• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الحادي عشر ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الفرقان من أول السورة ـ آية 26 من ( ص 183 ـ 235 ) .

سورة الفرقان من أول السورة ـ آية 26 من ( ص 183 ـ 235 )

[183]

 

سُورَةُ الفُرقانْ

مَكيَّة

وَ عَدَدُ آياتِها سَبْع وَسَبْعُونَ آية

 

 

[185]

 

«سورة الفرقان»

 محتوى سورة الفرقان:

هذه السورة بحكم كونها من السور المكية(1)، فإن أكثر ارتكازها على المسائل المتعلقة بالمبدأ والمعاد، وبيان نبوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمواجهة مع الشرك والمشركين، والانذار من العواقب الوخيمة للكفر وعبادة الأصنام والذنوب.

و تتألف هذه السورة في مجملها من ثلاثة أقسام: ـ

القسم الأوّل: الذي يشكل مطلع هذه السورة، يدحض منطق المشركين بشدّة، و يستعرض ذرائعهم، ويردُّ عليها، ويخوفهم من عذاب الله، وحساب يوم القيامة، و عقوبات جهنم الأليمة، ويذكرّهم بمقاطع من قصص الأقوام الماضية الذين افترستهم على أثر مخالفتهم لدعوة الأنبياء ـ الشدائد والبلايا والعقوبات، وذلك على سبيل الدرس والعبرة لهؤلاء المشركين المعاندين.

في القسم الثانى: لأجل إكمال هذا البحث، تبحث الأيات بعض دلائل التوحيد ومظاهر عظمة الله في الأكوان، بدءاً من ضياء الشمس إلى ظلمة وعتمة الليل، وهبوب الرياح، ونزول الأمطار، وإحياء الأراضي الموات، وخلق السماوات والأرضين في ستة أيّام، وخلق الشمس والقمر، وسيرهما المنظم في الأفلاك السماوية، وما شابه ذلك.

_____________________________
 
1 ـ يُصر بعض المفسّرين على أن ثلاث آيات من هذه السورة (68، 69، 70) نزلت في المدينة، ولعل ذلك لأنّ أحكاماً مثل قتل النفس والزنا، شُرِّعت في هذه الآيات، في حين أن التدقيق في الآيات التي قبلها والتي بعدها، يكشف جيداً عن أنّ السياق واحد متصل ومنسجم تماماً حول (عباد الرحمن)
وبيان أوصافهم، لذا فالظاهر أن السورة نزلت كلها في مكّة.

[186]

فالقسم الأوّل في الحقيقة ـ يحدد مفهوم (لا إله)، والقسم الثّاني يحدد مفهوم (إلاّ الله).

القسم الثالث: مختصر جذاب جدّاً، وجامع لصفات المؤمنين الحقيقيين (عباد الرحمن) وعباد الله المخلصين، في مقايسة مع الكفار المتعصبين الذين ذكروا في القسم الأوّل، فتتحدد منزلة كل من الفريقين تماماً. كما أنّنا سنرى أنّ هذه الصفات مجموعة من الاعتقاديات والأعمال الصالحة ومكافحة الشهوات، وامتلاك الوعي الكافي، والإحساس والإلتزام بالمسؤولية الإجتماعية.

و اسم هذه السورة قد اُخذ من آيتها الأُولى، التي تعبر عن القرآن  بـ «الفرقان» (الفاصل بين الحق والباطل).

 

فضيلة سورة الفرقان:

ورد في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن «من قرأ سورة الفرقان (و تدبّر في محتواها وعمل بما ورد فيها) بعث يوم القيامة وهو مؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور».(1) (أي مؤمن بأن الساعة...)

و نقل في حديث آخر عن إسحاق بن عمار عن الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام أنّه قال له: «يابن عمار، لا تدع قراءة سورة (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) فإن من قرأها في كل ليلة لم يعذبه الله أبداً، ولم يحاسبه، وكان منزله في الفردوس الأعلى».(2)

كما أننا سنرى ـ في تفسير هذه السورة ـ أن كلَّ من تلا بحق صفات عباد الله المخلصين المبيّنة في السورة كما هي، وامتزجت بقلبه وروحه، وبنى صفاته أعماله طبقاً لها فإنّ منزِله الفردوس الأعلى.

* * *

_____________________________
 
1 ـ مجمع البيان آخر الآية مورد البحث.
2 ـ ثواب الاعمال للصدوق، طبقاً لنقل نور الثقلين، ج 4، ص 2 .

[187]

 

 

الآيتان

 

تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لَلْعَـلَمِينَ نَذيراً(1) الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَتِ والأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَريكٌ فِى الْمُلْكِ وخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً(2)

 

التّفسير

المقياس الأعلى للمعرفة:

تبدأ هذه السورة بجملة «تبارك» من مادة «بركة»، ونعلم أنّ الشيء ذو بركة، عبارة عن أنّه ذو دوام وخير ونفع كامل. يقول تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً).(1)

الملفت للإنتباه أنّ ثبوت البركة لذات الخالق عزَّوجلّ بواسطة نزول الفرقان، يعني أنّه أنزل قرآناً فاصلا بين الحق والباطل، وهذا يدل على أن أعظم الخير والبركة هي أن يمتلك الإنسان بيده وسيلة المعرفة ـ معرفة الحق من الباطل.

و هنا وقفة مهمّة أيضاً، وهي أنّ كلمة «الفرقان» وردت بمعنى «القرآن» تارةً، و تارةً بمعنى معجزات مميزة للحق من الباطل، ووردت بمعنى «التوراة» تارةً

_____________________________
 
1 ـ ورد شرح كلمة «البركة» في ج 5، آخر الآية (54) من سروة الأعراف، شرح اصل «البركة»
.

[188]

أخرى.

عن القرآن والفرقان، أهما شيئان، أو شيء واحد؟ فقال: «القرآن: جُملةُ الكتاب، والفرقان: المحكم الواجب العمل به».

ولا منافاة بين هذا القول وبين أنّ الفرقان هو جميع آيات القرآن، والمراد هو أنّ آيات القرآن المحكمات تعتبر مصداقاً أوضح وأبرز للفرقان وللتمييز بين الحق والباطل.

ولموهبة «الفرقان والمعرفة» أهمية بالغة بحيث أنّ القرآن المجيد ذكرها كمكافأة عظيمة للمتقين: (يا أيّها الذي آمنوا إنْ تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً..)(1).

نعم، فبدون التقوى لا يمكن تمييز الحق من الباطل، لأنّ الأهواء والذنوب تلقي على وجه الحق حجاباً كثيفاً، وتعمي بصر ابن آدم وبصيرته.

و على أية حال، فالقرآن المجيد هو الفرقان الأعلى.

القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في نظام حياة البشر.

القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في مسير الحياة الفردية والإجتماعية، وهو الميزان والمحك على صعيد الأفكار والعقائد، والقوانين، والأحكام، والآداب، والأخلاق.

وهذه الوقفة مهمّة أيضاً، حيث يقول تعالى (نزّل الفرقان على عبده) نعم، فمقام العبودية والإنقياد التامّين هو الذي يحقق اللياقة لنزول الفرقان، ولتلقي موازين الحق والباطل.

والنكتة الأخيرة التي طرحت في هذه الآية، تبيّن أنّ هدف الفرقان النهائي هو إنذار العالمين، الإنذار الذي نتيجته الإحساس بالمسؤولية تجاه التكاليف الملقاة على عاتق الإنسان. وعبارة «للعالمين» كاشفة عن أنّ شريعة الإسلام

_____________________________
 
1 ـ سورة الأنفال، الآية 29 .

[189]

عالمية لا تختص بمنطقة معينة، ولا بقوم أو عنصر معينين. بل إن بعضهم قد استدل منها على خاتمية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك أن «العالمين» كما أنّها غير محدودة من حيث المكان، فكذلك مطلقة من حيث الزمان أيضاً، فـ «العالمين» تشمل جميع الأجيال القادمة أيضاً (فتأمل!).

الآية الثّانية تصف الله الذي نزل الفرقان بأربع صفات، صفة منها هي الأساس، والبقية نتائج وفروع لها، فتقول أوّلا: (الذي له ملك السموات والأرض)(1).

نعم، إنّه الحاكم على كل عالم الوجود، وكل السماوات والأرض، فلا شيء خارج عن سلطة حكومته، وبالإلتفات إلى تقدم «له» على «ملك السموات» الذي هو دليل الحصر في اللغة العربية يستفاد أن الحكومة الواقعية والحاكمية المطلقة في السماوات والأرض منحصرة به تبارك وتعالى، ذلك لأن حكومته عامّة وخالدة وواقعية، بخلاف حاكمية غيره التي هي جزئية ومتزلزلة. وفي نفس الوقت فهي مرتبطة به سبحانه.

ثمّ يتناول تفنيد عقائد المشركين واحدة بعد الأُخرى، فيقول تعالى: (ولم يتخذ ولداً)(2).

و كما قلنا من قبل فإن الحاجة إلى الولد من حيث الأصل إمّا لأجل الإستفادة من طاقته البشرية في الأعمال، أو لأجل الإستعانة به حال الضعف والعجز والشيخوخة، أو لأجل الإستئناس به في حال الوحدة، ومن المعلوم أن ذاته المقدسة عزَّوجلّ منزّهة عن أي واحد من تلك الإحتياجات.

وبهذا الترتيب، يدحض اعتقاد النصارى بأنّ «المسيح»(عليه السلام) ابن الله، أو ما

_____________________________
 
1 ـ كلمة (المُلْك)
كما يقول «الراغب» في «المفردات» بمعنى تملك الشيء والحاكمية عليه، في حين أن (المِلْك) ليس دليلا على الحاكمية وتصرف المالك دائماً. وبهذا الترتيب: فكلُ مُلك مُلكاً، في حين أنّ ليس كل مِلك مُلكاً.
2 ـ ورد إيضاح أكثر حول نفي الولد عن الله تعالى، ودلائل ذلك في تفسير الآية (116) من سورة البقرة.

[190]

يعتقده اليهود أنّ «العزير» ابن الله، وكذلك يدحض اعتقاد مشركي العرب، ثمّ يضيف جل ذكره: (ولم يكن له شريك في الملك).

فإذا كان لمشركي العرب اعتقاد بوجود الشريك أو الشركاء، ويتوهمونهم شركاء لله في العبادة، ويتوسلون بهم من أجل الشفاعة، ويسألونهم المعونة لقضاء حوائجهم، حتى آل بهم الأمر أنّهم كانوا يقولون بصراحة ـ حين التلبية للحج ـ جملا قبيحة ملوثة بالشرك، مثل: «لبيك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك». فإنّ القرآن يدين ويدحض كل هذه الأوهام.

و يقول تعالى في العبارة الأخيرة: (وخلق كلَّ شيء فقدّره تقديراً).

ليس كمثل اعتقاد الثنويين الذين يعتقدون بأن قسماً من موجودات هذا العالم مخلوقات «الله»، وأن قسماً منها مخلوقات «الشيطان».

و بهذا الترتيب كانوا يقسمون الخلق والخلقة بين الله والشيطان، ذلك لأنّهم كانوا يتوهمون الدنيا مجموعة من «الخير» و «الشر»، والحال ألاّ شيء في عالم الوجود إلاّ الخير من وجهة نظر الموحد الحق. فإذا رأينا شرّاً، فإمّا أن يكون ذا جنبة «نسبية» أو «عدمية»، أو أن يكون نتيجة لأعمالنا (فتأمل)!.

* * *

 

بحث

تقدير الموجودات بدقة:

ليس نظام العالم الدقيق والمتقن ـ وحده ـ من الدلائل المحكمة على معرفة الله وتوحيده، فتقديراته الدقيقة أيضاً دليل واضح آخر، أنّنا لا يمكن أن نعتبر مقادير موجودات هذا العالم المختلفة، وكميتها وكيفيتها المحسوبة، معلولة للصدفة التي لا تتوافق مع حساب الإحتمالات.

و قد تقصّى العلماء الأمر في هذا الصدد، وأزاحوا الستار عن أسراره

[191]

المدهشة التي تذهل فكر الانسان، وتترك لسانه يترنم بتمجيد عظمة وقدرة الخالق بلا اختيار.

و نعرض لكم ـ ها هنا ـ جانباً من ذلك:

يقول العلماء: لو كانت قشرة الأرض أسمك ممّا هي عليه الآن بمقدار بضعة أقدام، لما وجد غاز «الاوكسجين» الذي يعتبر المادة الاصلية للحياة، ولو كانت البحار أعمق من عمقها الفعلي عدّة أقدام لا متصت جميع ما في الجو من الكاربون و الاوكسجين، ولما امكن وجود حياة لحيوان ونبات على سطح الارض، ويحتمل أن تقوم قشرة الأرض والبحار بامتصاص كل الأوكسجين، وكان على الانسان أن ينتظر نمو النباتات التي تلفظ الأوكسجين.

وطبقاً للحسابات الدقيقة في هذا المجال يتّضح أنّ للأوكسجين مصادر مختلفة، ولكن مهما كان مصدره فإنّ كميته مطابقة لاحتياجاتنا بالضبط.

ولو كانت طبقة الغلاف الجوي أرق ممّا هي عليه الآن ممّا هو، فإنّ بعض الشهب التي تحترق كل يوم بالملايين في الهواء الخارجي، كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثّانية، وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للإحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض ولكانت العاقبة مروعة، ولو تعرض الأنسان للاصطدام بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة، لتحول الى رماد لمجرّد حرارته.

الغلاف الجوي سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيموي التي يحتاج إليها الزرع والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون أن تضر بالإنسان، إلاّ إذا عرّض نفسه لها مدة أطول من اللازم. وعلى الرغم من الإنبعاثات الغازية من اعماق الأرض طول الدهور، ومعظمها سام، فإنّ الهواء باق دون تلوث في الواقع، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان.

إنّ الجهاز الذي يقوم بهذه الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء،

[192]

أى البحار والمحيطات التي هي مصدر الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل، وأخيراً استمد الإنسان نفسه جميع تلك المقومات الحيوية منهما، فدع من يدرك ذلك يقف في روعة أمام عظمته تعالى، ويقرُّ بواجباته شاكراً!

إنّ التعادل العجيب بين الأوكسجين وثاني أوكسيد الكاربون فيما يتعلق بالحياة الحيوانية، وعالم النبات كلّه، قد استرعت أنظار كل العالم المفكر، غير أن أهمية ثاني أوكسيد الكاربون لم يدركها الجميع بعد، وثاني أوكسيد الكاربون هو الغاز المألوف في تعبئة ماء الصودا، وهوغاز ثقيل، ولحسن الحظ يعلق بالأرض، و لايتمّ فصله إلى أوكسجين وكاربون إلاّ بصعوبة كبيرة، وإذا أشعلت ناراً، فإنّ الخشب ـ الذي يتكون غالباً من الأوكسجين والكاربون والهيدروجين ـ يتحلل تحت تأثير الحرارة ويتحد الكاربون مع الأوكسجين بشدّة، وينتج من ذلك ثاني أوكسيد الكاربون. والهيدروجين الذي يطلق يتحد بمثل تلك الشدة مع الأوكسجين فنحصل على بخار الماء. ومعظم الدخان هو كاربون خالص غير متحد مع غيره.

وحين يتنفس رجل فإنّه يستنشق الأوكسجين فيتلقاه الدم، ويقوم بتوزيعه الى جميع انحاء جسمه، ويقوم هذا الأكسجين يحرق طعامه في كل خلية ببطء شديد عند درجة حرارة واطئة نسبياً، النتيجة هي ثاني أوكسيد الكاربون وبخار الماء.

و بذلك يتسلل ثاني أوكسيد الكاربون إلى رئتيه، ويعود الى الجو مرّة اُخرى من خلال الزفير، وكلّ كائن حيواني حي يمتص الاوكسجين ويلفظ ثاني اوكسيد الكاربون.

ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان ـ مهما يكن من وحشيته، أو ضخامته، أو مكره ـ من السيطرة على العالم غير أنّ الإنسان وحده بامكانه قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر، وسرعان ما يلقى جزاءه القاسي على ذلك ماثلا في تطورات آفات الحيوان

[193]

والحشرات والنبات.

والواقعة الآتية مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان، فمنذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبّار (الكاكتوس) في أستراليا كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطي مساحة تقرب من مساحة إنجلترا، وزاحم أهالي المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة، ولم يجد الأهالي وسيلة لصده عن الإنتشار، وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع الصامت، يتقدم في سبيله دون عائق!

وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيراً حشرة لا تعيش إلاّ على ذلك الصبار ولا تتغذى بغيره، وهي سريعة الإنتشار وليس لها عدو يعوقها في أستراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبّار، ثمّ تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبّار عن الأنتشار إلى الابدّ.

وهكذا توافرت الضوابط والموازين، وكانت دائماً مجدية.

ولماذا لم تسيطر بعوضة الملاريا على العالم وتقتل بذلك النوع البشري مع أن البعوض متوفر في جميع انحاء العالم حتى في القطبين؟ ومثل ذلك أيضاً يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شمالا في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك.

و لماذا لم تتطور ذبابة «تسي تسي» «الذبابة المنومة» حتى تستطيع أن تعيش في غير مناطقها الحارة، وتمحو الجنس البشري من الوجود؟ يكفي أن يذكر الإنسان الطاعون والأوبئة والجراثيم الفتاكة التي لم يكن منها وقاء حتى الأمس القريب، وأن يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية، ليعلم أن بقاء الجنس البشري معها يدعو حقاً إلى الدهشة!(1).

* * *

_____________________________
 
1 ـ اُقتباس من كتاب «الإنسان لا يقوم وحده» تأليف كريسي موريسون، ترجمه محمود صالح الفلكي بعنوان (العلم يدعو للإيمان)، من الصفحات 65، 66، 70، 71، 159، 160.

[194]

 

 

الآيات

 

وَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ  وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعَاً وَلاَ يَمْلِكونَ مَوْتاً ولاَ حَيَوةً وَلاَ نُشُوراً(3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّإفْكٌ افْتَرِاهُ وَأَعَانَهُ عَليْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُو ظُلْماً وَزُوراً (4)وَقَالُواْ أسَـطِيرُ الاَْوَّلينَ اكْتَتَبَهَا فَهِى تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأصِيلا(5) قُلْ أنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَـوتِ وَالاَْرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً(6)

 

التّفسير

الإِتهامات المتعددة الألوان:

هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ تتمة للبحث الذي ورد في الآيات السابقة، في مسألة المواجهة مع الشرك وعبادة الأوثان. ثمّ في الإدعاءات الواهية لعبدة الأوثان، واتهاماتهم فيما يتعلق بالقرآن، وشخص النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

الآية الأُولى ـ في الواقع ـ تجر المشركين إلى المحاكمة، ولتحريك وجدانهم

[195]

تقول بمنطق واضح وبسيط، وفي نفس الوقت قاطع وداحض: (واتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون).

المعبود الحقيقي هو خالق عالم الوجود، ولا يدعي المشركون هذا الإدعاء لأوثانهم، بل يعتقدون أنّها مخلوقة لله.

وبعدُ، فماذا يمكن أن تكون دوافعهم لعبادة الأوثان التي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فما بالك بما تستطيعه للآخرين!؟ (ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً).

والاُصول المهمّة عند الإنسان هي هذه الأُمور الخمسة بالذات: النفع والضر، والموت، والحياة، والنشور.

فمن يكن بحق مالكاً أصيلا لهذه الأُمور، يكن بالنسبة إلينا جديراً بالعبادة.

لكن هذه الأصنام غير قادرة أصلا على هذه الأُمور لنفسها، فكيف تريد أن توفّر هذه الاُمور لمن يعبدها من المشركين؟!

أي منطق مفتضح هذا!؟ أن ينقاد الإنسان ويتذلل على أعتاب موجود  لا اختيار له في نفسه، فما بالك باختياره للآخرين!؟

هذه الأوثان ليست عاجزة في الدنيا عن حل مشكلة ما لعبدتها فحسب، بل إنّها لا يؤمل منها شيء في الآخرة أيضاً.

هذا التعبير يدل على أنّ هذه الفئة من المشركين، المخاطبة في هذه الآيات، كانت تقبل بالمعاد نوعاً من القبول (المعاد الروحي لا الجسدي)، أو أن القرآن ـ حتى مع عدم اعتقادهم بمسألة المعاد ـ يتناول القضية كمسلّمة، فيخاطبهم بشكل قاطع على هذا الصعيد، وهذا مألوف، فالإِنسان أحياناً يكون أمام شخص منكر للحقيقة، لكنّه يدلي بكلامه طبقاً لأفكاره هو، دون اعتناء بأفكار ذلك المنكر. خاصّة وأنّ دليلا ضمنياً على المعاد قد كمن في نفس الآية، لأنّ خالقاً حينما يبتدع مخلوقاً ـ وهو مالك موته وحياته وضرّه ونفعه ـ لابدّ أن يكون له هدف من خلقه،

]196]

ولايمكن أن يتحقق هذا الهدف فيما يخص الناس بدون الإِيمان بالنشور، ذلك لأنّه إذا انتهى بموت الإِنسان كل شيء، فسوف تكون الحياة فارغة بلا معنى، وهذا يدلّ على أن ذلك الخالق لم يكن حكيماً.

إذا تأملنا جيداً وجدنا مسألة «الضرر» جاءت في الآية قبل «النفع» وذلك لأن الإِنسان ينفر من الضرر بالدرجة الأُولى، ولهذا كانت جملة «دفع الضرر أولى من جلب المنفعة» أحد القوانين العقلائية.

وإذا كان «الضرر» و «النفع» و «الموت» و «الحياة» و «النشور» جاءت بصيغة النكرة، أيضاً، فلأجل بيان هذه الحقيقة، وهي أن هذه الأوثان لا تملك نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا، حتى في مورد واحد، فما بالك بالموارد كلها!؟

وإذا ذكرت «لا يملكون» و «لا يخلقون» بصيغة «جمع المذكر العاقل» (في حال أنّ هذه الأوثان الحجرية والخشبية ليس لها أدنى عقل أو شعور) فذلك لأنّ هذا الخطاب لا يتعلق بالأوثان الحجرية والخشبية فحسب، بل بالجماعة التي كانت تعبد الملائكة أو المسيح، ولأن العاقل وغير العاقل مجتمعان في معنى هذه الجملة، فذكر الجميع بصيغة العاقل من باب «التغليب» كما في الإِصطلاح الأدبي.

أو أن الخطاب في هذه العبارة كان طبقاً لإعتقاد المخاطبين به، حتى يثبت عجزهم وعدم استطاعتهم، يعني: إذا كنتم تعتقدون أن هذه الأوثان ذات عقل وشعور، فلماذا لا تستطيع أن تدفع عن نفسها ضرراً، أو أن تجلب منفعة!؟

الآية التالية ـ تتناول تحليلات الكفار ـ أو حججهم على الأصح ـ في مقابل دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: (وقال الذين كفروا إن هذا إلاّ إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون).

في الواقع، إنّهم من أجل أن يلقوا عن عواتقهم مسؤولية تحمل الحق ـ شأن كل الذين أصروا على معارضة القادة الربانيين على طول التاريخ ـ اتهموا الرّسول

[197]

صلّى الله عليه وآله وسلّم أوّلا بالإِفتراء والكذب، خاصّة وأنّهم قد استخدموا لفظة «هذا» ليحقروا القرآن.

ثمّ من أجل أن يثبتوا أنّه غير قادر على الإِتيان بمثل هذا الكلام ـ لأنّ الإِتيان بمثل هذا الكلام المبين مهما يكن بحاجة إلى قدرة علمية وافرة، وما كانوا يريدون التسليم بهذا ـ ومن أجل أن يقولوا أيضاً: إنّ هذا خطّة مدبرة ومحسوبة، قالوا: إنّه لم يكن وحده في هذا العمل، بل أعانه قوم آخرون، وهذه مؤامرة بالتأكيد، ويجب الوقوف بوجهها.

بعض المفسّرين قالوا: إنّ المقصود بـ (قوم آخرون) جماعة من اليهود.

وقال آخرون: إنّ المقصود بذلك ثلاثة نفر كانوا من أهل الكتاب، وهم: «عداس» و «يسار» و «حبر» أو «جبر».

على أية حال ـ بما أنّ هذه المواضيع لم يكن لها وجود في أوساط مشركي مكّة، وإنّ قسماً منها مثل قصص الأنبياء الأولين كان عند اليهود وأهل الكتاب ـ فقد كان المشركون مضطرين الى نسبة هذه المطالب الى أهل الكتاب كي يخمدوا موجة إعجاب الناس من سماع هذه الآيات.

لكن القرآن يردُّ عليهم في جملة واحدة فقط، تلك هي: (فقد جاؤوا ظلماً وزوراً).(1)

«الظلم» هنا لأنّ رجلا أميناً طاهراً وصادقاً مثل الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) اتّهموه بالكذب والإِفتراء على الله، وبالإِشتراك مع جماعة من أهل الكتاب. فظلموا أنفسهم والناس أيضاً.

و «الزور» هنا أن قولهم لم يكن له أساس مطلقاً، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) دعاهم عدّة مرات إلى الإِتيان بسورة وآيات مثل القرآن، فعجزوا وضعفوا أمام هذا التحدي.

_____________________________

 

1 ـ «جاؤا»

من مادة «مجيء»: يراد بها عادة معنى «القدوم»، لكنّها وردت هنا بمعنى «الإتيان»

، كما نقرأ أيضاً في الآية (81) سورة يونس أن موسى(عليه السلام)

قال للسحرة «ما جئتم به السحر».

[198]

وهذا بالذات يدل على أن هذه الآيات ليست من صنع عقل البشر، لأنّ الأمر لو كان كذلك، لكانوا يستطيعون بمعونة جماعة اليهود وأهل الكتاب أن يأتوا بمثلها. ومن هنا فإنّ عجزهم دليل على كذبهم، وكذبهم دليل على ظلمهم.

لهذا فالجملة، القصيرة (فقد جاؤوا ظلماً وزوراً) رد بليغ وداحض في مواجهة ادعاءاتهم الواهية.

كلمة «زور» في الأصل من «زَور» (على وزن غور) أخذت بمعنى: أعلى الصدر، ثمّ أطلقت على كل شيء يتمايل عن حدّ الوسط، وبما أن «الكذب» انحرف عن الحق، ومال إلى الباطل، فقد، سمّوه «زوراً».

تتناول الآية التالية لوناً آخر من التحليلات المنحرفة والحجج الواهية للمشركين فيما يتعلق بالقرآن، فتقول: (وقالوا أساطير الأولين أكتتبها).

لا شيء عنده من قبل نفسه، لا علم ولا ابتكار، فكيف له بالنّبوة والوحي! إنّه استعان بآخرين، فجمع عدّة من الأساطير القديمة، وأطلق عليها اسم الوحي والكتاب السماوي. وهو يستلهمها من الآخرين طيلة اليوم من أجل الوصول إلى هذا الهدف (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا).

إنّه يتلقى المعونة لأجل هدفه في الأوقات التي يقلُّ فيها تواجد الناس، أي بكرة وعشياً.

هذا الكلام ـ في الحقيقة ـ تفسير وتوضيح للإِتهامات التي نقلت عنهم في الآية السابقة. إنّهم في هذه الجملة القصيرة أرادوا أن يفرضوا على القرآن مجموعة من نقاط الضعف:

أوّلها: أن ليس في القرآن موضوع جديد مطلقاً، بل مجموعة من الأساطير القديمة.

و الثّانية: أنَّ نبي الإِسلام لا يستطيع الإستمرار بدعوته ـ حتى يوماً واحداً ـ بدون مساعدة الآخرين، فلابدّ أن يُملوا الموضوعات عليه بكرة وعشياً، وعليه أن

[199]

يكتبها.

والأُخرى: أنّه يعرف القراءة والكتابة. فإذا قال: إنّني اُمّي، فهي دعوى كاذبة.

إنّهم ـ في الواقع ـ كانوا يريدون أن يفرقوا الناس عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بواسطة هذه الأكاذيب والإتهامات، في الوقت الذي يعلم كل العقلاء الذين عاشوا مدّة في ذلك المجتمع، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن قد درس عند أحد، مضافاً إلى أنّه لم تكن له أية رابطة مع جماعة اليهود وأهل الكتاب. وإذا كان يستلهم من الآخرين كل يوم بكرة وعشياً، فكيف أمكن أن يخفى على أحد؟ فضلا عن هذا، فإن آيات القرآن كانت تنزل عليه في السفر والحضر، بين الناس ومنفرداً، وفي كل حال.

مضافاً إلى كل هذا، كان القرآن مجموعة من التعليمات الإِعتقادية، والأحكام العملية، والقوانين، ومجموعة من قصص الأنبياء، ولم تكن قصص الأنبياء لتشكل كل القرآن، مضافاً إلى أنّ ما ورد من قصص الأقوام الأولين في القرآن لم يكن له شبه لما جاء في العهدين (التوراة والإِنجيل) المحرفين، وأساطير العرب الخرافية، لذلك لأنّ ما في العهدين مليء بالخرافات، والقرآن منزّه عنها، ولو وضعنا القرآن والعهدين جنباً إلى جنب، وقايسنا بينهما، فسوف تتجلى حقيقة الأمر جيداً.(1)

لذا فالآية الأخيرة تصرح بصيغة الرد على هذه الإِتهامات الواهية، فتقول: (قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض). إشارة إلى أن محتوى هذا الكتاب، والأسرار، المتنوعة فيه من علوم ومعارف وتاريخ الأقوام الأولين، والقوانين والإِحتياجات البشريه، وحتى أسرار عالم الطبيعة والأخبار المستقبلية،

_____________________________

 

1 ـ يعتقد جماعة من المفسّرين أنّ المراد من جملة (اكتتبها)

: هو أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

أراد من الآخرين أن يكتبوا له هذه الآيات، وكذلك، جملة (تملى عليه)

مفهومها: هو أنّ أُولئك كانوا يلقونها إليه، وكان هو يحفظها. لكنّه مع الإلتفات إلى أنّنا لا دليل لدينا على حمل هاتين الجملتين على خلاف الظاهر، يكون التّفسير الذي ورد في المتن هو الأصح، ففي الواقع إن أولئك كانوا يريدون أن يتهموا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

من هذا الطريق، بأنّه يقرأ ويكتب، لكنّه كان يظهر نفسه أمياً عمداً.

[200]

تدل على أن ليس من صنع ومتناول عقل البشر، ولم ينظم بمساعدة هذا أو ذاك. بل بعلم الذي هو جدير بأسرار السماء والأرض، والمحيط بكل شيء علماً.

لكن مع كل هذا، فإن القرآن يترك طريق التوبة مفتوحاً أمام هؤلاء المغرضين والمنحرفين، فيقول تبارك وتعالى في ختام الآية (إنّه كان غفوراً رحيماً).

فبمقتضى رحمته أرسل الأنبياء، وأنزل الكتب السماوية، وبمقتضى غفوريته سيعفو في ظل الإِيمان والتوبة عن ذنوبكم التي لا تحصى.

* * *

[201]

 

 

الآيات

 

وَقَالُواْ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ االطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاَْسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً(7) أَوْيُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْتَكوُنُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّـلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلا مَّسْحُوراً(8) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاَْمثَـلَ فَضَلُّواْ  فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا(9) تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورا(10)

 

سبب النّزول

في رواية عن الإِمام الحسن العسكري(عليه السلام)، أنّه قال: قلت لأبي علي بن محمد(عليهما السلام): هل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجّهم؟ قال: مراراً كثيرة وذلك أنّ رسول الله كان قاعداً ذات يوم بفناء الكعبة، فابتدأ عبدالله بن أبي أمية المخزومي فقال: يا محمد لقد أدّعيت دعوى عظيمة، وقلت مقالا هائلا، زعمت أنّك رسول ربّ العالمين، وما ينبغي لربّ العالمين

[202]

وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشراً مثلنا، تأكل كما نأكل وتمشي في الأسواق كما نمشي، فقال رسول الله: اللّهمّ أنت السامع لكل صوت، والعالم بكلّ شيء، تعلم ما قاله عبادك فأنزل الله عليه: يا محمد: (وقالوا ما لهذا الرّسول...)إلى قوله تعالى (و يجعل لك قصوراً).(1)

 

التّفسير

لم لا يملك هذا الرّسول كنوزاً وجنات؟!

عُرض في الآيات السابقة قسم من إشكالات الكفار فيما يخص القرآن المجيد، وأجيب عليها، ويعرض في هذه الآيات قسم آخر يتعلق بشخص الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ويجاب عنها، فيقول تعالى: (وقالوا ما لهذا الرّسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق).

ما هذا النّبي الذي يحتاج إلى الغذاء كغيره من الأفراد العاديين؟ ويمشي في الأسواق من أجل الكسب والتجارة وشراء احتياجاته؟ فليست هذه سيرة الرسل ولا طريقة الملوك والسلاطين! وفي الوقت الذي يريد هذا الرّسول التبليغ بالدعوة الإِلهية، ويريد أيضاً السلطنة على الجميع!

لقد كان المشركون يرون أنّه لا يليق بذوي الشأن الذهاب إلى الأسواق لقضاء حوائجهم، بل ينبغي أن يرسلوا خدمهم ومأموريهم من أجل ذلك.

ثمّ أضافوا: (لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً)، فلِمَ لم يُرسل إليه ـ على الأقل ـ ملك من عند الله، شاهد على صدق دعوته، وينذر معه الناس!؟

حسن جداً، لنفرض أنّنا وافقنا على أن رسول الله يمكن أن يكون إنساناً، ولكن لماذا يكون فقيراً فاقداً للثروة والمال!؟ (أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة

_____________________________

 

1 ـ تفسير نور الثقلين، الجزء 4، الصفحة 6 .

]203]

يأكل منها).

ولم يكتفوا بهذا أيضاً، فقد اتهموه آخر الأمر بالجنون بما ابتنوه من استنتاج خاطىء، كما نقرأ في ختام هذه الآية نفسها (وقال الظالمون إن تتبعون إلاّ رجلا مسحوراً). ذلك أنّهم كانوا يعتقدون أن السحرة يستطيعون أن يتدخلوا في فكر وعقول الأفراد فيسلبونهم قوام عقولهم!

من مجموع الآيات أعلاه، يستفاد أنّ المشركين كانت لديهم عدّة إشكالات واهية حول الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانوا يتنازلون عن مقالتهم مرحلة بعد مرحلة.

أوّلا: إنّه أساساً يجب أن يكون ملكاً، وهذا الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ليس ملكاً بالضرورة.

ثمّ قالوا: حسن جدّاً، إن لم يكن ملكاً، فيرسل اللّه ـ على الأقل ـ ملكاً يرافقه ويعينه.

ثمّ تنازلوا عن هذا أيضاً، فقالوا: لنفرض أن رسول الله بشر، فينبغي أن يُلقى إليه كنز من السماء، ليكون دليلا على أنه موضع اهتمام الله.

وقالوا في نهاية المطاف: لنفرض أنه لم يكن له أىٌّ من تلك الميزات، فينبغي على الأقل ألا يكون إنساناً فقيراً، فليكن كأي مزارع مرفه، له بستان يضمن منه معيشته. لكنّه فاقد لكلّ هذا مع الأسف، ويقول إنّني نبيّ!؟

واستنتجوا في الختام، أنّ ادعاءة الكبير هذا، في مثل هذه الشرائط، دليلٌ على أن ليس له عقل سليم.

الآية التالية تبيّن جواب جميع هذه الإِشكالات في عبارة موجزة: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا).

هذه العبارة الموجزة أداء بليغ عن هذه الحقيقة، فهم من خلال مجموعة من الأقوال الواهية التي لا أساس لها وقفوا أمام دعوة الحق والقرآن ـ الذي محتواه شاهد ناطق على ارتباطه بالله ـ ليخفوا وجه الحقيقة.

]204]

حقّاً، إن مثلهم كمثل من يريد أن يقف أمام استدلالاتنا المنطقية من خلال حفنة من الحجج، الواهية: فنقول من دون الاجابة عليها بالتفصيل: انظر بأية ادعاءات واهية يريدون أن يقفوا معها أمام الدليل المنطقي.

و هكذا كانت أقوالهم في جميع مواردها، لأن:

أوّلا: لماذا يجب أن يكون الرّسول من جنس الملائكة؟ بل ينبغي أن يكون قائد البشر منهم، كما يحكم به العقل والعلم، حتى يدرك جميع آلام ورغبات وحاجات ومشكلات ومسائل حياة الانسان تماماً، ليكون قدوة عملية له على كل المستويات، وحتى يستلهم الناس منه في جميع المناهج، ومن المسلّم أن تأمين هذه الأهداف لم يكن ليتحقق لو كان من الملائكة، ولقال الناس إذا حدثهم عن الزهد وعدم الإِهتمام بالدنيا: إنّه ملك، وليست له حاجات مادية تجرّه إلى الدنيا وإذا دعا إلى الطهارة والعفة لقال الناس: إنه لا يدري ما عاصفة الغريزة الجنسية، وعشرات (إذا) مثل تلك.

ثانياً: ما ضرورة أن ينزل ملك ليرافق بشراً من أجل تصديقه؟ أفليست المعجزات كافية لإدراك هذه الحقيقة، وخاصّة معجزة عظيمة كالقرآن!

ثالثاً: أكل الطعام كسائر الناس، والمشي في الأسواق يكون سبباً للإندماج بالناس أكثر، والغوص في أعماق حياتهم، ليؤدي رسالته بشكل أفضل.

رابعاً: عظمة الرّسول وشخصيته مردهما ليس إلى الكنز والنفائس ولا بساتين النخيل والفواكه الطازجة، هذا نمط تفكير الكفار المنحرف الذي يعتبر أن المكانة ـ و حتى القرب من الله ـ في الأثرياء خاصّة، في حال أنّ الأنبياء جاؤوا ليقولوا: أيّها الإِنسان، إنّ قيمة وجودك ليست بهذه الأشياء، إنّها بالعلم والتقوى والإِيمان.

خامساً: بأي مقياس كانوا يعتبرونه «مسحوراً» أو «مجنوناً»؟ الشخص الذي كان عقله معجزاً بشهادة تأريخ حياته وانقلابه العظيم وتأسيسه الحضارة الإِسلامية، كيف يمكن إتهامه بهذه التهمة المضحكة؟ أيصح أن نقول إن تحطيم

]205]

الأصنام ورفض الإِتباع الأعمى للأجداد دليل على الجنون؟!

إتضح بناءً على ما قلناه أن (الأمثال) هنا، خاصّة مع القرائن الموجودة في الآية، بمعنى الأقوال الفارغة الواهية، ولعل التعبير عنها بـ (الأمثال) بسبب أنّهم يلبسونها لباس الحق فكانها مثله، وأقوالهم مثل الأدلة المنطقية، في حال أنّها ليست كذلك واقعاً.(1)

و ينبغي أيضاً الإِلتفات إلى هذه النكتة، وهي أنّ أعداء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتهمونه ـ بـ «الساحر» وأحياناً بـ «المسحور» وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل أن «المسحور» بمعنى «الساحر» (لأن اسم المفعول يأتي بمعنى اسم الفاعل أحياناً) ولكن الظاهر أن بينهما فرقاً.

عندما يقال عنه بأنّه ساحر، فلأن كلامه كان ذا نفوذ خارق في القلوب، ولأنّهم ما كانوا يريدون الإِقرار بهذه الحقيقة، فقد لجأوا إلى اتهامه بـ «الساحر».

أمّا «المسحور» فمعناه أن السحرة تدخّلوا في عقله وتصرفوا به، وعملوا على اختلال حواسه، هذا الإِتّهام نشأ من أن الرّسول كان محطماً لسنتهم، ومخالفاً لعاداتهم وأعرافهم الخرافية، وقد وقف في وجه مصالحهم الفردية.

أمّا جواب جميع هذه الإِتهامات فقد اتضح من الكلام أعلاه

و هنا يأتي هذا السؤال، وهو أنّه لماذا قال تعالى: (فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا).

الجواب هو أنّ الإِنسان يستطيع أن يكتشف الطريق إلى الحق بصورة ما، إذا كان مريداً للحق باحثاً عنه، أمّا من يتخذ موقفه ـ ابتداءً ـ على أساس أحكام

_____________________________

 

1 ـ كثير من المفسّرين اعتبروا (الامثال)

هنا بمعنى (التشبيهات) لكنّهم لم يوضحوا هنا ما هي التشبيهات التي قدمها المشركون، وبعض آخر اعتبر (الأمثال) هنا بمعنى (الصفات)، لأن أحد معاني (المثل) ـ طبقاً لما قاله الراغب في المفردات هو (الصفة)، فالمقصود هنا هي الصفة الواهية التي لا أساس لها، ذلك لأن ما في صدر وذيل الآية القرآنية أعلاه يدل على هذا المعنى، فمن جانب يقول بعنوان التعجب: انظر آية أمثال ضربوا؟ ومن جانب آخر يقول: الاوصاف التي تؤدي الى ضلالهم الذي لا هداية بعده.

[206]

مسبّقة خاطئة ومضلّة، نابعة من الجهل والتزمت والعناد، فمضافاً إلى أنّه لا يعثر على الحق، فإنّه سيتخذ موقعه ضد الحق دائماً.

الآية الأخيرة مورد البحث ـ كالآية التي قبلها ـ توجه خطابها إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)على سبيل تحقير مقولات أُولئك، وأنّها لا تستحق الإِجابة عليها، يقول تعالى: (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً).

و إلاّ، فهل أحدٌ غير الله أعطى الآخرين القصور والبساتين؟ من غير الله خلق جميع هذه النعم والجمال في هذا العالم؟ تُرى أيستحيل على الله القادر المنّان أن يجعل لك أفضل من هذه القصور البساتين؟!

لكنّه لا يريد أبداً أن يعتقد الناس أن مكانتك مردُّها المال والثروة والقصور، ويكونوا غافلين عن القيم الواقعية. إنه يريد أن تكون حياتك كالأفراد العاديين والمستضعفين والمحرومين، حتى يمكنك أن تكون ملاذاً لجميع هؤلاء ولعموم الناس.

أمّا لماذا يقول قصوراً وبساتين أفضل ممّا أراده أُولئك؟ فلأن «الكنز» وحده ليس حلاّل المشاكل، بل ينبغي بعد مزيد عناء أن يستبدل بالقصور والبساتين، مضافاً الى أنّهم كانوا يقولون: ليكن لك بستان يؤمن معيشتك، أمّا القرآن فيقول: إن الله قادر على أن يجعل لك قصوراً وبساتين، لكن الهدف من بعثتك ورسالتك شيء آخر.

ورد في «الخطبة القاصعه» من «نهج البلاغة» بيان معبر وبليغ: هنالك حيث يقول الإِمام(عليه السلام):

«... ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون(عليهما السلام) على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي فشرطا له إنْ أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه فقال: «ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال

[207]

الفقر والذل، فهلاّ أُلقي عليهما أساورة من ذهب، إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه. ولو أراد اللّه سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذُهبان، ومعادان العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء، واضمحلت الأنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين،  ولا لزمت الأسماء معانيها، ولكن الله سبحانه جعل رسله اُولي قوّة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنىً، وخصاصة تملأ الأبصار و الأسماع أذىً.

و لو كانت الأنبياء أهل قوة لا تُرام وعزّة لا تُضام، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال، وتِشدُّ إليه عُقد الرحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الإِعتبار وأبعد لهم في الإِستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيّاتُ مشتركة والحسنات مقتسمة، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الإتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والإِستكانة لأمره والإِستسلام لطاعته، أموراً له خاصّة لا تشوبها من غيرها شائبة. وكلما كانت البلوى والإِختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل».(1)

و الجدير بالذكر أنّ البعض يرى بأنّ المراد بالجنّة والقصور، جنّة الآخرة قصورها، لكن هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية بأي وجه.(2)

 

* * *

_____________________________

 

1 ـ «الخطبة القاصعة»، الخطبة 192 نهج البلاغة.

2 ـ وكذلك الذين قالوا: إن المقصود هو جنات الدنيا وقصور الآخرة، فالفعلان الماضي والمضارع (جعل ويجعل) اللذان في الاية، ينبغي ألا يكونا باعثاً على هكذا وهم أيضاً، لأنّنا نعلم طبقاً لقواعد الأدب العربي، أن الأفعال في الجملة الشرطية تفقد مفهومها الزماني.

[208]

 

 

الآيات

 

بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَاَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالسَّاعَةِ سَعِيراً (11)إِذا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانِ بَعيد سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً(12) وَإِذَآ أُلْقُوأ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَواْ هُنَالِكَ ثُبُوراً (13) لاَّ تَدْعُواْ الْيَوَمَ ثُبُوراً وَحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً(14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً(15) لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَـلِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولا(16)

 

التّفسير

مقارنة بين الجنة والنار:

في هذه الآيات ـ على أثر البحث في الآيات السابقة حول إنحراف الكفار في مسألة التوحيد والنّبوة ـ يتناول القرآن الكريم قسماً آخر من انحرافاتهم في مسألة المعاد، ويتّضح مع بيان هذا القسم أنّهم كانوا أسارى التزلزل والإِنحراف في تمام أصول الدين، في التوحيد، وفي النبوة، وفي المعاد، حيث ورد القسمان

[209]

الأولان منه في الآيات السابقة، ونقرأ الآن القسم الثالث:

يقول تعالى أوّلا: (بل كذبوا بالساعة).

وبما أنّ كلمة «بل» تستعمل لأجل «الإِضراب» فيكون المعنى: أن ما يقوله أُولئك الكفار على صعيد نفي التوحيد والنبوة، إنّما ينبع في الحقيقة من إنكارهم المعاد، ذلك أنه إذا آمن الانسان بهكذا محكمة عظمى وبالجزاء الإِلهي، فلن يتلقى الحقائق بمثل هذا الإِستهزاء واللامبالاة، ولن يتذرع بالحجج الواهية ضد دعوة النّبي وبراهينه الظاهرة، ولن يتذلل أمام الأصنام التي صنعها وزينّها بيده.

لكن القرآن هنا لم يتقدم برد استدلالي، ذلك لأن هذه الفئة لم تكن من أهل الإِستدلال والمنطق، بل واجههم بتهديد مخيف وجسد أمام أعينهم مستقبلهم المشؤوم والأليم، فهذا الاسلوب قد يكون أقوى تأثيراً لمثل هؤلاء الأفراد يقول أوّلا: (واعتدنا لمن كذّب بالساعة سعيراً).(1)

ثمّ وصف هذه النار المحرقة وصفاً عجيباً، فيقول تعالى: (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً).

في هذه الآية، تعبيرات بليغة متعددة، تخبر عن شدّة هذا العذاب الإِلهي:

1 ـ إنّه لا يقول: إنّهم يرون نار جهنم من بعيد، بل يقول: إن النار هي التي تراهم ـ كأن لها عيناً وأُذناً ـ فسمّرت عينها على الطريق بانتظار هؤلاء المجرمين.

2 ـ إنّها لا تحتاج إلى أن يقترب أولئك المجرمون منها، حتى تهيج، بل إنّها تزفر من مسافة بعيدة.. من مسافة مسيرة عام، طبقاً لبعض الروايات.

3 ـ وصفت هذه النار المحرقة بـ «التغيظ» وذلك عبارة عن الحالة التي يعبّر بها الإِنسان عن غضبه بالصراخ والعويل.

4 ـ إن لجهنم «زفيراً» يعني كما ينفث الإِنسان النفس من الصدر بقوة، وهذا

_____________________________

 

1 ـ «سعير»

من «سَعْر»

على وزن «قعر» بمعنى التهاب النار، وعلى هذا يقال للسعير: النار المشتعلة والمحيطة والمحرقة.

[210]

عادة في الحالة التي يكون الإِنسان مغضباً جداً.

مجموع هذه الحالات يدل على أن نار جهنم المحرقة تنتظر هذه الفئة من المجرمين كانتظار الحيوان المفترس الجائع لغذائه «نستجير بالله».

هذه حال جهنم حينما تراهم من بعيد، أمّا حالهم في نار جهنم فيصفها تعالى: (وإذا أُلقوا منها مكاناً ضيقاً مقرّنين دعوا هنالك ثبوراً).(1)

هذا ليس لأنّ جهنم صغيرة، فإنّه طبقاً للآية (30) من سورة ق (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) فهي مكان واسع، لكن أُولئك يُحصَرون مكاناً ضيقاَ في هذا المكان الواسع، فهم «يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط».(2)

كما أن كلمة «ثبور» في الأصل بمعنى «الهلاك والفساد»، فحينما يجد الإِنسان نفسه أمام شيء مخيف ومهلك، فإنّه يصرخ عالياً «واثبورا» التي مفهومها ليقع الموت عليّ».

لكنّهم يجابون عاجلا (لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً).

على أية حال، فلن تنفعكم استغاثتكم في شيء، ولن يكون ثمّة موت أو هلاك، بل ينبغي أن تظلوا أحياء لتذوقوا العذاب الأليم.

هذه الآية في الحقيقة تشبه الآية (16) من سورة الطور حيث يقول تعالى (أصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنّما تجزون ما كنتم تعملون).

مَن هو المتكلم مع الكافرين ها هنا؟ القرائن تدل على أنّهم ملائكة العذاب، ذلك لأنّ حسابهم مع هؤلاء.

_____________________________

 

1 ـ «مقرنين»

من «قرن» بمعنى قرب واجتماع شيئين أو أكثر مع بعضهما، ويقولون للحبل الذي يربطون به الأشياء «قرن»، ويقولون أيضاً لمن تقيد يده ورجله مع بعضهما بالغل والسلاسل «مقرّن» (من أجل توضيح أكثر في المسألة راجع آخر الآية (49) من سورة إبراهيم).

2 ـ مجمع البيان، آخر الآية مورد البحث.

[211]

وأمّا لماذا يقال لهم هنا: (لا تدعوا ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً)؟ ربّما كان ذلك لأنّ عذابهم الأليم ليس مؤقتاً فينتهي بقول (واثبورا) واحداً، بل ينبغي أن يرددوا هذه الجملة طيلة هذه المدة، علاوة على أنّ العقوبات الإِلهية لهؤلاء الظالمين المجرمين متعددة الألوان، حيث يرون الموت أمام أعينهم إزاء كل مجازاة، فتعلوا أصواتهم بـ (واثبورا)، فكأنّهم يموتون ثمّ يحيون وهكذا.

ثمّ يوجه الخطاب إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويأمره أن يدعو أُولئك إلى المقايسة، فيقول تعالى: (قل أذلك خيرٌ أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاءً ومصيراً).

تلك الجنّة التي (لهم فيها ما يشاؤون).

تلك الجنّة التي سيبقون فيها أبداً (خالدين).

أجل، إنّه وعد الله الذي اُخذه على نفسه: (كان على ربّك وعداً مسؤولا).

هذا السؤال، وطلب هذه المقايسة، ليس لأن أحداً لديه شك في هذا الأمر، وليس لأن تلك العذابات الأليمة المهولة تستحق الموازنة والمقايسة مع هذه النعم التي لا نظير لها، بل إن هذا النوع من الأسئلة والمطالبة بالمقارنة لأجل إيقاظ الضمائر الهامدة، حيث تجعلها أمام أمر بديهي واحد، وعلى مفترق طريقين:

فإذا قالوا في الجواب: إنّ تلك النعم أفضل وأعظم (وهو ما سيقولونه حتماً) فقد حكموا على أنفسهم بأنّ أعمالهم خلاف ذلك. وإذا قالوا: إنّ العذاب أفضل من هذه النعمة، فقد وقّعوا على وثيقة جنونهم، وهذا يشبه ما إذا حذرنا شاباً ترك المدرسة والجامعة بقولنا: اعلم أنّ السجن هو مكان الذين فروا من العلم ووقعوا في أحضان الفساد، ترى السجن أفضل أم الوصول إلى المقامات الرفيعة!؟

 

* * *

 

]212]

ملاحظات

1 ـ ينبغي الإِلتفات أوّلا إلى هذه النكتة، وهي الايات الكريمة وصفت الجنّة بالخلود تارةً وصفة لأهل الجنّة تارةً أُخرى، ليكون تأكيداً على هذه الحقيقة، وهي كما أن الجنة خالدة، فكذلك ساكنوها.

2 ـ قوله تعالى (لهم فيها ما يشاؤون) جاءت في مقابل حال الجهنميين في الآية (54) من سورة سبأ (وحيل بينهم وبين ما يشتهون).

3 ـ التعبير بـ «مصير» بعد كلمة «جزاء» بالنسبة إلى الجنّة، كله تأكيد على ما يدخل في مفهوم الجزاء، وهو بجميعه نقطة مقابلة إزاء مكان أهل النّار، حيث ورد في الآيات السابقة أنّهم يلقون في مكان ضيق محدود مقرنين بالأصفاد.

4 ـ قوله تعالى (كان على ربك وعداً مسؤولا) إشارة إلى أن المؤمنين كانوا في أدعيتهم يطلبون من الله الجنّة وجميع نعمها، فهم السائلون، والله «المسؤول منه» كما نقرأ قول المؤمنين في الآية (194) من سورة آل عمران (ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك...)، لسان حال جميع المؤمنين أيضاً، إنّهم يطلبون هذا الطلب من الله، لأن لسان حال كل من يطيع أمره تبارك وتعالى أن يطلب ذلك.

والملائكة كذلك يسألون الله الجنّة والخلود للمؤمنين، كما نقرأ في الآية (8) من سورة المؤمن: (ربّنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم...).

و يوجد هنا تفسير آخر، وهو أنّ كلمة (مسؤولا) تأكيد على هذا الوعد الإِلهي، الحتمي، يعني أنّ هذا الوعد على قدر عظيم من القطع بحيث أنّ المؤمنين يستطيعون أن يطالبوا الله به، وهذا يشبه ما إذا أعطينا وعداً لأحد، وأعطيناه ـ في الضمن ـ الحقَ في أن يطالبنا به.

قطعاً لا يوجد أي مانع من أن تجتمع كل هذه المعاني في المفهوم الواسع لـ  (مسؤولا).

5 ـ بالإِلتفات إلى قوله تعالى (لهم فيها ما يشاؤون) ينشأ لدى البعض هذه

[213]

السؤال: إذا أخذنا في الإِعتبار المفهوم الواسع لهذه العبارة، فنتيجة هذا أن أهل الجنّة إذا أرادوا مقام الأنبياء والأولياء يعطى لهم، مثلا، أو إذا طلبوا نجاة أقربائهم وأصدقائهم المذنبين المستحقين لجهنم، يعطون سؤلهم، وما سوى هذه الرغبات؟!

و يتّضح الجواب مع الإِلتفات إلى هذه النكتة، وهو أنّ الحجب تزول عن أعين أهل الجنّة فيدركون الحقائق جيداً، ويتّضح تناسبها في نظرهم كاملا، إنّهم  لا يخطر ببالهم أبداً أن يطلبوا من الله طلبات كهذه، وهذا يشبه تماماً أن نطلب في الدنيا من طفل في الإِبتدائية أن يكون اُستاذاً في الجامعة، أو أن يكون لصٌ مجرم قاضيَ محكمة... ترى هل تخطر مثل هذه الأُمور في فكر أي عاقل في الدنيا!؟ وفي الجنّة أيضاً كذلك، فضلا عن هذا فإنّ كلَّ إرادتهم في طول إرادة الله، وإنَّ ما يريدونه هو ما يريده الله.

* * *

[214]

 

 

الآيات

 

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقوُلُ ءَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَـؤُلآءِ أَمْ هُمْ ضَلُّواْ السَّبِيلَ(17) قَالُواْ سُبحَـنَكَ مَا كاَنَ يَنبَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَـكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابِآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكانُواْ قَوْمَا بُوراً(18) فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقوُلوُنَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً ولاَنَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً(19)

التّفسير

المحاكمة بين المعبودين وعبدتهم الضالين:

كان الكلام في الآيات السابقة حول مصير كل من المؤمنين والمشركين في القيامة وجزاء هذين الفريقين، وتواصل هذه الآيات نفس هذا الموضوع بشكل آخر، فتبيّن السؤال الذي يسأل الله عنه معبودي المشركين في القيامة وجوابهم، على سبيل التحذير، فيقول تعالى أولا: واذكر يوم يحشر الله هؤلاء المشركين وما يعبدون من دون الله: (و يوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله).

فيسأل المعبودين: (فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل).

[215]

ففي الإجابة: (قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء).

فليس فقط أنّنا لم ندعهم إلى أنفسنا، بل إنّنا كنّا نعترف بولايتك وربوبيتك، ولم نقبل غيرك معبوداً لنا ولغيرنا.

وكان سبب انحراف أولئك هو: أنّ الله تعالى رزقهم الكثير من مواهب الدنيا و نعيمها فتمتعوا هم وآباءهم وبدلا من شكر الله تعالى غرقوا في هذه الملذات ونسوا ذكر الله: (ولكن متعتهم وآباءَهم حتى نسوا الذكر) ولهذا هلكوا واندثروا (وكانوا قوماً بوراً).

هنا يوجه اللّه تبارك وتعالى الخطاب إلى المشركين فيقول: (فقد كذبتم بما تقولون).

لأنّ الأمر هكذا، وكنتم أنتم قد أضللتم أنفسكم فليس لديكم القدرة على دفع العذاب عنكم: (فما يستطيعون صرفاً ولا نصراً، ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً).

لا شك أنّ «الظلم» له مفهوم واسع، ومع أنّ موضوع البحث في الآية هو «الشرك» الذي هو أحد المصاديق الجلية للظلم، إلاّ أنّه لا يقدح بعمومية المفهوم.

و الملفت للنظر أن «من يظلم» جاءت بصيغة الفعل المضارع، وهذا يدل على أن القسم الأوّل من البحث وأن كان مرتبطاً بمناقشات البعث، لكن الجملة الأخيرة خطاب لهم في الدنيا، لعل قلوب المشركين تصبح مستعدة للتقبل على أثر سماعها (محاورات العبابدين والمعبودين في القيامة)، فيحول الخطاب من القيامة إلى الدنيا فيقول لهم: (ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً).(1)

* * *

 

_____________________________

 

1 ـ ويحتمل أن تكون الجملة الأخيرة استمراراً لمحاورة الله مع المشركين في القيامة، ولا يضرّ كون الفعل مضارعاً، لأنّ جملة (من يظلم..)

ذكرت بصورة قانون عام (جملة شرطية)، ونعلم أنّ الأفعال في الجملة الشرطية تفقد مفهومها الزماني، وتبقى وحدة الإرتباط بين الشرط وجوابه معتبرة.

[216]

مسائل مهمة:

1 ـ من هم المقصودون بالمعبودين هنا!؟

في الإجابة على هذا السؤال، هناك تفسيران بين المفسّرين المعروفين:

أوّلا: أن يكون المقصود بالمعبودين إنساناً (مثل المسيح) أو شيطاناً (مثل الجن) أو (الملائكة)، حيث أن كلّ واحد منها كان قد اتخذه فريق من المشركين معبوداً لهم. ولأنّهم أهل عقل وشعور وإدراك، فيمكنهم أن يكونوا موضع الإستنطاق والمحاسبة، ولإتمام الحجة، ولإثبات كذب المشركين الذين يقولون: إنّ هؤلاء دعونا لعبادتهم! فهم يسألون عمّا إذا كان هذا الإدعاء صحيحاً؟ ولكنّهم يكذبون ادعاء المشركين بصراحة!

التّفسير الثّاني: الذي ذكره جمع من المفسّرين هو أنّ الله يمنح الأصنام في ذلك اليوم نوعاً من الحياة والإدراك والشعور، بالشكل الذي تستطيع فيه أن تكون موضع المحاسبة، لينطقوا بالجواب اللازم: إلهنا، نحن ما أضللنا هؤلاء، بل هم أنفسهم ضلوا بسبب انغماسهم في الشهوات والغرور.

و هناك الإحتمال آخر، وهو أنّ المقصود يشمل جميع المعبودين، سواء كانوا ذوو عقل وشعور يخبرون بألسنتهم عن الوقائع، أام لم يكونوا من أهل العقل والشعور، حيث يعكسون الحقيقة أيضاً، بلسان حالهم.

ولكن القرائن الموجودة في الآية تتفق أكثر مع التّفسير الأوّل، ذلك لأنّ الأفعال والضمائر تدل جميعها على أن طرف المحاورة هم أصحاب عقل وشعور، وهذا يتناسب مع معبودين كالمسيح والملائكة وأمثالهم.

إضافة إلى أنّ قوله تعالى (فقد كذبوكم...) يُظهر أن المشركين قد ادّعوا من قبل أن هؤلاء المعبودين قد أضلونا ودعونا لعبادتهم، وبعيد أن يكون المشركون قد ادعوا هذا بالنسبة إلى الأصنام الحجرية والخشبية، لأنّهم ـ كما ورد في قصة إبراهيم ـ كانوا على يقين بأنّ الأصنام لا تتكلم (لقد علمت ما هؤلاء

]217]

ينطقون)(1).

في حين أنّنا نقرأ مثلاً بالنسبة إلى المسيح(عليه السلام) في الآية (116) من سورة المائدة: (أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمي إلهين من دون الله)؟!

ومن المسلّم أنّ ادعاء المشركين وعبدة الأصنام كان واهياً وبلا أساس، فأُولئك لم يدعوهم إلى عبادة أنفسهم.

الملفت هو أن المعبودين لم يقولوا في الجواب: إلهنا، ما دعوناهم إلى عبادة أنفسنا، بل يقولون: نحن ما اتّخذنا لأنفسنا غيرك معبوداً، يعني في الوقت الذي نحن نعبدك وحدك، فمن الأُولى أنّنا لم ندعهم إلى أحد غيرك، خاصّة وأن هذا الكلام يقترن مع (سبحانك) ومع (ماكان ينبغي لنا) التي تكشف عن غاية أدبهم، وتأكيدهم على التوحيد.

 

2 ـ دافع الإنحراف عن أصل التوحيد

المهم هو أنّ المعبودين يعدّون العامل الأصلي لانحراف هذا الفريق من المشركين هو (الحياة المرفهة) لهم، ويقولون، إلهنا، متّعتَ هؤلاء وآباءَهم من نعم هذه الحياة، وهذا هو بالذات كان سبب نسيانهم، فبدلا من أن يعرفوا واهب هذه النعم فيشكرونه ويطيعونه، توغلوا في دوامة الغفلة والغرور.

فالحياة المرفهة لجماعة ضيقةِ الأفق، ضعيفة الإيمان، تبعث على الغرور من جهة، ذلك لأنّهم في الوقت الذي ينالون النعم الكثيرة، ينسون أنفسهم وينسون الله، حتى أنّ فرعون كان يطبّل أحياناً (أنا الله).

ومن جهة أُخرى، فإنّ هؤلاء الأفراد يميلون إلى التحرر من كل القيود التي تعيقهم في ملذّاتهم من قبيل الحلال والحرام، والمشروع واللامشروع وتمنعهم من

_____________________________

 

1 ـ الأنبياء، 063

[218]

الوصول إلى أهدافهم، ولهذها فهم لا يريدون أن يخضعوا أمام القوانين والمقررات الدينية، ولا أن يقبلوا بيوم الحساب والجزاء.

و هكذا نجد أنّ أتباع دين الله وتعليمات الأنبياء قليلٌ في أوساط المرفهين دائماً ولكن المستضعفين هم الأتباع الصامدون والمحبّون الأوفياء للدين والمذهب.

إنّ هذا الكلام له استثناءات في كلا الطرفين قطعاً، ولكن أكثرية كلّ من الفريقين هم كما قلنا.

وممّا تتضمنه الآية أعلاه، أنّها لم تركز على رفاهية حياتهم فقط، بل ركزت على رفاهية حياة آبائهم أيضاً، ذلك لأنّ الإنسان حينما ينشأ على الدلال والنعمة فإنه سوف يرى فارقاً وامتيازاً بينه وبين الآخرين، ولن يكون مستعداً لفقد المنافع المادية والحياة المرفهة بسهولة.

في حين أن التقيد بأمر الله، وبتعاليم الدين تحتاج إلى الإيثار، وأحياناً إلى الهجرة، وتحتاج حتى إلى الجهاد والشهادة، وأحياناً إلى التعاطي مع أنواع المحروميات، وعدم التسليم للعدو، وهذه الأُمور نادراً ما تتوافق مع مزاج المرفهين، إلاّ إذا كانت نفوسهم أرفع من حياتهم المادية، فإذا توفرت يوماً ما شكروا الله، وإلاّ فلن يتزلزلوا ولن ينزعجوا، وبعبارة أُخرى: إنّهم حاكمون على حياتهم المادية غير محكومين لها، أمراء عليها لا أسارى عندها.

و يستفاد أيضاً من التوضيح أنّ المقصود من قوله تعالى (نسوا الذكر)نسيان ذكر الله، حيث ورد مكان ذلك في الآية (19) من سورة الحشر (ولا تكونوا كالذين نسوا الله) أو نسيان يوم القيامة ومحكمة العدل الإلهي، كما جاء في الآية (26) سورة ص (لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) أو نسيان كل منهما، وجميع التعاليم الإلهية.

 

[219]

3 ـ كلمة «بور».

«بور» من مادة «بوار» وهي في الأصل بمعنى شدّة كساد الشيء، ولأنّ شدّة الكساد تبعث على الفساد، كما جاء في المثل العربي «كسد حتى فسد»، فهذه الكلمة بمعنى الفساد، ثمّ أُطلقت بعد هذا على الهلاك، ولهذا يقولون للأرض الخالية من الشجر والورد والنبات، والتي هي في الحقيقة فاسدة وميتة كلمة «بائر».

وعلى هذا فإنّ قوله تعالى: (كانوا قوماً بوراً) إشارة إلى أنّ هذا الفريق على أثر انغماسهم في الحياة المادية المرفهة، ونسيانهم الله واليوم الآخر، صاروا إلى الفساد والهلكة، وصارت أراضي قلوبهم كالصحراء جافة وبائرة، وأُخليت من أزاهير ملكات القيم الإنسانية، وفواكه الفضيلة والحياة المعنوية.

مطالعة حال الأُمم الغرقى في الدلال والنعمة اليوم، الغافلة عن الله وعن الخلق، توضح عمق معنى هذه الآية في كيفية غرق هذه الأُمم في بحر الفساد الأخلاقي، وكيف اجتثت الفضائل الإنسانية من أرض وجودهم البائرة.(1)

 

* * *

_____________________________

 

1 ـ تعتبر بعض المصادر أنّ كلمة «بور»

تأتي بمعنى اسم الفاعل، وتأتي واحدة في المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، وبعض يعدها جمع «بائر».

[220]

 

 

الآية

 

وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاَْسْواقِ وَجَعَلْنَابَعْضَكُمْ لِبَعْض فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً(20)

 

سبب النّزول

أورد جماعة من المفسّرين وأصحاب السير كابن إسحاق في سيرته في سبب نزول هذه الآية «أن سادات قريش «عتبة بن ربيعة» وغيره اجتمعوا معه(صلى الله عليه وآله وسلم)فقالوا: يا محمد، إن كنت تحبّ الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحبّ المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك، رجعوا في باب الإحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق! فعيّروه بأكل الطعام، لأنّهم أرادوا أن يكون الرّسول ملكاً، وعيّروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك والجبابرة يترفعون عن الأسواق، وكان(عليه السلام)يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم، فقالوا: هذا يريد أن يتملك علينا، فما له يخالف سيرة الملوك؟ فأجابهم الله بقوله، وأنزل على نبيّه:

[221]

(وما أرسلنا من قبلك من المرسلين إلاّ أنّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق)فلا تغتم ولا تحزن، فأنّها شكاة ظاهرٌ عنك عارُها».(1)

 

التّفسير

هكذا كان جميع الأنبياء

في عدّة آيات سابقة وردت واحدة من ذرائع المشركين بهذه الصيغة: لماذا يأكل رسول الله الطعام، ويمشي في الأسواق؟ وأجيب عليها بجواب إجمالي ومقتضب، أمّا الآية مورد البحث فتعود إلى نفس الموضوع لتعطي جواباً أكثر تفصيلا وصراحة، فيقول تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ أنّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) فقد كانوا من البشر ويعاشرون الناس، وفي ذات الوقت (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) وامتحاناً.

وهذا الإمتحان، قد يكون بسبب أنّ اختيار الأنبياء من جنس البشر ومن أوساط الجماهير المحرومة هو امتحان عظيم بذاته، لأنّ البعض يأبون أن ينقادوا لمن هو من جنسهم، خاصّة إذا كان في مستوىً واطىء من حيث الإِمكانات المادية، وهم في مستوى عال مادياً، أو أن أعمارهم أكبر، أو أنّهم أكثر شهرة في المجتمع.

ويرد احتمال آخر في المراد بالفتنة، وهو أنّ الناس عموماً بعضهم لبعض فتنة، ذلك أن المتقاعدين والعجزة والمرضى والأيتام والمزمنين فتنة للأقوياء والأصحاء السالمين، وبالعكس، فإنّ الأفراد الأصحاء الأقوياء فتنة للضعفاء والعجزة.

تُرى هل أنّ الفريق الثّاني راض برضا الله! أم لا؟

_____________________________

 

1 ـ وإن كان قد جاء مضمون الرواية أعلاه في كثير من التفاسير، ولكن ما ذكرناه أعلاه مطابق للرواية التي أوردها القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن»

ج 13، ص 5 دار إحياء التراث العربي / بيروت.

[222]

وهل أن الفريق الأوّل يؤدي مسؤوليته وتعهده إزاء الفريق الثّاني، أم لا؟!

من هنا، لا تقاطع بين هذين التّفسيرين فمن الممكن أن يجتمع كلاهما في المفهوم الواسع للآية في أن الناس بعضهم لبعض فتنة.

و على أثر هذا القول، جعل الجميع موضع الخطاب فقال تعالى:

(أتصبرون)؟

ذلك لأنّ أهم ركن للنجاح في جميع هذه الإمتحانات هو الصبر والإستقامة والشجاعة... الصبر والإستقامة أمام خيالات الغرور الذي يمنع من قبول الحق... الصبر والإستقامة أمام المشكلات الناشئة من المسؤوليات وأداء الرسالات، وكذلك الجلد أمام المصائب والحوادث الأليمة التي لا تخلو منها حياة الإنسان على كل حال.

والخلاصة: أنّ من الممكن اجتياز هذا الإمتحان الإلهي العظيم بقوّة الإستقامة و الصبر.(1)

ويقول تعالى في ختام الآية بصيغة التحذير: (وكان ربّك بصيراً) فينبغي ألا يتصور أحد أن شيئاً من تصرفاته حيال الإختبارات الإلهية يظل خافياً ومستوراً عن عين الله وعلمه الذي لا يخفى عليه شيء. إنّه يراها بدقة ويعلمها جميعاً.

 

سؤال:

يرد هاهنا استفسار، وهو أن ردّ القرآن على المشركين في الآيات أعلاه قائم على أن جميع الأنبياء، كانوا من البشر. وهذا لا يحلّ المشكلة، بل يزيد من حدّتها، ذلك أن من الممكن أن يعمموا إشكالهم على جميع الأنبياء.

 

_____________________________

 

1 ـ من أجل توضيح أكثر في مسألة الإختبارات الإلهية، والغاية من هذه الإختبارات وسائر أبعاد ذلك، بحثنا ذلك بشكل مفصّل في ذيل الآية (55) من سورة البقرة.

[223]

و الجواب:

أنّ الآيات القرآنية المختلفة تدلّ على أن إشكالهم على شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانوا يعتقدون أنه اتخذ لنفسه وضعاً خاصاً به، ولهذا كانوا يقولون: مالهذا الرّسول...

يقول القرآن في جوابهم: ليس هذا منحصراً بالرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فجميع الأنبياء كانت لهم مثل هذه الأوصاف، وعلى فرض أنّهم سيعممون هذا الأشكال على جميع الأنبياء، فقد أعطى القرآن جوابهم أيضاً حيث يقول: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلا) «كي يستطيع أن يكون أسوة وأنموذجاً للناس في كل مجالات». إشارة إلى أن الإنسان فقط يستطيع أن يكون مرشداً للإنسان، فهو الواقف على جميع حاجاته ورغباته ومشكلاته ومسائله.

 

* * *

[224]

 

 

الآيات

 

وَقَالَ الَّذِينَ لاَيَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَـئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوَّاً كَبيراً(21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَـئِكَةَ لاَبُشْرَى يَوْمَئِذ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقوُلُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً(22) وَقَدِمْنآ إِلَى مَا عَمِلوُاْ مِنْ عَمَل فَجَعَلْنَـهُ هَبَآءً مَّنثُوراً(23) أَصْحَـبُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذ خَيْرٌ مُّستَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلا(24)

 

التّفسير

الإدعاءات الكبيرة:

قلنا أنّ المشركين يصرون على الفرار من ثقل التعهدات والمسؤوليات التي يضعها على عواتقهم الإيمان بالله واليوم الآخر، فكانوا يقولون تارةً: لماذا يحتاج الرّسول إلى الطعام ويمشي في الأسواق؟ حيث قرأنا الإجابة عليها في الآيات السابقة.

الآيات الحالية، تطرح شكلين آخرين من ذرائعهم وتجيب عليها، فيقول

]225]

تعالى أوّلا: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا).

فعلى فرض أنّنا سنقبل أنّ النّبي يستطيع أن يعيش الحياة العادية مثلنا. لكن أن يتنزل الوحي عليه وحده، ولا نراه نحن، فهذا مالا يمكن القبول به، ما المانع من أن يظهر الملك فيؤكّد صحة نبوة الرّسول؟ أو أن يسمعنا بعضاً من الوحي!؟ أو أن نرى ربّنا بأعيننا حتى لا يبقى عندنا مكان لأي شك أو شبهة!؟

هذه هي الأسئلة التي تمنعنا من قبول دعوة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم).

المهم هو أن القرآن يصنف هؤلاء المتعللين بالذرائع تحت عنوان (لا يرجون لقاءنا)، حيث يدل على أنّ منبع هذه الأقوال الواهية هو عدم الإيمان بالآخرة، وعدم القبول بالمسؤولية أمام الله.

في الآية (7) من سورة الحجر نقرأ أيضاً شبيهاً لهذا القول، حيث قالوا (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) وقرأنا أيضاً في مطلع سورة الفرقان هذه أن المشركين كانوا يقولون: (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً).

في حين أن من حق أي إنسان لإثبات قضية ما، أن يطالب بالدليل فقط. أمّا نوع الدليل، فمن المسلّم أنّه لا فرق فيه، في الوقت الذي أثبت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ـ بإظهار المعجزات ومن جملتها القرآن نفسه ـ حقانية دعوته بوضوح، إذن فما معنى هذه الذرائع؟

وأفضل دليل على أنّهم لم يكونوا يقولون هذه الأقوال من أجل التحقيق حول نبوة النّبي، هو أنّهم طلبوا أن يشاهدوا الخالق، وأنزلوه إلى حدّ جسم يمكن رؤيته، ذلك الطلب نفسه الذي طلبه مجرمو بني إسرائيل أيضاً، فسمعوا الجواب القاطع على ذلك، حيث ورد شرحه في سورة الأعراف الآية 143 .

لذا يقول القرآن في الإجابة على هذه الطلبات في آخر الآية مورد البحث: (لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً).

«العتو» على وزن «غلو»، بمعنى الإمتناع عن الطاعة، والتمرد على الأمر،

]226]

مصحوباً بالعناد واللجاجة.

و تعبير «في أنفسهم» من الممكن أن يكون بمعنى: أنّ هؤلاء صاروا أسارى الغرور والتكبّر في أنفسهم. ومن الممكن أن يكون أيضاً بمعنى أنّهم أخفوا كبرهم وغرورهم في قلوبهم وأظهروا هذه المعاذير.

في عصرنا وزماننا أيضاً، يوجد أشخاص يكررون منطق المشركين الغابرين، فيقولون: مادمنا لا نرى الله في مختبراتنا، ولا نشاهد الروح تحت مبضع الجراحة، فلن نصدّق! بوجودهما ومنبع الإثنين واحد وهوا الإستكبار والعتو.

و من حيث الأصل، فإنّ جميع الأشخاص الذين يحصرون وسائل المعرفة في الحس والتجربة فقط، يكررون نفس هذا القول بشكل ضمني، فكلّ الماديين داخلون في هذا الصنف، في حين أنّ الحواس لا تدرك إلاّ جزءً ضئيلا لا يذكر من مادة هذا العالم.

ثمّ يقول تعالى بصيغة التهديد: إنّ هؤلاء الذين يطلبون أن يروا الملائكة، سوف يرونهم آخر الامر، لكن (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين).(1)

بلى سوف لن يُسرّوا برؤية الملائكة في ذلك اليوم، لأنّهم سيرون علامات العذاب برؤيتهم الملائكة، وسوف يغمرهم الرعب إلى حد أنّهم سيطلقون صرخات الإِستغاثة التي كانوا يطلقونها في الدنيا حال الإِحساس بالخطر أمام الآخرين، فيقولون: الأَمان.. الأَمان، اعفوا عنّا: (ويقولون حجراً محجوراً).

ولكن لا هذه الجملة ـ ولاغيرها ـ لها أثر على مصيرهم المحتوم، ذلك لأنّ النار التي هم أوقدوها ستلتهم أطرافهم شاءوا أم أبوا، وستتجسد أمامهم الأعمال السيئة التي ارتكبوها، فلا يملكون شيئاً لأنفسهم.

كلمة «حجر» (على وزن قشر) تقال في الأصل للمنطقة التي حجروها

_____________________________

 

1 ـ كلمة (لا)

ها هنا، قد تكون للنفي، كما قال كثير من المفسّرين، ويحتمل أيضاً أن تكون لانشاء الدعاء السلبي، حيث يصبح معنى الجملة في هذه الصورة، هكذا: «في ذلك اليوم لا كانت بشرى للمجرمين».

[227]

وجعلوها ممنوعة الورود، وعندما يقال «حجر إسماعيل» فلأن حائطاً أُنشيء حوله فحجز داخله. يقولون للعقل أيضاً «حجراً» لأنّه يمنع الانسان من الأعمال المخالفة. لذا نقرأ في الآية (5) من سورة الفجر (هل في ذلك قسم لذي حجر)، وأيضاً «اصحاب الحجر» الذين ورد اسمهم في القرآن (الآية 80 من سورة الحجر) وهم قوم صالح الذين كانوا ينحتون لأنفسهم بيوتاً حجرية محكمة في قلوب الجبال، فكانوا يعيشون في أمانها.

هذا في ما يخص كلمة «حجر».

أمّا جملة «حجراً محجوراً»فقد كانت اصطلاحاً بين العرب، إذا التقوا بشخص يخافونه، فأنّهم يقولون هذه الجملة أمامه لأخذ الأمان.

كان هذا عرف العرب، خاصّة في الأشهر الحرم، حيث كانت الحرب ممنوعة، فحينما يواجه شخص آخر، ويحتمل خرق هذا العُرف والتعرض للأذى، فإنّه يكرر هذه الجملة، والطرف المقابل ـ أيضاً ـ مع سماعة لها كان يعطيه الأمان، فيخرجه من القلق والإضطراب والخوف.

على هذا فإنّ معنى الجملة المذكورة هو: «أريد الأمان، الأمان الذي لا رجعة فيه ولا تغيير».(1)

اتّضح ممّا قلناه أعلاه، أنّ المجرمين هنا هم أصحاب هذا القول، وتناسب الأفعال الموجودة في الآية، والسير التاريخي، وسابقة هذه الجملة في أوساط العرب ـ أيضاً ـ يستدعي هذا، ولكن البعض احتمل أنّ الملائكة هم أصحاب هذا القول، و هدفهم منع المشركين من رحمة الله.

وقال آخرون: إنّ أصحاب هذا القول هم المجرمون، يقولونه بعضهم لبعض، ولكن الظاهر هو المعنى الأول، حيث اختاره كثير من المفسّرين، أو ذكروه كأوّل

_____________________________

 

1 ـ ومن الناحية الأدبية فإنّ «حجراً»

مفعول لفعل مقدر و «محجوراً»

جاءت للتوكيد، فهي في الأصل (أطلب منك منعاً لا سبيل إلى رفعه ودفعه).

[228]

تفسير لذلك.(1)

أمّا أي يوم ذلك اليوم الذي يلتقي فيه المجرمون بالملائكة؟ فقد ذكر المفسّرون احتمالين: أحدهما: هو يوم الموت حيث يرى الإنسان ملك الموت، كما نقرأ في الآية (93) من سورة الأنعام: (ولو ترى إذا الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم). والثّاني: أنّ المقصود هو يوم القيامة والنشور، حيث يكون المجرمون أمام ملائكة العذاب فيشاهدونهم.

و مع الإنتباه إلى الآيات الآتية التي تتكلم عن النشور، خصوصاً جملة (يومئذ) التي تشير إليه، يتبيّن أنّ التّفسير الثّاني هو الأقرب.

الآية التي بعدها تجسد مصير أعمال هؤلاء المجرمين في الآخرة، فتقول: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً).

كلمة «العمل» على ما قاله «الراغب» في المفردات بمعنى: كل فعل يكون بقصد، ولكن الفعل أعم منه، فهو يطلق على الأفعال التي تكون بقصد أو بغير قصد.(2)

جملة «قدمنا» من «القدوم» بمعنى «المجيء» أو «الذهاب على أثر شيء» وهي هنا دليل على تأكيد وجدّية المسألة، يعني مسلّماً وبشكل قاطع أن جميع أعمال أُولئك التي قاموا بها عن قصد وإرادة ـ وإن كانت أعمال خير ظاهراً ـ سنمحوها كما تمحى ذرات الغبار في الهواء، لشركهم وكفرهم.

 

_____________________________

 

1 ـ تفسير الميزان، تفسير الفخر الرازي، في ظلال القرآن، تفسير أبو الفتوح الرازي، ذيل آية البحث.

2 ـ يذهب (الراغب) الى هذا الفرق في مادة «عمل»

، ولو أنّ له بياناً خلاف ذلك في مادة «فعل». لكن مع الإلتفات إلى موارد استعمال هاتين الكلمتين يكون هذا الفرق صحيحاً، طبعاً يمكن أن يكون له استثناءات كما يقولون للثيران التي تعمل «عوامل».

[229]

آفات العمل الصالح:

كلمة «هباء» بمعنى ذرات الغبار الصغيرة جدّاً التي لا تُرى بالعين المجرّدة وفي الحال العادية أبداً إلاّ في الوقت الذي يدخل نور الشمس إلى الغرفة المظلمة من ثقب أو كُوّة، فيكشف عن هذه الذرات ويمكن مشاهدتها.

هذا التعبير يدل على أن أعمال أُولئك لا قيمة لها ولا اثر إلى حدّ كأنّهم لم يعملوا شيئاً، وإن كانوا قد سعوا واجتهدوا سنين طويلة.

هذه الآية نظيرة الآية (18) من سورة إبراهيم التي تقول: (مثل الذين كفروا بربّهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف).

الدليل المنطقي لذلك واضح أيضاً، لأنّ الشيء الذي يعطي عمل الإنسان الشكل والمحتوى، هو النّية والدافع وغاية العمل النهائية، فأهل الإيمان يتوجهون لإنجاز أعمالهم بدافع إلهي وعلى أساس أهداف مقدسة طاهرة، وخطط سليمة صحيحة، في حين أن من لا إيمان لهم، فغالباً يقعون أسارى التظاهر والرياء والغرور و العجب، فيكون سبباً في انعدام أية قيمة لأعمالهم.

على سبيل المثال، نحن نعرف مساجد من مئات السنين، لم تترك عليها القرون الماضية أدنى تأثير، وبعكسها نرى بيوتاً تظهر فيها الشروخ وعلامات الضعف مع مضي شهر واحد أو سنة واحدة، فالأُولى بنيت من كل النواحي بناءً محكماً بأفضل المواد مع توقع الحوادث المستقبلية، أمّا الثّانية فلأن الهدف من بنائها هو تهيئة المال والثروة عن طريق المظاهر والحيلة، فالعناية فيها كانت بالزخرفة فقط.(1)

من وجهة نظر المنطق الإسلامي، فإن للأعمال الصالحة آفات، ينبغي مراقبتها بدقة، فقد يكون العمل أحياناً خراباً وفاسداً منذ البداية، كمثل العمل الذي يتخذ

_____________________________

 

1 ـ بحثنا في هذا الصدد بصورة أكثر تفصيلا في (ذيل الآية 18 من سورة إبراهيم).

[230]

(رياءً).

و احياناً اُخرى يلحقه الفساد أثناء العمل كما لو اصاب الانسان الغرور والعجب حينه فتزول قيمة عمله بسبب ذلك.

و قد يمحى أثر العمل الصالح بعد الانتهاء منه بسبب القيام بأعمال مخالفة ومنافية، كمثل الإنفاق الذي تتبعه «منّة»، أو كالأعمال الصالحة التي يعقبها كفر وارتداد.

حتى ارتكاب الذنوب أحياناً يترك أثره على العمل الصالح بعدها ـ طبقاً لبعض الرّوايات الإسلامية ـ كما نقرأ في مسألة شارب الخمر حيث لا تقبل أعماله عند الله أربعين يوماً.(1)

على أية حال، فللإسلام منهج فذ، دقيق وحساس في مسألة خصوصيات العمل الصالح. نقرأ في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال:

يبعث الله عزَّوجلّ يوم القيامة قوماً بين أيديهم نور كالقباطي، ثمّ يقول له: (كن هباءً منثوراً) ثمّ قال: أمّا والله ـ يا أبا حمزة ـ إنّهم كانوايصومون ويصلون، ولكن كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه، وإذا ذكر لهم شيء من فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) أنكروه، قال: والهباء المنثور هو الذي تراه يدخل البيت في الكوة مثل شعاع الشمس».(2)

و بما أن القرآن ـ عادة ـ يضع الحسن والسيء متقابلين حتى يتّضح وضع كل منهما بالمقايسة فإنّ الآية التي بعدها تتحدث عن أهل الجنّة فتقول: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلا).

ليس معنى هذا الكلام أنّ وضع أهل جهنم حسن، ووضع أهل الجنّة أحسن، لأنّ صيغة «أفعل التفضيل» تأتي أحياناً حيث يكون أحد الأطراف واجداً

_____________________________

 

1 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 427، مادة «خمر».

2 ـ تفسير علي بن إبراهيم طبقاً لنقل نور الثقلين، ج 4، ص 9 .

]231]

للمفهوم، وآلاخر فاقداً له كلياً. مثلا نقرأ في الآية (40) من سورة فصّلت: (أفمن يُلقى في النّار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة).

«مستقر» بمعنى محل الإستقرار.

و «مقيل» بمعنى محل الإستراحة في منتصف النهار، من مادة «قيلولة»، وقد جاءت بمعنى النوم منتصف النهار.

 

* * *

[232]

 

 

الآيتان

 

وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَـمِ وَنُزِّلَ الْمَلَـئِكَةُ تَنزِيلا (25)الْمُلْكُ يَوْمَئِذ الْحَقُّ لِلرَّحْمَـنِ وكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَـفِرِينَ عَسِيراً(26)

 

التّفسير

تشقق السماء بالغمام:

مرّة أخرى يواصل القرآن في هذه الآيات البحث حول القيامة، ومصير المجرمين في ذلك اليوم، فيقول أوّلا: إن يوم محنة وحزن المجرمين هو ذلك اليوم الذي تنشق فيه السماء بواسطة الغيوم:(ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا).(1)

«الغمام» من «الغم» بمعنى ستر الشيء، لذلك فالغيم الذي يغطي الشمس يقال له «الغمام»، وكذلك الحزن الذي يغطي القلب يسمّونه «الغم».

_____________________________

 

1 ـ جملة «يوم تشقق السماء»

في الواقع عطف على جملة «يوم يرون الملائكة»

التي مرّت سابقاً، وعلى هذا فأنّ «يوم»

هنا متعلق بذلك الشيء الذي كان في الآية السابقة، يعني جملة «لا بشرى»

. ويعتقد جماعة أنّه متعلق بفعل مقدّر، مثل (أذكرْ) و «الباء» في «الغمام» يمكن أن تكون بمعنى الملابسة، أو بمعنى «عن»، أو للسببية كما تقدم في تفسير الآيات أعلاه.

[233]

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ ردّ على طلبات المشركين، وعلى إحدى ذرائعهم، لأنّهم كانوا يتوقعون أن يأتي الله والملائكة ـ طبقاً لأساطيرهم وخرافاتهم من خلال الغيم، فيدعونهم إلى الحق، وفي أساطير اليهود جاء ـ أيضاً ـ أنّ الله أحياناً يظهر ما بين الغيوم.(1)

يقول القرآن في الردّ عليهم: نعم الملائكة (وليس الله) يأتون إليهم يوماً ما، لكن أي يوم؟ اليوم الذي تتحقق فيه مجازاة وعقوبة هؤلاء المجرمين، وينهي ادعاءاتهم الباطلة.

ولكن ما هو المقصود من تشقق السماء بالغمام، مع أنّنا نعلم أن لا وجود حولنا لشيء يسمى السماء، يكون قابلا للتشقق؟

قال بعض المفسّرين مثل «العلامة الطباطبائي» في تفسير «الميزان»: المقصود هو تشقق سماء عالم الشهود، وزوال حجاب الجهل والغباء وظهور عالم الغيب، فيكون للانسان إدراك ورؤية تختلف كثيراً عمّا هي عليه اليوم، فحينئذ تزول الحجب، فيرون الملائكة وهي تتنزل من العالم الأعلى.

ثمّة تفسير آخر، هو أنّ المقصود من السماء هو الأجرام السماوية التي تتلاشى على أثر انفجارات متوالية، فيملأ الغيم الحاصل من هذه الإنفجارات ومن تلاشي الجبال صفحة السماوات، وبناءً على هذا فالأفلاك السماوية تتشقق مع الغيوم الحاصلة من ذلك.(2)

آيات كثيرة من القرآن المجيد، خصوصاً التي وردت في السور القصار آخر القرآن، تبيّن هذه الحقيقة، حيث تملأ جميع عوالم الوجود تغيرات عظيمة، وانقلاب وتحول عجيب، تتلاشى الجبال وتتناثر في الفضاء كذرات الغبار، الشمس تفقد نورها وكذلك النجوم. ويلتقي الشمس والقمر، وتملأ نواحي الأرض

_____________________________

 

1 ـ في ظلال القرآن، ج 6، ص 154 (ذيل الآية مورد البحث).
2 ـ «الباء» من الناحية الأدبية في هذه الحالة للملابسة.

[234]

زلزلة وهزّة عجيبة.

نعم، في مثل ذلك اليوم، زوال السماء، بمعنى الأجرام السماوية، وتلبُّسُ السماء بغيوم كثيفة، سيكون أمراً طبيعياً.

من الممكن توضيح نفس هذا التّفسير بنحو آخر:

شدّة التغيرات، وانفجارات الكواكب والسيارات يصير سبباً في تغطية السماء بغيم كثيف، ولكن توجد انشقاقات بين هذا الغيم، وعلى هذا فالسماء التي ترى بالعين في الأحوال العادية، تتشقق بواسطة هذه الغيوم الانفجارية العظيمة.(1)

تفسيرات أخرى قيلت لهذه الآية أيضاً لا تتوافق مع الأصول العلمية والمنطقية، وفي نفس الوقت فالتّفسيرات الثلاثة الآنفة لا تتنافى مع بعضها، فمن الممكن أن ترتفع حجب العالم المادي عن عين الإنسان من جهة، فيشاهد عالم ماوراء الطبيعة، ومن جهة أُخرى ستتلاشى الأجرام السماوية، وتظهر الغيوم الانفجارية، فتبرز التشققات ما بينها في ذلك اليوم، يوم نهاية هذا العالم وبداية النشور، يوم أليم جدّاً للمجرمين الظالمين المعاندين الذين لا إيمان لهم.

بعد ذلك يتناول القرآن الكريم أوضح علائم ذلك اليوم فيقول: (الملك يومئذ الحق للرحمن).

حتى أُولئك الذين كان لهم في هذا العالم نوع من الملك المجازي والمحدود والفاني والسريع الزوال، يخرجون أيضاً من دائرة الملك، فتكون الحاكمية من كلّ النواحي وجميع الجهات لذاته المقدسة خاصّة، وبهذا (وكان يوماً على الكافرين عسيراً).

نعم، في ذلك اليوم تزول القوى الكاذبة تماماً، وتكون الحاكمية لله خاصّة، فتتداعى قلاع الكافرين، وتزول قوى الجبابرة والطواغيت، وإن كانوا جميعاً في

_____________________________
 
1 ـ في هذه الحالة «الباء» في «بالغمام»
للسببية.

[235]

هذا العالم ـ أيضاً ـ لا شيء أمام إرادته تبارك وتعالى. واذا كان لهم في هذه الدنيا بهرجة، فبأي ملاذ يلوذون من الجزاء الإلهي في يوم القيامة، يوم انكشاف الحقائق وزوال المجازات والخيالات والأوهام، ولهذا سيكون ذلك اليوم يوماً بالغ الصعوبة عليهم، في الوقت الذي يكون على المؤمنين سهلا يسيراً وهيناً جدّاً.

في حديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) فقلت: ما أطول هذا اليوم!؟ فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) «والذي نفسي بيده إنّه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخفَّ عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا».(1)

والتأمل الدقيق في سائر آيات القرآن يكشف عن دلائل صعوبة ذلك اليوم على الكافرين، ذلك أنّنا نقرأ من جهة (و تقطعت بهم الأسباب).(2)

و من جهة أخرى (ما أغنى عنه ماله وما كسب).(3)

و من جهة ثالثة (يوم لا يُغني مولى عن مولى شيئاً).(4)

حتى الشفاعة التي هي وحدها طريق النجاة، تكون للمذنبين الذين كانت لهم صلة بالله وبأولياء الله (من ذا الذي يشفع عنده إلابإذنه).(5)

وايضاً (فلا يؤذن لهم فيعتذرون)،(6) فلا يسمح لهم بالاعتذار، فما بالك بقبول الاعذار الواهية!!

* * *

_____________________________
 
1 ـ تفسير القرطبي «الجامع لأحكام القرآن»، ج 13، ص 23; ج 7، ص 4739.
2 ـ سورة البقرة،الآية 166.
3 ـ سورة تبّت، الآية 2.
4 ـ سورة الدخان، الآية 41.
5 ـ سوره البقرة، الآية 255.
6 ـ سورة المرسلات، الآية 36.

  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=811
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28