• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثالث عشر ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة السجدة من أول السورة ـ آية 14 من ( ص 87 ـ 120 ) .

سورة السجدة من أول السورة ـ آية 14 من ( ص 87 ـ 120 )

سورة السَّجدَة 

مكّيّة وعددُ آياتِها ثلاثونَ آية

 

[  87 ]

«سورة السجدة»

أسماء هذه السورة:

المعروف أنّ هذه السورة نزلت في مكّة، إلاّ أنّ البعض الآخر يرى أنّ الآيات 18 ـ 20 مدنيّة، في حين لا تلاحظ أيّة قرينة أو علامة في هذه الآيات على كونها مدنية.

اسم هذه السورة في بعض الرّوايات، وكذلك المشهور على لسان المفسّرين: (سورة السجدة)، أو (الم السجدة)، ويسمّونها أحياناً (سجدة لقمان) لتمييزها عن سورة (حم السجدة)، لأنّها جاءت بعد سورة لقمان.

وذكرت في بعض الرّوايات باسم (الم تنزيل).

وذكر «الفخر الرازي» و «الآلوسي» أنّ من جملة أسمائها (سورة المضاجع)، وهو إشارة إلى الآية (16) من هذه السورة: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع ...).

 

* * *

 

[  88 ]

فضل تلاوة سورة السجدة:

ورد في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «من قرأ الم تنزيل، وتبارك الذي بيده الملك، فكأنّما أحيى ليلة القدر»(1).

وروي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) في حديث آخر: «من قرأ سورة السجدة في كلّ ليلة جمعة أعطاه الله كتابه بيمينه، ولم يحاسبه بما كان منه، وكان من رفقاء محمّد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته»(2).

ولمّا كانت قد وردت في هذه السورة بحوث واسعة عن المبدأ والمعاد، وعقاب المجرمين في يوم القيامة، ودروس محذّرة ترتبط بالمؤمنين والكافرين، فلا شكّ أنّ تلاوتها ـ التلاوة التي تكون مصدراً ومنبعاً للتفكير، وبالتالي مبدءاً للتصميم والحركة ـ قادرة على أن تصنع من الإنسان مثالا متكاملا تشمله كلّ هذه الفضيلة والفخر، وأن يكون أثرها كإحياء ليلة القدر، ونتيجتها أن يكون في مصافّ أصحاب اليمين، ونيل إفتخار محبّة النّبي وآله صلوات الله عليهم.

 

* * *

 

محتوى سورة السجدة:

هذه السورة بحكم كونها من السور المكّية تتابع بقوّة الخطوط الأصلية للسور

______________________________________

1 ـ مجمع البيان، الجزء 8، صفحة 324.

2 ـ مجمع البيان، الجزء 8، صفحة 325.

[  89 ]

المكّية، أي البحث في المبدأ والمعاد، والبشارة والإنذار، وعلى العموم تنقسم مباحثها إلى عدّة أقسام:

1 ـ الكلام عن عظمة القرآن، ونزوله من قبل ربّ العالمين، ونفي إتّهامات الأعداء عنه.

2 ـ ثمّ البحث حول آيات الله سبحانه في السماء والأرض، وتدبير هذا العالم.

3 ـ بحث آخر حول خلق الإنسان من «التراب» و «النطفة» و «الروح الإلهيّة»، ومنحه وسائل تحصيل العلم، أي العين والاُذن والعقل من قبل الله تعالى.

4 ـ ثمّ تتحدّث بعد ذلك عن القيامة والحوادث التي تسبقها، أي الموت، وما بعدها، أي السؤال والحساب.

5 ـ 6 ـ بحوث مؤثّرة تهزّ الوجدان عن البشارة والإنذار، تبشّر المؤمنين بجنّة المأوى، وتهدّد الفاسقين بعذاب جهنّم الشديد.

7 ـ وفي السورة إشارة قصيرة إلى تأريخ بني إسرائيل، وقصّة موسى (عليه السلام)وإنتصارات هذه الاُمّة.

8 ـ وكذلك تشير ـ مناسبة لبحث البشارة والإنذار ـ إلى أحوال قوم آخرين من الاُمم السابقة، ومصيرهم المؤلم.

9 ـ 10 ـ ثمّ تعود مرّة اُخرى إلى مسألة التوحيد وآيات عظمة الله، وتنهي السورة بتهديد الأعداء المعاندين.

وبهذا فإنّ الهدف الأصلي للسورة تقوية اُسس الإيمان بالمبدأ والمعاد، وإيجاد دفعة قويّة في المحتوى الداخلي للإنسان نحو التقوى، والإبتعاد عن العصيان

[  90 ]

والتمرّد والطغيان، والتوجّه إلى مقام الإنسان الرفيع، وهذا المعنى كان يحظى بالأهميّة القصوى خاصّة في بداية حركة الإسلام، وفي محيط مكّة.

 

* * *

[  91 ]

 

 

 

الآيات

 

الم(1) تَنزِيلُ الْكِتَـبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ(2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا آتَـهُم مِّن نَّذِير مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(3) اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ شَفِيع أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ(4) يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الاَْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة مِّمَّا تَعُدُّونَ(5)

 

التّفسير

عظمة القرآن، والمبدأ والمعاد:

مرّة اُخرى نواجه الحروف المقطّعة (الف ـ لام ـ ميم) في هذه السورة، وهذه هي المرّة الخامسة عشرة التي نرى فيها مثل هذه الحروف في بداية السور القرآنية.

[  92 ]

ولقد بحثنا بصورة مفصّلة في بداية سورة البقرة، وآل عمران والأعراف التفاسير المختلفة لهذه الحروف. والبحث الذي جاء بعد هذه الحروف مباشرة حول أهميّة القرآن يبيّن مرّة اُخرى هذه الحقيقة، وهي أنّ (الم) إشارة إلى عظمة القرآن، والقدرة على إظهار عظمة الله سبحانه، وهذا الكتاب العظيم الغنيّ المحتوى، والذي هو معجزة محمّد (صلى الله عليه وآله) الخالدة يتكوّن من حروف المعجم البسيطة التي يعرفها الجميع.

تقول الآية: (تنزيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين)(1). هذه الآية ـ في الواقع ـ جواب عن سؤالين: الأوّل عن محتوى هذا الكتاب السماوي، فتقول في الجواب: إنّ محتواه حقّ ولا مجال لأدنى شكّ فيه. والسؤال الثّاني يدور حول مبدع هذا الكتاب، وفي الجواب تقول: إنّ هذا الكتاب من قبل ربّ العالمين.

ويحتمل في التّفسير أيضاً أنّ جملة (من ربّ العالمين) جاءت دليلا وبرهاناً لجملة (لا ريب فيه)، فكأنّ سائلا يسأل: ما هو الدليل على أنّ هذا الكتاب حقّ، ولا مجال للشكّ فيه؟ فتقول: الدليل هو أنّه من ربّ العالمين الذي يصدر منه كلّ حقّ وحقيقة.

ثمّ إنّ التأكيد على صفة (ربّ العالمين) من بين صفات الله سبحانه قد يكون إشارة إلى أنّ هذا الكتاب مجموعة من عجائب عالم الخلقة، وعصارة حقائق عالم الوجود، لأنّه من ربّ العالمين.

وينبغي الإلتفات أيضاً إلى أنّ القرآن لا يريد هنا الإكتفاء بالإدّعاء الصرف، بل يريد أن يقول: إنّ الشيء الظاهر للعيان لا يحتاج إلى البيان، فإنّ محتوى هذا

______________________________________

1 ـ «تنزيل الكتاب» خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذا) وجملة (لا ريب فيه) صفته، و (من ربّ العالمين) صفة اُخرى. وإحتمل البعض أن تكون الجمل الثلاث أخباراً متعاقبة. إلاّ أنّ المعنى الأوّل أنسب. وعلى كلّ حال فإنّ (تنزيل) مصدر جاء بمعنى اسم المعفول، وإضافته إلى الكتاب من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف. ويحتمل أيضاً أن يكون المصدر بمعناه الأصلي ويؤدّي معنى المبالغة.

[  93 ]

الكتاب شاهد بنفسه على صحّته وأحقّيته.

ثمّ يشير إلى التهمة التي طالما وجهها المشركون والمنافقون إلى هذا الكتاب السماوي العظيم حيث قالوا: إنّ هذا الكتاب من تأليف محمّد. وقد ادّعى كذباً بأنّه من الله: (أم يقولون افتراه)(1) فيقول جواباً على ادّعاء هؤلاء الزائف: (بل هو الحقّ من ربّك) وأدلّة أحقّيته واضحة وبيّنة فيه من خلال آياته.

ثمّ يتطرّق إلى الهدف من نزوله، فيقول: (لتنذر قوماً ما آتاهم من نذير من قبلك).

فبالرغم من أنّ دعوة النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مبشّرة ومنذرة، وأنّه بشير قبل أن يكون نذيراً، إلاّ أنّه يجب التأكيد على الإنذار أكثر مع القوم الضالّين المعاندين.

وجملة (لعلّهم يهتدون) إشارة إلى أنّ القرآن يهيّء أرضية الهداية، إلاّ أنّ التصميم وإتّخاذ القرار النهائي موكول ومرتبط بنفس الإنسان.

وهنا يطرح سؤالان:

1 ـ من هم هؤلاء القوم الذين لم يأتهم أي نذير قبل النّبي (صلى الله عليه وآله)؟

2 ـ ألم يقل القرآن الكريم: (وإنّ من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير).(2)

قال جمع من المفسّرين في جواب السؤال الأوّل: المراد قبيلة قريش التي لم يكن لها نذير قبل نبيّ الإسلام.

وقال البعض الآخر: المراد مرحلة الفترة والفاصلة الزمنية بين نبوّة عيسى (عليه السلام)وظهور نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله).

إلاّ أنّ أيّاً من هذين الجوابين لا يبدو صحيحاً، لأنّ الأرض لا تبقى خالية من حجّة الله مطلقاً، وفي كلّ عصر وزمان لابدّ من وجود نبي أو وصي نبيّ لإتمام

______________________________________

1 ـ «أم» هنا بمعنى «بل»، وإحتمل البعض أنّ في الجملة تقديراً، وكانت في الأصل: أيعترفون به أم يقولون إفتراه ـ تفسير «الفخر الرازي وأبي الفتوح ـ» إلاّ أنّ هذا الإحتمال يبدو بعيداً.

2 ـ فاطر، 24.

[  94 ]

الحجّة.

بناءً على هذا، يبدو أنّ المراد من «النذير» هنا النّبي الكبير الذي يوضّح ويبيّن دعوته مقرونة بالمعجزات وفي محيط واسع، ومعلوم أنّ مثل هذا النذير لم يقم في الجزيرة العربية وبين قبائل مكّة.

وفي الإجابة عن السؤال الثّاني ينبغي أن يقال: إنّ معنى جملة: (وإنّ من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير) هو أنّ كلّ اُمّة كان لها نذير، إلاّ أنّه لا يلزم حضوره بنفسه في كلّ مكان، بل يكفي أن يصل صوت دعوة أنبياء الله العظام بواسطة أوصيائهم إلى أسماع كلّ البشر في العالم.

وهذا يشبه قولنا: إنّ كلّ اُمّة كان لها نبي من اُولي العزم، ولها كتاب سماوي، فمعنى هذا الكلام أنّ صوت هذا النّبي وكتابه السماوي قد وصل عن طريق وكلائه وأوصيائه لكلّ تلك الاُمّة على طول التاريخ.

بعد بيان عظمة القرآن ورسالة النّبي (صلى الله عليه وآله) تطرّقت الآية التالية إلى أساس آخر من أهم اُسس ودعائم العقائد الإسلامية، فتقول: (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام)(1).

وقلنا مراراً: إنّ المراد من (ستّة أيّام) في هذه الآيات: ستّ مراحل، لأنّ أحد معاني اليوم في المحادثات اليومية: المرحلة، كما نقول: كان النظام المستبدّ يحكمنا بالأمس، واليوم يحكمنا نظام الشورى، في حين أنّ الحكومات المستبدّة كانت تحكم آلاف السنين، إلاّ أنّهم يعبّرون عن تلك المرحلة باليوم.

ومن جهة اُخرى، فقد مرّت فترات ومراحل مختلفة على السماء والأرض:

ـ فيوماً كانت كلّ كواكب المنظومة الشمسية كتلة واحدة مذابة.

______________________________________

1 ـ لفظ الجلالة في هذه الجملة مبتدأ، و (الذي) خبره. وإحتملت في تركيب هذه الجملة إحتمالات اُخرى، من جملتها، أنّ لفظ الجلالة خبر لمبتدأ محذوف، أو أنّ لفظ الجلالة مبتدأ وخبره (ما لكم من دونه من ولي) إلاّ أنّ هذين الإحتمالين لا يبدوان مناسبين بتلك الدرجة.

[  95 ]

ـ وفي يوم آخر إنفصلت السيارات عن الشمس وبدأت تدور حولها.

ـ وفي يوم كانت الأرض كتلة نار ملتهبة.

ـ وفي يوم آخر أصحبت باردة وجاهزة لحياة النباتات والحيوانات، ثمّ وجدت الكائنات الحيّة عبر مراحل مختلفة.

وقد أوردنا شرحاً مفصّلا لهذا المعنى والمراحل الستّ بصورة مفصّلة في ذيل الآية (54) من سورة الأعراف.

ومن البديهي أنّ قدرة الله اللامتناهية كافية لإيجاد كلّ هذا العالم في لحظة، بل وفي أقلّ منها، إلاّ أنّ هذا النظام التدريجي يبيّن عظمة الله وعلمه وتدبيره في جميع المراحل بصورة أفضل.

فمثلا: إذا طوى الجنين في لحظة واحدة كلّ مراحل تكامله وولد، فإنّ عجائبه ستبقى بعيدة عن نظر الإنسان، أمّا عندما نراه يطوي في كلّ يوم واسبوع ـ طوال هذه التسعة أشهر ـ أشكالا عجيبة جديدة، فسنتعرّف أكثر على عظمة الله سبحانه.

وبعد مسألة الخلق تتطرّق الآية إلى مسألة حاكمية الله سبحانه على عالم الوجود، فتقول: إنّ الله تعالى بعد ذلك استوى على عرش قدرته وسيطر على جميع الكائنات: (ثمّ استوى على العرش).

كلمة (العرش) كما قلنا سابقاً، تعني في الأصل الكراسي الطويلة القوائم، وتأتي عادة كناية عن القدرة، كما نقول في تعبيراتنا اليومية: تكسّرت قوائم عرش فلان، أي إنّ قدرته وحكومته قد زالت.

بناءً على هذا، فإنّ إستواء الله على العرش لا يراد منه المعنى الجسمي بأن يكون لله عرش كالملوك يجلس عليه، بل بمعنى أنّه خالق عالم الوجود، وكذلك الحاكم على كلّ العالم(1).

______________________________________

1 ـ لمزيد التوضيح حول هذا الكلام راجع ذيل الآية (54) من سورة الأعراف.

[  96 ]

وتكمّل الآية مراحل التوحيد بالإشارة إلى توحيد «الولاية» و «الشفاعة»، فتقول: (ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع).

فمع هذا الدليل الواضح، بأنّ كونه سبحانه خالقاً دليل على كونه حاكماً، والحاكميّة دليل على توحيد الولي والشفيع والمعبود، فلماذا تنحرفون وتضلّون وتتمسّكون بالأصنام؟ (أفلا تتذكّرون)!

في الحقيقة، إنّ المراحل الثلاث للتوحيد التي إنعكست في الآية أعلاه يعتبر كلّ منها دليلا على الاُخرى، فتوحيد الخالقية دليل على توحيد الحاكمية، وتوحيد الحاكمية دليل على توحيد الوليّ والشفيع والمعبود.

وهنا طرح بعض المفسّرين سؤال، وهو أنّ الجملة الأخيرة تقول: ما لكم من دون الله من وليّ ولا شفيع، ومعناها أنّ وليّكم وشفيعكم الوحيد هو الله سبحانه وحده، فهل من الممكن أن يشفع أحد عنده؟

ويمكن الإجابة على هذا السؤال من ثلاثة جوانب:

1 ـ بملاحظة أنّ جميع الشفعاء لا يشفعون إلاّ بإذنه تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه)(1)، يمكن القول بأنّ الشفاعة بالرغم من كونها من قبل الأنبياء وأولياء الله، إلاّ أنّها تعود إلى الله سبحانه، سواء كانت الشفاعة لغفران الذنوب والعفو عن العاصين، أم للوصول إلى النعم الإلهيّة، والشاهد على هذا الكلام الآية التي وردت في بداية سورة «يونس» بمضمون هذه الآية تماماً، حيث تقول: (يدبّر الأمر ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه).(2)

2 ـ إنّنا عند التوسّل بالله نتوسّل بصفاته، فنستمدّ من رحمته ورحمانيّته، من كونه غفّاراً غفوراً، ومن فضله وكرمه، فكأنّنا قد جعلناه شفيعاً إلى نفسه، ونعتبر هذه الصفات واسطة بينها وبين ذاته المقدّسة، وإن كانت صفاته عين ذاته في

______________________________________

1 ـ البقرة، 255.

2 ـ يونس، 3.

[  97 ]

الحقيقة، وهذا هو نفس الشيء الذي جاء في دعاء كميل في عبارة علي (عليه السلام) العميقة المعنى: «واستشفع بك إلى نفسك».

3 ـ المراد من «الشفيع» هنا: الناصر والمعين، ونحن نعلم أنّ الناصر والوليّ والمعين هو الله وحده، وما قيل من أنّ الشفاعة هنا بمعنى الخلق وتكميل النفوس يعود في الحقيقة إلى نفس هذا المعنى.

وتشير الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث إلى توحيد الله سبحانه في البداية، ثمّ إلى مسألة «المعاد»، وبهذا تكمل هنا فروع وأركان التوحيد الثلاثة التي اتّضحت في الآيات السابقة ـ (توحيد الخالقية والحاكمية والعبودية) ـ بذكر توحيد الربوبية، أي تدبير عالم الوجود من قبل الله سبحانه فقط، فتقول: إنّ الله يدبّر اُمور العالم من مقام القرب منه إلى الأرض: (يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض).

وبتعبير آخر، فإنّ الله سبحانه قد جعل عالم الوجود من السماء إلى الأرض تحت أمره وتدبيره، ولا يوجد مدبّر سواه في هذا العالم(1).

ثمّ تضيف: (ثمّ يعرج إليه في يوم كان مقداره الف سنة ممّا تعدّون) والمراد من هذا اليوم يوم القيامة.

وتوضيح ذلك: أنّ المفسّرين قد تحدّثوا كثيراً في تفسير هذه الآية، واحتملوا إحتمالات عديدة مختلفة:

1 ـ فاعتبرها بعضهم إشارة إلى قوس الصعود والنّزول لتدبير العالم في هذه الدنيا.

2 ـ وذهب آخرون إلى أنّها إشارة إلى ملائكة الله الذين يطوون المسافة بين السماء والأرض في خمسمائة سنة، ويرجعون بهذه المدّة أيضاً، وهو مشغولون

______________________________________

1 ـ طبقاً للتعبير الأوّل فإنّ «السماء» بمعنى مقام القرب من الله، وطبقاً للتعبير الثّاني فإنّ «السماء» تعني نفس هذه السماء ـ تأمّلوا ذلك ـ .

[  98 ]

بتدبير هذا العالم بأمر الله سبحانه.

3 ـ ويعتبرها البعض الآخر إشارة إلى مراحل التدبير الإلهي في هذا العالم، ويعتقدون أنّ مراحل التدبير الإلهي في هذا العالم كلّ ألف سنة، ويأمر الله سبحانه ملائكته بتدبير أمر السماء والأرض في كلّ الف سنة، وبعد إنتهاء مرحلة الألف سنة هذه تبدأ مرحلة اُخرى.

إنّ هذه التفاسير علاوة على أنّها تطرح مطالب غامضة ومبهمة، فإنّها لا تمتلك قرينة وشاهداً من نفس الآية أو من آيات القرآن الاُخرى.

وفي إعتقادنا أنّ المراد من الآية ـ بقرينة آيات اُخرى من القرآن، وكذلك الروايات الواردة في تفسير الآية ـ شيء آخر، وهو أنّ الله سبحانه خلق هذا العالم، ونظّم ودبّر السماء والأرض بتدبير خاصّ، وألبس البشر والموجودات الحيّة الاُخرى لباس الحياة، إلاّ أنّه يطوى هذا التدبير في نهاية العالم، فتظلم الشمس، وتفقد النجوم أشعّتها، وبتعبير القرآن ستطوى السماوات حتّى ترجع إلى حالتها قبل توسّع هذا العالم (يوم نطوي السماء كطيّ السجّل للكتب كما بدأنا أوّل خلق نعيده)(1)، وبعد طيّ هذا العالم سيبدأ إبداع برنامج ومشروع عالمي جديد أوسع، أي سيبدأ عالم آخر بعد إنتهاء هذه الدنيا.

وهذا المعنى قد ورد في آيات القرآن الاُخرى، ومن جملتها الآية (156) من سورة البقرة: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون).

وجاء في الآية (27) من سورة الروم: (وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه).

ونقرأ في الآية (34) من سورة يونس: (قل الله يبدأ الخلق ثمّ يعيده فأنّى تؤفكون).

______________________________________

1 ـ الأنبياء، 104.

[  99 ]

بملاحظة هذه التعبيرات، والتعبيرات الاُخرى التي تقول: (وإليه يرجع الأمر كلّه)(1)، يتّضح أنّ الآية مورد البحث تتحدّث أيضاً عن بداية ونهاية العالم وقيام يوم القيامة، والذي يعبّرون عنه أحياناً بـ «قوس النّزول» و «قوس الصعود».

بناءً على هذا فإنّ معنى الآية يصبح: إنّ الله سبحانه يدبّر أمر هذا العالم من السماء إلى الأرض ـ يبدأ من السماء وينتهي بالأرض ـ ثمّ يعود كلّ ذلك إليه في يوم القيامة.

ونطالع في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل هذه الآية: يعني الاُمور التي يدبّرها، والأمر والنهي الذي أمر به، وأعمال العباد، كلّ هذا يظهر يوم القيامة فيكون مقدار ذلك اليوم ألف سنة من سنيّ الدنيا.

وهنا سؤال، وهو: إنّنا نرى في الآية (4) من سورة المعارج في شأن طول يوم القيامة: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة) فكيف يمكن الجمع بين الآية مورد البحث، والتي عيّنت مقداره بألف سنة فقط، وآية سورة المعارج؟!

وقد ورد الجواب عن هذا السؤال في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) روي في (أمالي الشيخ الطوسي) أنّه قال: «إنّ في القيامة خمسين موقفاً، كلّ موقف مثل الف سنة ممّا تعدّون، ثمّ تلا هذه الآية: في يوم كان مقداره خمسين الف سنة»(2).

ومن الطبيعي أنّ هذه التعبيرات لا تنافي عدم كون المراد من عدد الألف والخمسين ألفاً، العدد والحساب هنا، بل كلّ منهما لبيان الكثرة والزيادة، أي إنّ في القيامة خمسين موقفاً يجب أن يتوقّف الإنسان في كلّ موقف مدّة طويلة جدّاً.

* * *

 

______________________________________

1 ـ سورة هود، 123.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج4، ص221، وتفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.

[  100 ]

بحث

إساءة الإستفادة من آية (يدبّر الأمر)

لقد اتّخذ بعض أتباع المذاهب المصطنعة المبتدعة(1) الآية أعلاه وسيلة ودليلا لتوجيه مسلكهم ومذهبهم، وأرادوا أن يطبّقوا هذه الآية على مرادهم بإرتكاب المغالطات والإشتباهات وادّعوا أنّ المراد من «الأمر» في الآية: الدين والمذهب، و «التدبير»: يعني إرسال الدين، و «العروج»: يعني رفع ونسخ الدين! وإستناداً إلى هذا فإنّ كلّ مذهب أو دين لا يمكنه أن يعمّر أكثر من الف سنة، ويجب أن يترك مكانه لدين آخر، وبهذا فإنّهم يقولون: إنّنا نقبل القرآن، لكن، وإستناداً إلى نفس هذا القرآن فإنّ ديناً آخر سيأتي بعد مرور الف سنة!

والآن نريد أن نبحث ونحلّل الآية المذكورة بحثاً محايداً، لنرى هل يوجد فيها إرتباط بما يدّعيه هؤلاء، أم لا؟ ونغضّ النظر عن أنّ هذا المعنى بعيد عن مفهوم الآية إلى الحدّ الذي لا يخطر على ذهن أيّ قاريء خالي الذهن.

إنّنا نرى ـ بعد الدقّة ـ أنّ ما يقولونه لا ينسجم مع مفهوم الآية، بل إنّه مشكل بصورة واضحة من جهات كثيرة:

1 ـ إنّ تفسير كلمة «الأمر» بالدين لا دليل عليه، بل تنفي آيات القرآن الاُخرى ذلك، لأنّ كلمة الأمر قد إستعملت في آيات اُخرى بمعنى أمر الخلق، مثل (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون).(2)

وقد إستعملت كلمة الأمر في هذه الآية، وآيات اُخرى مثل: الآية 50/سورة القمر، الآية (27) من سورة المؤمنون، الآية (54) من سورة الأعراف، (32) من سورة إبراهيم، (12) من سورة النحل، (25) من سورة الروم، (12) من سورة الجاثية، بمعنى الأمر التكويني، لا بمعنى تشريع الدين والمذهب.

______________________________________

1 ـ «البهائية والبابية».

2 ـ سورة يس، 82.

[  101 ]

وأساساً فإنّ كلّ مورد يأتي الكلام فيه عن السماء والأرض، والخلق والخلقة وأمثال ذلك، فإنّ «الأمر» يأتي بهذا المعنى (فتأمّل).

2 ـ كلمة «التدبير» تستعمل أيضاً في مورد الخلقة والخلق وتنظيم وضع عالم الوجود، لا بمعنى إنزال الدين والشريعة، ولذلك نرى في آيات القرآن الاُخرى ـ والآيات يفسّر بعضها بعضاً ـ أنّ هذه الكلمة لم تستعمل مطلقاً في مورد الدين والمذهب، بل إستعملت كلمة «التشريع» أو «التنزيل» أو «الإنزال»:

ـ (شرّع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً).(1)

ـ (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاُولئك هم الكافرون).(2)

ـ (نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه).(3)

3 ـ إنّ الآيات التي قبل وبعد هذه الآية مرتبطة بالخلقة وخلق العالم، ولا ترتبط بتشريع الأديان، لأنّ الكلام في الآية السابقة كان عن خلق السماء والأرض في ستّة أيّام ـ وبعبارة اُخرى ستّ مراحل ـ والكلام في الآية التالية عن خلق الإنسان.

ولا يخفى أنّ تناسب وإنسجام الآيات يوجب أن تكون هذه الآية المتوسّطة لآيات الخلقة مرتبطة بمسألة الخلقة وتدبير أمر الخلق، ولهذا فإنّنا إذا طالعنا كتب التّفسير التي كتبت قبل مئات السنين فإنّنا لا نجد أحداً قد إحتمل أن تكون الآية متعلّقة بتشريع الأديان، بالرغم من أنّهم احتملوا إحتمالات مختلفة، فمثلا: مؤلّف تفسير «مجمع البيان» ـ وهو من أشهر التفاسير الإسلامية، ومؤلّفه عاش في القرن السادس الهجري ـ لم ينقل عن أحد علماء الإسلام قولا يدّعي فيه أنّ الآية ترتبط بتشريع الأديان، مع أنّه ذكر أقوالا مختلفة في تفسير الآية أعلاه.

______________________________________

1 ـ الشورى، 13.

2 ـ المائدة، 44.

3 ـ آل عمران، 3.

[  102 ]

4 ـ إنّ كلمة «العروج»، تعني الصعود والإرتفاع، لا نسخ الأديان وزوالها، ولا يلاحظ العروج في أي موضع من القرآن بمعنى النسخ ـ وهذه الكلمة قد ذكرت في خمس آيات من القرآن، ولا تؤدّي هذا المعنى في أيّ منها ـ بل تستعمل كلمة النسخ أو التبديل وأمثالهما في مورد الأديان.

إنّ الأديان والكتب السماوية في الأساس ليست كأرواح البشر تعرج إلى السماء مع الملائكة بعد إنتهاء العمر، بل إنّ الأديان المنسوخة، موجودة في الأرض، إلاّ أنّها تسقط عن الإعتبار في بعض مسائلها، في حين أنّ اُصولها تبقى على قوّتها.

والخلاصة: فإنّ كلمة العروج علاوة على أنّها لم تستعمل في أيّ موضع من القرآن بمعنى نسخ الأديان، فهي لا تتناسب مع مفهوم نسخ الأديان، لأنّ الأديان المنسوخة لا تعرج إلى السماء.

5 ـ إضافةً إلى كلّ ما مرّ فإنّ هذا المعنى لا ينطبق على الواقع الحقيقي العيني، لأنّ الفاصلة بين الأديان السابقة لم تكن ألف سنة في أيّ مورد!

فمثلا: الفاصلة بين ظهور موسى والمسيح (عليهم السلام) أكثر من (1500) سنة، والفاصلة بين المسيح (عليه السلام) وظهور نبي الإسلام العظيم (صلى الله عليه وآله) أقلّ من (600) سنة، وكما تلاحظون فإنّ أيّاً من هذين الموردين لا ينطبق على الألف سنة التي يقول بها هؤلاء، بل إنّ الفاصلة بين الواقع وما يدّعون كبيرة.

وذكروا أنّ الفترة الزمنية بين ظهور نوح (عليه السلام) الذي كان من أنبياء اُولي العزم، وواضع دعائم الدين والشريعة الخاصّة، وبين محطّم الأصنام الصنديد إبراهيم (عليه السلام)الذي كان نبيّاً آخر من ذوي الشرائع أكثر من (1600) سنة، والفترة بين إبراهيم وموسى (عليهما السلام) أقلّ من (500) سنة.

من هذا الموضوع نخلص إلى هذه النتيجة، وهي أنّه لم تكن هناك فترة ولا فاصلة، ولو من باب المثال، بين أحد الأديان والمذاهب وبين الدين الذي يليه

[  103 ]

بمقدار ألف سنة.

6 ـ وإذا غضضنا النظر عن كلّ ما مرّ، فإنّ بدعة «السيّد علي محمّد باب» والتي تحمل أتباعه لأجل الدفاع عنها كلّ هذه التوجيهات الباطلة لا تتناسب مع هذا الحساب، لأنّه بإعترافهم ولد سنة 1325هجري، وكان بدء دعوته سنة 1260 هجري قمري، وبملاحظة أنّ بداية دعوة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) التي كانت بثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة، فإنّ الفاصلة بين الإثنين تكون (1273) أي بإضافة (273) فماذا نصنع بهذا الفارق الكبير؟ وبأيّة خطّة سنتجاهله؟

7 ـ ولو تركنا جانباً كلّ هذه الإيرادات الستّة، وصرفنا النظر عن هذه الردود الواضحة، وجعلنا أنفسنا مكان القرآن، وأردنا أن نقول للبشرية: كونوا بإنتظار نبيّ جديد بعد مرور ألف سنة، فهل هذا يصحّ طرح هذا المفهوم بالشكل الذي ذكرته الآية، حتّى لا ينتبه ويطّلع أحد من العلماء وغير العلماء أدنى إطّلاع على معنى الآية على مدى الإثني أو الثلاثة عشر قرناً، ثمّ يأتي جماعة بعد مرور (1273) عام ليدّعوا أنّهم اكتشفوا إكتشافاً جديداً، وأزاحوا الغطاء عنه، وهو مع ذلك لا يتجاوز إطار قبولهم أنفسهم لا قبول الآخرين؟!

ألم يكن الأحسن والأكثر حكمة وعقلا أن يقال مكان هذه الجملة: اُبشّركم بأنّ نبيّاً بهذا الإسم سيظهر بعد ألف سنة، كما قال عيسى (عليه السلام) في شأن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله): (ومبشّراً برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد).(1)

وعلى كلّ حال، فهذه المسألة قد لا تستحقّ بحثاً بهذا المقدار إلاّ أنّه لتنبيه وإيقاظ جيل الشباب المسلم، وإطلاعهم على المكائد التي هيّأها الإستعمار العالمي، والمسالك والمذاهب التي إبتدعها لتضعيف جبهة الإسلام، لم يكن لنا سبيل إلاّ أن يعلموا ويطّلعوا على جانب من منطق هؤلاء، وعليهم الباقى.

* * *

______________________________________

1 ـ سورة الصف، 6.

[  104 ]

 

 

الآيات

 

ذَلِكَ عَـلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـدَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(6) الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَـنِ مِن طِين(7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَـلَة مِّن مَّاء مَّهِين(8) ثُمَّ سَوَّيـهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَـرَ وَالاَْفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ(9)

 

التّفسير

مراحل خلق الإنسان العجيبة!

إنّ الآيات ـ مورد البحث ـ إشارة وتأكيد في البداية على بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة، والتي كانت تتلخّص في أربع مراحل: توحيد الخالقية، والحاكمية، والولاية، والربوبية، فتقول: (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم).

من البديهي أنّ من يريد أن يدبّر اُمور السماء والأرض، وأن يكون حاكماً عليها، ويتعهّد ويقوم بمهام مقام الولاية والشفاعة والإبداع، يجب أن يكون مطّلعاً على كلّ شيء، الظاهر والباطن، حيث لا يمكن أن يتمّ أيّ من هذه الاُمور بدون الإطّلاع وسعة العلم.

[  105 ]

وفي نفس الوقت الذي يجب أن يكون هذا المدبّر عزيزاً قويّاً لا يقهر ليقوى على القيام بهذه الأعمال المهمّة، ينبغي أن تقترن هذه العزّة باللطف والرحمة، لا الخشونة والغلظة.

ثمّ تشير الآية التالية إلى نظام الخلقة الأحسن والأكمل بصورة عامّة، ومقدّمة لبيان خلق الإنسان ومراحل تكامله بشكل خاصّ: (الذي أحسن كلّ شيء خلقه)وأعطى كلّ شيء ما يحتاجه، وبتعبير آخر: فإنّ تشييد صرح الخلقة العظيم قد قام على أساس النظام الأحسن، أي قام على نظام دقيق سالم لا يمكن تخيّل نظام أكمل منه.

لقد أوجد سبحانه بين كلّ الموجودات علاقة وإنسجاماً، وأعطى كلاّ منها ما يطلبه على لسان الحال.

إذا نظرنا إلى وجود الإنسان، وأخذنا بنظر الإعتبار كلّ جهاز من أجهزته، فسنرى أنّها خلقت من ناحية البناء والهيكل، والحجم، ووضع الخلايا، وطريقة عملها، بشكل تستطيع معه أن تؤدّي وظيفتها على النحو الأحسن، وفي الوقت ذاته فقد وضعت بين الأعضاء روابط قويّة بحيث يؤثّر ويتأثّر بعضها بالبعض الآخر بدون إستثناء.

وهذا المعنى هو الحاكم تماماً في العالم الكبير مع المخلوقات المتنوّعة، وخاصّة في عالم الكائنات الحيّة، مع تلك التشكيلات والهيئات المختلفة جدّاً.

والخلاصة: فإنّه هو الذي أودع أنواع العطور البهيجة في الأزهار المختلفة، وهو الذي يهبّ الروح للتراب والطين ويخلق منه إنساناً حرّاً ذكيّاً عاقلا، ومن هذا التراب المخلوط يخلق أحياناً الأزهار، وأحياناً الإنسان، وأحياناً اُخرى أنواع الموجودات الاُخرى، وحتّى التراب نفسه خلق فيه ما ينبغي أن يكون فيه.

ونرى نظير هذا الكلام في الآية (50) من سورة «طه» من قول موسى وهارون(عليهما السلام): (ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى).

[  106 ]

وهنا يطرح سؤال حول خلق الشرور والآفات، وكيفية إنسجامها مع النظام العالم الأحسن، وسنبحثه إن شاء الله تعالى فيما بعد.

بعد هذه المقدّمة الآفاقية يدخل القرآن بحث الأنفس، وكما تحدّث في بحث الآيات الآفاقية عن عدّة أقسام للتوحيد، فإنّه يتحدّث هنا عن عدّة مواهب عظيمة في مورد البشر:

يقول أوّلا: (وبدأ خلق الإنسان من طين) ليبيّن عظمة وقدرة الله سبحانه حيث خلق مثل هذا المخلوق الجليل العظيم من مثل هذا الموجود البسيط الحقير، هذا من جانب، ومن جانب آخر يحذّر الإنسان ويذكّره من أين أتيت، وإلى أين ستذهب؟!

ومن المعلوم أنّ هذه الآية تتحدّث عن خلق آدم، لا كلّ البشر، لأنّ إستمرار نسله قد ذكر في الآية التالية، وظاهر هذه الآية دليل واضح على خلق الإنسان بشكل مستقل، ونفي فرضيّة تحوّل الأنواع (وعلى الأقل في مورد نوع الإنسان).

وبالرغم من أنّ البعض أراد أن يفسّر هذه الآية بحيث تناسب وتلائم فرضية تكامل الأنواع، بأنّ خلق الإنسان يرجع إلى أنواع سافلة، وهي تنتهي أخيراً إلى الماء والطين، إلاّ أنّ ظاهر الآية ينفي وجود أنواع اُخرى من الموجودات الحيّة ـ وهم يدّعون أنّها أنواع لا تحصى ـ تفصل بين آدم والطين، بل إنّ خلق الإنسان قد تمّ من الطين مباشرة وبدون واسطة. ولم يتحدّث القرآن عن أنواع الكائنات الحيّة الاُخرى.

وهذا المعنى يتّضح أكثر عند ملاحظة الآية (59) من سورة آل عمران، حيث تقول: (إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب).

ويقول في الآية (26) من سورة الحجر: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون).

ويستفاد من مجموع الآيات أنّ خلق آدم قد تكوّن من التراب والطين كخلق

[  107 ]

مستقل، ومن المعلوم أنّ فرضية تطور الأنواع لم تكن مسألة علمية قطعية لنحاول تفسير الآيات أعلاه بشكل آخر بسبب تضادّها وتعارضها مع هذه الفرضية، وبتعبير آخر: طالما لا توجد قرينة واضحة على خلاف ظواهر الآيات فيجب أن نطبّقها بمعناها الظاهر، وكذلك الحال في مورد خلق آدم المستقلّ.

ثمّ تشير الآية بعدها، إلى خلق نسل الإنسان، وكيفية تولّد أولاد آدم في مراحل، فتقول: (ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين).

«جعل» هنا بمعنى الخلق، و «النسل»: بمعنى الأولاد والأحفاد في جميع المراحل.

«السلالة» في الأصل، بمعنى العصارة الخالصة لكلّ شيء، والمراد منها هنا نطفة الإنسان التي تعتبر عصارة كلّ وجوده، ومبدأ حياة وتولّد الذريّة وإستمرار النسل.

إنّ هذا السائل الذي يبدو تافهاً لا قيمة له ولا مقدار فإنّه يعدّ من الناحية البنائية والخلايا الحيوية التي تسبح فيه، وكذلك تركيب السائل الخاصّ الذي تسبح فيه الخلايا رقيقاً ودقيقاً ومعقّداً إلى أبعد الحدود، ويعتبر من آيات عظمة الله سبحانه، وعلمه وقدرته. وكلمة «مهين» التي تعني الضعيف إشارة إلى وضعه الظاهري، وإلاّ فإنّه من أعمق أسرار الموجودات.

وتشير الآية التالية إلى مراحل تكامل الإنسان المعقّدة في عالم الرحم، وكذلك المراحل التي طواها آدم عند خلقه من التراب، فتقول: (ثمّ سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون).

«سوّاه» من التسوية، أي الإكمال، وهذه إشارة إلى مجموع المراحل التي يطويها الإنسان من حال كونه نطفة إلى المرحلة التي تتّضح فيها جميع أعضاء

[  108 ]

بدنه، وكذلك المراحل التي طواها آدم بعد خلقه من التراب حتّى نفخ الروح(1).

والتعبير بـ «النفخ» كناية عن حلول الروح في بدن الإنسان، فكأنّه شبّه الحال بالهواء والتنفّس، بالرغم من أنّه لا هذا ولا ذاك.

فإن قيل: إنّ نطفة الإنسان منذ إستقرارها في الرحم ـ بل وقبل ذلك ـ كانت كائناً حيّاً وعلى هذا فأيّ معنى لنفخ الروح؟

قلنا في الجواب: إنّ النطفة عندما تنعقد في البداية ليس لها إلاّ نوعاً من «الحياة النباتية»، أي التغذية والنمو فقط، أمّا الحسّ والحركة التي هي علامة «الحياة الحيوانية»، وكذلك قوّة الإدراكات التي هي علامة الحياة الإنسانية، فلا أثر عن كلّ ذلك.

إنّ تكامل النطفة في الرحم تصل إلى مرحلة تبدأ عندها بالحركة، وتحيا وتنبعث فيها القوى الإنسانية الاُخرى تدريجياً، وهذه هي المرحلة التي يعبّر عنها القرآن بنفخ الروح.

أمّا إضافة «الروح» إلى «الله» فهي «إضافة تشريفية»، أي إنّ روحاً ثمينة وشريفة بحيث أنّ من المناسب أن تسمّى «روح الله» قد دبّت في الإنسان ونفخت فيه، وهذا يبيّن حقيقة أنّ الإنسان وإن كان من ناحية البعد المادّي يتكوّن من الطين والماء، إلاّ أنّه من البعد المعنوي والروحي يحمل «روح الله».

إنّ أحد طرفي وجوده ينتهي إلى التراب، وطرفه الآخر يتّصل بعرش الله، فإنّه خليط من الملائكة والحيوان، ولوجود هذين البعدين فإنّ منحني صعوده ونزوله، وتكامله وإنحطاطه واسع جدّاً(2).

______________________________________

1 ـ البعض يعتبر هذه الآية إشارة إلى مراحل التكامل الجنيني فقط، والبعض الآخر إحتمل أن تكون إشارة إلى مراحل تكامل آدم بعد خلقه من التراب، لأنّ عين هذه التعبيرات قد جاء في آيات اُخرى من القرآن. إلاّ أنّه لا مانع من أن تعود إلى الإثنين، لأنّ خلق آدم من التراب، ونسله من مني، طوى ويطوي هذه المراحل.

2 ـ بحثنا في هذا الباب في ذيل الآية (29) من سورة الحجر.

[  109 ]

وأشار القرآن في آخر مرحلة ـ والتي تعتبر المرحلة الخامسة في خلق الإنسان ـ إلى نعمة الاُذن والعين والقلب، ومن الطبيعي أنّ المراد هنا ليس خلقة هذه الأعضاء، لأنّ هذه الخلقة تتكوّن قبل نفخ الروح، بل المراد حسّ السمع والبصر والإدراك والعقل.

والتأكيد على هذه الحواس الثلاث فقط من بين كلّ الحواس «الظاهرة» و «الباطنة»، لأنّ أهمّ حسّ ظاهري يربط الإنسان بالعالم الخارجي رابطة قويّة هو السمع والبصر، فالاُذن تدرك الأصوات، وخاصّة أنّ التربية والتعليم يتمّ بواسطتها، والعين وسيلة النظر إلى العالم الخارجي ومشاهدة مشاهد هذا العالم المختلفة، وقوّة العقل أهمّ حسّ باطني لدى الإنسان، وبتعبير آخر فإنّه حاكم على وجود البشر.

والجدير بالذكر أنّ «أفئدة» جمع «فؤاد» بمعنى «قلب» ولكن مفهومها أدقّ من القلب حين يقصد بها عادةً الحنكة والفطانة في الفرد، وبهذا يبيّن الله تعالى في هذه الآية أهمّ وسائل المعرفة والإدراك الظاهرية والباطنية في الإنسان، لأنّ العلوم والمعارف إمّا أن يحصل عليها الإنسان بواسطة «التجربة» فالوسيلة هي السمع والبصر، أو عن طريق التحليل والإستدلال العقلي، والوسيلة لذلك هو العقل والفؤاد كما ورد التعبير عنه في هذه الآية، وحتّى الإدراك الحاصل من الوحي أو الإشراق والشهود القلبي يتمّ بواسطة هذه الوسيلة أيضاً، أي «الأفئدة».

ولو فقد الإنسان هذه الوسائل للمعرفة، فسوف يخسر قيمته تماماً ويصبح مجرّد كميّة مهملة من المادّة والتراب، ولهذا نجد الآية الشريفة محل البحث تؤكّد في ختامها على مسألة الشكر لهذه النعم العظيمة على الإنسان وتقول (قليلا ما تشكرون) وذلك إشارة إلى أنّ الإنسان مهما سعى في أداء شكر هذه النعم والمواهب العظيمة، فمع ذلك لا يؤدّي حقّ الشكر.

* * *

[  110 ]

بحث

كيفية خلق آدم من التراب:

رغم أنّ الآيات القرآنية تحدّثت أحياناً عن خلق الإنسان من «طين» (كالآيات محلّ البحث)، وكما ورد في قصّة آدم وإبليس في قوله تعالى: (فسجدوا إلاّ إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً).(1)

وأحياناً اُخرى عن الخلق من الماء مثل: (وجعلنا من الماء كلّ شيء حي)،(2) إلاّ أنّ من المعلومن أنّ هذه جميعاً تعود إلى مطلب واحد، وحتّى عند الكلام عن خلق آدم من التراب، مثل (إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب).(3) لأنّ المراد: التراب الممتزج بالماء، أي الطين.

ومن هنا تتّضح عدّة نقاط:

1 ـ أنّ الذين احتملوا أنّ المراد من خلق الإنسان من التراب، هو أنّ أفراد البشر يتغذّون على النباتات ـ سواء كانت التغذية بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ وأنّ النباتات كلّها من التراب ـ قد جانبوا الصواب، لأنّ آيات القرآن يفسّر بعضها بعضاً، والآيات أعلاه إشارة إلى شخص آدم الذي خلق من التراب.

2 ـ أنّ كلّ هذه الآيات دليل على نفي فرضية التكامل ـ وعلى الأقل في مورد الإنسان، وأنّ نوع البشر الذي ينتهي بآدم له خلق مستقلّ.

وما قيل من أنّ آيات الخلق من التراب إشارة إلى نوع الإنسان الذي يعود إلى الموجودات أحادية الخليّة بآلاف الوسائط، وهي أيضاً قد جاءت ـ طبقاً للفرضيات الأخيرة ـ من الطين الموجود على جانب المحيطات، أمّا نفس آدم فقد كان فرداً انتُخب من بين نوع البشر، ولم يكن له خلق مستقلّ، بل إنّ إمتيازه كان

______________________________________

1 ـ سورة الإسراء، الآية 61.

2 ـ سورة الأنبياء، الآية 30.

3 ـ آل عمران، 59.

[  111 ]

في صفاته الخاصّة .. هذه الفرضية لا تتناسب مع ظواهر آيات القرآن بأيّ وجه من الوجوه.

ونؤكّد مجدّداً أنّ مسألة تحوّل الأنواع ليست قانوناً علميّاً مسلّماً، بل هي مجرّد فرضيّة ـ لأنّ الشيء الذي امتدّ أصله إلى ملايين السنين وخفي فيها، فمن المسلّم أنّه لا يخضع للتجربة والمشاهدة، ولا يمكن أن يكون في مصاف القوانين العلمية الثابتة ـ بل هي فرضية لتوجيه ظاهرة تنوّع الأجناس التي ظهرت إلى الوجود توجيهاً تخمينياً، ونحن نعلم أنّ الفرضيات في حالة تغيّر وتحوّل دائماً حيث تخلي الساحة أمام الفرضيات الجديدة.

بناءً على هذا، فإنّه لا يمكن الإعتماد عليها مطلقاً في المسائل الفلسفية التي تحتاج إلى اُسس مسلّمة قطعية.

وقد أوردنا إيضاحاً مفصّلا حول اُسس فرضية تكامل الأنواع، وعدم صحّتها، تحت عنوان (القرآن وخلق الإنسان) في ذيل الآية (28) من سورة الحجر.

وفي نهاية هذا البحث نرى لزاماً ذكر هذه المسألة، وهي أنّه ليس لفرضية التكامل أي إرتباط بمسألة التوحيد ومعرفة الله، ولا تعتبر دليلا على نفي عالم ما وراء الطبيعة، لأنّ الإعتقاد التوحيدي يقول: إنّ العالم قد خلق من قبل الله سبحانه، وإنّه هو الذي أعطى كلّ خواص الموجودات، ويشملها بفيضه في جميع المراحل.

إنّ هذا المعنى يمكن أن يقبله المعتقد بنظرية (ثبوت الأنواع) كما يقبله من يذهب إلى (تطور الأنواع)، غير أنّ المشكلة الوحيدة التي يواجهها المعتقد بفرضية تحوّل الأنواع هي أنّ هذه الفرضيّة لا تتناسب مع التفصيل الذي بيّنه القرآن الكريم حول خلق آدم، حيث يذكر كيفيّة خلقه من التراب والطين.

بناءاً على هذا فإنّنا ننفي فرضية التكامل لهذا السبب فقط، لا بسبب مخالفتها لمسألة التوحيد. هذا من الناحية التّفسيرية.

[  112 ]

أمّا من الناحية العلمية ـ أي العلوم الطبيعية ـ فإنّنا ننفي فرضية التكامل ـ وكما اُشير إلى ذلك ـ من جهة عدم إمتلاكها الأدلّة القطعيّة على ثبوتها.

 

* * *

[  113 ]

 

 

 

الآيات

وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الاَْرْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْق جَدِيد بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَـفِرُونَ(10) قُلْ يَتَوَفَّـكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ(11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الُْمجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـلِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ(12) وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْس هُدَاهَا وَلَـكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لاََمْلاََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَـذَا إِنَّا نَسِينَـكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(14)

 

التّفسير

الندم وطلب الرجوع:

تبدأ هذه الآيات ببحث واضح جلي حول المعاد، ثمّ تبيّن وتبحث حال المجرمين في العالم الآخر، وهي في المجموع تتمّة للبحوث السابقة التي تحدّثت حول المبدأ، إذ أنّ البحث عن المبدأ والمعاد مقترنان غالباً في القرآن المجيد

[  114 ]

فتقول: إنّ هؤلاء الكفّار يتساءلون باستغراب بأنّنا إذا متنا وتحوّلت أبداننا إلى تراب وإندثرت تماماً فهل سوف نُخلق من جديد: (وقالوا ءإذا ضللنا في الأرض أءِنّا لفي خلق جديد).

إنّ التعبير بـ (ضللنا في الأرض) إشارة إلى أنّ الإنسان يصبح تراباً بعد موته كسائر الأتربة ويتفرّق هذا التراب نتيجة العوامل الطبيعية وغير الطبيعية، ولا يبقى منه شيء حتّى يعيده الله سبحانه في القيامة مرّة اُخرى.

إلاّ أنّ هؤلاء ليسوا بمنكرين قدرة الله في الحقيقة (بل هم بلقاء ربّهم كافرون)فإنّهم ينكرون مرحلة لقاء الله والحساب والثواب والعقاب لتبرير حرية العمل وليعملوا ما يريدون!

وهذه الآية تشبه كثيراً الآيات الاُولى من سورة القيامة التي تقول: (أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوّي بنانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيّان يوم القيامة).(1)

بناء على هذا، فإنّ هؤلاء ليسوا قاصرين من ناحية الإستدلال، ولكن شهواتهم حجبت قلوبهم، ونيّاتهم السيّئة منعتهم من قبول مسألة المعاد، وإلاّ فإنّ الله الذي أعطى قطعة المغناطيس القوّة التي تجذب إلى نفسها ذرّات الحديد الصغيرة جدّاً والمتناثرة في طيّات أطنان من تراب الأرض من خلال جولة سريعة في تلك الأرض، وتجمعها بكلّ بساطة، هو الذي يجعل بين ذرّات بدن الإنسان مثل هذه الجاذبية المتقابلة.

من الذي يستطيع أن ينكر أنّ المياه الموجودة في جسم الإنسان ـ وأكثر جسم الإنسان ماء ـ وكذلك المواد الغذائية، كانت ذرّاتها متناثرة في زاوية من العالم قبل ألف عام مثلا، وكلّ قطرة في محيط، وكلّ ذرّة في إقليم، إلاّ أنّها تجمّعت عن طريق

______________________________________

1 ـ سورة القيامة، 3 ـ 6.

[  115 ]

السحاب والمطر والعوامل الطبيعية الاُخرى، وكوّنت الوجود الإنساني في النهاية، فأي داع للعجب من أن تجتمع وترجع إلى حالها الأوّل بعد تلاشيها وتبعثرها؟!

وتجيب الآية هؤلاء عن طريق آخر، فتقول: لا تتصوّروا أنّ شخصيتكم بأبدانكم وأجسامكم، بل بأرواحكم، وهي باقية ومحفوظة: (قل يتوفّاكم ملك الموت الذي وكّل بكم ثمّ إلى ربّكم ترجعون).

إذا لاحظنا أنّ معنى «يتوفّاكم» ـ من مادة «توفّي» (على وزن تصدّي)، هو الإستيفاء، فإنّ الموت سوف لا يعني الفناء، بل نوع من قبض الملائكة لروح الإنسان التي تشكّل أهمّ من وجود الإنسان.

صحيح أنّ القرآن يتحدّث عن المعاد الجسماني، ويعتبر رجوع الروح والجسم المادّي في المعاد حتميّاً، إلاّ أنّ الهدف من الآية أعلاه هو بيان أنّ هذه الأجزاء الماديّة التي شغلتم بها فكركم تماماً ليست هي أساس شخصيّة الإنسان، بل الأساس هو الجوهر الروحي الذي جاء من قبل الله تعالى وإليه يرجع.

وفي المجموع يمكن أن يقال: إنّ الآيتين أعلاه تجيبان منكري المعاد بهذا الجواب: إذا كان إشكالكم في تفرّق الأجزاء الجسمية، فإنّكم تقرّون بقدرة الله سبحانه ولا تنكرونها، وإذا كان إشكالكم في إضمحلال وفناء شخصية الإنسان على أثر تناثر تلك الذرّات، فلا يصحّ ذلك لأنّ أساس شخصيّة الإنسان يستند إلى الروح.

وهذا الإيراد لا يختلف عن شبهة (الآكل والمأكول) المعروفة، كما أنّ جوابه في الموردين يشبه جواب تلك الشبهة(1).

وثمّة مسألة ينبغي التوجّه إليها، وهي أنّ في بعض آيات القرآن نُسب التوفّي

______________________________________

1 ـ لمزيد الإيضاح حول شبهة (الآكل والمأكول) وجوابها المفصّل راجع التّفسير الأمثل، ذيل الآية (260) من سورة البقرة.

[  116 ]

إلى الله سبحانه: (الله يتوفّى الأنفس حين موتها)،(1) وفي بعضها إلى مجموعة من الملائكة: (الذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ...).(2) وفي الآيات مورد البحث نسب قبض الأرواح إلى ملك الموت، إلاّ أنّه لا منافاة بين هذه التعبيرات مطلقاً، فإنّ لملك الموت معنى الجنس، وهو يطلق على كلّ الملائكة، أو هو إشارة إلى كبير الملائكة وزعيمها، ولمّا كان الجميع يقبضون الأرواح بأمر الله سبحانه، فقد نسب الفعل إلى الله عزّوجلّ.

ثمّ تجسّد وضع هؤلاء المجرمين الكافرين ومنكري المعاد الذين يندمون في القيامة أشدّ الندم على ما كان منهم لدى مشاهدة مشاهدها ومواقفها المختلفة، فتقول: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربّهم ربّنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنّا موقنون)(3).

ستعجب حقّاً! أهؤلاء النادمون الناكسو الرؤوس هم اُولئك المتكبّرون العتاة العصاة الذين لم يكونوا يذعنون في الدنيا لأيّة حقيقة؟! إلاّ أنّهم الآن يتغيّرون تماماً عند رؤية مشاهد القيامة ويصلون إلى مستوى الشهود، لكنّ هذا الوعي وتغيير الموقف سريع الزوال، فإنّهم ـ وطبقاً لآيات القرآن الاُخرى ـ لو رجعوا إلى هذه الدنيا لعادوا إلى حالتهم الاُولى، الأنعام / الآية 28.

«الناكس» من مادّة (نكس) على وزن (كلب) بمعنى إنقلاب الشيء، وهنا يعني خفض الرأس إلى الأسفل وطأطأته.

تقديم «أبصرنا» على «سمعنا» لأنّ الإنسان يرى المشاهد والمواقف أوّلا، ثمّ يسمع إستجواب الله والملائكة.

______________________________________

1 ـ الزمر، 42.

2 ـ النحل، 28.

3 ـ (لو) في الآية الشريفة شرطية، شرطها جملة (وترى ..) وجزاؤها محذوف، والتقدير: «ولو ترى إذ المجرمون ... لرأيت عجباً». وفي جملة (ربّنا أبصرنا) حذف تقديره: يقولون ربّنا أبصرنا.

[  117 ]

ويتبيّن ممّا قلناه أنّ المراد من «المجرمين» هنا الكافرون، وخاصّة منكري القيامة.

وعلى كلّ حال، فليست هذه المرّة الاُولى التي نواجه فيها هذه المسألة في آيات القرآن، وهي أنّ المجرمين يندمون أشدّ الندم عند مشاهدة نتائج الأعمال والعذاب الإلهي، ويطلبون الرجوع إلى الدنيا، في حين أنّ مثل هذا الرجوع غير ممن في السنّة الإلهية، كما أنّ رجوع الطفل إلى رحم الاُمّ، والثمرة المقطوفة إلى الشجرة غير ممكن.

والجدير بالذكر أنّ طلب المجرمين الوحيد هو الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحاً، ومن هنا يتّضح جيّداً أنّ رأس مال النجاة الوحيد في القيامة هو الأعمال الصالحة .. تلك الأعمال التي تنبع من قلب طاهر مليء بالإيمان، وتتمّ بخالص النيّة.

ولمّا كان كلّ هذا الإصرار والتأكيد على قبول الإيمان قد يوهم عجز الله سبحانه عن أن يلقي نور الإيمان في قلوب هؤلاء، فإنّ الآية التالية تضيف: (ولو شئنا لآتينا كلّ نفس هداها).

فمن المسلّم أنّ الله تعالى يمتلك مثل هذه القدرة، إلاّ أنّ الإيمان الذي يتحقّق ويتمّ بالإجبار لا قيمة له، ولذا فالمشيئة الإلهيّة أرادت أن ينال الإنسان شرف كونه مختاراً، وأن يسير في طريق التكامل بحريته وإختياره، ولذلك تضيف في النهاية لقد قرّرت أن أخلق الإنسان مختاراً (ولكن حقّ القول منّي لأملأنّ جهنّم من الجنّة والناس أجمعين).

أجل .. إنّ المجرمين سلكوا هذا الطريق بسوء إختيارهم، ولذلك فهم مستحقّون للعقاب، ونحن قد قطعنا على أنفسنا أن نملأ جهنّم منهم.

وبملاحظة ما قلناه، وبملاحظة مئات الآيات القرآنية التي تعتبر الإنسان موجوداً مختاراً ذا إرادة، ومكلّفاً بتكاليف، ومسؤولا عن أعماله، وقابلا للهداية

[  118 ]

بواسطة الأنبياء وتهذيب النفس وتربيتها، فإنّ كلّ توهّم يبتني على أنّ الآية أعلاه دليل على الجبر ـ كما ظنّ ذلك الفخر الرازي وأمثاله ـ واضح البطلان.

ولعلّ الجملة الشديدة القاطعة أعلاه إشارة إلى أن لا تتصوّروا أنّ رحمة الله الواسعة تمنع من عقاب المجرمين الفسقة والظالمين، وأن لا تغترّوا بآيات الرحمة وتعدّوا أنفسكم بمأمن من العذاب الإلهي، فإنّ لرحمته موضعاً، ولغضبه موضعاً.

إنّه عزّوجلّ سَيَفِي بوعيده حتماً ـ وخاصّة بملاحظة لام القسم في جملة (لأملأنّ) ونون التوكيد في آخرها ـ وسيملأ جهنّم من أصحابها هؤلاء، وإن لم يفعل فذلك خلاف الحكمة، ولذلك تقول الآية التالية: إنّا سنقول لأصحاب النار (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنّا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون).

مرّة اُخرى يستفاد من هذه الآية أنّ نسيان محكمة القيامة العادلة هو الأساس لكلّ تعاسة وشقاء للإنسان، لأنّه سيرى نفسه في هذه الصورة حرّاً إزاء إرتكاب القبائح والظلم والعدوان.

وكذلك يستفاد من الآية بوضوح أنّ العقاب الأبدي للفرد معلول لما إرتكبه من أعمال في دار الدنيا، لا لشيء آخر.

وضمناً يتّضح أنّ المراد من «نسيان الله» هو عدم رعايته ونصرته لهم، وإلاّ فإنّ جميع العالم حاضر دوماً عند الله، ولا معنى للنسيان بالنسبة له عزّوجلّ.

* * *

 

مسألتان

1 ـ إستقلال الروح وأصالتها

الآية الاُولى من الآيات مورد البحث، والتي لها دلالة على قبض الأرواح بواسطة ملك الموت، من أدلّة إستقلال روح الإنسان، لأنّ التعبير بالتوفّي (والذي

[  119 ]

يعني القبض) يوحي بأنّ الروح تبقى بعد إنفصالها عن البدن ولا تفنى.

والتعبير عن الإنسان في الآية بالروح أو النفس في الآية أعلاه شاهد آخر على هذا المعنى، لأنّ الروح ـ وفق نظرية الماديّين ـ ليست إلاّ الخواص الفيزيائية والكيميائية للخلايا المخيّة، وهي تفنى بفنائها، تماماً كما تفنى حركات عقارب الساعة بعد فنائها وتحطّمها. وطبقاً لهذه النظرية فإنّ الروح ليست هي المحافظة على شخصية الإنسان، بل هي جزء من خواصّ جسمه تتلاشى عند تلاشي جمسه.

ولدينا أدلّة فلسفية عديدة على أصالة الروح وإستقلالها، ذكرنا بعضاً منها في ذيل الآية (85) من سورة الإسراء، والمراد هنا بيان الدليل النقلي على هذا الموضوع، حيث تعتبر الآية أعلاه من الآيات الدالّة على هذا المعنى.

 

2 ـ ملك الموت

يستفاد من آيات القرآن المجيد أنّ الله سبحانه يدبّر اُمور هذا العالم بواسطة مجموعة من الملائكة، كما في الآية (5) من سورة النازعات حيث يقول: (فالمدبّرات أمراً)ونعلم أنّ السنّة الإلهيّة قد جرت على أن تمضي الاُمور بأسبابها.

وقسم من هؤلاء الملائكة هم الملائكة الموكّلون بقبض الأرواح، والذين أشارت إليهم الآيات (28 و33) من سورة النحل، وبعض الآيات القرآنية الاُخرى، وعلى رأسهم ملك الموت.

وقد رويت أحاديث كثيرة في هذا الباب، تبدو الإشارة إلى بعضها لازمة من جهات:

1 ـ في حديث روي عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «الأمراض والأوجاع كلّها بريد الموت ورسل الموت! فإذا حان الأجل أتى ملك الموت بنفسه فقال: ياأيّها العبد، كم خبر بعد خبر؟ وكم رسول بعد رسول؟ وكم بريد بعد بريد؟ أنا الخبر

[  120 ]

الذي ليس بعدي خبر! وأنا الرّسول أجب ربّك طائعاً أو مكرهاً.

فإذا قبض روحه وتصارخوا عليه، قال: على مَن تصرخون؟ وعلى من تبكون؟ فوالله ما ظلمت له أجلا، ولا أكلت له رزقاً، بل دعاه ربّه، فليبك الباكي على نفسه، وإنّ لي فيكم عودات وعودات حتّى لا اُبقي فيكم أحداً»(1).

طالعوا هذا الحديث المروّع مرّة اُخرى، فقد اُخفيت فيه حقائق كثيرة.

2 ـ وفي حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): «دخل رسول الله على رجل من الأنصار يعوده، فإذا ملك الموت عند رأسه، فقال رسول الله: ياملك الموت، ارفق بصاحبي فإنّه مؤمن، فقال: أبشر يامحمّد، فإنّي بكلّ مؤمن رفيق، واعلم يامحمّد، أنّي لأقبض روح ابن آدم فيصرخ أهله، فأقوم في جانب الدار فأقول: والله، ما لي من ذنب، وإنّ لي لعودة وعودة، الحذر الحذر، وما خلق الله من أهل بيت ولا مدر ولا شعر ولا وبر، في برّ ولا بحر إلاّ وأنا أتصفّحهم في كلّ يوم وليلة خمس مرّات حتّى أنّي لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم»(2).

وقد وردت روايات اُخرى بهذا المضمون في مختلف المصادر الإسلامية، تحذّر جميعاً كلّ البشر أنّ المسافة بينهم وبين الموت ليست كبيرة! ومن الممكن جدّاً أن ينتهي كلّ شيء في لحظة قصيرة.

أيحسن بالإنسان والحال هذه أن يغترّ وينخدع بزخارف هذه الدنيا وزبرجها، ويتلوّث بأنواع المعاصي والظلامات، ويبقى غافلاً عن عاقبة أعماله؟!

 

* * *

______________________________________

1 ـ مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث، وتفسير نور الثقلين، ج 4، ص 225.

2 ـ تفسير الدرّ المنثور طبقاً لنقل الميزان، الجزء 16، صفحة 255.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=829
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29