فيسعون إلى معرفة مصيرهم.

نعم، ففي الوقت الذي كانوا فيه منشغلين بالحديث والسؤال عن أحوال بعضهم البعض، (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون).

فجأةً خطر في ذهن أحدهم أمر، فالتفت إلى أصحابه قائلا: لقد كان لي صديق في الدنيا (قال قائل منهم إنّي كان لي قرين).

ومع الأسف، فإنّه إنحرف عن الطريق الصحيح، وصار منكراً ليوم البعث، وكان دائماً يقول لي: هل تصدّق هذا الكلام وتعتقد به؟ (يقول أإنّك لمن المصدّقين).

هل أنّنا إذا متنا وكنا تراباً وعظاماً نحيا مرّة اُخرى، لنساق إلى الحساب، والجزاء على ما اقترفناه من أعمال؟ إنّ هذا ممّا لا ينبغي أن يصدق: (أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أإنّا لمدينون)(1).

وهنا يخاطب من كان يتحدّث معهم من أهل الجنّة، بالقول: ليتني أعرف أين هو الآن؟ وفي أيّة ظروف يعيش؟ فمكانه خال بيننا ..

ويضيف: أيّها الأصدقاء، هل تستطيعون البحث عنه، ومعرفة حاله، (قال هل أنتم مطّلعون)(2).

وأثناء بحثه عن قرينه وصديقه ينظر إلى جهنّم، ويرى فجأةً صديقه وسط جهنّم (فاطّلع فرآه في سواء الجحيم)(3).

فيخاطبه قائلا: أقسم بالله لقد كدت أن تهلكني وتسقطني فيما سقطت فيه (قال تالله إن كدت لتردين)(4).

________________________________

1 ـ (مدينون) من مادّة (دين) وتعني الجزاء، وهنا تعني: هل أنّنا سنجزى.2 ـ (مطّلعون) من مادّة (إطّلاع) وتعني التفتيش والبحث، والإشراف على شيء من مكان عال، وأخذ المعلومات.3 ـ (سواء) تعني الوسط.4 ـ (تردين) من مادّة (إرداء) وتعني السقوط من مكان عال، وهلاك الساقط.

[ 323 ]

لقد أوشكت أن تؤثّر على صفاء قلبي بوساوسك، وأن تزجّ بي في الخطّ المنحرف الذي كنت فيه، فلولا لطف الله الذي منعني من ذلك ونعمته التي سارعت لمساعدتي، لكنت اليوم من المحضرين للعذاب مثلك في نار جهنّم (ولولا نعمة ربّي لكنت من المحضرين).

فالتوفيق الإلهي كان رفيق دربي، ولطف هدايته كان الموجّه لي.

وهنا يلقي نظرة اُخرى إلى صديقه في جهنّم، ويقول له موبّخاً إيّاه: ألم تكن أنت القائل لي في الدنيا بأنّنا لا نموت (أفما نحن بميّتين) سوى مرّة واحدة في الدنيا، وبعدها لا حياة اُخرى ولا عذاب (إلاّ موتتنا الاُولى وما نحن بمعذّبين).

الآن انظر ولاحظ الخطأ الكبير الذي وقعت فيه! فبعد الموت كانت هذه الحياة وهكذا ثواب وعقاب، والآن توضّحت لك كافة الحقائق، ولكن ما الفائدة فليس هناك طريق للعودة.

طبقاً لتفسير الآيتين الأخيرتين، فإنّ حديث الذي هو في الجنّة مع صديقه الذي في جهنّم، كان مركزاً على تذكيره بإنكاره للمعاد في الحياة الدنيا.

لكن بعض المفسّرين يحتملون وجود تفسير آخر للآيتين المذكورتين، وهو أنّه بعد إنتهاء حديث الذي هو في الجنّة مع صديقه الذي في جهنّم، يعود إلى أصحابه في الجنّة للتسامر فيما بينهم، فيقول أحدهم من شدّة الفرح: أحقّاً أنّنا لن نموت مرّة اُخرى؟ وأنّنا سنعيش هنا خالدين؟ وهل أنّه بعد الموت الأوّل لا يوجد موت آخر، وتبقى هذه النعم الإلهيّة معنا، وما نحن بمعذّبين؟

بالطبع هذا الكلام ليس مصدره الشكّ والتردّد، إنّما هو نتيجة شدّة الفرح والسرور، فمثلهم كمثل الإنسان الذي يحصل بعد مدّة من الأمل والإنتظار على بيت واسع وفخم، فيقول وهو متعجّب: كلّ هذا لي؟ ياربّي! ما هذه النعمة! وهل ستبقى عندي؟

على كلّ حال، هنا اختتم الحديث بجملة عميقة المعاني وحسّاسة ومؤثّرة جدّاً،

[ 324 ]

ومؤكّدة بأنواع التأكيدات (إنّ هذا لهو الفوز العظيم).

ما أعظم هذا الفوز الذي يغرق فيه الإنسان بنعمة الخلود والحياة الأبدية، وتشمله الألطاف الإلهية؟ وماذا يتصوّر أفضل وأعظم من ذلك؟

ثمّ يقول تبارك وتعالى في ختام البحث جملة واحدة قصيرة توقظ القلوب وتهزّ الأعماق، (لمثل هذا فليعمل العاملون) أي لمثل هذا فليعمل الناس، ومن أجل نيل هذه النعم فليسع الساعون.

بعض المفسّرون يحتملون في كون الآية الأخيرة أنّها من كلام أصحاب الجنّة، وهذا الإحتمال مستبعد جدّاً، لأنّ الإنسان في ذلك اليوم غير مكلّف، وبعبارة اُخرى لا يوجد أي تكليف في ذلك اليوم حتّى يستنتج من الكلام أنّه تشجيع للآخرين، في الوقت الذي يوضّح فيه ظاهر الآية إنّها إستنتاج للآيات السابقة، وأنّها تدفع الناس إلى الإيمان والتوجّه إلى العمل، لذا كان من المناسب أن يورد الباري عزّوجلّ هذا الحديث في نهاية هذا البحث.

* * *

 

بحوث

1 ـ الرابطة بين أهل الجنّة وأهل النار

يستشف من الآيات المذكورة أعلاه، وجود نوع من الرابطة بين أهل الجنّة وأهل النار، فكأنّ أهل الجنّة ـ الذين هم في مرتبة عُليا ـ يرون أهل النار ـ الذين هم في الأسفل ـ ]وقد استفيد هنا من عبارة (فاطّلع) والتي تعني الإشراف من الأعلى على الأسفل[.

وبالطبع فإنّ هذا ليس بدليل على كون الفاصل الموجود بين الجنّة والنار قليلا، فلربّما يمنحون قوّة نظر خارقة تغدو أمامها قضيّة المكان والفاصل معدومة.

[ 325 ]

وقد جاء في كلمات بعض المفسّرين أنّ للجنّة كوة ينظر منها أهل الجنّة إلى أهل النّار.

وآيات سورة الأعراف توضّح بصورة جيّدة الرابطة الموجودة بين الفريقين (ونادى أصحاب الجنّة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّاً فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً قالوا نعم فأذّن مؤذّن بينهم أن لعنة الله على الظالمين)،(1) كما يمكن الإستفادة من الآية (46) في سورة الأعراف بهذا الشأن (وبينهما حجاب) أي أنّ هناك حجاب بين أهل الجنّة وأهل النار.

وكلمة (نادى) يستخدمها ـ بصورة طبيعية ـ المتكلّم عند بعد، وتوضّح في الآية مكان ومرتبة الفريقين.

على أيّة حال، وكما ذكرنا عدّة مرّات، فإنّ أوضاع وأحوال يوم القيامة تختلف كثيراً عن أوضاع عالمنا الحالي، ونحن لا نستطيع تقييم الأوضاع هناك وفق معايير عالمنا.

 

2 ـ بحقّ من نزلت هذه الآيات

بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ سبب نزول الآيات المذكورة أعلاه هو ما ورد في سورة الكهف كمثال، (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنّتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً ...).(2)

وقد جاء في هذه الآيات أنّ أحد الشخصين كان متكبّراً ومغروراً جدّاً، إضافةً إلى أنّه كان ينكر المعاد، والآخر كان مؤمن يعتقد بالقيامة، وفيما بعد نزل العذاب الإلهي على الشخص المغرور الكافر وهو في هذه الدنيا، إذ فقد ثروته وأحاط به

________________________________

1 ـ الأعراف، 44.2 ـ سورة الكهف، الآيات 32 إلى 43.

[ 326 ]

البلاء من كلّ جانب(1).

لكن سياق آيات بحثنا هذا يختلف مع ما هي عليه آيات سورة الكهف، ويبيّن وجود فارق بين الحادثتين.

ويرى البعض الآخر: إنّها تخصّ شخصين شريكين أو صديقين كانا يمتلكان ثروة كبيرة، أحدهما كان ينفق بسخاء في سبيل الله، أمّا الثاني الذي كان لا يؤمن بشيء ـ فقد إمتنع عن الإنفاق، وبعد مدّة من الزمن أُصيب المنفق بفاقة مالية، وتعرّض لإستهزاء صديقه، والذي قال له بلغة السخرية، (أإنّك لمن المصدّقين)(2).

فإن كانت أسباب النّزول تخصّ هذه الحادثة، إذاً علينا قراءة كلمة (مصدّقين) بتشديد (الصاد) والتي تعني هنا دفع الصدقة والإنفاق.

في حين أنّ المشهور بين القرّاء قراءة كلمة (مصدّقين) بدون تشديد (الصاد) وعلى هذا فإنّ سبب النّزول الآنف الذكر لا يتلاءم والقراءة المشهورة.

 

3 ـ لنيل مثل هذه النعم علينا المثابرة

هل من الصحيح أن يصرف الإنسان رأس مال عمره والقابليات الاُخرى والعطايا الإلهية في موارد هي كالفقاعات التي لا تدوم سوى لحظات فوق الماء؟ متاع بخس غير دائم، متاع مليء بالآفات والمشاكل!!.

أو يستثمر هذه القوى العظيمة في مجال يؤدّي إلى حياة خالدة ونعم دائمة، ومرضاة الله سبحانه وتعالى؟

فما أجمل التعبير الذي صاغته الآيات القرآنية المذكورة أعلاه، عندما دعت المؤمنين إلى هذا الهدف، أي نيل الجنان المملوءة بالملذّات الروحية والجسمية ـ

________________________________

1 ـ تفسير فخر الرازي، المجلّد 26، الصفحة 139.2 ـ روح المعاني، المجلّد 23، الصفحة 83.

[ 327 ]

التي تشمل الشراب الطاهر الذي يغرق الإنسان في الظلّ الملكوتي، والقرناء والأصدقاء الطيبين ذوي القلوب الصافية الذين تزيل مجالستهم كلّ أشكال الغمّ. وليس فيها همّ ولا غمّ ولا مشكلة.

نعم فمن يريد أن يكسب الجنان فعليه أن يسعى ويعمل.

 

* * *


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=843
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28